كربلاء ـ الثورة والمأساة 64


المجال« ... ولكن أكثر الناس لا يشكرون » ( البقرة / 243 ) ،« وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله » ( الأنعام / 116 ) ،« ولكن أكثر الناس لا يعلمون» ( الأعراف / 187 ) .« ولكن أكثر الناس لا يؤمنون » ( هود / 17 ) ، «فأبى أكثر الناس إلا كفورا» ( الأسراء / 89 ) ، «منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون» ( آل عمران / 110 ) .
فالأكثرية الساحقة من الأمة المصرية وقفت مع فرعونها الذي فرض نفسه عليها بالقوة والقهر والغلبة ، وتخلت هذه الأكثرية عن موسى وهارون وخذلتهما ، ووافقت هذه الأكثرية على الأنخراط بالجيش الذي أعده فرعون لقتل موسى وهارون ومن آمن معهما وسارت الأكثرية بالفعل لارتكاب مذبحة على شاكلة مذبحة كربلاء ولكن المذبحة لم تحدث لسبب لا يد لهذه الأكثرية فيه !!! .
والأكثرية الساحقة من رعايا دولة نمرود وقفت مع نمرودها الطاغية وقفة رجل واحد ضد « إبراهيم الخليل » وأشتركت بجمع الحطب ، وشهدت عملية إحراق إبراهيم ، تلك العملية التي فشلت لسبب سماوي !!! لم تخجل تلك الأكثرية عندما أجمعت كلها على مواجهة رجل واحد !! وعندما أجتمعت لتتلذذ برؤية إبراهيم وهو يحترق !!! ما هي مصلحة أكثرية أمة فرعون ، وأمة نمرود !! لتفعل ما فعلت !! إنه لا مصلحة لأمة بقتل من يحاول إنقاذها بن براثن العبودية ، وما أرتكبت كل أمة من الأمم السابقة مخازيها إلا مجاراة لطاغيتها ، وأبتغاء لمرضاته ، وأنسياقا أهوج مع التيار تحت دعاوي الدفاع عن مصالحها الموهومة وقيمها الفاسدة !!! .

المواقف المخجلة لماذا ؟ :

الأكثرية الساحقة من كل أمة من أمم الأرض ليست شيعة واحدة كما يتصور بعض القراء أو حزبا واحدا ، إنما تتكون تلك الأكثرية من مجموعة كبيرة من الشيع أو الأحزاب التي تحالفت مع بعضها ، ومع طاغوتها واقامت نظام الحكم الذي يقوده ، ويرمز لوحدته طاغوتها ، وبالتالي فهي منتفعة من بقاء هذا النظام ، وتعتقد أن لا مصلحة لها بتغييره ، فهي تعتقد أن تغيير النظام يؤدي لضياع مكتسباتها

كربلاء ـ الثورة والمأساة 65


وحصتها بالسلطة ، ومنافعها الحاصلة والمأمولة ، وتنظر هذه الأكثرية إلى النبي ـ أي نبي ـ ، أو المصلح ـ أي مصلح ـ على أساس أنه جاء ليسلبها مكتسباتها بدعاوي موهومة !!! وربما كانت هذه الاسباب وراء المواقف المخجلة لكل أكثرية من أكثريات الأمم التي كذبت أنبياءها ، ورسلها ، والمصلحين المشفقين عليها ، ووقفت مع طاغيتها ضدهم ، علاوة على حالة القسر الإجتماعي التي يخلقها الإنسياق أو التوجه العام .

الأقلية ومواجهة الأكثرية :

الذين آمنوا من كل أمة أقلية ، حقا ، أقلية لا يتجاوزون أصابع اليدين ، فماذا عسى هذه الأقلية أن تفعل لمواجهة أكثرية تتكون من الآلاف أو عشرات الآلاف أو مئات الآلاف ، إن مواجهة مسلحة تسعى إليها القلة المؤمنة هي بمثابة إنتحار حقيقي ، ستؤدي إلى قتل النبي وإبادة الذين آمنوا معه لتخلو الساحة كليا وتبقى للأكثرية المجرمة ، من هنا أبتعد كل نبي من الأنبياء وكل رسول من الرسل وكل أقلية من الأقليات التي آمنت بكل واحد منهم عن المواجهة المسلحة مع الاكثرية الفاسدة . وبالوقت نفسه الذي بقي فيه كل نبي متمسكا بالإعلان عن عدم شرعية نظام الأكثرية ، وفساد قيم هذه الأكثرية ، مع الأستمرار بحملة الإصلاح ، وأقتصر دور الأقلية على تصديق الرسول أو النبي والإيمان به ، وموالاته ، والسعي السري لنشر مبادئه لمن يتقبلها !!

الله في مواجهة الأكثرية :

عندما وقفت الأكثرية من كل أمة ضد نبيها ، ومن معه ، وكذبته ، وعزلته عزلا أجتماعيا كاملا ، ونفرت منه ، وقاومت دعوته لإصلاح الفساد المتفشي في أوساط تلك الأكثرية ، وحالت بينه وبين كشف الحقائق عندما فعلت كل ذلك ، فقد أجرمت حقا ولا بد من ان ينال المجرم عقابه العاجل ، لذلك فإن الله سبحانه وتعالى تولى أمر مواجهتهم بوسائله وجنوده ، فأهلك الأكثرية الفاسدة من قوم نوح وعاد ، وفرعون ، وثمود ، وقوم لوط ، وأصحاب الأيكة ، وبالطرق التي بينها

كربلاء ـ الثورة والمأساة 66


القرآن الكريم تفصيلا وكانت عمليات الإهلاك تتم بعد تجاوزهم للمدىء وبعد اليأس من صلاحهم .

كربلاء ـ الثورة والمأساة 67


الفصل الثاني
الموقف النهائي لأكثرية الأمة الإسلامية من مذبحة كربلاء

الأمتناع عن البيعة :

أصل المذبحة ونواتها أن الإمام الحسين أمتنع عن بيعة يزيد بن معاوية وتبعا لامتناعه أمتنع آل محمد ، وأهل بيت النبوة ، لأن الإمام الحسين قد قدر بأن بيعته ليزيد تتناقض تماما مع الشرع ومع الحقيقة ومع معتقداته وخط الكمال الإسلامي الذي يمثله ، وأن بيعته ليزيد ستكون بمثابة أعتراف بشرعية خلافة غير شرعية ، وفتوى ضمنية بأهلية يزيد للخلافة وهو الرجل الذي يجاهر بفسقه ومجونه وحتى بكفره ، والإمام الحسين على علم يقيني بحقيقة الأوضاع كلها ، وأنه لا طاقة له ولا لأهل بيته بالدخول بمواجهة مسلحة مع الخليفة وأركان دولته ، كان هم الإمام الحسين منصبا بالدرجة الأولى على العثور على مكان آمن يستطيع فيه أن يحافظ على نفسه وأهل بيت النبوة وعلى موقفه ، وعلى فئة من الناس تجيره ، وتجير أهله ، وتجير موقفه ، وتمكنه من بيان الأسباب التي دعته للإمتناع عن بيعة يزيد ليكون هذا البيان صرخة لإيقاظ النائمين ، ومحاولة جدية لإصلاح هذه الأمة !! لقد حلل الإمام الحسين واقع الأمة تحليلا دقيقا .

الأمتناع عن بيعة الخليفة حالة معروفة عند الأمة :

1 ـ أمتناع الإمام علي عن بيعة أبي بكر :


لقد أمتنع علي بن أبي طالب عن بيعة أبي بكر ، الخليفة الأول ، وقال له :
أنا أحق منك بهذا الأمر ، وتبعا لامتناع الإمام علي أمتنع بنو هاشم كلهم عن البيعة ولم يبايعوا إلا بعد ستة أشهر وبعد أن بايع علي (1) .

(1) راجع تيسير الوصول ج 2 ص 46 قال : « ولا أحد من بني هاشم » وراجع تاريخ الطبري ج 2 ص 448 ، وصحيح البخاري كتاب « المغازي » باب « غزوة خيبر » ج 3 ص 38 وصحيح مسلم ج 1 ص 72 ، وأبن =
كربلاء ـ الثورة والمأساة 68


2 ـ أمتناع بعض كبار الصحابة عن بيعة أبي بكر :


كان قسم كبير من كبار الصحابة يعتقدون أن علي بن أبي طالب هو أولى بالخلافة من أبي بكر ، لذلك لم يبايعوا أبا بكر ، نذكر منهم فروة بن عمرو (1) ، وخالد بن سعيد الأموي وقد أسلم قبل إسلام أبي بكر (2) ، والبراء بن عازب وسلمان الفارسي ، وعمار بن ياسر ، وأبو ذر الغفاري (3) .. الخ .

3 ـ في خلافة أمير المؤمنين :


وعندما تولى علي بن أبي طالب الخلافة . ووفق النمط الذي أخترعه قادة البطون أمتنعت مجموعة من الناس عن بيعته ، مثل : سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، ومحمد بن مسلمة .. الخ ولم يكرههم الإمام على البيعة ، بل غادر الإمام وجيشه المدينة وتركهم وأمثالهم دون التعرض لهم . ولم يزد الإمام علي بعد أن أقام الحجة عليهم على القول : « أما أبن عمر فضعيف ، وأما سعد فحسود ، وذنبي إلى محمد بن مسلمة أني قتلت أخاه يوم خيبر » (4) « مرحب اليهودي » .

الإمتناع عن البيعة والقتل :

صحيح أن الخليفة الأول قد هدد الإمام عليا بالقتل إن لم يبايع (5) ولكنه لم يقتله بالرغم من أنه أمتنع عن البيعة ستة أشهر كما وثقنا قبل قليل وصحيح أيضا أن الخليفة الاول ومن يأتمر بأوامره هموا بإحراق بيت فاطمة بنت محمد على من

= كثير ج 5 ص 285 ـ 286 والأستيعاب لابن عبد البر ج 2 ص 244 حيث قال : « إن الإمام علي لم يبايع إلا بعد موت فاطمة » وفي أسد الغابة ج 3 ص 222 بترجمة أبي بكر ، قال : « كانت بيعتهم بعد ستة أشهر على الأصح » وقال اليعقوبي في ج 2 ص 105 من تاريخه : « لم يبايع علي إلا بعد ستة أشهر » .
(1) الموفقيات ص 590 للزبير بن بكار .
(2) المعارف لابن قتيبة ص 128 ، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 2 ص 13 .
(3) تاريخ الخميس ج 1 ص 188 ، والعقد الفريد لابن عبد ربه ج 3 ص 64 ، وتاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156 .
(4) راجع الإمامة والسياسة لأبن قتيبة الدينوري ج 1 ص 54 .
(5) المصدر نفسه ، ص 13 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 69


فيه ، وفيه علي بن أبي طالب والهاشميون ونفر ممن تعاطف معهم بسبب عدم مبايعتهم له (1) ولكنهم توقفوا عن عملية إحراق البيت بعد أن خرج الموالون لعلي وبايعوا ، وصحيح أيضا أن عمر بن الخطاب قد أصدر أمرا بقتل سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة لامتناعه عن البيعة ، ولكن الأمر لم ينفذ ، ولم يقتل سعد إلا في ما بعد وخفية !!! .

قتل سعد بن عبادة بسبب أمتناعه عن البيعة :

هنالك حادثة قتل بسبب الأمتناع عن البيعة مكشوفة ولا يمكن إنكارها ، وهي حادثة قتل سعد بن عبادة سيد الخزرج ، وكان قتل سعد بعد صبر طويل وبعد أن ضاق الخليفة عمر بن الخطاب ذرعا بعناد سعد بن عبادة ، إذ أن عمر بن الخطاب بوصفه نائبا للخليفة الأول قد اصدر أمرا لاتباعه في سقيفة بني ساعدة بقتل سعد بن عبادة لإمتناعه عن البيعة (2) ولكن لأسباب أمنية ، وبناء على نصيحة أحد أصفياء دولة البطون رُئي عدم قتل سعد في حينها (3) ومات الخليفة الأول ولم يبايع سعد ، وآلت الخلافة إلى عمر بن الخطاب ولم يبايعه سعد أيضا ، وحدث حوار بالصدفة بين سعد وعمر بن الخطاب أنتهى برحيل سعد عن المدينة إلى الشام (4) ، فأرسل عمر بن الخطاب في أثره رجلا من الأنصار ليطلب البيعة منه وأمره أن يقتله أن أبى البيعة ، ولحق الرجل ، وعرض عليه البيعة ، فأبى سعد ، فرماه مبعوث عمر بسهم فقتله (5) وقيل : إن الذي أرسله عمر لقتل سعد هو

(1) العقد الفريد لإبن عبد ربه ج 3 ص 64 ، وتاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156 ، وأنساب الأشراف للبلاذري ج 1 ص 586 ، وكنز العمال ج 3 ص 140 والرياض النضرة للطبري ج 1 ص 167 ، وتاريخ أبن شحنة ص 113 بهامش الكامل لأبن الأثير ج 11 ، ومروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 100 ، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 105 ، ومعالم المدرستين للعسكري ج 1 ص 127 .
(2) راجع الإمامة والسياسة لأبن قتيبة ج 1 ص 10 .
(3) المصدر نفسه .
(4) راجع الرياض النضرة للطبري ج 1 ص 168 ، والطبقات الكبرى لإبن سعد ج 3 ق / 2 ص 145 وأبن عساكر بترجمة أبن سعد من التهذيب ، وكنز العمال ج 3 ص 134 حديث 2296 ، والسيرة الحلبية ج 3 ص 367 .
(5) راجع أنساب الأشراف للبلاذري ج 1 ص 589 ، والعقد الفريد لأبن عبد ربه ج 3 ص 64 ـ 65 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 70


محمد بن مسلمة (1) وقتل سعد بطريقة سرية من دون إعلام (2) وقد قتل سعد وهو جالس يتبول في نفق (3) .
إذا أستثنينا حالة سعد بن عبادة الذي قتل بالطريقة التي وصفناها بإختصار قبل قليل ، فإن الخلفاء الثلاثة الأول من أبناء البطون نادرا ما قتلوا من يمتنع عن بيعتهم ، إنما كان القتل عندهم إجراء إحتياطيا « من قبيل وآخر الدواء الكي » وكانوا يتخذون سلسلة من الأجراءات بحق الممتنعين عن البيعة فيعزلونهم أجتماعيا ، وينفرون الناس منهم ، ويحرمونهم من الحقوق المقررة لهم ، ومن الوظائف العامة ، ويضيقون عليهم أسباب المعيشة والرزق ، ولا يستخدمونهم لأي أمر من الأمور العامة ، هذه الإجراءات كانت كافية لعقاب الممتنعين عن البيعة وحافزا لهم لإعادة النظر بقرار الأمتناع عن البيعة وغالبا ما كانت هذه الإجراءات ناجحة ، إذ تجعل من يمتنع عن البيعة عبرة لغيره وتقتله ولكن ببطء ، ودون حاجة لسل السيف ، وإراقة الدماء وإحراج الخليفة وأركان دولته !!

موقف الخليفتين :

لم ينفذ الخليفة الأول ونائبه تهديدهما بقتل الإمام علي أن لم يبايع ، وأوقفوا مشروعهما بحرق البيت على من فيه بعد أن شرعوا بالحريق فعلا ، لقد أكتشف الخليفتان أن هنالك إجراءات تغني عن القتل وعن الإحراق ، وأنه من غير اللائق بمكانتهما أن يحرقوا أبن عم صهرهما محمدا ، وطفليه ، وأبنته الزهراء ، وأقاربه الهاشميينلأن هذا سيسبب لهما ولمن والاهما حرجا بالغا وهنالك من الوسائل ما يغنيهما عن القتل والإحراق ، وينالا بها العافية فأتخذ الخليفة ونائبه سلسلة من القرارات الإقتصادية التي مست الإمام عليا عليه السلام وأهل بيت النبوة خاصة والهاشميين عامة .

(1) راجع معالم المدرستين للسيد العسكري ج 1 ص 133 .
(2) العقد الفريد لأبن عبد ربه ج 4 ص 259 ـ 260 .
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ق 2 ص 145 ، وأبن قتيبة في المعارف ص 113 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 71



1 ـ لقد قرر الخليفة ونائبه حرمان أهل بيت النبوة من إرث النبي (1) .
2 ـ وقررا حرمان أهل بيت النبوة من المنح التي أعطاها لهم النبي ومصادرة هذه المنح (2) .
3 ـ وقررا أيضا حرمان أهل بيت النبوة والهاشميين من الخمس الوارد في القرآن الكريم والمخصص لهم كحق ثابت (3) .
ولما ضج أهل بيت النبوة من قسوة هذه القرارات الموجعة وتساءلوا : كيف نعيش ، وماذا نأكل ، !! تبرع الخليفة ونائبه أن يعولوا وينفقوا على أهل بيت النبوة ، ومن كان النبي ينفق عليهم !!! (4) .
بمعنى أن الخليفة الأول والثاني إستعاضا عن القتل والإحراق بوسائل أكثر تحضرا وتهذيبا ، وأنهما كانا حتى على أستعداد فعلي لتقديم الطعام والنفقة لمن أمتنعوا عن البيعة !! كان الممتنعون عن البيعة آمنين على أرواحهم ودمائهم وأبنائهم ، ولم يقل أحد إن القتل هو الوسيلة المألوفة للحصول على بيعة الرعية أو بيعة كبار الشخصيات .


أمر مستهجن :

البيعة في عهد رسول الله سواء للدخول في الدين أو القبول بولايته وقيادته

(1) راجع صحيح الترمذي ج 7 ص 111 ، وتاريخ أبن الأثير ج 5 ص 286 وكنز العمال ج 5 ص 365 وطبقات أبن سعد ج 3 ص 315 وج 5 ص 77 ، ومسند أحمد ج 1 ص 4 ح 14 و 10 ح 60 وسنن أبي داود ج 3 ص 50 وتاريخ أبن كثير ج 5 ص 389 وتاريخ الذهبي ج 1 ص 346 وشرح نهج البلاغة ج 4 ص 81 نقلا عن الجوهري في كتابه السقيفة .
(2) راجع كتاب الفتوح لأبن أعثم الكوفي ج 2 ص 34 ـ 35 ، وشرح نهج البلاغة ج 4 ص 81 نقلا عن الجوهري ، وتاريخ الإسلام للذهبي ج 1 ص 347 ، وكنز العمال ج 5 ص 367 ، وراجع التفصيل في كتابنا « المواجهة » ص 541 .
(3) المصدر نفسه .
(4) راجع صحيح البخاري ج 2 ص 200 باب « مناقب قرابة الرسول » ، وسنن الترمذي ج 7 ص 111 ، وسنن أبي داود ج 3 ص 49 كتاب « الخراج » ، وسنن النسائي ج 2 ص 179 ، ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 6 ـ 9 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 72


كانت من الأمور الرضائية البحتة ، لأن البيعة عقد بين طرفين ، ولا عقد دون الرضا التام ، فلم يصدف بتاريخ النبوة المحمدية أن أجبر رسول الله أحدا من الناس ليبايعه للدخول في الدين أو القبول بولايته وقيادته . إن كل الذين بايعوه على الدخول في الدين أو القبول بولايته وقيادته بايعوا بمحض أختيارهم ورضاهم التام من دون إكراه . تلك حقيقة مطلقة وثابتة لا يماري فيها إلا جاهل (1) .
وبعد وفاة النبي توصل الخلفاء الثلاثة إلى قرار أستبعاد القتل للحصول على بيعة القبول بقيادتهم ، وجعل القتل وسيلة إحتياطية ، لا يصار إليها إلا عند الضرورة القصوى ، وأستعاض الخلفاء الثلاثة عن القتل بوسائل أخرى ، سقنا قبل قليل أمثلة منها .
ومن هنا فإن ملاحقة الإمام الحسين ومطاردته والإصرار على ضرورة مبايعته ومن معه أو قتلهم أمر في غاية الغرابة والإستهجان ، فلو ترك الإمام الحسين وشأنه لما جاء منه خطر يذكر على دولة بني أمية ، لأن الأكثرية الساحقة من الأمة كانت سادرة ولاهية عند بدنياها .

معاوية أول من سن القتل والإرهاب

للإستيلاء على منصب الخلافة ، وأخذ البيعة

حب القيادة والدفاع عنها :

كانت قيادة بطون قريش في الجاهلية لأبي سفيان بلا خلاف ، وعندما أعلن النبي نبأ النبوة والرسالة أدرك أبو سفيان بأن قيادته في خطر ، وأدركت بطون قريش ألـ 23 أن الصيغة السياسية الجاهلية القائمة على أقتسام مناصب الشرف بين البطون قد أصبحت في خطر أيضا ، وأن النبوة مؤامرة هاشمية على أبي سفيان

(1) راجع محاسن التأويل للقاسمي ج 16 ص 5776 ، وراجع صحيح البخاري كتاب البيوع ، وصحيح مسلم كتاب « الأقفية » ، والتفسير الحديث عن عزة دروزه ج 2 ص 24 ـ 25 و 29 وج 15 ص 5401 و 5416 من محاسن التأويل ، وسيرة أن هاشم ج 1 ص 432 و 433 و 441 و 446 و 449 لنرى بعض نماذج من بيعة المسلمين لرسول الله .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 73


والأمويين خاصة ، وعلى بطون قريش الـ 23 عامة .
فشمر أبو سفيان عن ساعده ، ووحد بطون قريش الـ 23 ، وشكل منها وممن والاها من العرب جبهة قوية واحدة ، وتولى هو وأبناؤه الثلاثة : حنظلة ، ويزيد ، ومعاوية ، قيادة هذه الجبهة لتقف وقفة رجل واحد ضد النبي وضد البطن الهاشمي الذي أحتضن النبي ، وضد الدين الذي جاء به الرسول الكريم (ص) .
وقاد الثلاثة موجات العداوة لمحمد ولبني هاشم ، وللدين الذي جاء به محمد طوال الفترة التي قضاها النبي في مكة قبل الهجرة والتي أستمرت 15 عاما ولما علم الثلاثة بعزم النبي على الهجرة خططوا لقتل النبي وشرعوا بالقتل بالفعل ، ولكن المؤامرة فشلت لأسباب لا يد للثلاثة فيها .

الحقد الأسود وضرورة الثأر :

لما أستقر النبي في يثرب جيش أبو سفيان وأولاده الثلاثة الجيوش ، وخاضوا مع النبي حربا دموية دامت ثماني سنوات ، قتل خلالها حنظلة بن أبي سفيان ، وعتبة جد معاوية ، وشقيق عتبة عم هند أم معاوية ، والوليد خال معاوية ، وبضعة عشر رجلا من عمومة معاوية (1) ، وقرابة ستين رجلا من صناديد بطون قريش الـ 23 وأكثرهم قد قتل بيد علي بن أبي طالب أبن عم النبي ، وبيد حمزة عم النبي فتأججت نيران الحقد في قلوب أبي سفيان وإبنيه معاوية ويزيد وأبناء بطون قريش الـ 23 ، وإستقرت في قلوبهم نهائيا فكرة الثأر وهواجسه ، ومبررات دوام العداء .

الإدمان على العنف والتسلط :

طوال 23 عاما وأبو سفيان وابناءه يزيد ومعاوية يقودون موجة العداء ضد النبي ، ويؤذونه بكل وسائل الإيذاء ، ويقاومونه بكل طرق المقاومة ، ويحاربونه بكل فنون الحرب ، لقد أكتسب الثلاثة خبرة هائلة بتلك المجالات ، ونشأوا نشأة عدوانية حربية أساسها العنف ، وصورت لهم فكرة الثأر من قتلة « الأحبة » ملايين

(1) راجع المغازي للواقدي ج 1 ص 147 ـ 148 وكتابنا المواجهة ص 165 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 74


الصور المليئة بالرعب والعنف ، فأدمنت عائلة أبي سفيان على العنف والأذى ، إنهم لا يرحمون ضحاياهم ومن يقع بين أيديهم ، ولا يتورعون عن إستعمال أية وسيلة للتنكيل بخصومهم !! قد يصبرون ولكنهم لا ينسون أبدا !! إنهم يكرهون خصمهم حيا وميتا !! .
خذ على سبيل المثال : أم معاوية هند بنت عتبة ، وهي إمرأة ، والمرأة على الغالب ترمز للرحمة ، وتجنح للموادعة ، لكن هندا لم تكتف بأن يخرج زوجها وإبناها لمعركة أحد ، بل أصرت على الخروج بنفسها ، وحملت نساء البطون على الخروج لتشهد العنف والدم على الطبيعة ، لقد تيقنت من قتل حمزة عم النبي ، لكنها لم تكتف بقتله ، بل سارت بخطى ثابتة حتى وقفت بجانب جثته ، وبأعصاب باردة شقت بطن حمزة وهو ميت وأستخرجت كبده ، وحاولت أن تأكله ، ثم قطعت أذنيه وأنفه ومثلت به أشنع تمثيل !!! .
فإذا كانت المرأة منهم تفعل بضحيتها هكذا !! فكيف يفعل أبو سفيان ومعاوية وذريتهم يضحاياهم . هذه هي البيئة الدموية التي تربى فيها يزيد بن معاوية ، مهندس مذبحة كربلاء ، فأبوه معاوية ، وجده أبو سفيان ، وجدته هند !! لقد ورث العنف والتنكيل بخصومه كابرا عن كابر !! .
بعد 23 عاما من قيادة أبي سفيان وأبنيه يزيد ومعاوية لجبهة الشرك فوجئوا بجيوش النبي وهي تدخل مكة دخول الفاتحين ، فأستسلم الثلاثة ، وبأستسلام الثلاثة أستسلمت جبهة الشرك كاملة ، وتلفظ أئمة الكفر وقادة الشرك الثلاثة بالشهادتين ، مكرهين وتبعا لهم تلفظ أفراد وجماعات جبهة الشرك بالشهادتين ، وتظاهروا جميعا بالإسلام ، وأبطنوا قناعات الشرك كاملة ، وتركة صراع بينهم وبين النبي دام 23 عاما مثلما أبطنوا فكرة الثأر !! .

الثلاثة ينقسمون الى قسمين :

بعد موت النبي صممت قيادة البطون على صرف الأمر عن صاحب الحق الشرعي علي بن أبي طالب ، فوقفت بطون قريش الـ 23 ضد علي تماما كما وقفت ضد النبي ، وأغتنم الثلاثة الفرصة ، فوقف يزيد بن معاوية في صف البطون ،

كربلاء ـ الثورة والمأساة 75


وتظاهر أبو سفيان بالوقوف مع علي لا حباً بعلي ، فعلي هو قاتل أبنه حنظلة والأكثرية من قتلى بني أمية ولكن رغبة بتسخين وضع إبنيه في الجهة المقابلة ، وتجزيلا لنصيبه من الغنيمة ، وعلى الفور تركت له قيادة البطون ما جمع من الصدقات ، وولت إبنه يزيد قائدا لجيوش الشام ، وعينت أبنه الثاني معاوية نائبا لأخيه ليحل محله إذ مات !! وهكذا رضي الثلاثة ، وأيقنوا بأنهم قد وضعوا حجر الاساس للملك الأموي . وما زالت ولاية معاوية تتوسع حتى شملت سوريا كلها بحدودها الطبيعية ، وتركه الخلفاء الثلاثة ، الأول واليا على الشام عشرين عاما ، يجمع كما يشاء ، ويدخر ما يشاء ، ويعطي من يشاء ، ويحرم من يشاء بلا حسيب ولا رقيب ، لقد كان ملكا حقيقيا وسلطة الخلافة عليه سلطة إسمية !! وكأن تولية يزيد إبن أبي سفيان ووراثة معاوية ليزيد أخيه وبقاءه واليا على الشام جزء من صفقة وحدة البطون ضد علي !! كان عمر يحاسب كل ولاته على الكثير والقليل ويعزلهم سريعا ولكن لا أحد في الدنيا يخبرنا متى حاسبه !! وعلى أي شيء !! ولماذا لم يعزله !! إنه يعد معاوية لأمر عظيم !!! .

معاوية يطالب بخلافة المسلمين !!! :

آلت الخلافة إلى علي بن أبي طالب بالطريقة نفسها التي أخترعها قادة البطون ، وكان عثمان الأموي قد قتل لتوه ، وكانت دولة الخلافة أموية من جميع الوجوه فلا تجد مصرا من الأمصار إلا وواليه أموي أو من المخلصين لبني أمية ، لقد نجح عثمان قبل موته بجعل دولة الخلافة أموية بالفعل ، لو كان غير الإمام علي لسلم فور تسلمه للخلافة ، ولما حكم ستة أيام !! وعلى كل فقد جاءت بيعة كل الأقاليم إلا ولاية الشام ، فقد رفض معاوية بيعته متذرعا بقتلة عثمان ، لقد كان بإمكانه أن ينصر عثمان وهو حي ولكنه تخلى عن عثمان كجزء من خطته الرامية إلى استيلائه على منصب الخلافة بالقوة ، والتغلب ، والقهر ، وتحويلها إلى ملك يتوارثه الامويون ، وإستعمال سيف الخلافة للتنكيل بخصوم بني أمية . إن الفرصة مؤاتية له بالفعل ليحقق كامل أحلامه ، فخزائن الشام مليئة بالأموال التي إدخرها وأعدها لهذه الغاية !!! .

كربلاء ـ الثورة والمأساة 76


من وسائل معاوية :

خلال مدة ولاية معاوية على الشام بنى جيشا منظما ، يدين له شخصيا بالطاعة العمياء ، ولا يعرف هذا الجيش من الإسلام إلا القشور . فمعاوية نفسه لا يعرف الإسلام فهو طليق أبن طليق ومن المؤلفة قلوبهم ، فكان هذا الجيش من أعظم وسائل معاوية التي أستعملها للإستيلاء على منصب الخلافة ، وقهر أعدائه ، كان هذا الجيش بيد معاوية كالخاتم بالأصبع ، يحركه كيفما يشاء ، فلو أمره معاوية أن يهدم الكعبة لهدمها عن طيب خاطر ، وقد هدمها في زمن يزيد ، وهدمها في زمن عبد الملك ، ولو أمره معاوية أن يستبيح المدينة المنورة ، فيقتل رجالها ، وينهب أموالها لفعل ، وقد فعل ذلك في زمن يزيد بن معاوية ، إذ قتل عشرة آلاف بيوم واحد ، وأغتصب جيشه ألف عذارء ، وقد حارب معاوية بهذا الجيش أمير المؤمنين عليا . وأرسل فرقة من هذا الجيش مع بسر بن أرطأة ، وأمره أن يسير إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة ومن مكة إلى صنعاء ، فيقتل كل من كان في طاعة علي ، وينهب أموال كل من ليس في طاعة معاوية ، وأمره بأن ينشر الرعب أينما حل ، وأن يخوف عباد الله ويأخذهم أخذا أليما ، ونفذ بسر بن أرطأة أوامر مولاه معاوية بدقة ، فكان يقتل الرجال والنساء والأطفال ، لقد قتل طفلي عبيدالله أبي العباس وعاد بسر إلى الشام بعد أن أخذ البيعة لمعاوية بالعنف والإرهاب .

الأنصاري وأم سلمة يصفان أسلوب معاوية :

قال إبن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : قال جابر بن عبدالله الأنصاري : « لما خفت بسرا وتواريت عنه ، قال لقومي : « لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر ، فأتوني وقالوا : ننشدك لما أنطلقت معنا فبايعت ، فحقنت دماءنا ، ودماء قومك فإنك إن لم تفعل قتلت مقاتلينا ، وسبيت ذرارينا ، فاستنظرتهم الليل ، فلما أمسيت دخلت على أم سلمة ( إحدى زوجات الرسول ) فأخبرتها الخبر ، فقالت : يا بني أنطلق فبايع ، أحقن دمك ودماء قومك ، فإني قد أمرت إبن أخي أن

السابق السابق الفهرس التالي التالي