كربلاء ـ الثورة والمأساة 77


يذهب فيبايع ، وإني لأعلم أنها بيعة ضلالة » (1) .
قال ظافر القاسمي في كتابه « نظام الحكم في الشريعة والتاريخ » بعد بحث دقيق ومستفيض : « نعم ، لقد حصل معاوية على البيعة بالتقتيل ، والتدمير ، والتحريق ، وشتم أنصار الرسول » (2) .
ولم يكتف معاوية بسلاح الإرهاب والقتل والتدمير ، بل إستعمل سلاح المال ، فخلال ولايته على الشام التي دامت عشرين عاما جمع من الأموال ما أمكنه جمعه أستعدادا لليوم الموعود ، ولما جاء ذلك اليوم سخرها في سبيل الملك بعد أن أخرجها عن مصارفها المشروعة التي أمر بها القرآن ، وأعتبر بيت مال المسلمين خزانة خاصة له يأمر بإنفاق ما فيها حسب هواء (3) ويشتري بتلك الأموال ضمائر بعض الناس ، ودينهم ، وولاءهم .
ومن أساليب معاوية الوعد بالولاية مدى الحياة كما فعل مع عمرو بن العاص ، إذ إتفق معه أن يعطيه ولاية مصر له ولعقبه مقابل أن يبايعه خليفة ويقف معه ضد الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب ، فقبل عمرو وبايع معاوية ووقف معه ، ولولا عمرو لأنتهت قصة معاوية في صفين ولتغير مجرى التاريخ ، وكما فعل مع قيس بن سعد الذي رفض عرض معاوية (4) .
ومن أساليب معاوية : تزوير الكتب ، ونشر الشائعات ، ودس الوقيعة بين جماعة علي ، ولم يأل جهدا في هذا المضمار .
ومن أساليب معاوية وسننه : أن رتب عطاء مخصوصا أسمه رزق البيعة يعطى للجند حينما يأتي الخليفة الجديد (5) .

(1) شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 1 ص 157 .
(2) راجع نظام الحكم لظافر القاسمي ص 284 .
(3) المصدر نفسه .
(4) راجع تاريخ الطبري ج 4 ص 550 .
(5) راجع تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 383 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 78


البيعة والخضوع التام :

إذا بايع المسلم معاوية ، فلا تقفل دائرة الإرهاب ، بل يتوجب على المسلم أن يكون بحالة تبعية وخضوع تامين لمعاوية ، فإذا أحس معاوية بأي تراخ بهذه التبعية وذلك الخضوع التامين عندئذ يصدر أوامره بقتل هذا المتراخي بالتبعية والخضوع وما فعله مع حجر بن عدي وأصحابه الصادقين ومع عمرو بن الحمق وهم من خيرة الصحابة لهو خير دليل على ذلك .

التنكيل بعد الموت :

لقد أنتقل علي بن أبي طالب إلى جوار ربه ، وآل الملك إلى معاوية بالقوة والقهر وكان من المفترض أن يسدل معاوية الستار على تلك الفترة ، ولكن معاوية أصدر سلسلة من مراسيمه الملكية ، فرض فيها على كل فرد من أفراد رعايا دولة الخلافة أن يلعن علي بن أبي طالب على كل منبر وفي كل صلاة (1) وأبعد من ذلك فإن معاوية أعتبر محبة علي وأهل بيت النبوة من جرائم الخيانة العظمى وأباح دم من يواليهم ويحبهم ، وأمر ولاته بأن يقتلوا على الفور كل من يحب عليا وأهل بيت النبوة ، وأن يهدموا داره (2) .

الموت مصير المعارضين لمعاوية :

لقد تنازل الإمام الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية ، بقيا منه على القلة المؤمنة ، حتى لا يقتلها معاوية ، وتخلو الأرض من المؤمنين ، ولزم الإمام الحسن بيته ، ولأن معاوية قد أدرك بأن منيته قد دنت وأن وجود الإمام الحسين على قيد الحياة من بعده قد يعيق مشاريعه الرامية إلى تحويل الخلافة إلى ملك ، وحصر هذا الملك في بيت أبي سفيان خاصة وفي البيت الأموي عامة ، وتعويق الإمام

(1) راجع العقد الفريد لأبن عبد ربه ج 4 ص 366 ، وشرح نهج البلاغة ج 1 ص 356 ، وج 2 ص 220 وج 3 ص 258 وج 4 ص 56 ، وأسد الغابة لأبن الأثير ج 3 ص 144 ، وترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لأبن عساكر ج 3 ص 127 ح 1449 ، ومعاوية بن أبي سفيان في الميزان للعقاد ص 16 .
(2) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة أبن أبي الحديد ج 3 ص 595 ـ 596 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 79


الحسن لمشاريع معاوية ، كل ذلك إحتمال وارد !
لذلك قرر معاوية أن يقتل الإمام الحسن ، ليزيحه من درب مشاريعه ، وبالفعل ، أستعان معاوية بشياطينه ، ودس السم للإمام الحسن فقتله (1) ، وهو يعلم أنه أبن بنت رسول الله ، وسيد شباب أهل الجنة ، وريحانة النبي من الأمة !! .
لكن الإمام الحسن بالوقت نفسه هو إبن علي بن أبي طالب الذي قتل حنظلة شقيق معاوية ، فقتل معاوية للإمام الحسن يحقق له غايتين ، أولهما : يمهد الطريق لمرور مشاريع معاوية ، وثانيهما : الثأر لأخيه وجده وخاله وأبناء عمومته الذين قتلوا في بدر !!! والأهم أنه يشبع روح معاوية المتعطشة للدم والعنف (2) !! .

معاوية يخرج المجرمين :

إن الأكثرية الساحقة من المجرمين العتاة الذين ظهروا في تاريخ دولة الخلافة ، وأشاعوا الهلع والرعب في قلوب رعايا دولة الخلافة وأمعنوا في عباد الله تقتيلا وتشريدا وتعذيبا ونهبا ، وأذلوا من نجا من القتل إذلالا لم يشهد التاريخ البشري له مثيلا ، وتركوا بصماتهم الملطخة بالدم على كل شيء لامسوه ، أكثرهم تخرج من مدرسة معاوية وتتلمذ على يديه ، وتلقى أقسى وأبشع تعليماته بالعنف ، ومنهم :
1 ـ بسر بن أرطأة من السفاكين ، المجرمين ، العتاة ، الذي لم ير في التاريخ البشري مثله شراسة ، جهز له معاوية جيشا وطلب منه أن يسير من شمال الجزيرة إلى جنوبها ، تبوك ، المدينة ، مكة ، والعودة في رحلة الشر التي بعثه بها معاوية ليحصل له على البيعة من أهل الجزيرة وبالطريقة التي رواها الصحابي جابر بن

(1) حياة الإمام الحسن لباقر شريف القرشي ، ج 2 ص 278 .
(2) راجع الصواعق المحرقة لإبن حجر ص 134 ، وتاريخ إبن الأثير ج 8 ص 48 ، ومروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 50 ، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني ص 29 ، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 4 ص 11 ـ 17 ، والإستيعاب لإبن عبد البر ج 1 ص 141 ، وتذكرة الخواص لإبن الجوزي ص 121 ، وترجمة الإمام الحسن من تاريخ دمشق لإبن عساكر ج 4 ص 228 ـ 241 الأحاديث 367 ـ 393 ، والعقد الفريد لإبن عبد ربه ج 2 ص 298 ، وتاريخ الخميس ج 2 ص 294 ، وراجع الغدير للأميني ج 11 ص 26 ـ 32 وكتابنا المواجهة ص 638 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 80


عبد الله الأنصاري ، والتي أيدتها أم سلمة زوجة الرسول والتي سقناها قبل قليل ، !! لقد بلغت الوحشية ببسر بن أرطأة وجيشه أن سمحوا لأنفسهم حتى بقتل الأطفال الرضع الأبرياء كما فعلوا بطفلي عبيدالله بن عباس !! (1) فمن يصدق أن عبدا تافها مثل بسر بن أرطأة يمكن أن يفعل هكذا أفعال دون أوامر صريحة من سيده وأستاذه معاوية !! .
لقد أمره معاوية وبكل صراحة بكل ما فعل ، ومما وصل إلينا من أوامر معاوية أنه خاطب بسر بن أرطأة قائلا : « وأنهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا » (2) ، « وأمره معاوية أن يقتل كل من كان في طاعة علي ، فقتل خلقا كثيرا ، وقتل فيمن قتل إبني عبيدالله بن العباس بن عبد المطلب وكانا غلامين صغيرين » (3) .
2 ـ زياد بن عبيد ، المعروف بـ « زياد أبن أبيه » ولد من أبوين عبدين هما : عبيد وسمية ، كان في خدمة الإمام علي ومن المتظاهرين بنصرته وخلال وجود زياد مع جماعة علي بن أبي طالب تعرف زياد وعرف المخلص منهم والمنافق ، كان معاوية بحاجة إلى رجل يعرف أصحاب علي معرفة دقيقة ، حتى يتمكن منهم معاوية ويبيدهم عن بكرة أبيهم ويقضي على أي ناصر لعلي في الارض ، وقدر معاوية أن هذا الرجل بالذات زياد بن عبيد أو زياد أبن أبيه هو بغيته المطلوبة ، وأكتشف معاوية ان زياد هذا يخفي مواهب جرمية حبيسة ، وإذا أتيح لتلك المواهب أن تنطلق فقد يفوق زياد بسر بن أرطأة ، ومسلم بن عقبة وغيرهما من طاقم الإجرام .
لذلك كله كاتبه معاوية وتودد إليه ، وليجعل لزياد مصلحة في ملكه ووعده بولاية العراق ، وزعم معاوية لزياد أنه أخوه وتفصيل ذلك ـ يزعم معاوية ـ ان أبا سفيان زنى يوما بسمية أم زياد فحملت سمية من تلك الزنية ، فزياد على هذا

(1) راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 139 .
(2) المصدر نفسه .
(3) راجع تاريخ الطبري ج 6 ص 157 ، والكامل لابن الأثير ج 4 ص 209 ، وتاريخ إبن كثير ج 8 ص 130 ، وتاريخ الإسلام للذهبي ج 2 ص 344 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 81


الأساس هو إبن صخر وهو أخو معاوية !!! وأعلن معاوية مضامين هذا الزعم وأدعى بأن زيادا وأخاه وإبن أبي سفيان بالفعل ، وصدق زياد هذه المزاعم أو تظاهر بالتصديق وألحق بخدمة معاوية وبدأت مهمة زياد بقتل كل من أحب عليا وأولاده فتفقدهم زياد « أبن أبي سفيان واحدا واحدا فقتلهم عن بكرة أبيهم » (1) ، وروع أهل العراق وأذلهم حتى صاروا أذل من العبيد ، وتنكر أهل العراق لعلي ، وتبرأوا منه لينجوا بأنفسهم ، ولم يخف معاوية الحقيقة، لقد أصدر سلسلة من المراسيم أباح فيها لزياد ولغيره قتل كل من أحب عليا أو والاه وهدم داره .
3 ـ مسلم بن عقبة : من أصفياء معاوية ، وموضع ثقته ، وهو من أعظم المجرمين الذين أصطفاهم معاوية لنفسه ، وأعدهم للعظيم من أموره .
أدرك معاوية أنه هالك وميت لا محالة ، وان أهل المدينة سيتمردون ويثورون على أبنه وخليفته من بعده يزيد بن معاوية ، ومساعدة لإبنه ، واستمرارا لمخططه الرامي إلى تفريغ الأرض من المؤمنين الصادقين أوصى معاوية أبنه يزيد ، قائلا : « إن رابك منهم ريب ، أو إنتقض عليك منهم أحد ، فعليك بأعور بني مرة ، مسلم بن عقبة » (2) .
ولما ثار أهل المدينة بعد موت معاوية دعاء يزيد ، وكان مسلم مريضا ، منهوكا ، فعرض عليه قيادة الجيش بناء على وصية أبيه ولما رأى حاله قال له يزيد : « إن شئت أعفيتك » ، فجن جنون المجرم وقال ليزيد : « نشدتك الله أن لا تحرمني أجرا ساقه الله إلي » .

من أفعال مسلم بن عقبة

قال الطبري : وأباح مسلم المدينة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال (3) ،

(1) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة إبن أبي الحديد تحقيق حسن تميم ج 3 ص 595 .
(2) راجع الإمامة والسياسة لأبن قتيبة الدينوري ج 1 ص 209 .
(3) تاريخ الطبري ج 7 ص 11 ، وإبن الأثير ج 3 ص 47 ، وإبن كثير ج 8 ص 220 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 82


قال اليعقوبي : « فلم يبق فيها كثير أحد إلا قتل ، وأباح حرم رسول الله حتى ولدت الأبكار لا يعرف من أولدهن » (1) .
قال أبن كثير : « قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن ، وكان قتل بشر كثيرا حتى كاد لا يفلت أحد من أهلها » (2) .
وروي عن هشام ، قال : « ولدت ألف إمرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زوج » (3) .
وروي عن الزهري أنه قال : « كان القتلى سبعمائة من وجوه المهاجرين والأنصار ووجوه الموالي ، وممن لا أعرف من حر أو عبد وغيرهم عشرة آلاف » (4) .
وقال السيوطي : « وكانت وقعة الحرة بباب طيبة قتل فيها خلق كثير من الصحابة ونهبت المدينة ، وأفتض فيها ألف بكر » (5) .
قال الدينوري والذهبي : قال رأيت ابا سعيد الخدري ولحيته بيضاء ، وقد خف جانبها ، وبقي وسطها فقلت : يا أبا سعيد مال لحيتك ؟ فقال : « هذا فعل ظلمة أهل الشام يوم الحرة ، دخلوا على بيتي ، فانتهبوا ما فيه حتى أخذوا قدحي الذي كنت أشرب فيها الماء ، ثم خرجوا ودخل علي بعدهم عشرة نفر وأنا قائم أصلي ، فطلبوا البيت فلم يجدوا فيه شيئا ، فأسفوا لذلك ، فاحتملوني من مصلاي ، وضربوا بي الأرض ، وأقبل كل رجل منهم على ما يليه من لحيتي فنتفه ، فما ترى منها خفيفا فهو موضع النتف وما تراه عافا فهو ما وقع في التراب فلم يصلوا إليه ، وسأدعها كما ترى حتى أوافي ربي « (6) .

(1) راجع تاريخ اليعقوبي ج 6 ص 251 .
(2) تاريخ إبن كثير ج 6 ص 234 .
(3) المصدر نفسه : ج 8 ص 22 .
(4) المصدر نفسه .
(5) راجع تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 209 وراجع تاريخ الخميس ج 2 ص 302 .
(6) راجع الأخبار الطوال للدينوري ص 269 ، وتاريخ الإسلام للذهبي ج 2 ص 357 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 83


هذه بعض أفعال مسلم بن عقبة الذي أدخره معاوية لذلك اليوم وأوصى إبنه يزيد بأن يسلمه قيادة الجيش !!! وهذه أفعال جيش « الإسلام » الذي بناه معاوية ، فهل يعقل أن يتصرف تافه مثل مسلم بن عقبة هذه التصرفات التي لم يعرف بشاعتها التاريخ دون علم ومباركة سيده ومولاه وصفيه !!! .

يزيد يأمر بمذبحة المدينة :

كتب مسلم بن عقبة بعد مذبحة الحرة رسالة إلى « أمير المؤمنين يزيد بن معاوية » جاء فيها : « فما صليت الظهر إلا في مسجدهم بعد قتل الذريع ، والأنتهاب العظيم ، وأوقعنا بهم السيوف ، وقتلنا من أشرف لنا منهم ، وأتبعنا مدبرهم ، وأجهزنا على جريحهم وانتهبناها ثلاثة كما قال أمير المؤمنين » (1) .
قال الطبري إن يزيد بن معاوية أمر مسلم بن عقبة ، قائلا : « أدع القوم ثلاثا فأن أجابوك وإلا فقاتلهم ، فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا فما فيها من مال أو ورقة أو سلاح أو طعام فهو للجند .. » .
وقال المسعودي : « أمره يزيد ... وإذا قدمت المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حربا فالسيف السيف ، ولا تبق عليهم ، وأنتهبهم ثلاثا وأجهز على جريحهم ، وأقتل مدبرهم ... » (2) .
بعد أن نفذ صفي معاوية وموضع ثقته مسلم بن عقبة وجيشه البطل أوامر الملك ، ونفذوا المذبحة الرهيبة في مدينة رسول الله ، أمر مسلم بن عقبة القلة الذليلة من أهل المدينة التي نجت من المذبحة بأن تبايع لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية !!! .
قال الطبري وغيره : « فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية يحكم في دمائهم وأموالهم ما شاء(3) » .

(1) راجع الإمامة والسياسة لأبن قتيبة الدينوري ج 1 ص 218 .
(2) راجع التنبيه والإشراف للمسعودي ص 263 ، ومروج الذهب ج 3 ص 68 ـ 69 .
(3) راجع تاريخ الطبري ج 7 ص 13 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 84


قال المسعوي : « وبايع من بقي من أهل المدينة على أنهم قن ليزيد » (1) .
قال الدينوري : « فلما كان اليوم الرابع جلس مسلم بن عقبة ، فدعاهم للبيعة ، فكان أول من أتاه يزيد بن عبدالله وجدته أم سلمة زوج النبي ، فقال له مسلم : بايعني ، قال : أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه ، فقال مسلم : بل بايع على أنك فيء لأمير المؤمنين يفعل في أموالكم وذراريكم ما يشاء ، فأبى أن يبايع على ذلك ، فضربت عنقه » (2) .
وأتي بيزيد بن وهب بن زمعة ، فقال له مسلم : بايع ، فقال : أبايعك على سنة عمر ، فقال مسلم : أقتلوه ، فقتل (3) .

بيعة الحسين ودور معاوية بمذبحة كربلاء

نجح معاوية بن أبي سفيان بالإستيلاء على منصب الخلافة بالقوة ، وبقهر يفوق التصور ، وبأساليبه المتعددة التي أشاعت الرعب في قلوب المسلمين ، وأدت لإبادة الأكثرية الساحقة من القلة المؤمنة التي حاربته وأباه على الشرك 23 عاما ، وقامت دولة النبوة على أكتافها وبنجاح أساليب معاوية أرسى قواعد بأستخدام العنف بالتعامل مع الرعية وإخضاعها بالقوة والإرهاب .
بعد هذا النجاح الساحق قرر معاوية أن يمضي قدما في مخططه وأن يحول الخلافة إلى ملك على شاكلة ملك كسرى وقيصر ولكن بجبة ولحية إسلامية !!! على أعتبار أن الإسلام هو طريق الملك ، وإنه دين أغلبية الرعية ، وقرر معاوية أن يحصر هذا الملك في بيت أبي سفيان خاصة والبطن الأموي عامة لذلك أختار إبنه يزيد بن معاوية ليكون وليا لعهده وخليفة من بعده ، صحيح أن معاوية قد أباد القلة المؤمنة ولم ينج منها إلا القليل ، وصحيح أيضا أن معاوية قد أرهب الرعية وأذلها حتى صارت أذل من الذليل ، ولكن قراره بأختيار يزيد غير معقول وغير منطقي ،

(1) التنبيه والأشراف ص 264 ، ومروج الذهب ج 3 ص 71 للمسعودي .
(2) تاريخ الطبري ج 7 ص 11 ـ 12 .
(3) الأخبار الطوال للدينوري ص 265 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 85


فيزيد يجهر بعصيانه وحتى بكفره ، وبتركه للصلاة وبإدمانه على الزنى ، وتلك أمور يصعب على الرعية الذليلة إستيعابها وهضمها ، وبأساليب معاوية نجح بتنصيب يزيد وحصل على موافقة الرعية ، ويبدو أن ثلاثة قد تمنعوا عليه أحدهم الإمام الحسين بن علي (1) .
وكأسلوب من أساليب معاوية تجاهلهم وأوحى لأهل الشام خاصة وللرعية عامة أن الكل قد قبل بيزيد وليا للعهد وخليفة من بعد معاوية (2) .
ومن المؤكد أن الإبن وأباه قد أتفقا على كليات وتفاصيل مؤامرة قتل الحسين ، لا طمعا ببيعته فإنما هو مجرد رجل ، ولكن رغبة بقتل الحسين ، لأن مجرد وجود الحسين يشكل خطرا على دولة يزيد وتقدير معاوية وأركان دولته أن الحسين إن بقي حيا سيكون بمثابة مركز تجمع لمعارضي الملك الأموي ، ولا مجال لمقارنة يزيد بن معاوية بالحسين شرفا وعلما وتاريخا ومنزلة ، وعلى هذا الأساس تم التركيز على ضرورة مبايعة الإمام الحسين ، ليكون رفض الحسين لمبايعة يزيد مبررا لقتله !! لأن الحسين برأي معاوية ويزيد وأركان الدولة هو أخطر خصومهم . لذلك كانت أول مشاريع يزيد بن معاوية أن أمر واليه على المدينة أن يأخذ بيعة الحسين ، وأمره أن يضرب عنق الحسين إن هو إمتنع عن البيعة كما رأينا قبل قليل ، ولكن الإمام الحسين كان قد خرج من المدينة فرارا بدينه وأهل بيته وموقفه .

تقدير معاوية للموقف

قدر معاوية وأركان دولته أن الإمام الحسين لن يبايع يزيد ، ولن يقبل به خليفة حتى لو قطعه إربا إربا ، وقدر أيضا أن ألأكثرية من آل محمد وأهل بيت النبوة لن يبايعوا حتى يبايع الحسين ، وقدر أيضا بأن الحسين سيكتشف إنه ليس له في المدينة من يحميه ويحمي أهل بيت النبوة ، وأن والي المدينة سيقتله ويقتل أهل بيت النبوة إن بقي في المدينة ، ولن يجد فيها من يدافع عنه بيد ولا بلسان ،

(1) الإمامة والسياسة لأبن قتيبة ص 189 ـ 190 .
(2) المصدر نفسه .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 86


فهو لن يكون أعظم من أبيه ولا له المكانة المقدسة نفسها التي كانت لأمه ومع هذا هدد أبوه بالقتل ، وشرعت السلطة بحرق بيت فاطمة على من فيه ، وصادرت السلطة تركة الرسول ، وحرمت ورثته من إرثهم وحرمت ذوي قربى النبي من سهمهم ولم يجد أهل بيت النبوة في المدينة رجلا واحدا يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ، لذلك توصل معاوية وأركان دولته إلى نتيجة مفادها بأن الحسين سيغادر المدينة هو وأهله وعلى الأغلب إلى مكة من حيث المبدأ .
وقدر معاوية أن مغادرة الحسين للمدينة امر ترغبه سلطة الخلافة لأن أهل المدينة يعرفون الحسين معرفة عميقة ويعرفون قربه للنبي ومكانته العلمية ، صحيح أنهم لن يحركوا ساكنا إن قتل الإمام الحسين وأهل بيته أمامهم ، ولن يأمورا بمعروف أو ينهوا عن المنكر عمليا لكن قتل رجل وأهل بيته بحجم الحسين وأهل بيت النبوة أمام معارفهم سيثير شيئا من مشاعر إستياء أهل المدينة ، لذلك كان خروج الإمام الحسين خطوة تمنتها السلطة ، ولو أرادت دولة الخلافة أن تلحق بالإمام الحسين للحقته بكل سهولة ، لأن الحسين قد أصر على سلوك الطريق التي يسلكها الناس عامة عند ذهابهم إلى مكة ، وعندما نصحه إبن عمه مسلم بن عقيل أن يعدل عن الطريق رفض الحسين ذلك قائلا : « والله يا إبن عمي لا فارقت هذا الطريق أبدا أو أنظر إلى أبيات مكة ، أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى » (1) .
وقال الطبري : أن الحسين قد رد على من إقترح عليه مجانبة الطريق قائلا : « وألله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو أحب إليه » (2) وهكذا ذكر الشيخ المفيد (3) .
وفي رواية « إن الحسين خرج من المدينة وركب الجادة العظمى ، فقال له أهل بيته : لو سلكت الطريق الأفرع لكان أصح فقال الحسين « أتخافون الطلب » ؟ قالوا : أجل ! فقال الحسين : لن أحيد الطريق حذر الموت » (4) .

(1) راجع كتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج 5 ص 24 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 189 ، وينابيع المودة ج 2 ص 4 إلى قوله أبدا .
(2) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 276 .
(3) راجع الإرشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 2 .
(4) راجع مقتل الحسين لأبي مخنف ص 25 ، وينابيع المودة ج 2 ص 4 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 87


بمعنى أن دولة الخلافة كانت تعلم بخروج الحسين ، وكان بإمكانها اللحوق به فهو يسير على الطريق العام ، ولكنها لم تلحق به لأن خروجه من المدينة كان جزء من خطتها لقتله بعيدا عمن يعرفونه معرفة حقيقية .
وقدر معاوية وأركان دولته أن الحسين سيصل إلى مكة بالضرورة ، ولا خطر على دولة معاوية من وصول الحسين إلى مكة لأن أكثرية سكانها من أبناء بطون قريش الـ 23 ومواليهم وأحابيشهم وهي الأكثرية نفسها التي كانت مشركة ، وأضطرت مكرهة لإعلان إسلامها وهي تعرف تاريخ الصراع وحصيلته وهي موتورة ومن المحال أن تقف مع الإمام الحسين ، ووصل الحسين بالفعل إلى مكة ، صحيح أن مكة لن تقف معه ، ولكن وجود الحسين في مكة ومعرفة وفود الحجيج سنويا بوجوده يشكل خطرا ، لذلك يتوجب إبعاده عن مكة ، حسب خطة معاوية ، وبالتالي يجب قتله وأهل بيته في مكان ناء بعيدا عن معارفه !!! الذين يعرفونه معرفة حقيقية ، والذين يعرفونه معرفة سطحية ، وليس من المستبعد بأن معاوية الذي يشرف على مخابرات دولة عظمى وتأتيه كل أنبائها ، على علم بأن الحسين وأهل بيت النبوة سيقتلون في كربلاء ، وطمعا بأن يقتلوا في كربلاء رتب مع أبنه وأركان دولته جر الحسين وأهل بيته من مكة إلى كربلاء .
لقد كان أمير دولة البطون على مكة على علم بوجود الحسين وعلى علم بامتناع الحسين عن المبايعة ، وعلى علم بمشاعر أكثرية سكان مكة نحو الحسين ، كان بإمكانه أن يجهز جيشا قوامه ألف مقاتل بمدة لا تتجاوز يومين وكان بإمكانه أن يقتل الحسين وأهل بيت النبوة ولكنه لم يفعل ، ولم يتعرض للحسين إلا تعرضا بسيطا ، قال الطبري ، وإبن الأثير ، وإبن كثير ، والبلاذري : « فاعترضته رسل الوالي من قبل يزيد عمرو بن سعيد ، وتدافع الفريقان وإضطربوا بالسياط ، وإمتنع الحسين وأصحابه منهم إمتناعا قويا » . (1) .
ودليل آخر على صحة ما ذهبنا إليه أن الإمام الحسين عندما خرج من

(1) راجع تاريخ الطبري ج 6 ص 217 ـ 218 ، وإبن الأثير ج 4 ص 17 ، وإبن كثير ج 8 ص 166 ، وأنساب الأشراف ص 164 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 88


المدينة ردد قول الله تعالى عن موسى :« فخرج منها خائفا يترقب قال ربي نجني من القوم الظالمين » (1) ( القصص / 21 ) ولما وصل الإمام الحسين إلى مكة قرأ« ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل» (2) ( القصص / 22 ) ولما سأل عبدالله بن مطيع الإمام الحسين قائلا : « جعلت فداك أين تريد ؟ » فقال الحسين : « أما الآن فمكة وأما بعد فإني أستخير الله » (3) فحال الحسين عندما إضطر للخروج من المدينة ، كحال موسى الذي إضطر لمغادرة عاصمة ملك فرعون ، وكانت حال الحسين عندما وصل إلى مكة كحال موسى عندما وصل إلى مدين ، فموسى ينتظر التوجيه الإلهي ، وليس عنده علم عن المكان الآخر ، أو المرحلة اللاحقة ، كذلك فإن الحسين خرج من المدينة إلى مكة « مدين » وليس لديه علم عن المكان الآخر أو المرحلة وإنه سينتظر التوجيه الإلهي !!

مكيدة الرسائل والكتب :

دولة الخلافة يمكنها أن تقتل الإمام الحسين وأهل بيته في المدينة المنورة وهي واثقة أنه لن يعيقها أحد ، فلدى دولة الخلافة القوة والقدرة على إبادة كل سكان المدينة !! وعندما خرج الإمام الحسين كان بإمكان دولة الخلافة أن ترسل قوة ضاربة على خيول سريعة مطهمة ، وتلحق بالإمام الحسين قبل وصوله إلى مكة فتقتله وأولاده وأهل بيته شر قتلة ، فالإمام الحسين ، كان يسير على الطريق العام إلى مكة ورفض رفضا قاطعا الخروج عن الطريق .
وعندما وصل الإمام الحسين وأهل بيت النبوة إلى مكة كان بإمكان دولة الخلافة أن تتلقاه وأهل بيته بقوة ضاربة وأن تقطعهم إربا إربا ، فالخليفة يزيد له وال وجيش في المدينة وله وال وجيش في مكة وله عيون وجواسيس على طول

(1) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 273 ، والكامل لإبن الأثير ج 2 ص 521 ، وينابيع المودة ج 2 ص 4 ، وأعيان الشيعة ج 1 ص 588 .
(2) الإرشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 4 ، وبحار الأنوار ج 44 ص 332 ، والعوالم ج 17 ص 181 ، والكامل لإبن الأثير ج 2 ص 531 ، وتاريخ الطبري ج 3 ص 272 ، وأعيان الشيعة ج 5 ص 25 .
(3) راجع تاريخ الطبري ج 6 ص 196 ـ 197 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 89


الطريق المؤدية من مكة إلى المدينة ، ولكن لا والي المدينة لحق بالحسين ولا والي مكة وضع حدا لمسيرة الحسين ، لأن هنالك خطة عامة لاستدراج الإمام الحسين وأهل بيته وأنصاره القلة إلى كربلاء ، وأن هذه الخطة قد رسمت في زمن معاوية وبحضور إبنه وأركان دولته !! لقد تسترت دولة الخلافة لأسباب أمنية على نبأ هلاك معاوية ، ولكن أنتشر النبأء ! فلما دعي الحسين إلى مجلس والي المدينة قال : « قد ظننت أن طاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر » (1) .
فرتبت مخابرات دولة معاوية بالاتفاق المسبق مع معاوية وإبنه وأركان دولته لتزوير مجموعة من الكتب على ألسنة علية القوم في الكوفة تدعو الحسين للشخوص من مكة إلى العراق ، فمعاوية وجهاز دولته مهرة بتزوير الكتب ، وليس من المستبعد أن تكون دولة الخلافة قد أتفقت مع من تراهم وجوه المجتمع ليكتبوا للحسين ثم يتنكرون له في ما بعد وينكرون أنهم كتبوا .
وليس من المستبعد أيضا أن يكون بعض الصادقين من موالي أهل بيت النبوة في الكوفة قد كتبوا للحسين ، ثم أكتشفوا في ما بعد أن كثيرا من أهل الكوفة قد كتب ، وأن موضوع الكتب والرسائل مجرد مكيدة من مكائد الدولة ، فغزا الرعب قلوب بعض الموالين ، وأضمرت أن تتنكر للكتابة ، وهي واثقة بأن الرسائل قد وصلت للحسين ومن الحال أن يشي بها الحسين !! وليس من المستبعد أن بعض من كتب عندما عرف بمكيدة الكتب والرسائل ، وأن وراءها الدولة إدعى بأنه إنما كتب استجابة لتوجهات الدولة وعملا بتوجيهها ، وليس من المستبعد أن بعضهم قد أدعى ولاء للخليفة ، وحاول أن يقوم ببعض الأعمال الشائنة إثباتا لهذا الولاء !! .

(1) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 270 ، والكامل لإبن الأثير ج 2 ص 529 ، والبداية والنهاية ج 8 ص 157 ، وكتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج 5 ص 11 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 182 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي