كربلاء ـ الثورة والمأساة 105


وقال أبن الجوزي في تذكرة الخواص : « المشهور عن يزيد في جميع الروايات أنه لما حضر الرأس بين يديه ، جمع أهل الشام وأخذ ينكث عليه بالخيزران ويقول أبيات إبن الزبعري » !!! .
ومعنى هذا بكل وضوح أن « خليفة رسول الله » ينتقم من الرسول ويثأر منه جزاء وفاقا لقتله أشياخ يزيد في بدر !!! قال إبن أعثم : ثم زاد عليها يزيد :
لست من عتبة إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل

وقال الشعبي : وزاد عليها يزيد :
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل

وهذا يعني أننا أمام مشرك وكافر ولكنه يرتدي الزي الإسلامي للمحافظة على ملكه !! ، هذا الذي يعمل هذه الأفعال ، يزعم بأنه « خليفة رسول الله » إنه إعلام دولة الخلافة الذي لم يشهد التاريخ إعلاما بقدرته على قلب الحقائق !! وفي تاريخ الطبري أن يزيد بن معاوية ، قال لعلي بن الحسين : « أبوك الذي قطع رحمي ، وجهل حقي ، ونازعني سلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت » !!! فكانت قيادة الأمة حقا خالصا لأبي سفيان ، ولمعاوية وليزيد !!! . وهو يردد هذه المزاعم أمام إبن النبي وحفيده علي الذي قاتل أباه وجده وقتل أشياخه في بدر على الشرك !!! إنها تجارة قلب الحقائق .

الجرائم قربان من الله :

عندما أنتهى مسلم بن عقبة من مذبحة المدينة ، التي تحدثنا عنها سابقا قال : « أللهم إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله أحب إلي ولا أرجى عندي في الآخرة(1) وفي لفظ إبن كثير : «أحب إلي من قتل أهل ألمدينة وأجزى عندي في ألآخرة ، وإن دخلت النار بعد ذلك أني لشقي ثم مات(2)

(1) راجع تاريخ الطبري ج 7 ص 14 ، وإبن الأثير ج 2 ص 49 ، وإبن كثير ج 8 ص 295 .
(2) راجع تاريخ إبن كثير ج 8 ص 215 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 106


وفي تاريخ اليعقوبي أنه قال : « اللهم إن عذبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد إبن معاوية ، وقتل أهل الحرة فإني إذا لشقي » (1) .
وفي كتاب الفتوح لابن أعثم أنه قال : « اللهم إني لا أعمل عملا أرجو به النجاة إلا ما فعلت بأهل المدينة » (2) !!! . نحن أمام إعلام مجنون ومفترس ، أمتهن قلب الحقائق ، ففاق بقدرته حد التصور والتصديق .
ففي الوقت نفسه الذي يقوم فيه جيش الخليفة بهدم الكعبة على رؤوس المسلمين وإحراقها ، وبالوقت الذي يقتل فيه المسلمين وبالآلاف يوميا ، فإن هذا الجيش يتلطف حتى لا يقتل حمام الحرم !!!!!! (3) هذه هي طبيعة الجيش الذي إرتكب مذبحة كربلاء ، وتلك هي طبيعة الإعلام الذي غطى المذبحة !!!! .

نموذج أخير من إعلام دولة الخلافة :

عندما وضع رأس الإمام الحسين بين يدي عبيدالله بن زياد أخذ العبد ينكث بقضيب خيزران ثنايا الحسين ، فقال له زيد بن أرقم العماني ، الجليل ، المعروف : أعل بهذا القضيب عن هاتين الشفتين ، فوالله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله على هاتين الشفتين ، يقبلهما ، ثم أنفجر الصحابي بالبكاء فغضب ابن زياد وقال : أبكى الله عينيك ، فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك (4) .
فالأمر بالمعروف جريمة ، والنهي عن المنكر جريمة ، والتذكير برسول الله جريمة أيضا تستوجب القتل ، هذه الصالحات برهان قاطع على الخرف وذهاب

