كربلاء ـ الثورة والمأساة 48


« ... فإن نزل حسين وأصحابه حلى حكمي فابعث بهم إلي سلما وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم !! فإن قتل حسين فأوطىء الخيل صدره وظهره ..... فأن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع ، وان أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنا قد أمرناه بذلك » (1) وقد روى الطبري أن عبيدالله بن زياد كتب إلى عمر بن سعد : » أما بعد فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ولا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي ، الزكي ، المظلوم ، أمير المؤمنين ، عثمان بن عفان » (2) فهل يعقل أن يعطي عبيدالله بن زياد أوامر خطية بهذه الخطورة دون علم ومباركة سيده وقائده الأعلى يزيد بن معاوية !! .
ثم هل يعقل بأن يعلن أبن زياد التعبئة العامة في ولاية مثل العراق دون علم الخليفة يزيد بن معاوية ومباركته !! قال البلاذري في « أنساب الأشراف » : أن إبن زياد جمع الناس وخطبهم قائلا : « فلا يبقين رجل من العرفاء ، والمناكب ، والتجار ، والسكان ، إلا خرج فعسكر معي ، وأيما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلفا عن العسكر برئت منه الذمة » وروى البلاذري أيضا : أن إبن زياد رتب بينه وبين عسكر عمر بن سعد خيلا مضمرة مقدمة فكان خير ما قبله يأتيه في كل الاوقات (3) .
فإذا كان بإمكان عبيدالله بن زياد أن يجعل بينه وبين عمر بن سعد خيلا مضمرة تأتيه بأخباره في كل وقت ، أليس بإمكان الخليفة أن تكون له مثل هذه الخيل بينه وبين عمر بن سعد ؟ ثم إن كُتب يزيد بن معاوية إلى عبيدالله بن زياد التي سبقت الإشارة إليها تفصح عن حقيقة موقفه النهائي .
ثم إنه بعد أنتهاء المجزرة في كربلاء لم يوجه يزيد بن معاوية لعبيدالله بن زياد كلمة لوم واحدة ، بل على العكس اثنى عليه ومكن له في الأرض !!! .

(1) راجع الكامل في التاريخ لأبن الأثير ج 4 ص 23 .
(2) راجع معالم المدرستين ج 3 ص 86 كما نقلها عن الطبري .
(3) راجع انساب الأشراف للبلاذري ترجمة الحسين .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 49


وأبسط ما يفعله قادة الدول مع الذين يرتكبون أعمالا أقل وحشية من مجزرة كربلاء أن يحيلونهم على التقاعد !! أو يعفونهم من مناصبهم احتراما لمشاعر المجتمعات التي يحكمونها ، لكن يزيد لم يفعل ذلك ، بل ولم يسمح لأحد بأن ينتقد عبيدالله بن زياد . روى الطبري في تاريخه قال : لما وضعت الرؤوس « رأس الحسين وأهل بيته وأصحابه » بين يدي يزيد بن معاوية قال يزيد :
يفلقن هاما من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما

فقال يحيى بن الحكم ، أخو مروان :
لهام بجنب ألطف أدنى قرابة من أبن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى وبنت رسول الله ليس لها نسل

فضرب يزيد في صدر يحيى وقال له : أسكت .
فيزيد لا يسمح حتى لابن عمه أن ينتقد فعل عبيدالله في كربلاء أو أن ينتقد عبيدالله ، لسبب بسيط هو أن ما فعله عبيدالله كان تنفيذا حرفيا لمشيئة يزيد وموقفه النهائي القاضي بقتل آل محمد وقتل من يواليهم !!! ثم إن يزيد قد أعترف أمام وفده الذي أرسله إلى أبن الزبير ، إذ قال : « لن يكون أعظم من الحسين ، ولا الزبير أعظم من علي ... » (1) .

عيد في عاصمة يزيد :


قال الخوارزمي الحنفي بروايته عن سهل بن سعد ، خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطت الشام ، فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار ، كثيرة الأشجار . قد علقوا الستور ، والحجب ، والديباج ، وهم فرحون ، مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول ، فقلت في نفسي : لعل لأهل الشام عيدا لا نعرفه نحن ، فرأيت قوما يتحدثون ، فقلت : يا هؤلاء ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن ؟ قالوا : يا شيخ نراك غريبا . فقلت : أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول الله وحملت حديثه ... ثم أخبروه قائلين : « هذا رأس الحسين عترة رسول الله يهدى من أرض

(1) راجع تاريخ الأسلام للذهبي ج 2 ص 344 ، وتاريخ أبن كثير ج 8 ص 165 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 50


العراق إلى الشام !! فقلت : وعجبا أيهدى رأس الحسين والناس يفرحون .. » (1) .

موقف أركان قيادة يزيد :

عبيدالله بن زياد ، وعمر بن سعد ، وشمر بن ذي الجوشن ، وبقية طواقم الإجرام في كربلاء هم أركان قيادة يزيد بن معاوية وهم مجرد عبيد ، ينفذون أوامر سيدهم ، ويتبنون موقفه مصيبا كان أم مخطأ . فهل يعقل أن يكون ـ مثلا ـ لرجل مثل عمر بن سعد المتردد ، ألمريض ، المهزوز موقف ينبع من قناعاته الخاصة .

معرفة الإمام الحسين بالنتائج سلفا :

قبل أن يخرج الإمام الحسين من المدينة إلى مكة قال لأخيه محمد بن الحنفية : « يا أخي لو كنت في جحر هام من هوام الأرض لاستخرجوني منه حتى يقتلونني » (2) .
وأقترح عليه أحد إخوته أن يبايع لأنه سمع بأن الحسين سيقتل ، فأجابه الإمام الحسين : « حدثني أبي أن رسول الله أخبره بقتله ( أي الإمام الحسين عليه السلام ) وقتلي ، وأن تربتي تكون بقرب تربته ، فتظن أنك علمت ما لم أعلمه ، وإنه لا أعطي الدنية من نفسي أبدا ، ولتلقين فاطمة أباها شاكية ما لقيت ذريتها من أمته ، ولا يدخل الجنة أحد آذاها في ذريتها » (3) وقبل خروجه من المدينة أتته أم سلمة ، فقالت : « يا بني لا تحزني بخروجك إلى العراق ، فإني سمعت جدك يقول : « يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء » .
فقال لها الإمام الحسين : « يا أماه أنا والله أعلم ذلك ، وأني مقتول لا محالة ، وليس لي من هذا بد ، إني والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه ، وأعرف من يقتلني ، وأعرف البقعة التي أدفن فيها وإني أعرف من يقتل من أهل بيتي ، وقرابتي

(1) راجع مقتل الخوارزمي الحنفي ، ج 2 ص 60 ـ 61 .
(2) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 271 ، وأعيان الشيعة ج 1 ص 888 ، ووقعة الطف ص 85 .
(3) اللهوف : ص 12 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 51


وشيعتى ، وإن أردت يا أماه أريك حفرتي ومضجعي ، ... « (1) .
ولما خرج الإمام الحسين من المدينة دعا بقرطاس وكتب فيه ما يلي : « بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم ، أما بعد فإن من لحق بي منكم أستشهد ، ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح ، والسلام » (2 .
هذه النماذج من النصوص تدل دلالة قاطعة على أن الإمام الحسين كان يعلم علم اليقين نتائج أمتناعه عن البيعة سلفا ، وكان يعلم علم اليقين بأنه سيقتل وسيقتل من معه . وليلة العاشر من محرم ـ أي ليلة المذبحة ـ أخبر أصحابه بأنه سيقتل وأهل بيته سيقتلون معه .

معرفة يزيد بالنتائج سلفا :

إنه لا يخفى على ذي بصيرة بأن دولة الخلافة كانت من الدول العظمى ، وقبل أن يموت معاوية وطد الأمر لابنه يزيد ، وروض له العباد وسلمه عمليا مفاتيح خزائن الدولة ، وقيادة جيوشها ، فهو ملك ومالك حقيقي للدولة ومواردها ، فخلال أيام معدودة يستطيع يزيد بن معاوية أن يجند نصف مليون جندي وأن يزورهم بما يحتاجونه من مال وسلاح ليقفوا على أهبة الأستعداد لحرب الإمام الحسين ، بل ولحرب رسول الله نفسه لو بعث حيا !!! .
أما الإمام الحسين فهو مجرد عمليا من كافة سلطاته وصلاحياته ، وبالرغم من مكانته المعظمة إلا أنه لا يملك من الموارد التي تساعده على تجنيد بضعة عشر جنديا وليس له عمليا إلا أهل بيته والقلة القليلة التي أختارت الآخرة على الدنيا .
فيزيد يعلم أنه سيجند ثلاثين ألف مقاتل ليواجه الحسين وأهل بيته وأنصاره ألذين لا يتجاوز عددهم المائة رجل ، !!! فعندما يكون المؤمنون مائة يغلبون ألفا

(1) راجع بحار الأنوار ج 44 ص 331 ، والعوالم ص 17 ـ 18 ، وينابيع المودة ص 405 .
(2) بصائر الدرجات حديث 5 ، واللهوف ص 28 ، والمناقب لابن شهر آشوب ، وبحار الأنوار ج 4 ص 33 و 42 و 45 و 84 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 52


ولكن لا طاقة لمائة مؤمن بأن يغلبوا ثلاثين ألفا ، فيزيد يعلم بأن المواجهة محسومة لصالحه وبكل الموازين ، ويعلم كذلك بأن هذه المواجهة ستسفر عن قتل الإمام الحسين وإبادة أهل بيت النبوة وأصحاب الحسين . وليس من المستبعد بأن يكون يزيد قد سمع بخبر مستفيض عن رسول الله مفاده أن الحسين وأهل بيت النبوة سيقتلون في كربلاء .


كربلاء ـ الثورة والمأساة 53


الباب الثاني


دور ألأمة ألإسلامية في مذبحة كربلاء


الفصل ألأول : حالة ألأمة وقت خروج الحسين (عليه السلام) وموقفها منه
الفصل الثاني : الموقف النهائي لأكثرية ألأمة ألإسلامية من مذبحة كربلاء
الفصل الثالث : ألأقلية التي وقفت مع ألإمام الحسين (عليه السلام) أو تعاطفت معه
الفصل الرابع : أخبار السماء عن مذبحة كربلاء


كربلاء ـ الثورة والمأساة 54




كربلاء ـ الثورة والمأساة 55

الفصل الأول
حالة الأمة وقت خروج الحسين وموقفها منه


أين كانت الأمة ؟ :

أين كانت الأمة الإسلامية عندما وقعت مذبحة كربلاء !!! أين كان المسلمون !! وأين كان عقلاء الأمة ووجهاؤها !! هل كانوا بالحج فشغلوا بمناسكه !! أم كانوا غزاة ـ يجاهدون في سبيل الله !!! أم كانوا نياما وقد أستغرقوا في نومهم فلم يسمعوا صرخات الأستغاثة ، ولا قرقعة السيوف ، ووقع سنابك جيش الخليفة !!! .
الأدلة القاطعة تشير بأنهم لم يكونوا بالحج ، ولا كانوا غزى ، ولا كانوا مستغرقين بالنوم ، بل جرت أمامهم فصول المذبحة فصلا فصلا ، وبالتصوير الفني البطيء ، وأنهم تابعوا وشاهدوا وقائع المذبحة البشعة في كربلاء ، بنظرات ساكنة ، وأعصاب باردة ، تماما كما يشاهدون فلما من أفلام الرعب على شاشة التلفاز ، وكان دور الأكثرية الساحقة من الأمة الإسلامية ، ودور وجهائها وعقلائها مقتصرا على المتابعة والمشاهدة باستثناء بعض التعليقات أو الإنفعالات الشخصية المحدودة التي ابداها بعضهم همسا وهو يتابع ويشاهد المذبحة !! .
كان بإمكان عقلاء الأمة الإسلامية ووجهائها ، وكان بإمكان أكثرية تلك الأمة على الأقل أن يحجزوا بين الفئتين المتنازعتين قبل وقوع المذبحة !! فالوجهاء والعقلاء الذين لا دين لهم يحجزون بمثل هذه الحالات !! .
كان بإمكانهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ، فيقولون للخليفة الطاغية مثلا : « إن قتل إبن بنت النبي وآل محمد ، وأهل بيت النبوة منكر ، وحاشا لمثلك يا « أمير المؤمنين » أن يقع فيه ! » يمكنهم أن يقولوا للخليفة الطاغية : « بأن تعبئة ثلاثين ألف مقاتل وزجهم في المعركة لمقاتلة إبن بنت رسول الله وأهل بيت النبوة ومواليهم وهم لا يتجاوزون المئة رجل ، أمر لا يليق بشرف العسكرية الإسلامية التي يمثلها جيش الخليفة !!! » وكان بإمكانهم أن يقولوا للخليفة

كربلاء ـ الثورة والمأساة 56


ألطاغية : وإن كنت فاعلا يا أمير المؤمنين فأعط أوامرك لجيشك الجرار بأسر إبن بنت النبي وآل النبي وأهل بيت النبي ، فليست هنالك ضرورة عسكرية لقتلهم !! .
كان بإمكان الأكثرية ووجهاء الأمة وعقلائها على الخصوص أن يقولوا للخليفة : « إن إبن بنت النبي عالم ورث علم النبوة ، أو على الأقل أحد علماء الإسلام ، وليس مناسبا « لأمير المؤمنين » أن يقتل عالما مهما كان جرمه !! إنها لوصمة عار في جبين الجيش الإسلامي إن قتل حبرا يهوديا ، أو راهبا نصرانيا ، فكيف يا أمير المؤمنين بوارث علم النبوة الإمام الحسين !! .»
كان بإمكانهم أن يتداعوا من كل حدب وصوب ويقولوا « لخليفة المسلمين » نرجوك « يا أمير المؤمنين » إن الحسين وأهل بيته هم آل محمد الذين فرض الله على كل مسلم أن يصلي عليهم في صلاته ، وأنهم ذوو قربى النبي الذين أوجب الله على المسلمين مودتهم !! وقتلهم بهذه الطريقة إحراج لكم ولنا ولديننا أيضا !! .
كان بإمكان الوجهاء والعقلاء وأكثرية الأمة المسلمة أن تقول للخليفة الطاغية : يا أمير المؤمنين إن محمدا رسول الله نفسه لم يكره أحدا من الناس على بيعته ، ثم أن بيعة الإمام الحسين وأهل بيت النبوة لا تزيد في ملك « مولانا أمير المؤمنين » وإن عدم بيعتهم له لا تؤثر عمليا في ملكه !! .
كان بإمكان وجهاء الأمة وعقلائها وأكثريتها أن تقول للخليفة الطاغية نرجوك يا صاحب الجلالة ونستوهبك روح الحسين وآل محمد وأهل بيت النبوة وذوي قربى محمد !! نحن عبيدك وعبيد أبيك من قبلك ، وعلى طاعتك ، فهبهم لنا !! إنك إن قتلتهم أيها الملك فأي شيء مقدس يبقى لدينا !! .
لو قال وجهاء وعقلاء المسلمين ذلك ليزيد بن معاوية لما وقعت مذبحة كربلاء !! ربما كانت قلوبهم مليئة بالرعب ، وكان عسيرا عليهم أن يجتمعوا ويقولوا ذلك للخليفة .
وربما أن الوجهاء قد أدركوا بثاقب عيون مصالحهم الضيقة أن الحسين وأهل بيت النبوة عائق أمام مطامعهم المستقبلية بالرئاسة ، فأدركوا أن فعل يزيد بن

كربلاء ـ الثورة والمأساة 57


معاوية يصب في النهاية بحوض مطامعهم الضيقة ، فاستحسنوا فعله ، وعبروا عن هذا الأستحسان بالسكوت « لأن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان » كما يقول ذلك علماء البلاغة .

ليفخروا بالمنكر ولا فخر به !! :

ليفخر وجهاء وعقلاء الأمة الإسلامية ، وأكثريتها الساحقة بأنهم لم يأمروا بمعروف ، ولا نهوا عن منكر ، ولا سمعوا من الفئتين ، فحددوا من هي الباغية ؟ ولا حتى حجزوا وإنما شاهدوا المذبحة وتابعوها من أولها إلى آخرها ، دون أن يحركوا ساكنا ، أو يوجهوا كلمة لوم واحدة للخليفة الطاغية ، بل مضوا في طاعته !! ألا بعدا لهذه الوجاهة الفارغة ، ولتلك الأكثرية الجاهلة كما بعدت ثمود !! .

حالة الأمة وقت خروج الحسين :

عندما خرج الإمام الحسين من المدينة أو أخرج منها كان واضحا لجميع رعايا دولة الخلافة أن عاصفة مدمرة تتجمع بالأفق وتتحفز للإنطلاق والانفجار ، وأن مواجهة عنيفة وضاربة ستنشب لا محالة بين الخليفة وأركان دولته وجيشه المطيع الجرار من جهة وبين ابن النبي الإمام الحسين وآل محمد وأهل بيت النبوة والقلة القليلة التي إنضمت إليهم مختارة الآخرة على الدنيا .
مثلما كان واضحا لرعايا دولة الخلافة بأن هذه المواجهة ليست متكافئة ، فالخليفة يستطيع أن يجند خلال أسبوع واحد نصف مليون مقاتل ، وهل بإمكان الحسين ومن معه وهم لا يزيدون عن المائة أن يقاتلوا نصف مليون جندي !!! .
ومن جهة ثانية ، فقد كان واضحا لرعايا دولة الخلافة ، أن الخليفة المتغلب وأركان دولته يملكون بأيديهم مفاتيح المال ، والجاه ، والسلطان ، والنفوذ ، فلا يدخل الجيوب درهم إلا بإذن الدولة ، ولا يخرج من الجيوب درهم إلا بأمرها ، فالخليفة سلطان إقتصادي ، قبل أن يكون سلطانا سياسيا ، سلطانا عسكريا .
إقليم دولة الخلافة كله ما هو في حقيقته إلا ضيعة للخليفة وأقاربه بالدرجة

كربلاء ـ الثورة والمأساة 58


الأولى وأركان دولته بالدرجة الثانية !! ورعايا دولة الخلافة ما هم في الحقيقة إلا أقنان يعملون جميعا في « ضيعة الخليفة » وعبيد يأتمرون بأمر الخليفة ، ويعتمدون هم وعائلاتهم في حياتهم اليومية في معيشتهم على ما يقدمه لهم الخليفة ، فالخليفة يقدم عطاء شهريا لأفراد جيشه ، وعطاء وأعطيات لرعايا دولته بمعنى أن جميع أفراد رعايا دولة الخلافة « يتلقون رزقا أوعطاء » شهريا مباشرا أو غير مباشر من الخليفة ، والخليفة الملك لا يعطي مجانا ، فهو يعتبر مال الدولة ماله الخاص ، لذلك فإنه يقدم الأرزاق والعطايا لجيشه ولرعاياه ليبقوا دائما على طاعته ، فلا يعمل أحد منهم إلا بما يرضي الخليفة ، ولا يتكلم إلا بما يسر الخليفة .
فإذا خرج أحد من الرعية عن طاعة الخليفة ، أو عمل عملا يغضب الخليفة ، أو تكلم بكلام لم يسر الخليفة ، فأول إجراء يتعرض له هذا « المواطن » هو قطع الرزق والعطاء الشهري عنه ، وعن أفراد عائلته ، ويتبع ذلك ما يسمى « برئت منه الذمة » أي يهدر دمه ، ومع دمه قد تهدر دماء أولاده وعائلته !! جزاء وفاقا لعصيانه « لخليفة رسول الله » لأن الخروج على طاعة الخليفة من جرائم الخيانة العظمى .
ومع الأيام تروض أفراد الرعية ، وتسابقوا لإشباع جوعهم للمال ، والجاه ، والنفوذ ، وكان ميدان السباق الأرحب هو « التفنن » بطاعة الخليفة وأبتغاء رضوانه ومرضاته بأي وسيلة .
ثم إن الناس قد خرجوا قبل قليل من حرب أهلية أشعلها معاوية بن أبي سفيان بخروجه على إلامام الشرعي وإصراره على تحويل نظام الخلافة إلى الملك ، وإنتزاع هذا الملك بالقوة والقهر والغلبة وبأي وسيلة تلزم لتحقيق غاياته ، بغض النظر عن شرعيتها أو عدم شرعيتها ، انسانيتها أو وحشيتها !! وقد طالت الحرب الاهلية ، ودفعت الرعية أغلى الأثمان واستسلمت في النهاية ، وتنازلت لمعاوية عن كل شيء من دون قيد ولا شرط ، فما حرمه معاوية فهو الحرام !! وما أحله معاوية فهو الحلال !!! فقد أمر معاوية المسلمين بأن يسبوا علي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة ، فاستجابت الرعية على الفور وتعبدت بسب علي وأهل بيت

كربلاء ـ الثورة والمأساة 59


ألنبوة ، وقال معاوية : إضفوا هالة القداسة على كل من صحب النبي ورآه ، فاستجابت الرعية ورددت خلف معاوية بأن كل الصحابة بمن فيهم معاوية وأبوه ومروان بن الحكم عدول لا يصدر منهم إلا حقا وصوابا ، لقد ملت الامة فكرة المقاومة والدفاع عن الحق ، وقررت أن تطلب الحياة والسلامة والعافية ولو بالقيود والأغلال .
فضلا عن ذلك ، فإن المناهج التربوية والتعليمية والسلوك العام للخلفاء وأركان دولتهم كان منصبا بالدرجة الأولى على إنكار أي حق لأهل بيت النبوة بقيادة الأمة ، وعلى تصغير مكانة أهل بيت النبوة ، وتأويل النصوص الشرعية التي نجت من حصار الخلفاء تأويلا يخرجها عن معناها ، وعلى محاصرة أهل بيت النبوة ومن والاهم ، وإظهارهم بمظاهر الطامعين بالسلطة ، والمنازعين لأمر أهله !! وبمظهر المتربصين بوحدة الأمة ، والمتأهبين لشق عصا الطاعة ، والخروج على الجماعة !! لقد نجحت دولة الخلافة بإرساء هذه المفاهيم الظالمة في نفوس الأكثرية الغافلة من رعاياها !! .
فضلا عن ذلك ، فإن عامة أبناء بطون قريش ألـ 23 ، والبطن الأموي خاصة صاروا هم ومن والاهم أركانا لدولة الخلافة من بعد وفاة النبي وحتى عهد يزيد وما بعده ، وهذه البطون هي نفسها التي حاربت محمدا وحاربت دينه طوال ألـ 21 عاما ولم تسلم إلا مكرهة ونتيجة معاناة الحرب التي أستمرت 21 عام كرهت محمدا وبني هاشم وأضمرت الحقد لهم ، ولما إنتصر الإسلام ، وصار له ملك ودولة صار الذين طريق ملك ، فأدعت البطون حبها لمحمد ، وقرابتها منه ، وأعلنت أعترافها بالنبوة ، وتفاخرها بهذه النبوة لغاية توطيد ملكها على العرب ، وعلى العالم ، وبالوقت نفسه الذي أبقت فيه بطون قريش كراهيتها وحقدها على آل محمد خاصة والهاشميين عامة ، وأخذت هذه البطون حذرها التام من كل من يواليهم ويحبهم من المسلمين ، وجردت الهاشميين ومن والاهم عمليا من كافة حقوقهم السياسية ، وبالوقت نفسه الذي تزعم فيه البطون إسلامها وإيمانها ، وتحكم الناس باسم الدين ، إسلاما وإيمانا !! .

كربلاء ـ الثورة والمأساة 60


مجموعة هذه الأمور أماتت الشعور بالإنتماء للأمة ، والإحساس العام ، وخلقت حالة من التقوقع على الذات ، ومن الشعور بالانفصال العملي التام عن المجتمع . فانتصارات المجتمع العسكرية تقابل بالفتور ، وهزائمه تقابل بقليل من الأسف . صحيح أن الأمة كانت تعرف الحق من الباطل ولكن لا حوافز لديها ولا رغبة بنصرة الحق ، أو محاربة الباطل !! إنها تتمنى أن ينتصر الحق ، وأن يهزم الباطل ولكن ليست لدى أي فرد من أفراد الرعية العزيمة والرغبة للإشتراك بنصرة الحق أو هزيمة الباطل وهو مقتنع أن في يوم من الأيام سيأتي غيره فينصر الحق أو يهزم الباطل دون ان يكلفه عناء المواجهة !! كان هذا الشعور بالتواكل سائدا عند الرجال والنساء ولكن بنسب متفاوتة . قال الطبري في تاريخه : « إن المرأة كانت تأتي إبنها وأخاها فتقول : « إنصرف ، الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى أبنه وأخيه فيقول غدا يأتيك أهل الشام » (1) .
بهذا المناخ المعقد مات معاوية ، وخلفه يزيد ، وأمتنع الإمام الحسين عن البيعة فأضطر حفاظا على حياته وموقفه للخروج ..

موقف الأمة الإسلامية من خروج الحسين

موقف الأكثرية الساحقة :

لم يقف يزيد بن معاوية وحده في وجه الإمام الحسين وأهل بيت النبوة ، إنما وقفت مع يزيد أبن معاوية واستنكرت موقف الإمام الحسين وأهل بيت النبوة مجموعة من القوى الكبرى التي كانت تكون رعايا دولة الخلافة أو ما عرف باسم « الأمة الأسلامية » وهذه القوى هي :
1 ـ بطون قريش ألـ 23 وأحابيشها وموالوها وهي القوة نفسها التي كذبت النبي وقاومته وتآمرت على قتله ، وحاربته 21 عاما حتى أحاط بها النبي فأستسلمت وأضطرت مكرهة لإعلان إسلامها وهي تخفي في صدورها غير

(1) راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 370 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 61


الإسلام ، ويزيد بن معاوية ليس غريبا على البطون ، فجده أبو سفيان هو الذي قاد البطون ووحدها للوقوف ضد محمد ، لمحاربة محمد . ومعاوية والد يزيد هو الذي قاد البطون ، ووحدها لحرب علي ، ثم أن يزيد موتور شأنه شأن كل واحد من أبناء البطون ، وتشترك بطون قريش الـ 23 بكراهية آل محمد والحقد عليهم ورفضها المطلق لقيادتهم وإمامتهم وخلافتهم .
2 ـ ووقف المنافقون من أهل المدينة وممن حولها من الأعراب ، ومن خبث من ذرياتهم ، ومنافقوا مكة ومن حولها جميعا مع يزيد بن معاوية ، لا حبا بيزيد ، ولا حبا ببطون قريش ولكن كراهية وحقدا على محمد وآل محمد وطمعا بهدم أساسيات الدين بيد معتنقيه وقد أعتقدوا أن الفرص قد لاحت لإبادة آل محمد إبادة تامة لذلك أيدوا يزيد بن معاوية .
3 ـ ووقفت المرتزقة من الأعراب مع يزيد أيضا ، وقد وجدت ظاهرة الإرتزاق جنبا إلى جنب مع ظاهرة النفاق ، ومات النبي وبقيت الظاهرتان ، والمرتزقة قوم لا مبادئ لهم إلا مصالحهم ، مهنتهم اقتناص الفرص ، وتأييد المواقف ، وترجيح الكفات والأنقضاض على المغلوب ، وهم على استعداد لمناصرة من يدفع لهم أكثر كائنا من كان ، ولا فرق عندهم سواء أيدوا رسول الله أم أيدوا الشيطان ، فهم يدورون مع النفع العاجل حيث دار ، أنظر إلى قول سنان بن أنس ، قاتل الإمام الحسين لعمر بن سعد بن أبي وقاص عندما جاءه طالبا المكافأة على قتل الحسين :
إملأ ركابي فضة أو ذهبا إني قتلت السيد المحجبا
وخيرهم من يذكرون النسبا قتلت خير الناس أما وابا (1)

فاللعين يعرف الإمام الحسين ، ويعرف مكانته العلية ، ولكن ما يعني هذا التافه هو المال ، إعطه المال وكلفه بقتل نبي يقتله مع علمه بأنه نبي ، أو كلفه بقتل الشيطان يقتله إن رآه وبأعصاب باردة ، لا فرق عنده بين الإثنين !! .
لقد أدركت المرتزقة بأن الأمام الحسين وأهل بيته سيغلبون وأن يزيد

(1) مقتل الإمام الحسين « السيد المقرم ، دار الأضواء ، بيروت ، 1979 م ، ص 304 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 62


سينتصر وسيعطيهم بعض المال لذلك أيدوا يزيد بن معاوية .
4 ـ الأكثرية الساحقة من الأنصار ، وقفت مع يزيد بن معاوية ، فقد بايعته أو قبلت به ، أو تظاهرت بقبوله ، فليس واردا على إلاطلاق أن تقف مع الإمام الحسين ، وليس واردا أن تعصي أمر يزيد بن معاوية ، فلو طلب منها يزيد أن تميل على الأمام الحسين وأهل بيت النبوة فتحرق عليهم بيوتهم وهم أحياء لأجابته أكثرية الأنصار إلى ذلك ، فللأنصار تاريخ بالطاعة ، فالسرية التي أرسلها الخليفة الأول وقادها الخليفة الثاني لحرق بيت فاطمة بنت محمد على من فيه ـ وفيه علي ، والحسن ، والحسين ، وفاطمة بنت محمد وآل محمد ـ كانت من الأنصار (1) لذلك يمكنك القول وبكل أرتياح إن أكثرية الأنصار كانت سيوفهم مع يزيد وتحت تصرفه ، وكانوا عمليا من حزبه ومن حزب خلفاء البطون أو على الأقل ليسوا من حزب أهل بيت النبوة !! .
5 ـ المسلمون الجدد الذين دخلوا في الإسلام على يد جيش الخلفاء الفاتح كانوا بأكثريتهم الساحقة مع يزيد بن معاوية ، لأنهم فهموا الإسلام على طريقة قادة البطون وأبنائها ، وتلقوا تعليمهم في مدارس البطون وأكثريتهم لا يعرفون أهل بيت محمد ، ولا ذوي قرباه ويجهلون تاريخهم الحافل بالأمجاد ، لأن الخلفاء وأبناء بطون قريش الـ 23 تعمدوا تجهيل الناس بذلك ، بل وأبعد من ذلك فإن أكثريتهم يعتقدون أن علي بن أبي طالب قاتل مجرم « حاشاه » وأنه وأهل بيت النبوة ينازعون الامر أهله ، وأنهم أعداء للدين ، وإلا فلماذا فرض « الخليفة معاوية » سبه ولعنه على رعايا الدولة !!! ولماذا أصدر الخليفة معاوية أمرا بقتل كل من يوالي عليا وأهل بيته !! (2) لذلك وقفت الأكثرية الساحقة من المسلمين الجدد مع يزيد بن معاوية .
6 ـ ووقف مع يزيد بن معاوية أبناء وبطون وشيع الخمسة ألذين عرفوا

(1) راجع تاريخ الطبري ج 2 ص 443 ـ 444 وشرح نهج البلاغة ج 1 ص 130 ـ 134 لتجد أسماء الأنصار ألذين أشتركوا بعملية التحريق !!! .
(2) راجع شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد ج 3 ص 595 تحقيق حسن تميم .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 63


« بأهل الشورى » ويكفي أن تعلم بأن مذبحة كربلاء قد نفذت على يد عمر بن سعد بن أبي وقاص ، وكان أبوه أحد الخمسة ألذين أختارهم عمر بن الخطاب لمنافسة علي بن أبي طالب صاحب الحق الشرعي بالإمامة من بعد النبي !! .
7 ـ كذلك وقف مع يزيد بن معاوية أبناء الخلفاء ألذين أستولوا على مقاليد الأمور من بعد النبي ، ووقفت معهم أيضا بطون الخلفاء وشيعهم ، ويكفي أن تعلم بأن عبدالله بن عمر بن الخطاب كان من أكثر المتحمسين لبيعة يزيد بن معاوية ، ومن أكثر المشجعين على هذه البيعة !! وهو نفسه الذي أمتنع عن مبايعة علي بن ابي طالب !! .

الأكثرية مع يزيد :

من يصدق أن أكثرية الامة الإسلامية وقفت مع يزيد بن معاوية وضد الإمام الحسين !!! والأقلية هي التي وقفت مع الإمام الحسين ضد يزيد بن معاوية !!! من يصدق ذلك ، لقد تتبعنا كافة الشواهد ، واستقرأنا حقيقة تلك الفترة ، فصدمتنا هذه الحقيقة المرة ؟ !

التاريخ الحافل بالمخازي !! :

من يقرأ تاريخ الأمم والشعوب يستنتج أن الأكثرية الساحقة من كل أمة من أمم الأرض ، وكل شعب من شعوبها ، قد أتخذت دائما مواقف مخجلة يصعب الدفاغ عنها ، لأنها مكللة بالخزي والعار حقا !! فالأكثرية الساحقة من كل أمة من أمم الأرض وكل شعب من شعوبها ، وقفت وقفة رجل واحد مع طاغوتها ضد نبيها ، معاندة له ، ومكذبة به ، ورافضة الحق الذي جاء به !!
لقد ساق القرآن الكريم كماً هائلا من الأمثلة على تلك المواقف المخجلة لتلك الأكثريات ، قال تعالى : « كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب » ( ص / 12 ـ 14 ) ، وبين القرآن الكريم بعض صفات الأكثرية في كل أمة وشعب ، وكشف حقيقة هذه الأكثرية بكم وكيف هائل من الآيات فقال تعالى بهذا

السابق السابق الفهرس التالي التالي