كربلاء ـ الثورة والمأساة 159


السيرة الشخصية النتنة لهذا الرجل الذي يزعم أنه خليفة رسول الله ، ولقد ركز الإمام الحسين على هذه الناحية تركيزا خاصا خلال فترة المطاردة ، فبيّن للمسلمين ، حقيقة هذه ألأمور .
ففي كتابه لأهل البصرة ذكّر الناس برسول الله وما فعل ، ثم قال : « . . . ثم قبضه الله إليه ، وقد نصح لعباده ، وبلغ ما أرسل به ، وكنا أهله وأولياؤه وأوصياء ورثته وأحق الناس بمقامه في الناس ، فأستأثر علينا قومنا بذلك ، فرضينا ، وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه . . » .
ثم قال : « وقد بعثت إليكم رسولي بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب ألله وسنة رسوله ، فإن السنة قد أحييت ، وأن البدعة قد أحييت ، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد » .(1)
ومثل ذلك كتابه إلى أهل الكوفة : فقد جاء فيه : « فقوموا مع ابن عمي وبايعوه وانصروه ولا تخذلوه ، فلعمري ليس ألإمام العامل بالكتاب والعادل بالقسط كالذي يحكم بغير الحق ، ولا يهدي ولا يهتدي »(2)فالإمام الحسين يحثهم على المقارنة ، ويبين لهم الحقيقة الشرعية ، وييئسهم من صلاح يزيد بن معاوية .
ومثل قوله في خطبة له أمام جند الحر الذي جاء ليستطلع أمر الإمام الحسين وليحبسه ريثما يكتمل جند الخليفة : «. . . يا أيها الناس أنا إبن بنت رسول الله ، ونحن أولى بولاية هذه ألأمور عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالظلم والعدوان ، فإن تتقوا بالله ، وتعرفوا الحق لأهله فيكون ذلك لله رضى ، وإن كرهتمونا وجهلتم حقنا وكان رأيكم على خلاف ما

(1) راجع تاريخ الطبري ج3 ص280 ، ومثير ألأحزان ص27 ، وبحار ألأنوار ج44 ص34 وأعيان الشيعة ج1 ص590 ، ووقعة الطف ص107 والموسوعة ص315ـ 316 .
(2) راجع كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي ج5 ص35 ،ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص195 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 160


جاء في كتبكم ، وقدمت به رسلكم انصرفت عنكم » .(1)
ثم انظر إلى مناجاته لأصحابه ذات مرة حيث خطب فيها فقال : « .. . .وإن الدنيا قد تغيرت ، وتنكرت وأدبر معروفها ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقا حقا ، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما » .(2)
وأنظر إلى قوله : « . . . ما أهون الموت على سبيل نيل البر وإحياء الحق ، ليس الموت في سبيل العز إلا حياة خالدة وليست الحياة مع الذل إلا الموت الذي لا حباة معه . . . إن في نفسي لأكبر ، وهمتي لأعلى من أحمل الضيم خوفا من الموت . . . مرحبا بالقتل في سبيل الله . . . وهل تقدرون على أكثر من قتلي !!. . . ولكنكم لا تقدرون على هدم مجدي ومحو عزّي وشرفي » .(3)
ثم انظر إلى وصية الإمام الحسين التي كتبها إلى أخيه محمد بن الحنفية ، فإبن الحنفية هو الوحيد من اخوان الإمام الحسين الذي لم يخرج معه ، وبالضرورة ستأتي رسل الفرعون وتسأل محمد بن الحنفية عن أخبار الحسين ، وأقواله ، وبالضرورة سيأتي أهل المدينة ويسألونه أيضاً ، وبالضرورة سيسأله كل المشفقين على مصير الحسين ، لذلك اختاره الإمام الحسين وكتب له وصية ، بيّن فيها أسباب خروجه ، فقال بعد أن ركّز على فكرة الحق تركيزا خاصاً : « . . . وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ، وانما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحق ومن رد عليّ هذا
(1) راجع كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي ج5 ص87 ، وتاريخ الطبري ج3 ص306 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص232 ، والعوالم ج17 ص227 والموسوعة ص357.
(2) راجع تاريخ الطبري ج3 ص307 ، وتاريخ ابن عساكر وترجمة الإمام الحسين ص214 ومثير ألأحزان ص440 ، وبحار ألأنوار ج44 ص381 و78 و116 وينابيع المودة ص406 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص237 .
(3) راجع أعيان الشيعة ج1 ص581 ، والموسوعة ص359ـ 360 ، وإحقاق الحق ج11 ص601 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 161


اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين . . . » (1)
فالوصية مصاغة ومعدّة لتكون بمثابة رسالة خاصة لكل واحد من أبناء ألأمة تبيّن له وبمنتهى الإيجاز الغاية من خروج الإمام الحسين وهي بمثابة سؤال موجه لكل فرد من أفراد ألأمة مفاده : هل تقبل هذا الحق ، أو تردّه على صاحبه ، وهي بمثابة دعوة لكل من بلغ لينصر هذا الحق .
وهذه الوصية التي سمعت بها ألأمة بالضرورة هي بمثابة الحجة التي يقيمها الإمام الحسين على ألأمة، ولم يتوقف ألإمام الحسين عند الوصية بل كشف للأمة حقيقة الخليفة ونظامه ، فأعلن أمام ألأمة : « إن الخليفة ومن والاه قوم لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد في ألأرض ، وابطلوا الحدود ، وشربوا الخمور ، واستأثروا في اموال الفقراء والمساكين » .(2)
وصعّد الإمام هجومه على النظام إمعانا بكشف زيفه وإظهاره على حقيقته فقال في خطبة له : . . . « فبعدا ً وسحقاً لطواغيت هذه ألأمة ، وبقية ألأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومطفىء السنن ، ومؤاخي المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ، وعصاة ألإمام ، وملحقي العهرة بالنسب ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون . . . » .(3)
ثم كشف ابن النبي حال الخليفة وأركان دولته ، فقال أمام فرقة من فرقهم . . .:« لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر ألله العظيم ، فتباً لكم ولما تريدون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبُعداً للقوم الظالمين . . ».(4)
وطلب الإمام من ألأمة أن ترجع إلى نفسها أبجديات الفهم فقال : « . . .

(1) بحار ألأنوار ج44 ص329 ، والمناقب لابن شهر آشوب ج4 ص89 والعوالم ج17 ص179 ، وأشار إلى بعض الوصية ابن أعثم الكوفي بالفتوح ج5 ص23 وراجع الموسوعة ص361 .
(2) راجع تذكرة الخواص ص217 والموسوعة ص326 .
(3) الاحتجاج ص336 والمناقب لابن شهر آشوب ج4 ص11 مختصرا وبحار ألأنوار ج45 ص83 .
(4) مقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص251 والمناقب لابن شهر آشوب ج4 ص100 وبحار ألأنوار ج45 ص5 والعوالم ج 17 ص249 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 162


فلعمري ليس ألإمام العامل بالكتاب ، والعادل بالقسط كالذي يحكم بغير الحق ولا يهدي ولا يهتدى » (1)لقد استغل الإمام فترة مطاردة دولة الخلافة له أحسن استغلال وكل ليلة قضاها ألإمام الحسين مطارداً ، وكل تصريح أدلى به ما هو إلا صرخة مدويّة لتستفيق ألأمة من غفوتها وترهلها ونومها العميق ، ولونا من ألوان الحجة البالغة التي أمر ألإمام الحسين على إقامتها كاملة على ألأمة .
مضمون وصية الإمام الحسين التي كتبها لأخيه محمد بن الحنفية قد عرف من العامة والخاصة على السواء ، وعرفته دولة الخلافة ، وعرفته رعايا دولة الخلافة بالضرورة فهو يبرر امتناع الإمام الحسين عن البيعة ، ويبرر أسباب خروجه من جوار جده ، وكل فرد من أفراد ألأمة عرف بالضرورة أن الخليفة وأركان دولته يطاردون ألإمام الحسين وأهل بيته ليقبضوا عليهم ، ويكرهونهم على البيعة أو يقتلونهم ، وكل فرد من أفراد ألأمة كان يعلم علم اليقين إن ألإمام الحسين يبحث عمن ينصره ، ويحميه ويحمي أهل بيته ، ويحمي دعوة الحق التي ينادي بها ، وكل فرد من أفراد ألأمة سمع بكل التصريحات التي أدلى بها ألإمام الحسين ، وهي تصريحات واضحة لا تحتاج إلى توضيح ، وهي تفيض بأنبل مشاعر الإخلاص للإسلام وقضيّته ، وتضع بين يدي أفراد ألأمة قراءة موضوعية لواقع دولة الخلافة المناقض تماما للشرع الحنيف . وكل ألأمة كانت تعرف بأن الإمام الحسين لن يتراجع عن موقفه لنصرة الحق وانه بانتظار المخلصين من ألأمة ليشاركوه نصرة الحق ، وإنتظر ألإمام الحسين ، أولئك المخلصين مدة طويلة ، وصمد من شهر رجب حتى العاشر من محرم بوجه مطاردة دولة عظمى في زمانها، وطال انتظاره ولم يأتي المخلصون ، واخترقت نداءاته القدسية طبلة أذن كل فرد من أفراد ألأمة وتجاهلت ألأمة نداءات الإمام ، وخذلته ألأمة بالفعل ، كان ألإمام سلفاً يعلم بأن ألأمة ستخذله ، وستضيعه ، ولن تحفظه بدليل شكواه أمام قبر جده رسول الله قبل خروجه من المدينة حيث قال :
« السلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، أنا فرخك وابن

(1) كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي ج5 ص35 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص195
كربلاء ـ الثورة والمأساة 163


فرختك ، وسبطك في الخلف الذي خلّفت على أمتك ، فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم خذلوني ، وضيعوني ، وأنهم لم يحفظوني وهذه شكواي إليك حتى ألقاك » .(1)
فقبل أن يخرج ألإمام الحسين من المدينة كان يعلم علم اليقين أن ألأمة ستخذله ، وستضيعه ، ولن تحفظه ، وستتفرج على الفرعون وجنوده وهم يطاردون آل محمد وأهل بيته وذوي قرباه ، وستشترك بالمطاردة ولكن الإمام يريد ان يقيم الحجة عملياً عليها ، يريدها أن تكتشف ذات يوم بأنه قد ضحى بروحه الطاهرة ، وبأرواح آل البيت وأهل البيت وذوي القربى ليخرج من هذه المذبحة دوي هائل، يجبر ألأمة على الصحوة من نومها . أراد الإمام الحسين أن يكون دمه ودم أهل البيت زيتاً يضيء الدرب أمام ألأمة ذات يوم عندما تكتشف كم فرطت في جنب الله يوم خذلت الإمام وأهل بيته .
ونجح الإمام الحسين بالفعل بإقامة الحجة على ألأمة، فأتبعه أقل من مائة رجل ، وخذلته البقية منها مع سبق ألترصد وألإصرار.
لقد جرت العادة على ان يقاتل أبناء الأمم والشعوب ألأقل أهمية أمام السادات ألأكثرية أهمية ، دفاعاً عنهم وعن قيّم وشرف تلك الشعوب وألأمم التي يمثلها أولئك السادات .
وجاء الإمام الحسين ، وكان من المفترض أن يتقدم أبناء ألأمة ويقاتلوا بين يديه دفاعا عن ابن النبي ، وآل النبي ، وأهل بيت النبي وذوي قرباه ، كان المفترض أن يموت ألآلف المؤلفة من أبناء ألأمة قبل أن يضطروا الإمام الحسين وأهل بيته للقتال ، لكن أبناء ألأمة لم يفعلوا ذلك ، فقد أجبروا الإمام وأهل بيته على القتال بين يدي ألأمة دفاعا عن الإسلام ورموزه الخالدة وطالما أن أبناء ألأمة لم يقاتلوا بين يدي الإمام الحسين وأهل بيت النبوة رموز الإسلام الخالدة ، ليتهم لم يقاتلوهم على ألأقل ، ليتهم وقفوا يتفرجون ، لكان ذلك أقل عارا وأخف غباراً .

(1) راجع كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي ج5 ص19 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص186 والعوالم ج17 ص177 والموسوعة 286 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 164


وباختصار لقد نالت ألأمة من الحسين وأهل بيت النبوة ونالوا منها ، وما أشبه هذا القول بقول ألإمام علي :« فويل لهم منكم ، وويل لكم منهم » .(1)
لقد قامت الحجة على ألأمة بالفعل ، ولم تنصر ألإمام الحسين وأهل بيت النبوة إنما خذاتهم مع سبق الإصرا وبعد قيام الحجة ، واكتشف الإمام الحسين أن أفراد أمة جده وألأكثرية الساحقة جداً منهم كاره للموت وقيمه بالحياة حتى أنهم ليكادون أن يموتوا من الرعب حذر الموت ، لذلك صمم وبكل قواه أن يكسر حاجز الخوف ، وأن يعطي ألأمة دروساً من الموت وعن الموت ليشفيها من مرضها القاتل « الرعب من الموت » فسار الإمام الحسين أمام أفراد ألأمة كلها في رحلة الموت ، ثم خاض بحار الموت شرقاً ومغرباً على حد تعبيره وطارد الموت مطاردة ساخنة حثيثة ، وكلما مر منه الموت لاحقه ، حتى ليخال الناظر ـ وهو مصيب ـ بأن ألآية قد انقلبت ، وأن الموت صار يخشى الإمام وأهل بيته ومن والاهم بدلاً من أن يخشونه ، وبدأ ألإمام رحلة الموت ومطاردة الموت أمام ألأمة ، وبخطوات واثقة متزنة كأنها بالتصوير الفني البطيء ليحررهم من عقدة الخوف من الموت ، فالإمام مصرًٌ إصراراً بالغاً على أن يكشف حقيقة نظام يزيد للعالم ، فهو بالظاهر والإدعاء خليفة رسول الله ، وفي الحقيقة والممارسة هو الفرعون وجنوده ، وكما أن الإمام مصرٌ على إقامة الحجة على ألأمة ، هو مصرٌ أيضاً على تحريرها من عقدة الخوف ، ومصرٌ على إجبارها على معرفة الواقع ، ومقارنته بالشرعية الإلهية لتعرف البون الشاسع بين النقيضين ، لقد توصل الإمام الحسين إلى نتيجة مفادها أن أهل المدينة لن ينصروه ، ولن يحموه، بل سيسلمونه للفرعون وجنوده ، وأن ألأمة ستخذله لذلك كله قرر أن يكشف هذا الغيب للأمة ، وأن يترجمه إلى وقائع ، وأن يبدأ رحلة الموت والشهادة بمغادرة المدينة وترك جوار جده كارهاً .

إلى أين يا إبن رسول ألله !!! :

فأقاليم دولة الخلافة المترامية ألأطراف هي عبارة عن ضيعات كبيرة يملكها

(1) أوردنا النص كاملاً ووثقناه وبيّنا معناه في الفصول السابقة .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 165


الخليفة ، ويتصرف بها كما يتصرف ألإقطاعي بممتلكاته الخاصة ، ! وسكان تلك ألأقاليم ليسوا أكثر من أقنان أو عبيد للخليفة يعملون لديه في ضيعاته مقابل جُعل أو عطاء شهري ، وأمراء تلك ألأقاليم ليسوا أكثر من موظفين وكبراء عمال يتقاضون رواتبهم شهرياً مقابل الطاعة وألإشراف على تنفيذ رغبات الخليفة وأوامره والجيوش المجندة تحت تصرف الخليفة يتقاضى أفرادها وقادتها رواتبهم الشهرية من الخليفة مقابل الولاء له ، وحفظ ألأمن في أرجاء ألأقاليم وتنفيذ أوامر الخليفة بالقوة ، أو تحقيق أمجاد الخليفة الشخصية إن رغب بالفتوحات ، فأنت يا مولاي تسير في مملكة الفرعون وعلى مرأى من فرعون وجنوده فإلى أين عساك أن تذهب يا ابن رسول ألله إن خرجت من المدينة ؟ وتركت جوار جدك العظيم ؟ ولكن ما هو البديل ؟ هل يجلس الحسين وأهل بيت النبوة في بيوتهم وينتظرون فرعون وجنوده حتى يأتوا فيذبحونه كما تذبح ألأضاحي ، أو يجبرونه على البيعة ، كأقنان « لأمير المؤمنين » يزيد !!! مثل الحسين ومثل أهل بيت النبوة لن يقبلوا هذا الخيار المر ، ولا نواميس الكون تُقِر مثل هذا التوجه ، فعلى ألإمام الحسين أن يتحرك سريعاً وأن يخرج من المدينة فاراً بدينه وموقفه وأهله من فرعون وجنوده ، ولكن إلى أين ؟ هذا هو السؤال الكبير ! ! !

كربلاء ـ الثورة والمأساة 166




كربلاء ـ الثورة والمأساة 167

الفصل الثاني
إقتراحات المشفقين على ألإمام الحسين

ألإقتراح ألأول :

لما شعر محمد بن الحنفية أن الحسين مصمم على الخروج من المدينة إقترح عليه « تخرج إلى مكة ، فإن إطمأنت بك الدار فذاك ، وان تكن الأخرى ، خرجت إلى بلاد اليمن ، فإنهم أنصار جدك وابيك ، وهم أراف الناس عليك ،وأرقهم قلوباً ،فإن إطمأنت بك الدار ، وإلا لحقت بالرمال وشعوب الجبال وجزت من بلد إلى بلد حتى تنظر ما يؤول إليه امر الناس ، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين فقال الحسين: يا اخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجا ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ، فقطع محمد بن الحنفية الكلام وبكى فبكى معه الحسين ساعة . . . ثم قال الحسين : أنا عازم على الخروج إلى مكة » .(1)

ألإقتراح الثاني :

لما سار الحسين إلى مكة لقيّه عبدالله بن المطيع العدوي وقال له : « . . . غير أني أشير عليك بمشورة فاقبلها مني ، فقال له الحسين : وما هي يا إبن مطيع ؟ فقال : . . . إلزم الحرم فأنت سيد العرب في دهرك هذا ، فوالله لئن هلكت ليهلكن أهل بيتك » ،(2)فقال له الحسين : « أما ألآن فمكة ، وأما بعد فإني استخير ألله » .(3)

(1) راجع الفتوح ، ج5 ص23 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص188 ، وبحار ألأنوار ج44 ص329 ، والعوالم ج17 ص178 ، وأعيان الشيعة ج1 ص588 والموسوعة ص289 .
(2) راجع الفتوح لابن أعثم ج5 ص25 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص189 ، وأنساب ألأشراف ج3 ص155 .
(3) راجع تاريخ الطبري ج3 ص276 والكامل في التاريخ ج2 ص533 ، وأعيان الشيعة ج1 ص588 ووقعة الطف ص87 ، والموسوعة ص302 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 168


ألإقتراح الثالث :

قال عبدالله بن عمر بن الخطاب : « . . . وارجع إلى المدينة ، ولا تغب عن وطنك وحرم جدك رسول ألله (ص) ولا تجعل لهؤلاء الذين لا خلاف لهم على نفسك حجةً وسبيلاً » .(1)

ألإقتراح الرابع :

قال أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام : « . . . يا ابن عم لا أدري كيف أنا عندك بالنصيحة ،؟ فقال الحسين : يا أبا بكر ما أنت ممن يستغش ولا يتهم فقل . . فقال : « قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك ، وأنت تريد أن تسير إليهم وهم عبيد الدنيا ، فياقتلك من قد وعدك أن ينصرك ، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره . . .» .(2)
وقال له ابن عياش : « أتخرج إلى قوم قتلوا أباك ، وطعنوا أخاك » .(3)

الجهة التي قرر ألإمام التوجه إليها :

إني أميل إلى القناعة التامة أنه لم تكن في ذهن ألإمام الحسين جهة معينة عندما خرج من المدينة . إنه يشعر بأنه مطارد مطاردة تامة من الخليفة وأركان دولته وبوقت يطول أو يقصر ، وإن بني امية يلاحقونه ، ويريدون قتله . فغاية ما يطلبه ألإمام الحسين مكان يأويه وأهل بيت النبوة ومن خرج معهم ، وجماعة من الناس تنصرهم ، وتحميهم من بني أمية ، وليس مهماً أين يكون هذا المكان ، ولا من هي تلك الجماعة التي ستتولى نصره وأهله ومن معه وحمايتهم !! لقد كان شعور ألإمام الحسين حقيقياً وعميقا بأن فرعون «المسلمين» وجنوده يطلبونه حثيثا ، وأنه يتنقل داخل مملكة ألأمويين ، وكان عنده بصيص من ألأمل في قلّة من قوم فرعون تكتم إيمانها ، ولكنه لا يدري أين هي تلك القلّة ، والدليل على ذلك

(1) راجع الفتوح لابن اعثم الكوفي ج5 ص26 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص19 ومثير ألأحزان ص41 والموسوعة ص309 .
(2) راجع تاريخ ابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين ص202 .
(3) راجع تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام الحسين ص200 والموسوعة ص304 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 169


هو تمثله بما تمثّل به موسى عند خروجه من المدينة إذ تلا قوله تعالى : « فخرج منها خائفً يترقبُ قالَ ربِّ نجني منَ القومِ الظالمينَ»(القصص/ 21 )(1)فالقوم الظالمون الذين عناهم موسى هم فرعون وجنوده ومن اطاعهم ، والقوم الظالمون الذين عناهم الإمام الحسين هم الخليفة وجنوده ومن أطاعهم ، وهذا معلوم بالضرورة ، وكلاهما كان مطاردا ، وكلاهما يريد النجاة وكلاهما يمثل الشرعية الإلهية ، في مجتمعين أدارا ظهرهما بالكامل لهذه الشرعية . فعندما خرج موسى فراراً بدينه وبحياته لم يكن يعلم أين سيتجه ، فهو طالب للمأوى والمأمن ، والمنعة من فرعون وجنوده ، أينما وجد المأوى ، وأينما وجد المنعة ، كذلك فإني أجزم بأن الحسين لم يكن يعلم إلى أين سيتجه ولا باي جهة سيجد المأوى وألأمن والمنعة له ولأهل البيت ومن معهم !! بدليل قول ألإمام الحسين لابن مطيع : « أما في وقتي هذا أريد مكة ، فإن صرت إليها أستخرت ألله في أمري بعد ذلك » .(2)
وقد أكمل الإمام الحسين رسم الصورة كاملة فلما وصل إلى مكة ، أخذ يتلو قوله تعالى : « ولمّا توجه تِلقاءَ مَديّن قالَ عسى ربي أن يهديني سواءَ السبيل» (القصص / 22 )(3)فالحسين موقن أن مكة له بمثابة مَديّن بالنسبة لموسى ، وكما ادرك موسى الهدى الرباني ، فإن الله سيهدي حسينا إلى الجهة التي ينبغي المسير إليها ، فأقام في مكة باقي شعبان ، ورمضان ، وشوال وذي القعدة خلال هذه المدة هداه ربّه إلى السبيل الواجب اتباعه ، والجهة التي ينبغي الذهاب إليها .


(1) راجع وقعة الطف ص85 ، والإرشاد للمفيد ص202 ، وتاريخ الطبري ج3 ص272 والكامل لابن ألأثير ج2 ص531 ، والعوالم ج17 ص181 ، وينابيع المودة ص402 ، وأعيان الشيعة ج1 ص588 .
(2) راجع الفتوح لابن أعثم الكوفي ج5 ص25 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص189 ، وأنساب ألأشراف ج3 ص155 .
(3) راجع ألإرشاد للمفيد ص202 وبحار ألأنوار ج44 ص332 ، والعوالم ج17 ص181 ، والكامل لابن ألأثير ج2 ص531 وتاريخ الطبري ج3 ص272 والفتوح لابن أعثم ج5 ص25 وأعيان الشيعة ج1 ص588 ، ووقعة الطف ص86 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 170


الجهة التي صمم ألإمام الحسين على الذهاب إليها :

قلنا إن الإمام الحسين يريد مكانا يأويه ، وأهل بيته ومن معهم ، و يريد جماعة من الناس تلتزم بحمايته ونصرته ، ولا فرق عنده أين يقع هذا المكان، وأين تكون هذه الجماعة ، فهو لا يريد أن يبقى مكشوفا من دون أمن ولا حماية حتى لا يكره على ما لا يريد ، وحتى لا يذبح هو وأهل بيته في مكانهم ، دون أن يأخذ بألأسباب . بهذا الوقت بالذات كتب له جماعة من أهل الكوفة كتابا جاء فيه : « الحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد «يعنون موت معاوية» الذي إنتزى على هذه ألأمة ، فابتزها وغصبها فيأها ، وتأمر عليها بغير رضى منها ، ثم قتل خيارها ، واستبقى شرارها ، وجعل مال ألله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعدا له كما بعدت ثمود . .
وقالوا : إنه ليس علينا إمام فاقبل لعل ألله أن يجمعنا ، وبيّنوا أنهم لا يجتمعون مع واليهم النعمان بن بشير لا في جمعة ولا في عيد ، وأكدوا له أنه إن بلغهم أنه سيأتي إليهم فسيخرجون الوالي من الكوفة .
وجاءت رسالة أخرى من بعض شخصيات الكوفة جاء فيها : أما بعد « فحي هلا ، فإن الناس ينتظرونك ، ولا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل والسلام » . وجاءته رسالة ثالثة ،أما بعد : «فقد أخضّر الجنان ، وأينعت الثمار ، وطم الجمام ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجندة» ، ولما وصلت هذه الرسائل وأمثالها كتب ألإمام الحسين رسالة جاء فيها : «إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين ، أما بعد فأن هانئاً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم، وكاناآخر من قدم عليّ من رسلكم وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ، وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم ، فأن كتب إليّ أنه قد أجمع رأي ملتكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم وقرأت في كتبكم أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله » .(1)

(1) راجع تاريخ الطبري ج3 ص278 ،والكامل لابن ألأثير ج2 ص524 ، وبحار ألأنوار باب « ما جرى على الحسين بعد بيعة الناس ليزيد ج44 ص334 ، والعوالم ج17 ص183 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 171



وقال أبن أعثم الكوفي: إن ألإمام كتب لهم «فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم وقرأت كتبكم فقوموا مع ابن عمي وانصروه ولا تخذلوه . . .» .(1)
ثم طوى الكتاب وقال لمسلم إني موجهك إلى أهل الكوفة وهذه كتبهم . . . وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء ، فامض على بركة الله . . » .(2)
وهكذا عثر الإمام الحسين على المكان الذي يأوي إليه ، والجماعة التي ستنصره وتحميه وتمنعه ، فقد بايع أهل الكوفة مسلم بن عقيل ، حتى احصى ديوانه ثمانية عشر ألفا (3)وقيل : خمسا وعشرين ألفا (4)وقيل : أربعين الفا (5)فكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين مع عابس بن شبيب الشاكري يخبره باجتماع أهل الكوفة على طاعته ، وانتظارهم لقدومه ، وجاء في كتاب مسلم : «الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر الفا ، فعجل الإقبال حين ياتيك كتابي » .(6)

تقويم ألإقتراحات والمكان الذي إختاره الأمام :

عرفنا أربعة نماذج من إقتراحات المشفقين على الحسين للبحث عن المأوى والحماية ، فبعضهم نصح الإمام بالبقاء بالمدينة ، وبعضهم نصحه بالبقاء في مكة ، وبعضهم ألآخر نصحه بالذهاب إلى اليمن، وبعضهم حذّره من الذهاب إلى العراق ، وقد أصغى ألإمام لأصحاب المقترحات ألأربعة وشكرهم دون ألإفصاح عن رأيه بتلك المقترحات وقد رأينا بالدليل القاطع أن ألبقاء في المدينة بمثل ظروفها كارثة فإن أهل المدينة لن يحموا الحسين .

(1) راجع الفتوح لابن أعثم ج5 ص35 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص195 .
(2) راجع الفتوح لابن أعثم ج5 ص36 ، ومقتل الحسين ج1 ص196 .
(3) راجع تاريخ الطبري ج6 ص211 ، وتذكرة الخواص ص138 .
(4) راجع المناقب لابن شهر آشوب ج2 ص240 .
(5) راجع ابن نمّا ص11 .
(6) راجع تاريخ الطبري ج6 ص210 ومقتل الحسين للمقرّم ص468
كربلاء ـ الثورة والمأساة 172


واما البقاء في مكة فغير معقول أيضاً فالحسين ليس أعظم من النبي ، ومع هذا اخرجته مكة ، وحاربه سكانها 23 عاما ، فمكة ليست ألمأوى ولا المقام ألآمن لسيد شباب أهل الجنة .
كذلك فأن فكرة الذهاب إلى اليمن فكرة غير معقولة ، ولا تصلح أن تكون المأوى والمقام ألآمن ، وما فعله بسر بن أرطأة خير دليل .

معقولية قرار ألإمام الحسين :

لقد سمعت جماعات ألأمة الإسلامية كلها بامتناع الإمام الحسين عن البيعة وبخرجونه من المدينة ، وباستقراره مؤقتا في مكة ، وعرفت كذلك ان الإمام الحسين يبحث عن مأوى ومكان آمن ، وجماعات تحميه وتحمي اهل بيت النبوة من ألأمويين وأذنابهم ، فأغمضت كل تلك الجماعات عيونها ، وأغلقت آذانها ، وتجاهلت بالكامل محنة الإمام الحسين وأهل بيت النبوة ، وأهل الكوفة هم وحدهم الذين كتبوا للإمام الحسين ، وأرسلوا له رسلا ودعوه لا ليحموه فحسب بل دعوه ليكون إماما وقائدا لهم ، وليس في ذلك غرابة ، فالكوفة كانت عاصمة دولة الخلافة في زمن ألإمام علي ، وألأكثرية الساحقة من أهل الكوفة عرفوا فضل علي خاصة واهل بيت النبوة ، وقارنوا بين حكم الإمام علي وسيرته وبين حكم الجبابرة وسيّرهم ، وادركوا البون الشاسع بين هذين الخطين من الحكم ، فليس عجيبا بعد أن هلك معاوية أن يدركوا ان الفرصة مؤاتية لإعادة الحق إلى أهله خاصة بعد أن سمعوا بامتناع الحسين عن البيعة وخروجه من المدينة وبحثه عن المأوى ألآمن له ولأهل بيته . فالمعقول أن يصدقهم الناس ، والمعقول أيضا أن يصدقهم ألإمام الحسين ، ثم إنه ليس أمام الحسين أي خيار آخر فإلى أين عساه أن يلجأ، وممن سيطلب الحماية والمنعة ، وألأهم أن ثمانية عشر ألفأ من أهل الكوفة قد بايعوه فإن كانوا صادقين بالفعل ، فإن قائدا مثل الإمام الحسين له القدرة على ان يفتح بهم العالم كله !! .
وفكرة المؤامرة بارسال الرسل والكتب ، وفكرة الإخترق ألأموي لعملية إرسال الرسل والكتب ، لم تكن ببال عاقل !!.

السابق السابق الفهرس التالي التالي