(1) راجع تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 251 .
(2) راجع كتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج 5 ص 301 .
(3) تاريخ الطبري ج 7 ص 16 ـ 17 في ذكر حوادث سنة 65 .
(4) راجع معالم المدرستين للعسكري ج 3 ص 149 كما رواها عن الطبري ، وراجع الصواعق المحرقة لأبن حجر ص 118 ، وتاريخ الطبري ج 6 ص 262 و البداية والنهاية لإبن كثير ج 8 ص 90 ، ومجمع الزوائد للهيثمي ج 6 ص 195 ، وتاريخ إبن عساكر ج 4 ص 340 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 107


العقل !!! تلك هي عبقرية إعلام دولة الخلافة !! وهذا سر عجائبه .
رأينا نماذج من الأفعال الهمجية والتي تعتبر جرائم بشعة ، وفق معايير كل الشرائع الأهلية والوضعية يستحق فعلتها المجرمون المقت والخزي والموت وسخط الخالق والمخلوق معا ، ومن المثير للدهشة إن إعلام دولة الخلافة يعتبر هذه الأفعال بطولات وقربات إلى الله ، ويعتبر المجرمين الذين أرتكبوها أبطالا ومجتهدين لهم الأجر عليها !! فبسر بن أرطأة من عتاة المجرمين ويقال إنه صحابي ، وبما أنه صحابي فهو مجتهد ومأجور على كل جرائمه حسب إعلام دولة الخلافة ، قال إبن تيمية في رده على المثالب : « وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبا وتجعلها من موارد الإجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر » (1) وقال إبن حجر في ترجمة أبي الغادية : « والظن بالصحابة في كل تلك الحروب أنهم كانوا فيها متأولين وللمجتهد المخطئ أجر ... » (2) وقال إبن حزم في « المحلى » ، وإبن التركماني في « الجوهر النقي » واللفظ للأول : ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن عبدالرحمن بن ملجم لم يقتل علي بن أبي طالب إلا متأولا مجتهدا مقدرا أنه على صواب (3) ، فقاتل علي بن أبي طالب مجتهد مأجور أجرا واحدا !!!! وحتى يزيد بن معاوية صار بقدرة إعلام دولة الخلافة « ذاك إمام مجتهد » (4) والخلاصة فإن كل المجرمين العتاة الذين نكلوا بأمة محمد مجتهدون ، مأجورون أجرا واحدا على جرائمهم البشعة !! هذه هي طبيعة إعلام دولة الخلافة وتلك عجائبه ، وحتى يزول العجب ألبسوا إعلامهم جبة الدين . أما ضحايا الحرة وكربلاء ورفاق حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، فهم نكرات لا يلتفت إليهم إعلام دولة الخلافة ، لأنهم خانوا الأكثرية ، وخرجوا من صفوف الجماعة !!!! .

(1) منهاج السنة ج 3 ص 19 .
(2) راجع الإصابة ج 4 ص 151 .
(3) راجع إبن حزم في المحلى ج 10 ص 484 ، والجوهر النقي بذيل سنن البيهقي ج 8 ص 58 ـ 59 .
(4) راجع معالم المدرستين للعسكري ج 2 ص 75 كما نقلها عن أبي الخير الشافعي المتوفى سنة 590 هـ .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 108


بهذه الصورة من المناخ الإعلامي لدولة الخلافة سنحاول أن نتعرف على الأقلية التي وقفت مع الإمام الحسين فكما تجاهلت الأكثرية الفاسدة من كل أمة من أمم الأرض التي كذبت أنبياءها الأقلية المؤمنة تجاهلا إعلاميا كاملا ، فلم تعن بأشخاصهم ، ولا بقدارتهم المميزة ، ولا بسيرهم العطرة ، بل تجاهلتهم تجاهلا كاملا وأعتبرتهم كأوراق شجرة تتساقط بالخريف !! .
كذلك فعلت الأكثرية الساحقة من الأمة الإسلامية إذ تجاهلت الأقلية المؤمنة التي وقفت مع الأمام الحسين وأهل بيت النبوة وقفة عز وشرف ، وقاتلت بين يديه ، لم يضيع إعلام دولة الخلافة وقته ، ولم يبعثر جهده لإعطاء الأجيال لمحة عن تلك الشخصيات البارزة التي أختارت الآخرة على الدنيا ، والموت بشرف على الحياة الذليلة تحت حكم الطغاة الظالمين !! تجاهلهم إعلام دولة الخلافة بالوقت الذي أعطى فيه الكثير من اهتمامه لتغطية كفاح أبي سفيان وأولاده ضد النبي وضد الإسلام طوال 23 عاما من المواجهة بين جبهة الشرك التي كان يقودها ابو سفيان وأولاده وبين جبهة الإيمان التي كان يقودها محمد وآله !!! .

