انما جررتك معي وحشمتك مع أن تمشي خلفي ، لأسمعك ما أقول لهذا الطاغية ، قال فقلت به : من هو يا أبا بكر ، قال : هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى . فسكت عنه . ومضى وأنا أتبعه ، حتى اذا صرنا على باب موسى بن عيسى وبصر به الحاجب ، وكان الناس ينزلون عند الرحبة فلم ينزل أبوبكر هناك ، وكان عليه يومئذ قميص وازار ، وهو محلول الازرار . قال : فدخل على حماره وناداني : تعال يا ابن الجماني ، فمنعني الحاجب ، فزجره أبوبكر ، وقال له : أتمنعه يا فاعل وهو معي ، فتركني . فما زال يسير على حماره حتى دخل الابواب ، فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الايوان على سريره ، وبجنبي السرير رجال مسلحون وكذلك كانوا يصنعون . فلما رآه موسى رحب به وأقعده على سريره ، ومنعت أنا حين وصلت الى الايوان أن أتجتوزه فلما استقر أبو بكر على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف ، فناداني : تعال ويحك ، فصرت اليه ونعلي في رجلي وعلي قميص وازار ، فأجلسني بين يديه فالتفت اليه موسى فقال : هذا رجل تكلمنا فيه ، قال : لا ولكن جئت به شاهدا عليك . قال : في ماذا ، قال : اني رأيتك وما صنعت بهذا القبر ، قال : أي قبر ، قال : قبر الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله (ص) . وكان موسى قد وجه اليه من كربه وكرب جميع أرض الحاير ، وحرثها وزرع الزرع فيها . فانتفخ موسى حتى كان أن يتقد ، ثم قال : وما أنت وذا ، قال : اسمع حتى أخبرك ، اعلم اني رأيت في منامي كأني خرجت الى قومي بني غاضره ، فلما صرت بقنطرة الكوفة أعرضني خنازير عشرة ، فأعانني الله برجل كنت أعرفه من بني أسد ، فدفعهم عني . فمضيت لوجهي فلما صرت الى شاهي (1) ظللت الطريق فرأيت هناك عجوزا
فقال لي : اين تريد أيها الشيخ ؟ قلت : أريد الغاضرية (1) ، قال لي : تنظر هذا الوادي ، فانك اذا أتيت آخره اتضح لك الطريق . فمضيت فلما صرت الى نينوا (2) اذ أنا بشيخ كبير جالس هناك ، فقلت من أين أنت أيها الشيخ ، فقال لي :أنا من أهل هذا القرية . فقلت : كم تعد من السنين . فقال : ما أحفظ ما مضى من سني عمري ، ولكن أبعد ذكرى اني رأيت الحسين بن علي عليهما السلام ، ومن كان معه من أهله ، ومن تبعه يمنعون الماء الذي تراه ، ولا يمنع الكلب ولا الوحوش شربه . فاستعظمت ذلك ، وقلت له : ويحك أنت رأيت هذا . قال : اي والذي سمك السماء ، لقد رأيت هذا أيها الشيخ وعاينته ، وانك وأصحابك هم الذين يعينون على ما قد رأينا مما أقرح عيون المسلمين ، ان كان في الدنيا مسلم . فقلت ويحك وما هو ، قال : حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم اليه ، قال : أيكرب قبر ابن النبي ، ويحرث أرضه . قلت : وأين القبر قال : ها هوذا ، أنت واقف . فأما القبر ، فقد عمي عن أن يعرف موضعه . قال أبوبكر بن عياش وما كنت رأيت القبر قبل ذلك الوقت قط ، ولا أتيته في طول عمري . فقلت : من لي بمعرفته ، فمضى معي الشيخ حتى وقف
على (1)حير له باب وآذن . واذا بجماعة كثيرة على الباب ، فقلت للآذن : أريد الدخول على ابن رسول الله (ص) ، فقال : لا تقدر على الوصول في هذا الوقت . قلت ولم ؟ ، قال : هذا وقت زيارة ابراهيم خليل الله ومحمد رسول الله ، ومعهما جبرائيل وميكائيل في رعيل من الملائكة كثير . قال أبوبكر بن عياش : فانتبهت وقد دخلني روع شديد وحزن وكآبة . ومضت بي الأيام حتى كدت أن أنسى المنام ، ثم اضطررت الى الخروج الى بني غاضرة لدين كان لي على رجل منهم . فخرجت وأنا لا أذكر الحديث حتى صرت بقنطرة الكوفة ، لقيتني عشرة من اللصوص ، فحين رأيتهم ذكرت الحديث ورعبت من خشيتي لهم . فقالوا لي : الق ما معك وانج بنفسك . وكانت معي ئفيفة ، فقلت : ويحكم أنا أبوبكر بن عياش ، وانما خرجت في طلب دين لي ، والله الله لا تقطعوني عن طلب ديني ، وتضروني في نفقتي فاني شديد الاضافة . فنادى رجل منهم : مولاي ورب الكعبة لا تعرض له . ثم قال لبعض فتيانهم كن معه حتى تصير به الى الطريق الايمن . قال أبوبكر : فجعلت أتذكر ما رأيته في المنام وأتعجب من تأويل الخنازير . حتى صرت الى نينوا ، فرأيت والله لا اله الا هو الشيخ الذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته ، رأيته في اليقظة كما رأيته في المنام سواء . فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا ، فقلت لا اله الا الله ما كان الا
هذا الا وحيا . ثم سألته كمسألتي اياه في المنام ، فأجابني ثم قال لي : امضي بنا ، فمضيت فوقفت معه على الموضع وهو مكروب ، فلم يفتني شيء في منامي ، الا الآذن والحير ، فاني لم أر حيرا ولم أر آذنا . فائق الله أيها الرجل ، فاني قد آليت على نفسي ألا أدع اذاعة هذا الحديث ولا زيارة ذلك الموضع وقصده واعظامه ، فان موضعا يأتيه ابراهيم ومحمد وجبرائيل وميكائيل لحقيق بأن يرغب في اتيانه وزيارته . فان أبا حصين حدثني ، ان رسول الله (ص) ، قال : من رآني في المنام فاياي رأى . فان الشيطان لا يشتبه به . فقال له موسى : انما أمسكت عن اجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة التي ظهرت منك ، وبالله لئن بلغني بعد هذا الوقت انك تتحدث بهذا لأضربن عنقك وعنق هذا الذي جئت به شاهدا علي . فقال أبوبكر : اذا يمنعني والله واياه منك ، فاني انما أردت الله بما كلمتك به ، فقال له أتراجعني يا عاض وشتمه . فقال له : اسكت أخزاك الله وقطع لسانك ، فأرعد موسى على سريره ثم قال خذوه ، فأخذ الشيخ عن السرير ، فاخذت أنا فوالله لقد مربنا من السحب والجر والضرب ما ظننت اننا لانكثر الاحياء أبدا . وكان أشد ما مربي من ذلك ، ان رأسي كان يجر على الصخرة ، وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي ، وموسى يقول اقتلوهما بني كذا وكذا لا يكني ، وأبوبكر يقول له : امسك قطع الله لسانك وانتقم منك ، اللهم اياك أردنا ، ولولد وليك غضبنا ، وعليك توكلنا . فصيرنا جميعا في الحبس فما لبثنا الا قليلا ، فالتفت أبوبكر ورآى ثيابي قد خرقت وسالت دمائي ، فقال يا جماني قد قضينا لله حقا واكتسبنا في يومنا هذا أجرا ، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله . فما لبثنا الا مقدار غذائه ونومه ، حتى جاءنا رسوله فأخرجنا اليه وطلب حمار أبي بكر ، فلم يوجد فدخلنا عليه فاذا هو في سرداب له يشبه الدور سعة وكبرا فتعبنا في المشي اليه تعبا شديدا . وكان أبوبكر اذا تعب في مشيه جلس
يسيرا ، ثم يقول اللهم ان هذافيك فلا تنسه ، فلما دخلنا على موسى ، واذا هو على سرير له فحين بصر بنا قال لا حيا الله ولا قرب من جاهل أحمق يتعرض لما يكره . ويلك يا دعي ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم . فقال له أبوبكر : سمعت كلامك والله حسبك . فقال له : اخرج قبحك الله ، والله لئن بلغني ان هذا الحديث شاع أو ذكر عنك لأضربن عنقك . ثم التفت الي فقال : يا كلب ، وشتمني وقال اياك أن تظهر هذا فانه انما خيل لهذا الشيخ الأحمق شيطان يلعب به في منامه . اخرجا عليكما لعنة الله وغضبه . فخرجنا ، وقد يئسنا من الحياة . فلما وصلنا الى منزل الشيخ ابي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره ، فلما أراد أن يدخل منزله ، التفت الي وقال : احفظ هذا الحديث واثبته عندك ، ولا تحدثن هؤلاء الرعاع ، ولكن حدث به أهل العقول والدين .
|
فما وجدت على الاكتاف منهم | ولا الأقفاء آثار النصول | |
ولكن الوجوه فها كلوم | وفوق حجورهم مجرى السيول | |
اريق دم الحسين ولم يراعوا | وفي الاحياء أموات العقول | |
فدت نفسي جبينك من جبين | جرى دمه على خد أسيل | |
أيخلوا قلب ذي ورع ودين | من الأحزان والألم الطويل | |
وقد رشقت رماح بني زياد | بري من دماء بني الرسول | |
بيثرب كربلاء لهم ديار | نيام الأهل دارسة الطلول | |
بأوصال الحسين ببطن قاع | ملاعب للدبور وللقبول | |
تحيات ومغفرة وروح | على تلك المحلة والحلول | |
برئنا يا رسول الله ممن | أصابك بالأذية والذحول (2) |
(1) ترجمته في نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر لضياء الدين يوسف الصنعاني المتوفى سنة 1121 هـ ( ص 162 ، ج 2 . مخطوط في خزانة كتب المؤلف ) . (2) زهر الآداب للحصري ، هامش العقد الفريد ج 2 ص 272 . |
|
أي امرء بات من هارون في سخط | فليس بالصلوات الخمس ينتفع | |
ان المكارم والمعروف أودية | أحلك الله منها حيث تجتمع | |
اذا رفعت امرءا فالله رافعه | ومن وضعت من الأقوام متضع | |
نفسي فداؤك والابطال معلمة | يوم الوغا والمنايا بينهم قرع |
شاء من الناس راتع هامل | يعللون النفس بالباطل |
الا مساعير يغضبون لها | بسلة البيض والقنا الذابل |
|
أحسين والمبعوث جدك بالهدى | قسما يكون الحق عنه مسائلي (2) | |
لو كنت شاهد كربلا لبذلت في | تنفيس كربك جهد بذل الباذل | |
وسقيت حد السيف من أعدائكم | عللا وحد السمهري الذابل | |
لكنني اخرت عنك لشقوتي | فبلابلي بين الغري وبابل | |
هبني حرمت النصر من أعدائكم | فاقل من حزن ودمع سايل (3) |
(1) ابن الهباريه بفتح الهاء وتشديد الموحده وبعد الألف راء وهذه النسبة الى هبار وهو جد أبي يعلي محمد بن محمد بن صالح الهاشمي من سلالة الامير عيسى بن موسى ، ولد في بغداد حوالي منتصف القرن الخامس الهجري . وقد توفي سنة 509 هـ ـ برواية سبط ابن الجوزي ـ بكرمان وقال السمعاني في ( الأنساب ) توفي بعد سنة ستين وأربعمائة . راجع ترجمته في دائرة المعارف الاسلامية لجماعة من المستشرقين ج 1 ص 291 . (2) نسب الحموي في معجم البلدان ج 6 ، ص 51 . هذا البيت والقصيدة الى أبو دهبل الجمحي في رثائه للحسين . (3) الشطر الاول في البحار ( ج 45 ص 265 ) : اذ لم أفز بالنصر من أعدائكم . قد أورد المجلسي هذه الابيات أيضا في بحار الانوار ( ج 45 ص 256 ، الطبعة الاخيرة ) نقلا عن مناقب ابن شهر اشوب ، لكنه نسب هذه الابيات الى أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي . (4) تذكرة خواص الأمة في معرفة الأئمة تأليف يوسف سبط أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ص 154 طبعة طهران سنة 1285 هـ . |
السابق | الفهرس | التالي |