وأستميح القاريء عذراً لتركي ذكر السنين والشهور والأيام على الترتين من مبتدأ هذا القرن حتى منتهاه ، كما يقتضى اذ هو من سنن
مؤرخي العرب وسبيل الفطاحل من أئمتهم ، ولا غرو فقد صنفوا مؤلفاتهم
في عصر رقي العرب وتمدنهم ، والحال غني عن البيان والايضاح عن كيفية ضبطهم للحوادث والوقائع بأوانها . أما هذا القرن فهو أحد قرون تأخر العرب وسقوطهم ، اذ فاقوا البرابرة أنفسهم بما جروه على البلاد من الخراب والدمار ، فأنى لهم العلم بضبط الحوادث . وقيد كنه ترتيب الوقائع . ويجدر بنا قبل أن نتكلم عن حوادث كربلاء الدامية في هذا القرن أن نعطف نظرنا الى مجرى أحوال العراق ، السياسية والاجتماعية . أبان الاحتلال العثماني لها ، ونعطي للقاريء فكرة موجزة عنها ، لكي نتقرب ونتمكن من اداء مقصودنا . هذا ويقسم سير ادارة الحكم العثماني للعراق الى ثلاثة أدوار امتازت هذه الأدوار بعضها عن بعض لنفوذهم ويسطرتهم حيناً دون حين . والذي يهمنا في معرض حديثنا هذا هو سير ادارة الحكم العثماني في العراق أبان الدور الثاني والثالث : وقد ولع سليمان هذا باقتناء المماليك ولعاً عظيماً لكونه منهم . وقد بذل جهدا كبيرا في سبيل تربيتهم وتعليمهم الفنون الحربية ، فعزز ذلك من مركزه ، وحط من أنفه المستحقرين شأنه فاشتهر اسمه وبعد صيته في ضبطه للامور وعبقريته الادارية . الا انه فتح للعقمانيين باباً لم يتمكنوا من ردمه الا بعد مدة من الزمن اذ فلتة زمام المبادرة من أيد الحكومة
العثمانية . ودخل العراق دورا جديدا استقل فيه الولاة المماليك عن الحكومة العثمانية ، فأطلقوا أيديهم في العبث بشؤونها ، فأخذوا يتنافسون فيما بينهم للتوصل الى السلطة ، واندلعت الثورات في البلاد . وقد آل حال هذا الدور الى وضع غريب . لا يمكن للباحث المحقق أن يصف تلك الحالة وصفها ينطبق على واقع الحال ، اذ كنت الاوضاع في تقلب عجيب ، لم تستقر فيها على مبدأ واحد . ولما وقع بين المماليك من التنافس والتناحر على السلطة لم يبق للولاة تلك الأهمية والنفوذ التي كانت لولاة الدور الأول ، فهذا عبد الله باشا طلب من حمود رئيس عشيرة المنتفق بتسليم سعيد بن سليمان الكبير . فرفض هذا الأخير طلبه حفظا للجوار . فاضطر الوزير الى الخروج بنفسه لكي يحفظ ما تبقى للوالي من هيبة وسلطة . فاشتبك مع حمود في معركة حامية ، فدارت الكرة على الوزير لتفرق بعض أعوانه عنه . فأسرت عساكره ونهبت سرادقه ، ووقع هو نفسه في الأسر . فكبل بالحديد ووضع القيد في عنقه وأخذ الى السوق ذليلاً ، فخنق بها وقبر ، ثم نبش وقطع رأسه . فصار سعيد المستجير أميرا ، قام مقام الوزير لتعضيد حمود اياه اذ سير معه الجيوش الى بغداد ومكنه من ولايت أمرها وصيانتها من تطاول الأيدي ، واخضاع العصاة من أهل عصبياتها ، والمواقع الخارجة عن سيادتها . فهذه البصرة أخذها صادق شقيق كريم خان الزند بعد أن حاصرها مدة من الزمن دون أن يستطيع والي بغداد عمر باشا أن يفعل شيئاً لعدم وجود حامية في بغداد تعمل على استخلاص البصرة من ايدي الفرس . وذلك بالرغم من تشدد عبد الحميد واهتمامه للأمر ، وقيامه بارسال الجيوش لها من عاصمته ، فان ذلك لم يغن شيئاً ، اذ بقت البصرة بأيد الأعاجم حتى أن بلغ صادق الزند خبر وفاة أخيه ، فتركها فورا الى عاصمته شيراز طمعا بالسلطة . فعادت البصرة حينذاك فقط الى حوزة
الدولة العثمانية وذلك لميل أهلها . ولعدم وجود حامية في بغداد استقل رؤساء الولايات ، كل بشؤون ولايته . خلا البصرة ، اذ كانت الحكومة العثمانية ترسل اليها من يحكمها تحت اسم : ( المتسلم ) . وبعضا الحلة . هذا وكان العثمانيون معذورين من عدم تركهم الحامية فيها أو ارسال الجند لاخضاع المتمردين بها . وذلك لانشغالهم بأنفسهم وارتباك أمورهم . ولكنه اذا أعلن أحد ولاتهم العصيان عليهم . فلا يتعدى الحال أمرين . أما أن يتداركوا الأمر بالحال . أو ينتظرون ريثما يعينون والي جديد يسيرون معه جيشا لاخضاع الخارج عن ارادتهم ، وأخذ رأسه وارساله الى سرير السلطان . وهناك وقع ما أغنى العثمانيين من تكبد هذه المشاق ، بما ظهر في البغداديين من الحماس والأقدام على عزل ولاتهم وقتل بعضهم ، ونصب من رغبوا فيه . وكان ذلك من السهل عليهم بمكان ، فقط كانوا يتقدمون الى تقديم محضر يطلبون فيه من الملك التصديق على تعيينه ، فبوصول هذا المحضر كانت تصدر الارادة موافقة على ذلك اذ لم يكن هناك من يبحث عن سبب ذلك . ولسيادة الفوضى وكثرة القتل والنهب في البلاد ، اضطرب حبل الأمن وانقطعت طرق المواصلات بين البلاد . فألجأ هذا الحال الأمراء والولاة وبعض أهل الفضلب الى أن يبذلو الاموال لتشييد المعاقل والخانات ، وتوظيف الخفراء فيها وذلك لتأمين المسافرين من الأخطار . وليأخذوا بها قسطا من الراحة أيضا وتلك المعاقل موجودة حتى اليوم ، بعضها عامر والبعض الآخر على شرف الاضمحلال لترك الناس لها عندما استتب الأمن نوعاً ما وكانت القوافل لا تسير أكثر من ساعتين أو ثلاث . ولذلك راعوا في بناء هذه المعاقل أن تكون المسافة قليلة بين معقل وآخر ، فاذا خرجت
القوافل من كربلاء قاصدة بغداد أمت المعقل الاول الذي يسمي اليوم بـ ( خان العطيشي ) ، ثم الى معقل المسيب ثم معقل الاسكندرية ثم معقل المحمودية . وقد يمرون بثلاثة معاقل حتى يصلوا بغداد . ولم تكن المسافة بين معقل وآخر لتتجاوز الثلاث ساعات . وبلغ الحال بها من السوء درجة أن أصبحت القوافل مهددة في أقل من هذه المسافة . وأصبح الصعاليك يضربون الأتاوة على ما يتمكنون من استيفائه . اذ لم تكن هناك قوة حازمة لتردعهم . فهؤلاء الزكاريت وليسوا هم الا من صعاليك البدو كانوا يجبون بما في بساتين كربلاء من التمر . وقد وصل الأمر من السوء درجة انه اذا اعترض أحد الأهالي عليهم أو تكلم عنهم بسوء فسوف يصبح وهو لا يملك من نفسه ولا أرضه شيئاً . وربما أجبروا الأهلين الى تفويضهم حق امتلاك بساتينهم . فكم ترك الاهالي لهؤلاء الصعاليك من الأراضي والبساتين اذ لليوم تطلق أسمائهم على القطع التي اغتصبوها . فليت شعري ان كان هذا حال صعاليكها ومستضعفيها . فبالله ماذا يكون من أمر أهل عدتها وعدديها . فلا نستغرب اذن من أنهم قد ألقوا الذعر والفزع في نفوس أهل المدن الكبرى اذ أن لعصبياتهم وتحزبهم صار شرهم لا يطاق لنهب كل عشيرة ما يجاورها من النواحي والأقضية والمدن لزبيد الحلة وتوابعهاإذ إن موطنهمالجزيرة بين النهرين . ولخزاعة حسكة وتوابعها وموطنهم الديوانية ـ على انها إتخذت ديواناً لرؤسائهم ـ وللمنتفق البصرة لقرب موطنهم منها . ولبني لام بدرة وجصان ، وقد وصلت بغداد غاراتهم . وللضفير الذين هم من البدو الرحل عند ورودهم العراق : السماوة والرماحية . ولشمر كل العراق اذ انهم لا يأوون الى محل يختص بهم دون غيرهم . ولربما اتفق هؤلاء جميعا وشاركهم من هم على شاكلتهم في حصارهم
للمدن . وقد صادف في بعض السنين أن ورد من الايرانيين الى كربلا بقصد الزيارة ما ينوف عددهم على الاربعين ألف زائر ، وفيهم زوجة شاه ايران . فتحركت عليهم أطماع العرب . فاتفقت : خزاعة وزبيد وشمر وآل ضفير الى نهبهم . فقصدوا كربلاء وحاصرواها مدة من الزمن ولوجود زوجة الشاه بينهم . خاف سعيد باشا والي بغداد حينذاك من عواقب الأمور . فاهتم لذلك وبعث داود الذي صار واليا على بغداد بعد حين لما عرف فيه من الكفاية والبسالة والاقدام . اذ كان ذلك باديا على محياه من نعومة اظفاره فقام داود بالمهمة التي عهدت اليه . اذ جرد ما تمكن من تجريده من المتطوعة ونزل الحلة الى أن تمكن بعد جهد جهيد من ردع هؤلاء الأعراب وتفريق جمعهم . فسير مع الفرس من يخفرهم الى النجف ثم أعادوهم الى بغداد وأوصلوهم الى مأمنهم . ومما زاد في الطين بلة أخذت العشائر تغزو بعضها بعضاً . كما هو الحال الى اليوم داخل جزيرتهم لخلو فيافيها القاحلة من الحراثة والزراعة فلم ير أهلها طريقاً للعيش سوى غزو بعضهم بعضاً . وحيث انهم كانوا حديثوا عهد بالنهب والغزو . ولم يكن بعد قد أصبح ذلك عرفاً بينهم . فصاروا يتوسلون بكل وسيلة ـ مهما كانت طفيفة ـ من شأنها أن تثير الفتن بينهم . حتى يتخذوا منها ذريعة لغزو بعضهم بعضا . فان ذلك بها لا يعد لكثرته ، فما وقع بين المنتفق وخزاعة فيما يلي السماوة كان من تلك الغارات . وكان لذلك يوما مشهودا انتصرت فيه خزاعة على المنتفق . وعلى مر الايام أصبح الغزو والغارة عادة لا ينكر شأنها . حتى ان البدو الذين هم داخل الجزيرة العربية كانوا عنه قدومهم العراق يغزون مواقعها لتقرر ذلك اذ ان الأمر صار بينهم سنة وعادة . وما وقع لأهل البادية بها لا يحصى عده وقد أدركنا جملة منها . هذا وقد بلغ الحال بها من التأخر درجة بحيث صار الدور الاول من سير
ادارة حكم الولة العثمانية دور عمران وتقدم اذا قيس بهذا الدور . وختم هذا الور بسقوط داود باشا الذي حكمها بضع سنين مستقلا عن نفوذ العثمانيين . ولولا ما داهمه القضا في تدمير جيوشه بانتشار مرض الطاعون والوباء بينهم . لكان خطره على الدولة العثمانية تلو ما دهم العثمانيين من القائد المصري محمد علي . فذهبت مساعيه أدراج الرياح وقد أخذ أسيرا الى العاصمة وترك هناك تحت اسم ( شيخ الوزراء ) ثم بعث شيخا لحرم الرسول المكرم صلى الله عليه وآله وسلم . فقام بتلك الوظيفة المقدسة أخريات أيامه الى أن أدركه حمامه ، فقبر في بقيعها . هذا وقد تدفقت الحياة مجددا بأوصال العثمانيين الخامدة عندما قام أحد سلاطينهم أبو السعود محمود الى قتل الينكجرية لسنة احدى وأربعين بعد المأتين والالف الهجرية . وقبض بيد من حديد على أمور الدولة . فأوقفها من هوة تقهقرها ، وسعى لاعادة شأنها واصلاح أمورها . عطف عند ذلك نظره على العراق وأنقذها من يد المتغلب عليها داود . بعد أن فوض شؤون ادارتها الى اللاز علي رضا . الا ان العراق لم يتزود من تفقداته بسوى ذلك ، اذ اختطفته يد المنون فقام ولده عبد المجيد مقامه فكان مما هيئ له من أسباب السعادة أن عاصره المصلح الكبير الاول وأوحد رجالاتهم مصطفى رشيد ، فألبس دولته لباس الحضارة وأعاد اليها أبهة النضارة . فأنار العراق بظهور آثار الدور الثالث من سير ادارة الحكم العثماني للعراق . ابتدأ هذا الدور بعد سقوط داود وولايت اللاز علي رضا عند مفتتح السادس والاربعون بعد المأتين والألف ، فقام هذا الوزير بشؤون اصلاح
أمور العراق ، ولم شعثها من ترك حاميات الجند في البلاد ، وقد نصب الحكام بها وبذل الجهد في سبيل تأمين السبل والطرق الا انه لم يدرك المقصود للهوى الذي كان في نفوس أهليه ، وما كان لهم من الاستحقار للقوة الحاكمة . اذ ان النفوس قد شرأبت الى الحرية عند زمن الانحلال في أواخر الدور الثاني وزاد ذلك أن بعض الولايات التي استقلت في عهد داود قد بقيت على انفصالها وخلاصة القول : ان أيام علي رضا على طول زمنها لم تنتج تمام ما قصده . الا انها انصرمت بهدوء وسلام . وفي أواخر أيامه توفي السلطان محمود وقام مقامه عبد المجيد . وانشغل بادئ أمره في استرجاع البلاد الشامية . وانتهى الامر الى عقد الصلح وختم الامر بينه وبين المصري محمد علي . ثم عطف نظره نحو العراق ، وبعث للقبض على زمام أمورها محمد نجيب فأدرك هذا بذكائه ما حبس التوفيق عن سلفه اذ لم تأت بطائل اصلاحته لما في الأنوف من الشمخرة والخيلاء . فقصد أولا الى تأديب بني حسن والفتقة وطفيل داخل قضاء الهندية ، فاقتصر في حربهم على حبس جريان ماء فرات عنهم ومنعه من السيلان في شط الهندي اصف الدولة الا انه لم يقف على طائل بالرغم من تكبده لخسائر فادحة وعالج ذلك بنفسه الا أن الطبيعة كانت أقوى منه اذ انفلق السد ولم يمتثل الماء لأمره . ثم ساق جيوشا يرأسها سعد الله أحد قواده وأمرهم بمحاصرة كربلاء واباحتها ، في واقعة سنأتي بتفصيلها ، فهابه العراقيون عندما توالت على الأطراف هجماته . فتسنى له من اجراء بعض الاصلاح من التشكيلات في ألويتها وأقضيتها ونواحيها من نصب أمراء وترك الجمد في البلاد .
على ان القصد الذي أنا في سبيل تدوينه عسر السلوك مع اشتهار حوادثها كحادثة الوهابي والمناخور ، وحادثة نجيب باشا وعلي هدله لكن ليس بالأيدي ما يعول عليه ، ولا من يعتمد عليه ليصح النقل عنه . فاليك مثلا الواقعة الاخيرة المنسوبة لعلي هدله . فقد وقعت لسنة ثلاث وتسعين بعد المائتين والألف الهجرية . ولم يكن من لم يدركها . أو لم يشاهدها بل ان جل الأهلين قد شاركوا فيها أو شاهدوها عن كثب . فمع شدة تحرياتي لم أقع على مدرك يمكن التعويل عليه وضبطه سوى الكليات . فقد وقفت على رسالتين في المناخور احدهما عربي العبارة غير انه على غير ترتيب (1) والثاني فارسي العبارة (2) . الا انه أشبه شيء بالروايات منه بالوقائع التأريخية لشخص عاصر تلك الحادثة . ورسالة في واقعة نجيب باشا منظومة من بحر الرجز فارسية للميرزا زكي حسين الهندي ، وهو عند الحادثة شاهدا وقائعها . وأما أخبار نهب ابن مسعود بها . فقد وقفت على بعض حزادثها ضمن أخبار العلماء وتراجمهم ومرثية للشيخ محمد رضا الازري . وقد بلغني ان لوقعة علي هدله رسالة مدونة لبعض الأفاضل ، أرجو من الله أن يمكنني منها لكي اتمم بها قصدي . وعليه التكلان . حتى اذا جاءت سنة 1216 هجرية جهز الامير سعود الوهابي جيشا عرمرما مؤلفا من عشرين الف مقاتل وهجم على مدينة كربلاء ـ وكانت على غاية من الشهرة والفخامة ينتابها زوار الفرس والترك والعرب ـ فدخل
سعود المدينة بعد أن ضيق عليها وقاتل حاميتها وسكانها قتالا شديدا ، وكان سور المدينة مركب من أفلاك النخيل مرصوصة خلف حائط من الطين . وقد ارتكب الجيش فيها من الفضائع ما لا يوصف . حتى قيل : انه قتل في ليلة واحدة عشرين الف شخص . وبعد ان أتم الأمير سعود مهمته الحربية التفت نحو خزائن القبر وكانت مشحونة بالاموال الوفيرة وكل شيء نفيس ، فأخذ كا ما وجد فيها وقيل انه فتح كنزا كان فيها جمة جمعت من الزوار . وكان من جملة ما أخذه لؤلؤة كبيرة وعشرون سيفا محلاة جميعها بالذهب ومرصعة بالحجارة الكريمة . وأوان ذهبية وفضية وفيروز والماس وغيرها من الذخائر النفيسة الجليلة القدر . ومن جملة ما نهبه ابن سعود أثاث الروضة وفرشها منها 4000 شمال كشميري و 3000 سيف من الفضة وكثيرا من البنادق والاسلحة . وقد صارت كربلاء بعد هذه الواقعة في حال يرثى لها ، وقج عاد اليها بعد هذه الحادثة من نجل بنفسه فأصلح بعض خرابها وأعاد اليها العمران رويدا رويدا (1) .
|