الأقلية التي أيدت ثورة الإمام الحسين :

الأقلية المؤمنة التي أيدت ثورة الإمام الحسين تنقسم إلى فئتين أيضا :
الفئة الأولى : وهي الفئة التي خرجت مع الإمام الحسين ، فرافقته دربه وشاطرته قناعاته وتحليلاته ، وأيدت موقفه ، ونالت شرف الدفاع عنه ، وقاتلت بكل قواها حتى قتلت بين يديه ، وهم بتعبير أدق شهداء مذبحة كربلاء ومن نجا منهم بعذر شرعي .
الفئة الثاني : وهم فئة مؤمنة ، أحبوا الإمام الحسين بالفعل وتفهموا شرعية وعدالة موقفه ، ولكنهم قدروا أن الحسين ومن معه لا طاقة لهم بمواجهة الخليفة وأركان دولته والأكثرية التي تؤيده ، وقد أكتفت هذه الفئة بالتعاطف القلبي مع الإمام الحسين ، وتصعيد خالص الدعاء لله لحفظه وسلامته ، وتابعت أنباءه بشغف بالغ ، ولكنها فضلت حياتها على الوقوف معه ومناصرته ، ولما أستشهد الإمام

كربلاء ـ الثورة والمأساة 109


الحسين بكت هذه الفئة عليه بصدق وحرقة ، وندمت على موقفها وتمنت لو ماتت دونه ، بعد أن تيقنت أن الإمام الشرعي قد قتل ، وأن قمر العز والأمل قد أختفى نهائيا من سماء العالم الإسلامي !!!
وأفراد هذه الفئة كلهم من ذرية أبي طالب وهو الذي كفل النبي يتيما ، ورباه صغيرا ، ونصره كبيرا ، ووقف معه وقفة عز وبطولة ، ولم يتخل عنه حتى الموت ، وبالوقت الذي فيه تخلى عن النبي كل الناس ، ورمته بطون قريش كلها بسهم واحد وقف معه أبو طالب وأولاده وقال للنبي : « يا أبن أخي أذا أردت أن تدعو إلى ربك فأعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح » (1) وقد عبر النبي عن عرفانه وامتنانه لأبي طالب وأولاده يوم مات أبو طالب ، فقال النبي ، والحزن يملأ قلبه الشريف : « يا عم ربيت صغيرا ، وكفلت يتيما ، ونصرت كبيرا ، فجزاك الله عني خيرا » (2) واعتبر رسول الله أن موت أبي طالب مصيبة أصابت الأمة الإسلامية ، وسمى العام الذي مات فيه أبو طالب بعام الحزن (3) لقد وقفت عائلة أبي طالب مع النبي ولم تتخل عنه حتى الأم أو زوجة أبي طالب وقفت مع النبي وقفة عز وشرف ، فقد كانت بمثابة الأم لرسول الله . الأم الحقيقية أحبت الرسول أكثر من أولادها ، وعبر الرسول عن عميق عرفانه لها يوم ماتت فقال : « اليوم ماتت أمي ، إنها كانت أمي ، إنها كانت لتجيع صبيانها وتشبعني ، وتشعثهم وتدهنني ، وكانت أمي » (4) .
وباختصار كما تفردت عائلة أبي طالب الرجل والمرأة والأولاد بالوقوف مجتمعين مع النبي في أيام المحنة يوم رمى العرب النبي بسهم واحد كذلك انفرد أحفاد أبي طالب وأحفاد المرأة الصالحة زوجته بالوقوف وقفة رجل واحد مع ابن النبي الإمام الحسين يوم رمته الأكثرية الساحقة من الأمة « الإسلامية » بسهم واحد ، وهذا شرف لم تنله أية جماعة مسلمة ، لقد كان أحفاد أبي طالب الذين وقفوا مع الإمام الحسين جماعة ، وكان عددهم عشرين على الأقل ، قتل منهم بين يديه

(1) راجع تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 27 .
(2) المصدر نفسه ج 2 ص 36 .
(3) المصدر نفسه ج 2 ص 35 .
(4) المصدر نفسه ج 2 ص 14 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 110


سبعة عشر فتى من خيرة فتية الأرض (1) كما أجمع على ذلك الطبري في تاريخه وأبو الفرج الأصفهاني في « مقاتل الطالبيين » والخوارزمي في « مقتل الحسين » ، والشيخ المفيد في « الإرشاد » .
1 ـ فأحفاد أبي طالب هم الجماعة الوحيدة التي وقفت مع الإمام الحسين من بين جماعات الأمة الإسلامية كلها .
2 ـ نعم ، لقد جرت محاولة لجذب جماعة إسلامية أخرى ولكنها لم تنجح ، وملخص ذلك أن حبيب بن مظاهر أحد أنصار الحسين قال للحسين : « يا أبن رسول الله ها هنا حي من بني أسد بالقرب مني أتأذن لي أن أدعوهم إلى نصرتك ؟ فقال الحسين : أذنت لك ، فذهب حبيب ونجح بجمع تسعين رجلا ولما علم عمر بن سعد بذلك أرسل قرابة 400 فارس لملاقاتهم والحيلولة دون وصولهم إلى معسكر الحسين ، وأدرك بنو أسد أنه لا طاقة لها بالقوم ، فانهزم التسعون (2) .
3 ـ جماعة من الأنصار : المعلومات القليلة المتوفرة لدي تشير أن جماعة من الأنصار عددهم خمسة وقفت مع الأمام الحسين وهم : جنادة بن الحارث الأنصاري (3) ، وعبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي (4) ، وعمرو بن جنادة إبن الحارث الأنصاري (5) ، وعمر بن فرضة بن كعب الأنصاري (6) ، ونعيم بن عجلان الأنصاري (7) ولكن يبدو واضحا أنهم لم يقفوا مع الحسين كجماعة ، ولم يلتحقوا به كجماعة تمثل الأنصار إنما أنطلقوا كأفراد ، وعلى أي

(1) راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 459 ـ 460 وكتاب الشيخ محمد مهدي شمس الدين القيم ( أنصار الحسين ) .
(2) راجع كتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج 5 ص 100 ، وفتوح الأنوار ج 44 ص 386 ، والعوالم ج 17 ص 237 وموسوعة كلمات الإمام الحسين ص 384 .
(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 104 ، والخوارزمي ج 2 ص 21 ، وبحار الأنوار ج 45 ص 28 .
(4) تاريخ الطبري ج 5 ص 423 ، وبحار الأنوار ج 45 ص 1 ، واللهوف لابن طاووس ص 40 .
(5) المناقب ج 4 ص 104 ، ومقتل الخوارزمي ج 2 ص 21 ، والبحار ج 45 ص 28 .
(6) الطبري ج 5 ص 413 ، والمناقب ج 4 ص 105 ، والبحار ج 45 ص 23 ، والخوارزمي ج 4 ص 23 .
(7) المناقب ج 4 ص 113 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 111


حال فأن هذه الأقلية من الأنصار إنما كانت من قبيل الامتداد الطبيعي للأقلية التي وقفت مع الأمام علي بعد موت النبي ، واتحاد بطون قريش ألـ 23 ضده .
4 ـ وجماعة من قوم أبي ذر الغفاري وعددهم أربعة وهم : جون مولى أبي ذر الغفاري (1) ، وعبد الرحمن بن عروة الغفاري (2) ، وعبد الرحمن بن عزرة بن حران الغفاري (3) ، وكان جده حران من أصحاب أمير المؤمنين علي وعبدالله بن عزرة بن حران الغفاري ، قرة بن أبي قرة الغفاري (4) وهذه النخبة من قوم أبي ذر الغفاري جديرة بهذا الموقف ، فقد عرفوا حق النبي ، وحق الولي من بعده ، وحق الإمام الحسين من بعد أبيه ، وموقفهم هذا حالة من التواصل والامتداد لموقف الصحابي المؤمن أبي ذر الغفاري .

النخبة والصفوة :

بينا قبل قليل أن الجماعات التي وقفت مع الإمام الحسين محصورة « 1 ـ بأحفاد أبي طالب ، 2 ـ بخمسة من الأنصار ، 3 ـ بأربعة من قوم أبي ذر الغفاري » .
أما بقية الذين وقفوا مع الإمام الحسين ، وقاتلوا بين يديه حتى قتلوا ، فهم مجرد أفراد ، أو نخبة ، أو صفوة ، من العرب والموالي ، ومن عرب الشمال وعرب الجنوب ، ومن الشيوخ والشبان حللوا واقعهم تحليلا دقيقا ، وأيقنوا أن الإمام الحسين على الحق المبين ، وأيقنوا أنه من العار وفق مقاييسهم الصادقة النقية ان يتركوا الإمام الحسين وحده ، وتوصلوا إلى ذات النتيجة التي توصل لها الإمام الحسين وهي أن الموت خير من حياة الذل تحت حكم الظالمين ، فشمروا عن سواعدهم ، ووقفوا مع الإمام الحسين ، ولاحقوا الموت كلما فر منهم ، حتى

(1) مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 232 وج 2 ص 19 ، وتاريخ الطبري ج 5 ص 20 ، والمناقب ج 4 ص 103 .
(2) مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 92 ، وبحار الأنوار ج 45 ص 28 .
(3) تاريخ الطبري ج 5 ص 442 ، والبحار ج 45 ص 21 و 29 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 23 .
(4) راجع المناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 102 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج 3 ص 18 ، والبحار ج 45 ص 23 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 112


إذا بدات المعركة ، وأمرهم الإمام الحسين بالقتال قاتلوا بشجاعة تفوق حد التصور والوصف حتى قتلوا عن بكرة أبيهم بين يديه دفاعا عنه وعن أهل بيته .
ونحن لا نعلم الكثير عن السيرة الشخصية لكل واحد منهم ، لكن العقل والنقل والوجدان يشير إلى أنهم نخبة ، وصفوة ، وقلة مؤمنة ، لا يدانيها بالعظمة والإيمان إلا شهداء بدر . وقد وصفهم أحد قادة جيش عمر بن سعد بن أبي وقاص في معرض نهيه عن قتال المبارزة قائلا لجنوده : « ويلكم يا حمقاء مهلا أتدرون من تقاتلون ؟ إنما تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر ، وقوما مستميتين » (1) .
فهذه شهادة من عدوهم ، فهو يشهد أن النخبة التي وقفت مع ألإمام الحسين هم فرسان البلاد ، وكانت الفروسية أعظم مفاخر ذلك العصر ، ويشهد أيضاً بأن النخبة التي قاتلت مع الحسين هم أهل البصائر في البلاد ، وأهل البصائر : مصطلح يطلق على من بلغوا قمة الوعي والثقافة الإنسانية ، أي أنهم الحكمة ويشهد عدوهم بأنهم مستميتون أي يقاتلون قتال من يريد الموت ، ولا يقاتل مثل هذا القتال إلا الصفوة التي أمتحن ألله قلوب أفرادها للأيمان والمحسنون ألذين يعبدون ألله كأنهم يرونه ، ويشتاقون للموت طمعاً بالجنة ورضوان ألله . إنهم نماذج بشرية فريدة من نوعها ، عاشوا حياتهم بشرف وعز وتركوها بقمة العز والشرف . ولولاهم لكلل جبين ألأمة ألأسلامية أمام ألأمم بالخزي والعار ، ولقالت ألأمم : أية أمة تلك ألأمة التي يقتل أبن نبيّها وآله الذين يذكرونهم في صلاتهم ولم ينصره أحد من أفرادها !!!

القلة التي تعاطفت مع ألإمام الحسين ولكنها لم تقف معه !! :

بيّنا أن القلة أو ألأقلية من ألأمة الإسلامية التي أيدت ألأمام الحسين فئتان :
إحداهما وقفت وقفة عز مع الحسين ، فقاتلت معه ودونه حتى قتلت عن بكرة أبيها ، دفاعاً عنه وعن آل مخمد وأهل بيت النبوة ، وثانيهما تعاطفت معه ، وتمنت نصره ـ ولكنها قعدت عن نصرته ، ومع هذا فقد تأثرت تأثراً بالغاً لما تناهت إلى
(1) راجع الطبري ج 5 ص 435
كربلاء ـ الثورة والمأساة 113


أسماعها أنباء مذبحة كربلاء وبكت على الشهداء بكاءً مراً .

جماعات هذه القلة:

أولاً : الهاشميون :


أ- الرجال الهاشميون :


عندما خرج ألإمام الحسين أو أخرج لم يطلب من الهاشميين أن يخرجوا معه ، لكنه لما عزم الخروج كتب كتاباً إلى بني هاشم ، هذا نصه : «بسم ألله الرحمن الرحيم من الحسين إبن علي بن أبي طالب إلى بني هلشم أما بعد : فمن لحق بي منكم أستشهد ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح ، والسلام » (1)
فألإمام الحسين وضعهم أمام الواقع والمحتمل ، وخيّرهم بين الإلتحاق به وإدراك الشهادة ، وبين التربص على نفس الحالة . لم يقل الرسول للهاشميين قاتلوا معي ، أو أخرجوا معي عندما هاجر ، أو أحموني من بطون قريش ال 23 إنما أخذ أبو طالب المبادرة وجمع الهاشميين والمطلبيين وتولوا حمايته من تلقاء انفسهم، ووجه ألإمام علياً وجعفراّ أخاه إلى حيث أراد لأنهم وضعوا أنفسهم تحت تصرفه ،وكلف عليا وحمزة وعبيدألله بالخروج للمبارزة لأنهم وضعوا أنفسهم تحت تصرفه، فماذا عسى (ألإمام الحسين) أن يقول للهاشميين ؟ هل يقول لهم أخرجوا معي ؟ وماذا يكون الموقف لو رفضوا الخروج معه بعد دعوتهم للخروج !! إن في ذلك إحراجاً له ولهم أمام العرب والشامتين من بطون قريش ال 23 ، وسيكون قول ألإمام وتكليفه لهم بالخروج حجة عليهم يوم القيامة !! لقد قال الحسين في رسالته التي وجهها إلى بني هاشم ما ينبغي أن يقال بلا زيادة ولا نقصان!!.
لم يخرج مع الحسين من بني هاشم إلا ذرية أبي طالب ، ولم يخرج معه أي شخص من ذرية أعمام النبي الثمانية ، ولا أي شخص من ذرية أي هاشمي إلا
(1) راجع بصائر الدرجات ص 481 حديث 5 ، وأللهوف ص 28 ، والمناقب لأبن شهر آشوب ج 4 ص 76 ، ومثير ألأحزان ص 39 ، وبحار ألأنوار ج42 ص 81 (حديث 12 ) ، وج 44 ص 330 ، وج 45 ص 84 ، والعوالم ج 17 ص 179 وموسوعة كلمات ألامام الحسين ص 296
كربلاء ـ الثورة والمأساة 114

أحفاد أبي طالب !!! لقد أختار الهاشميون البقاء في المدينة !! ...

محمد ابن ألحنفية :

لما عرف محمد إبن الحنفية أن ألإمام الحسين سيخرج من المدينة فراراً بموقفه ودينه وأهله ذهب إلى منزل ألإمام وقال له : « يا أخي أنت أحب الخلق إلي ، وأعزهم علي ، ولست والله أدخر النصيحة لأحد من الخلق وليس أحد أحق بها منك لأنك ..... وكبير أهل بيتي ومن وجبت طاعته في عنقي لأن ألله قد شرفك علي وجعلك من سادات أهل الجنة ...ألخ . ونصحه بأن يذهب إلى اليمن أو يلتحق بالرمال وشعب الجبال ، ويجتاز من بلد إلى بلد حتى ينظر ما يؤول إليه أمر الناس ..
فقال له ألإمام الحسين : « يا أخي وألله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية » وأنهى ألإمام الحسين الحدبث معه قائلاً : « يا أخي جزاك ألله خيراً ، لقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأنا عازم على الخروج إلى مكة وقد تهيأت لذلك أنا وأخوتي وبنو أخي وشيعتي وأمرهم امري ورأيهم رأيي . وأما أنت فلا عليك أن تقيم في المدينة ، فتكون لي عيناً عليهم لا تخف عني شيئاً من أمورهم » .(1)

وصية ألإمام الحسين لمحمد إبن الحنفية :

« بسم ألله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بإبن الحنفية أن الحسين يشهد أن لا إله إلا ألله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، جاء بالحق من عند الحق ، وأن الجنة والنار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ، وأنما خرجت لطلب ألإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن آمر بالمعروف ، وأنهي عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي أبن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق ، فألله أولى بالحق ، ومن رد علي هذا
(1) كتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج 5 ص 23 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص188 ، وبحار ألأنوار ج44 ص 329 ، والعوالم ج17 ص 178 ، وأعيان الشيعة ج1 ص 188 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 115

أصبر حتى يقضي ألله بيني وبين القوم بالحق ، وهو خير الحاكمين، هذه وصيتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب ».ثم طوى الحسين الكتاب ودفعه إلى أخيه محمد.(1)
ويبدو أن ألإمام الحسين قد أدرك بأن أخاه غير مقتنع بخروجه وأنه محب ومشفق وناصح بالفعل ، فلم يطلب منه الخروج معه بغير قناعة ، فأذن له أن يبقى في المدينة ، طالما انه على طاعة ألإما وولايته ، ولأنه الوحيد المتبقي من ذرية أبي طالب ، وبالضرورة سيسأله المسلمون عن الحسين ، لذلك ترك له تلك الوصية ليطلع الناس عليها وهي جامعة لأسباب خروجه ، ونحن نميل إلى القناعة التامة بأن ألإمام الحسين لو كلف محمد بن الحنفية بالخروج لخرج معه ، ولكن الحسين يريد من رأيه على رأيه وأمره على أمره .(2)
ثانياً : العباسيون :


كان العباسيون كثرة وعلى رأسهم عبدالله بن عباس ولكن لم يخرج منهم احد . لقد وقف العباس مع علي بعد موت النبي وقفة عز وشرف ، ورفض أغراءات دولة الخلافة بان يجعلوا له ولعقبه شيئاً من ألأمر مقابل ان يتخلى عن ألإمام علي (ع)،(3)ولكنه رفض العرض بأباء وبقي إلى جانب ألإمام علي حتى إنتقل إلى جوار ربه ، وبعد موت العباس وقف عبدألله بن العباس إلى جانب ألإمام علي ، فولاه ألإمام البصرة ، ولما آلت ألأمور إلى ألإمام الحسن كلف عبيدألله بن العباس بأمارة جيش أعده على عجل لمحاربة معاوية وبعد مفاوضات سرية بين رسل معاوية وعبيدألله بن العباس ، ألتحق بمعاوية مقابل مبلغ من المال ، وأستمال

(1) راجع كتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج5 ص 34 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 188 ، والبحار للمجلسي ج44 ص 329 وهي بلفظه ، والمناقب لأبن شهر آشوب ج4 ص 89 ، والعوالم ج17 ص179 .
(2) راجع كتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج5 ص 23 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص 188 ، وبحار ألأنوار ج44 ص 329 ، وأعيان الشيعة ج 1 ص 588.
(3) راجع على سبيل المثال ألإمامة والسياسة لإبن قتيبة ج1 ص 15 والنص في كتاب السقيفة للجوهري كما رواها إبن أبي الحديد ، راجع معالم المدرستين للعسكري ج 1 ص 124 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 116


معه أكثر من ثلث جيش ألإمام (1)وفيما قرّر الإمام الحسين عليه السلام الخروج إلى العراق أخبر بذلك عبدالله بن عباس لكنه نصحه أن يبقى في الحجاز ، وأن لا يذهب إلى العراق ، وإن كان لا بد من ترك الحجاز فليذهب إلى اليمن ، ونصحه أن لا يسير بنسائه وصبيته فشكره ألإمام الحسين ، ولم ياخذ بنصائحه .(2) ويبالغ ألأختصار فأنه لم يخرج مع الحسين إلا أحفاد أبي طالب ، أما بقية بني هاشم فقد كانوا من المتعاطفين !! .
ب - نساء بني هاشم :


لما علمت نساء بني عبدالمطلب بعزم ألإمام على المسير والخروج أجتمعن للنياحة ، ومشى الحسين إليهن وناشدهن ألله على أن لا يفعلن ذلك ، فقلن له : فلمن نستبقي النياحة والبكاء فهو عندنا ( يوم خروجك) كيوم مات رسول ألله ، وعلي ، وفاطمة ، ورقية ، وزينب، وأم كلثوم فننشدك ألله جعلنا ألله فداك من الموت فيا حبيب ألأبرار من أهل القبور.(3)
وجائته عمته أم هانيء فهشّ لها وبشّ وسألها عن سبب قدومها ، فقالت : وكيف لا آتي ، وقد بلغني أن كفيل ألأرامل ذاهب عني ، ثم أنتحبت باكية ، ثم قالت : سيدي وأنا متطيرة عليك من المسير لهاتف سمعت البارحة يقول :
وأن قتيل الطف من آل هاشم أذل رقاباً من قريش فذلت
حبيب رسول الله لم يك فاحشاً أبانت مصيبتك ألأنوف وجلت

فقال لها الحسين : يا عمة لا تقولي من قريش ، ولكن قولي : « أذل رقاب المسلمبن فذلت» . ثم قال : يا عمة كل الذي مقدّر فهو كائن لا محالة .

فخرجت أم هانيء من عنده وهي باكية وتقول :
وما أم هانيء وحدها ساء حالها خروج حسين عن مدينة جده


(1) راجع سيرة الرسول وأهل بيته ج2 ص 30 لمؤسسة البلاغ ، والفتنة الكبرى لطه حسين ، والفصول المهمة لأبن الصباغ المالكي ص 161 ، وألإرشاد للشيخ المفيد ص 189 ، وكتابنا المواجهة ص 632-635 .
(2) راجع تأريخ الطبري ج6 ص 216-217 ، وإبن ألأثير ج4 ص 16 وألأخبار الطوال ص 24 .
(3) راجع بحار ألأنوار ج45 ص 88 ، وأعيان الشيعة ج1 ص 588 ، ومقتل الحسين للمقرّم ص 152 .

كربلاء ـ الثورة والمأساة 117


ولكنما القبر الشريف ومن به ومنبره يبكون من أجل فقده (1)

ولا أخال نساء بني عبدألمطلب يرفضن دعوة ألإمام الحسين لو دعاهن للخروج معه ، ولا أخاله يدعوهن لذلك .
ومن المؤكد أن خروج ألإمام الحسين ، قد فجع قلوب الشيوخ الطاعنين من الصحابة الصادقين ، وفجع قلوب الذين أحبوه ، ولكن لم يرتقوا إلى مستوى الوقوف معه.
فعند خروجه لقيه عبدالله بن مطيع ، ونصحه أن لا يخرج وختم نصيحته بالقول : « فوالله لئن هلكت لنسترق من بعدك » .(2)

المتعاطفون : البكاء وألألم !!

لما وضع الرأس الشريف بين يدي إبن زياد أخذ ينكث بقضيبه ثنايا الحسين ، فقال له زيد بن أرقم : أرفع قضيبك عن هاتين الشفتين فوالله الذي لا إله إلا هو ، لقد رأيت شفتي رسول ألله على هاتين الشفتين تقبلهما ، ثم أنفجر الصحابي بالبكاء وهمّ بقتله لولا انه شيخ خرف وذهب عقله كما قال.(3)
وتكررت الحادثة أمام الخليفة إذ أخذ الخليفة ينكث بثنايا الحسين والرأس أمامه فقال له صحابي يقال له أبو برزة ألأسلمي : « أتنكث بقضيبك في ثغر الحسين ، أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله يرشفه ...»(4)
وفي كتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي و« مقتل الخوارزمي » وغيرهما : وساق

(1) معالي السبطين ج1 ص 214 وموسوعة كلمات الحسين ص 296.
(2) راجع تأريخ الطبري ج6ص190 وما بعدها وكتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج5 ص 25 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص 189 ، وأنساب ألأشراف ج3 ص 155
(3) راجع الصواعق المحرقة لإبن حجر ص 18 ، وتأريخ الطبري ج 2 ص 262 ، والبداية والنهاية لإبن الأثير ج8 ص90 .
(4) راجع كتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج5 ص 241 ، ومعالم المدرستين ج3 ص 160 كما رواها عن الطبري .

السابق السابق الفهرس التالي التالي