كربلاء ـ الثورة والمأساة 90


وصول الكتب إلى الحسين في مكة :

من المؤكد أن موالي أهل بيت النبوة في الكوفة قد أجتمعوا عندما سمعوا بهلاك معاوية ، وأنهم قد رأوا الفرصة مناسبة للتخلص من طغيان بني أمية بعد هلاك الطاغية على حد تعبير الإمام الحسين ومن المؤكد أنهم قد كتبوا للحسين كتابا يدعونه للقدوم إليهم ، وهم لا يعرفون أن دولة الخلافة كانت تقود حملة كتابة الرسائل والكتب .
كذلك فإن شبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث ، وعزرة بن قيس ، وعمرو بن الحجاج ، ومحمد بن عمر المعروفين بولائهم للخليفة قد كتبوا أيضا للإمام الحسين يدعونه للقدوم إلى الكوفة .
فأولياؤه كتبوا إليه ، وأولياء معاوية كتبوا إليه أيضا ، وهم سادة مجتمع الكوفة ، فقدر الإمام أن الجميع قد أكتووا بظلم الظالمين وأن موت معاوية أعطاهم الفرصة للخروج من الظلم الذي يمثله معاوية وبطانته إلى العدل الذي يمثله أهل بيت النبوة ، وقرر الإمام الحسين أن يبعث مسلم بن عقيل وأن يتوجه بالفعل إلى الكوفة وبالفعل توجه إلى الكوفة .

إكتشاف المكيدة :

توجه الإمام وأهل بيت النبوة ومن والاهم إلى العراق لما وصلتهم الرسائل والكتب وتأملوا أن يجدوا في العراق قوما يجيرونهم ، أو قوة تحميهم وفي ما بعد أكتشف الإمام الحسين مكيدة الكتب والرسائل ، فقال لأصحابه في كربلاء : « .... إنما القوم يطلبونني ، وقد وجدوني وما كانت كتب من كتب إلي ـ فيما أظن ـ إلا مكيدة لي ، وتقربا إلى إبن معاوية بي » (1) .
لقد وصل رسول الإمام الحسين قبله ليمهد لوصوله (2) وبمدة وجيزة

(1) راجع أنساب الأشراف للبلاذري ج 3 ص 185 ، وموسوعة كلمات الإمام الحسين ص 397 .
(2) راجع تاريخ الطبري ج 6 ص 198 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 91


وخيالية بايعه ثمانية عشر ألفا (1) فكتب مسلم إلى الإمام يطلب منه الإسراع بالقدوم مؤكدا له أن الناس كلهم معه (2) . وفي رواية « بايع مسلم بن عقيل خمسة وعشرون ألفا ، وفي رواية أخرى أربعون ألفا » (3) . ولما بدأت ملامح المعركة ، وجاء إبن زياد تخلى الناس كلهم عن مسلم بن عقيل ولم يجد من الأربعين ألفا رجلا واحدا يأويه أو يدله على الدرب إلا هاني بن عروة ، وبسرعة تم إلقاء القبض على مسلم وهاني بن عروة فقطع الوالي الجديد رأسيهما وأرسل الرأسين إلى الخليفة يزيد بن معاوية (4) فليس معقولا أن يبايع أربعون ألفا اليوم ويتنكروا غدا لبيعتهم فلا يثبت أحد منهم على الإطلاق !! والمعقول الوحيد أن البيعة قد كانت بالإتفاق مع دولة الخلافة ، مقابل جعل للمبايعين ، وأن تنصل المبايعين من بيعتهم قد تم أيضا بالاتفاق مع دولة الخلافة !! وهو ما يعرف بلغة المخابرات المعاصرة بالإختراق !!! حيث ينظم إلى التنظيم المراد إختراقه مجموعة من العيون تتظاهر بعضويتها لهذا التنظيم ، وتنقل ما تسمعه ، أو تتدخل بمشاريعه !! .
لقد إكتشف أهل الكوفة مكيدة الكتب والرسائل التي أرسلت للإمام الحسين ، وأنها من تدبير الدولة لغايات إستدراج الإمام إلى المكان الذي تريده ، !!! ثم إنه لن يجرؤ أحد منهم على الإعلان عن عدم موالاته لدولة الخلافة ، لأن هذا الإعلان يؤدي لقطع العطاء ، ويؤدي للموت أيضا !! ولن يجرؤ أحد منهم على الإعلان عن ولائه لعلي بن أبي طالب أو لأحد من أهل بيته ، لأن عقوبة هذا الإعلان هي الموت وهدم الدار وهذه العقوبة كانت سارية قبل قدوم مسلم وبعد موته . مما يؤكد أن فكرة البيعة أيضا كانت من تدابير دولة الخلافة !!! .
إن أهل الكوفة أقل وأذل من أن يجرؤوا على البيعة وعلى تحدي سلطة

(1) تاريخ الطبري ج 6 ص 211 ، ومثير الأحزان ص 21 ، واللهوف ص 10 ، وموسوعة كلمات الحسين ص 53 .
(2) راجع تاريخ الطبري ج 6 ص 211 .
(3) راجع تاريخ إبن عساكر ح 649 .
(4) راجع تاريخ الطبري ج 6 ص 199 ـ 215 ، والإرشاد ص 199 ـ 200 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 92


الخلافة بعد سني حكم معاوية التي أذلتهم وأرهقتهم وأجتثت من نفوسهم كل نخوة وشرف ودين .
وما يعنينا أن الإمام الحسين وجد نفسه في كربلاء في مقابلة جيش الخلافة البالغ عدده ثلاثون ألف مقاتل .

المطلوب رأس الإمام ورؤوس أهل بيت النبوة

عندما خرج الإمام الحسين من مكة متوجها إلى العراق بعد وصول الكتب والرسائل لم تعد دولة الخلافة مهتمة ببيعته أو بيعة الذين معه ، فحتى لو أعطى الإمام الحسين البيعة « وهذا مستحيل » فإنها لن تقبل منه ذلك قبل أن تذله إذلالا لم يذله أحد قط ، فالبيعة لا تعني دولة الخلافة إنما يعنيها بالدرجة الأولى والأخيرة قتل الحسين ، وإبادة أهل بيت النبوة ، إبادة تامة حتى يختفي خطرهم إلى الأبد !! وقد عبر عبيدالله بن زياد عن ذلك خير تعبير ، فقد كتب له عمر بن سعد رسالة جاء فيها : « بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد : فأني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسول فسألته عما أمامه وما يطلب ويسأل ، فقال : كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم ، فسألوني القدوم ففعلت فأما إذا كرهوني ، فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم » .
فلما قرأ عبيدالله الكتاب قال :
الآن إذ علقت مخالبنا به يرجو النجاة ولات حين مناص(1)

فعبيدالله يعترف أن لدولة الخلافة مخالب كالوحوش تماما ، وأن الحسين وأهل بيت النبوة قد وقعوا في مخالبها بالفعل ، وأن هذه المخالب قد علقت به بالفعل ، وأن نجاة الحسين بهذه الحالة مستحيلة ، ومع هذا فأنه كتب إلى عمر بن سعد : « أما بعد فقد بلغني كتابه وفهمت ما ذكرت فاعرض على الحسين أن يبايع

(1) راجع تاريخ الطبري ج 6 ص 232 ـ 270 ، وإبن الأثير ص 19 ـ 38 ، وإبن كثير ج 8 ص 172 ـ 198 ، والأخبار الطوال للدينوري ص 253 ـ 261 وأنساب الأشراف ص 176 ـ 227 ، والإرشاد للمفيد ص 210 ـ 236 ، لتقف على تفاصيل نزول الحسين ومفاوضاته مع عمر بن سعد .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 93


ليزيد بن معاوية هو وأصحابه فإن فعل ذلك رأينا رأينا والسلام » فالبيعة لا تنهي المشكلة ، ولا تضمن عودة الإمام الحسين ، إنما يتبعها ما هو أمر من العلقم وذلك بأن يرى إبن مرجانة رأيه في إبن محمد وأهل بيت النبوة !!! .

عودة لما كنا بصدده :

قلنا في الفصل الأول من هذا الباب أن القسم الأعظم والأكثر وقف مع الخليفة يزيد بن معاوية ضد الإمام الحسين . وقلنا إن هذا القسم مكون من بطون قريش الـ 23 ومن والاها من العرب ، وهي الفئة نفسها التي وقفت ضد النبي وقاومته وحاربته 23 عاما حتى أحيط بها ، فاستسلمت وتظاهرت بالإسلام ، وبإسلامها شكلت أكثرية الأمة الإسلامية ، وبالإضافة إلى المنافقين ، والمرتزقة من الأعراب ، وأبناء وعشائر وشيع الخمسة الذين سماهم عمر للشورى ، بالإضافة إلى مسلمة الفتح الذين دخلوا في الإسلام على يد جيش الخلفاء الفاتح ، وخضعوا للبرامج التربوية والتعليمية التي وضعها الخلفاء وأولياؤهم .
حجتهم في ذلك أن يزيد بن معاوية هو الخليفة والمالك الفعلي لمقاليد الأمور ، ومن بيده المال والجاه والنفوذ ، وقيادة البلاد والعباد الفعلية ، وبالتالي ما كان ينبغي على الإمام الحسين الإمتناع عن بيعته ، أو الخروج عليه .
قال النووي في شرحه على مسلم وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين ، لا ينعزل الخليفة بالفسق ، والظلم ، وتعطيل الحدود ، ولا يخلع ، ولا يجوز الخروج عليه ... » (1) .
وقال أيضا : « وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين ، وإن كانوا فسقة ظالمين » (2) .
قال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه التمهيد : « قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال ،

(1) راجع صحيح مسلم شرح النووي ج 12 ص 229 ، وسنن البيهقي ج 8 ص 158 ـ 159 .
(2) المصدر نفسه .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 94


وضرب الأبدان ، وتناول النفوس المحرمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود ، ولا يجب الخروج عليه » (1) .
وقد أستندت هذه الفتاوى على سلسلة من الأحاديث التي رواها أولياء الخلفاء ونسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

القرار النهائي :

بعد التداول والإثبات ، وتقليب الأمور على وجوهها المختلفة قرر « خليفة رسول الله » يزيد بن معاوية بن أبي سفيان أن يقتل الإمام الحسين إبن رسول الله ، وأن يقتل آل محمد ، وأهل بيت النبوة ، وذوي قربى النبي ، وأن يقتل معهم كل من والاهم ووقف معهم من المسلمين وقرر أن يمثل بهم أشنع تمثيل بعد القتل ، وأن يقطع رؤوسهم لتحمل في البلاد ، وليراها العباد ، وقرر أيضا أن يبيح لجيشه الإسلامي أن ينهب أموالهم ، بما فيه ملابس القتلى ، وأن يسوق نسائهم حفايا وعلى الأقتاب من الكوفة إلى دمشق عاصمة ملكه السعيد ، وقرر تكليف أركان دولة الخلافة بتنفيذ هذه القرارات في كربلاء بأسرع وقت ممكن ، بجرم أمتناعهم عن البيعة وخروجهم على خليفة المسلمين !!! .

أركان دولة الخلافة ينفذون قرارات الخليفة حرفيا :

1 ـ فقد قتلوا الإمام الحسين أشنع قتلة ، وقطعوا رأسه ، وبعد قتله أخذوا سراويله ، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته ، وأخذ رجل سيفه وأخذ آخر نعليه ... ولا خلاف بين أحد من المؤرخين على هذه الوقائع
2 ـ قتلوا آل محمد ، وأهل بيت النبوة ، وذوي قربى النبي ولم ينج منهم إلا على بن الحسين « زين العابدين » فقد كان مريضا ، طريح الفراش ولا يقوى على الحركة . والحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وعمرو بن الحسن بن

(1) راجع التمهيد باب « ذكر ما يوجب خلع الإمام وسقوط فرض طاعته » .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 95


علي بن أبي طالب وكانا طفلين صغيرين ولم يشاهدهما القتلة ولم ينتبهوا لهما إلا بعد أنتهاء المجزرة (1) .
3 ـ وقتلوا كافة الذين وقفوا مع الحسين واهل بيته من غير بني هاشم ولم ينج منهم إلا ثلاثة وبالصدفة وهم : عبد الله المشرقي (2) وعقبة بن سمعان (3) والمرقع بن ثمامة الأسدي (4) .
4 ـ وقتلوا حتى الأطفال ، فقد قتلوا الطفل علي بن الحسين (5) والطفل أبا بكر بن الحسين ، وغلاما من آل الحسين ، وطفلا للإمام الحسن (6) .
5 ـ وقتلوا حتى النساء كأم وهب بن عبد (7) .
6 ـ وأنتهبوا كل شيء ، قال أبو مخنف : « ومال الناس على الدرس والحلل والإبل فانتهبوها ، ومال وحال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه وإن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب بها منها » (8) .
7 ـ وكان القتلة قبل قتل الجميع قد منعوا الماء عن الإمام الحسين ومن معه حيث كتب إبن زياد إلى عمر بن سعد أما بعد : « فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ولا يذوقوا منه قطرة » (9) ..

القرار النهائي للأكثرية الساحقة :

بطون قريش الـ 23 ، والمنافقون ، والمرتزقة من الأعراب ، وأبناء بطون

(1) راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 469 على سبيل المثال .
(2) راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 18 و 444 و 445 .
(3) الطبري ج 5 ص 454 ..
(4) المصدر نفسه .
(5) مقتل الخوارزمي ج 2 ص 32 ، وتاريخ الطبري ج 2 ص 360 ، وتاريخ أبن كثير ج 8 ص 188 .
(6) راجع تاريخ الطبري ج 2 ص 363 « غلامان من أهله » .
(7) راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 429 ـ 430 و 436 و 438 ، وأنظر الطريقة الوحشية التي قتلت فيها تلك السيدة .
(8) راجع معالم المدرستين ج 3 ص 136 للعسكري .
(9) راجع معالم المدرستين ج 3 ص 84 نقلا عن الطبري .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 96


وشيع الخمسة الذين رشحهم عمر للخلافة وسماهم أهل الشورى ، والمسلمون الجدد الذين دخلوا بالإسلام على يد جيش الخلفاء الفاتح أيدوا قرارات الخليفة يزيد بن معاوية ، مثلما أيدوا تنفيذ أركان دولة الخلافة لهذه القرارات ، وباركوا مذبحة كربلاء التي إرتكبها جيش الخلافة ، وباركوا قتل الإمام الحسين وأهل بيته ونهب أموالهم وقتل أطفالهم وحرمانهم من الماء والتمثيل بهم بعد موتهم . وذلك لأن عقيدة هذه الأكثرية تحرم الخروج على الخليفة ، ولا تجوز عدم بيعته (1) إنهم وإن لم يصرحوا فهم ضمنيا يرون أن إمتناع الإمام الحسين وذوي قرباه « غير جائز » ويرون أن خروجهم على يزيد بن معاوية « حرام » (2) وفق المفهوم الديني لهذه الأكثرية . ذلك المفهوم الذي لم ينزل به الله سلطانا إنما هو من تعاليم مدارس الخلفاء !! الذين قصروا مهمة الدين على أنه طريق ملك ، ومنهج للمحافظة على هذا الملك !!! تلك المدارس خصصت المنافقين للإفتاء والمرجعية وجعلتهم سادة ، وخيرت آل محمد بين القبول بفتاوى ومرجعية المنافقين أو الموت فاختاروا الموت عن طيب خاطر .
والأكثرية الساحقة من الأمة الإسلامية كانت بين مؤيد ومنفذ ، فجيوش الخلفاء مع الخليفة ، بما فيه الجيش الذين نفذ مذبحة كربلاء !! ولم يدع أحد للآن أن تلك الجيوش ليست من الأمة الإسلامية والذين لم ينخرطوا بجيش الخليفة كان تحت السلاح فلو لزم الأمر لجندهم الخليفة كلهم فهم يتقاضون منه عطاءهم الشهري ، ومن يوالي غيرهم أو يطع غيره فلا عطاء له . لم يأمره أحد بمعروف ، ولم ينههه أحد عن منكر . لقد أعتبرت الأكثرية التي أشرنا أليها قتل أبن النبي وأهل بيت النبي ومن والاهم فتحا مبينا . أذ من يدلني على رجل وأحد من الأكثرية التي وقفت مع الخليفة ، أنه قال له : هذا منكر يا أمير المؤمنين ما كان ينبغي لك قتل أبن النبي وإبادة أهل بيت النبوة لأي سبب !! .
كانت الأكثرية تبارك لأمير المؤمنين « بنصر الله والفتح » !!! .

(1) راجع صحيح مسلم بشرح النووي ج 12 ص 229 ، وسنن البيهقي ج 8 ص 158 ـ 159 ، والتمهيد للباقلاني باب « ذكر ما يوجب خلع الإمام » .
(2) المصدر نفسه .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 97


متى ندمت هذه الأكثرية ؟ لقد ندمت فقط عندما ندم الخليفة !!! واكتشفت أنها أجرمت بحق الله وبحق رسوله ، عندما أكتشف الخليفة فظاعة جرمه .
خرج علي بن الحسين ذات يوم ، فجعل يمشي في أسواق دمشق وإستقبله المنهال بن عمرو الصحابي ، فقال له : كيف أمسيت يا إبن رسول الله ؟ قال : « أمسينا كبني إسرائيل في آل فرعون ، يذبحون أبناءهم ، ويسحيون نساءهم ، يا منهال ، أمست العرب تفتخر على العجم ، بأن محمدا منهم ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمدا منها ، وأمسينا أهل بيت محمد ونحن مغصوبون ، مظلومون ، مقهورون ، مقتولون ، مبتورون ، مطرودون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون » (1) تماما كما فعلت الأكثرية الساحقة من مجتمع فرعون بموسى وبني إسرائيل ، فعلت الأكثرية الساحقة من مجتمع يزيد بن معاوية بالحسين وأهل بيت النبوة !!! .

(1) راجع كتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج 5 ص 247 ـ 249 ، ومقتل الخوارزمي ج 2 ص 69 ـ 71 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 98




كربلاء ـ الثورة والمأساة 99


الفصل الثالث
الأقلية التي وقفت مع الإمام الحسين (ع) أو تعاطفت معه

ما من أمة من الأمم السابقة لأمة محمد إلا ووقفت أكثريتها الساحقة مع طاغيتها وضد نبيها ، والأقلية القليلة من كل أمة من الأمم القبلية هي التي إختارت بمحض إرادتها أن تقف مع نبيها ولم يكن النبي بدعا مع الرسل ، إذ وقفت معه الأقلية القليلة ، ووقفت ضده الأكثرية الساحقة من العرب ، وحتى عندما فرض سلطانه على العرب وحولهم من دين إلى دين وقبيل وفاته لمت الأكثرية شملها ، ووقفت ضده وهوعلى فراش الموت وحالت بينه وبين كتابة ما أراد ، !! كما بينا ، بمعنى إن مواقف الأكثرية والأقلية من كل أمة هي حالة من التواصل والامتداد الطبيعي لموقف الأكثرية والأقلية من كل أمة من الأمم السابقة ، فالأكثرية تقف مع مصالحها المرتبطة بنظام المجتمع السائد في زمنها ، والأقلية تقف دائما مع مبادئها ، ويبدو واضحا أن موقف الأكثرية والأقلية ظاهرة من ظواهر الأجتماع البشري الثابتة ، فأقدم الأمم أمة نوح ، وأحدث الأمم أمة محمد ، فكل أمة من الأمم الواقعة ما بين الأمة الأقدم والأحدث ، وقفت أكثريتها مع الباطل أو ما نسميه : مصالحها ، ووقفت أقليتها مع الحق أو ما نسميه : المبادئ . فأكثرية الأمة الإسلامية التي وقفت مع يزيد بن معاوية وأركان دولته حفظا لمصالحها هي أمتداد وتواصل طبيعي لموقف الأكثرية من كل أمة من الأمم السابقة التي أختارت الوقوف إلى جانب طاغوتها ونظامه السائد ضد النبي أو المصلح الذي جاء لإنقاذها ، والأقلية من الأمة الإسلامية التي أختارت الوقوف إلى جانب الإمام الحسين ضد يزيد بن معاوية وأركان دولته هي أيضا حالة من التواصل والإمتداد الطبيعي لأقليات الأمم السابقة التي أختارت الوقوف مع أنبيائها ومبادئهم ..

كربلاء ـ الثورة والمأساة 100


التعتيم الرسمي :

السلطة ـ أي سلطة ـ بما فيها دولة الخلافة كانت وما تزال تملك السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام ، وتملك سيطرة فعلية غير معلنة على كتابة التاريخ ، فهي التي تقدر عمليا ما ينبغي أن يكتب وما لا ينبغي ، وما ينبغي أن ينشر ويعلم به العامة ، وما لا ينبغي ، فيبقى سرا ويظل العلم بتفاصيله حصرا على السلطة وأركان دولتها ، وكان إعلام الدول من القدرة بحيث أنه يستطيع أن يصور الأسود بصورة الأبيض َ!!! وأن يقدم الأسود بصورة الأبيض ، وأن يبرز الباطل لرعايا الدولة على أساس أنه الحق المبين ، وأن يصور أركانه ودعاته على أساس أنهم النماذج البشرية الفذة التي أختارتها قوى غيبية ومقدسة خاصة لقيادة المجتمع وتوجيهه ، !!! مثلما كانت له القدرة على تقديم الحق لرعايا الدولة بصورة الباطل الزهوق ، وتقديم دعاته باحتقار بالغ وتصويرهم بصور الحثالة ، أو الأراذل الذين خرجوا على مجتمعهم الموحد ، وحاولوا أن يشقوا صفوفه ، وأن يفرقوا جمعه !! إنه إعلام قذر ، مسلح بالكفر الصراح ، لا يجد حرجا ولا غضاضة من إستعمال أية وسيلة لإقناع الجميع بما خطط له وأراد ، وغني عن البيان أن السلطة أو الدولة في كل أمة تملكها أو تدعي ملكيتها الأكثرية في هذه الأمة أو تلك ، لذلك فإن إعلام كل دولة مسخر ليكون الناطق الرسمي باسم تلك الأكثرية . والتاريخ المكتوب لكل أمة ما هو إلا تسجيل لإنتصاراتها وإنجازاتها ، وقدرتها على سحق الأقلية وازدرائها .
ومن هنا ، وهذا هو السر في عدم معرفتنا بأشخاص الأقليات من كل أمة ، وسيرهم الشخصية ، وتفاصيل الموقف المشرف الذي إتخذه كل فرد من أفراد تلك الأقليات ، لأن تاريخ الأمم وإعلامه ، تعمد التعتيم على كافة جوانب العز والعظمة التي تميز بها كل فرد من أفراد تلك الأقليات ، لقد حول إعلام الدول عز الأقلية إلى هوان ، وكبرياءها إلى ذل ، وحصافتها إلى جنون !! وعزمها على التغيير إلى عبث بوحدة المجتمع ، ومحاولة لبعثرة جمعه !! .

كربلاء ـ الثورة والمأساة 101


أنباء الأقلية التي وقفت مع الأمام الحسين :

إن دولة الخلافة كانت تملك السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام ، وعلى كتابة التاريخ وتوثيق ظاهراته وهذه الدولة كانت جماع مصالح الأكثرية ، أو أن تلك الأكثرية كانت تتصور ذلك ، أو أن تلك الأكثرية كانت المنتفع الرئيسي من دولة الخلافة ، فبيد الخليفة وأركان دولته مفاتيح مال الدولة وجاهها ونفوذها ، والولاء للخليفة ودولته أو التظاهر بهذا الولاء أو التطرف فيه هو الطريق الأوحد للحصول على نصيب من مال الدولة وجاهها ونفوذها ، لذلك أرتبطت مصالح الأكثرية مع مصلحة الدولة فصارت دولة نفعية ، وصارت الأكثرية نفعية أيضا ، وعمق الإحساس بالمصلحة المشتركة والنفعية أن الأكثرية المسلمة كانت هي الأكثرية المشركة التي قاومت النبي بكل وسائل المقاومة ، وحاربته بكل فنون الحرب طوال 23 عاما حتى أحاط بها النبي فاضطرت للإستسلام ، وأعلنت إسلامها مكرهة بالوقت الذي كانت تخفي فيه كامل قناعات الشرك !!! فصارت الأكثرية المشركة بالأمس هي الأكثرية المسلمة اليوم !! لقد تظاهر معسكر الشرك كله بالإسلام أو أعلن إسلامه ، وباسلامهم أختلت تركيبة المجتمع الإسلامي كله ، وضاعت بهذا البحر البشري الأقلية المؤمنة التي وقفت مع الرسول وقفة رجل واحد وقامت على أكتافها الدولة والأمة معا . وأصبحت الأقلية المؤمنة كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود على حد تعبير معاوية بن أبي سفيان . لقد كان واضحا أن أي هزة في المجتمع الإسلامي ستقلب موازين القوى فيه رأسا على عقب ، وكان رسول الله هو الثقل الذي يحول دون رجفان الأرض من تحت أقدام الذين أمنوا على حد تعبير البتول ، فاطمة الزهراء ، وكان واضحا بأن الأكثرية التي كانت مشركة بالأمس وأصبحت اليوم مسلمة قد أعادت ترتيب أوراقها ، وقررت أن تستفيد من الدين الجديد ، وأن تجعله طريق ملك ، وأسلوبا للمحافظة على هذا الملك . واستطاعت تلك الأكثرية أن تستخفي نفرا من الذين كانوا محسوبين على النبي ، وعلى القلة المؤمنة التي أخلصت له ، وكان واضحا أن تلك الأكثرية والنفر الذين استخفتهم يقفون على أهبة الإستعداد وينتظرون بفارغ الصبر موت النبي

كربلاء ـ الثورة والمأساة 102


للإستيلاء على الخلافة من بعده ، وليعيدوا ترتيب الأوراق من جديد ، كان النبي على علم بما يجري ، ولما مرض أراد أن يوثق توجهاته النهائية ويكتبها ليجنب الأمة الشر المستطير والعاصفة التي تنتظر موته ، وانتبه النفر الذي أستخفته الأكثرية ، فداهموا بيت النبي وحالوا بينه وبين كتابة وتوثيق توجيهاته النهائية وقالوا له مواجهة : أنت تهجر ولا حاجة لنا بكتابك ولا بوصيتك لأن القرآن عندنا وهو يكفينا (1) ومات النبي الأعظم ، كسير الخاطر ، واستولت الأكثرية على السلطة ولكن بقيادة رمز من المحسوبين على رسول الله ، وعهد الأول للثاني ، وعهد الثاني للثالث وفي عهد الخليفة الثالث أستولت الأكثرية على السلطة ، وصار الخليفة الثالث مجرد واجهة ، وقبض الذين كانوا بالأمس من أشد أعداء الله ورسوله على مقاليد الأمور ، ثم جاء معاوية ، وأنهى حكم الخليفة الرمز ، وأعلن وبكل صلف عودة الملك لمعدنه على حد تعبيره فصارت دولة الخلافة تماما بيد الأكثرية التي كانت بالأمس مشركة ، وصارت اليوم مسلمة ، وعادت القيادة لأبي سفيان وهو الرجل نفسه الذي قاد وأولاده جبهة الشرك طوال 23 سنة ، وهكذا أستردت الأكثرية كامل مواقعها التي خسرتها أثناء حربها مع الرسول ومات معاوية وأنتقلت القيادة لأبنه يزيد تماما كما أنتقلت القيادة لأبي سفيان من أبيه أمية ولكن بالمراسم الإسلامية .
هذه النقلات التكتيكية والإيدلوجية المتتابعة ألهمت إعلام دولة الخلافة إلهاما لم يحظ به إعلام من قبل ، لقد أفرز إعلام دولة الخلافة من العجائب والغرائب ما لم يفرزه أي إعلام في التاريخ ، فإذا كان إعلام دول الكفر كانت له القدرة على تصوير الأسود بصورة الأبيض !! فقد كان لإعلام دولة الخلافة القدرة الكاملة على تصوير الأسود بصورة كل الألوان !! وإظهار الباطل بمظهر الحق ،

(1) راجع صحيح البخاري ج 1 ص 37 وج 2 ص 16 وج 4 ص 31 وج 5 ص 75 وج 7 ص 9 وج 11 ص 95 (بشرح النووي) ، ومسند الإمام أحمد ج 1 ص 355 وج 4 ص 356 ح 2992 ، وسر العالمين وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي ص 21 ، وتذكرة الخواص لابن الجوزي ص 62 ، وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 287 وكتابنا المواجهة مع رسول الله وآله ص 306 لتجد عشرات المراجع وتحليلنا العلمي .

كربلاء ـ الثورة والمأساة 103


وحفز الأكثرية على القتال دفاعا عنه ، مثلما كانت له القدرة ، على تصوير الحق بصورة الباطل المذموم وحفز الأكثرية على القتال بالسلاح الأبيض دفاعا عنه ، وارتكاب المجازر والمذابح قربانا إليه ، وكانت له القدرة الفائقة على تقديم المجرمين العتاة بصورة أولياء الأتقياء ، الأنقياء ، الذين يثخنون في الأرض لتوطيد حكم الله ، مثلما كانت له القدرة على تصوير أولياء الله الذين أختارهم الله ورسوله لقيادة الأمة وتوجيهها بصورة المجرمين الشاقين للطاعة والمفرقين للجمعة والجماعة !! مثلما كانت له القدرة على تصوير المخازي المخجلة بصورة المغازي !! .

نماذج من إعلام دولة خلافة يزيد :

تمت مذبحة كربلاء بالصورة المرعبة الرهيبة التي أمر بها الخليفة يزيد بن معاوية ونفذها جيشه بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص ، وتحت الإشراف المباشر لواليه على العراق عبيدالله بن زياد ، وساق الجيش « الإسلامي » بنات النبي وحريم آل محمد أسارى وحمل معه الغنائم التي سلبها من الشهداء ومن جملتها الملابس والأحذية التي نهبوها من الشهداء وهم أموات (1) ورفعوا فوق رؤوس رماحها رؤوس الشهداء التي قطعوها بعد قتلهم ، ودخلوا الكوفة دخول المنتصرين ونادى رسول إبن زياد : « الصلاة جامعة ، الصلاة جامعة » فاجتمع الناس في المسجد الأعظم ، وصعد إبن زياد المنبر وارتجل الكلمة التالية : « الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه وقتل الكذاب إبن الكذاب الحسين بن علي وشيعته » (2) فأنت ترى أن يزيد بن معاوية الذي لعنه رسول الله بالاسم والوصف ، ولعن أباه وجده بالاسم والوصف ـ كما وثقنا ـ صار بقدرة قادر يمثل الحق وأهله ، وبقدرة قادر صار إبن النبي ، وسبطه وريحانته وسيد شباب أهل الجنة وإمام الأمة بالنص الحسين بن علي صار كذابا !! وصار أبوه الإمام ، والوالي

(1) راجع معالم المدرستين ج 3 ص 136 (نقلها عن الطبري) ، واللهوف ص 73 ، ومقتل الخوارزمي ج 2 ص 38 وص 103 ، والكامل لابن الأثير ج 4 ص 32 ، والمناقب ج 2 ص 224 .
(2) راجع تاريخ إبن الأثير ج 1 ص 34 ، وروى ذلك الطبري عن حميد بن مسلم .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 104


لكل مؤمن مؤمنة ، ومن قاتل والد يزيد وجده وقتلهم على الإسلام صار كذابا !! لست أدري من يصدق الطغام !! هل يصدقون رسول الله !! أم يصدقون عدو الله !! إن ما يعنينا بالدرجة الأولى هو قدرة إعلام دولة الخلافة على قلب الحقائق رأسا على عقب !! بصورة لم يعرف التاريخ البشري لها مثيلا !! .
عندما تمت مذبحة كربلاء أقبل زحر بن قيس حتى دخل على يزيد بن معاوية فقال له يزيد الذي كان يترقب أنباء مذبحة كربلاء بلهفة : ويلك ما وراءك وما عندك ؟ فقال زحر : « أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره ، ورد علينا الحسين إبن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته ، فأحطنا بهم من كل ناحية حتى أتينا على آخرهم ... » (1) .
فزحر هذا يسمي قتل آل محمد وأهل بيت النبوة ، وذوي قربى النبي نصر الله والفتح !!!! فالقوم يستعملون المصطلح نفسه الذي أستعمله القرآن الكريم عند فتح مكة .
وعندما أقبل موكب رؤوس الشهداء ، وبنات الرسول الأسارى شاهده الخليفة ، فقال على الفور :
نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح فلقد قضيت من الغريم ديوني (2)

ولما وضعت رؤوس الشهداء بين يدي الخليفة تمثل بأبيات أبن الزبعري التي أفتخر فيها بانتصار المشركين على المسلمين في أحد ، وأستيفاء ثأرهم عن قتلاهم في بدر :
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القوم من سادتهم وعدلنا ميل بدر فاعتدل (3)


(1) راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 459 ـ 460 .
(2) راجع تذكرة الخواص لابن الجوزي ج 2 ص 148 .
(3) راجع كتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج 5 ص 241 ، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني ص 120 ، وتذكرة الخواص لإبن الجوزي ص 148 وتاريخ إبن كثير ج 8 ص 204 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي