بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 1

بغية النبلاء
في
تاريخ كربلاء
تأليف

السيد عبد الحسين الكليدار آل طعمه

سادن الروضة الحسينية
حققه

عادل الكليدار

مطبعة الإرشاد ـ بغداد


بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 2




بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 3

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين مالك يوم الدين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الغر الميامين .
وبعد فيقول العبد الفقير المعترف بالتقصير الراجي رحمة ربه القدير : عبد الحسين بن علي بن جواد الحسيني الموسوي الحائري ( آل طعمه ) ، وفققه الله لمراضيه ، وجعل مستقبل أيامه خيراً من ماضيه : قد كنت مولعاً من نعومة اظفاري وصدر شبابي بعلم ما بلغ اليه وسعي مما تفضلل الله سبحانه علي من أمهات الكتبب العربية التي ألفت ، قديماً وحديثاً .
وحداني الشوق ضمن ذلك ، البحث عن حوادث بلدتي ومسقط رأسي ، وقد حز في نفسي أن أرى ما ألف للبلدان من التواريخ . حتى ان القرى والقصبات لم يهملوا شأنها ، وشرف قدسية هذه المدينة وشهرتها لم يدون لها كتاب يعرب عن مبدئها ، وعن تأريخها الحافل بالحوادث الخطيرة . فلذا لم يقر لي قرار حتى وفقني الله الى التصدي لتدوين تأريخ هذه المدينة الخالدة ، وسميته بـ ( بغية النبلاء في تأريخ كربلاء ) .

بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 4




بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 5

تأريخ كربلاء منذ القدم الى

القرن الثالث عشر

لم تكن كربلاء في المعهد القديم قبل الفتح الاسلامي بلدة تستحق الذكر ، ولم يرد ذكرها في التاريخ الا نادرا ، وأكثر ذلك في عرض الكلام عما كان يقع في الحيرة وقرية الطف من الوقائع ـ بل كانت هي قرية بسيطة عليها مزارع وضياع لدهاقين الفرس ، وكان سكانها أهل حراثة وزراعة .
كربلاء بالمد : ذكر ياقوت في المعجم (1) حول اشتقاقه من كربله رخاوة في القدمين ، جاء يمشي مكربلا ، وعلله لرخاوة أرضها وتربتها ونقاء حنطتها واستشهد :
يحملن حمراء رسوبا بالنقل قد غربلت وكربلت من القصل

قال : والكربل (2) اسم نبت الحماض واستشهد بوصف أبو وجزه لعهون الهودج :
وثامر كربل وعيمم دفلى عليها والندى سبط يمور
من الممكن أن تكون قيمة لما علل ، ان لم تكن أصل اللفظة أعجمية (3) .

(1) معجم البلدان لياقوت الحمودي ج 7 : ص 229 .
(2) جاء في تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي ج 8 ص 97 . عدة وجوه في اشتقاق لفظة كربلاء منها يقول من كربل بالفتح قيل هو نبات له نور أحمر مشرق اذ يقول أبو حنيفة في ذلك :
كان جني الدفلي يخشى خدورها ونوار ضاح من خزامى وكربل
(3) راجع أيضاً حول اشتقاق لفظة كربلاء : لسان العرب لابن منظور ج 11 ص 587 ط بيروت والصحاح للجوهري ج 5 ص 1810 . ومجالس المؤمنين للقاضي نور الله الشوشتري ص 25 . والبستان للشيخ عبد الله البستاني ج 2 . ص 267 .
بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 6

وأورد عند ذكر الكوفة (1) عن السبب الذي بعث على اتخاذ موقعه معسكراً ، قال : على أثر الفشل الذي مني به القائد الاعلى سعد بن أبي وقاص والموفقية التي حازها خالد بن عرفطة في فتح ساباط أولا ، ثم استتبعه فتح البقية المدائن عاصمة الدولة الساسانية ، وتكلل فوز المسلمين بأكاليل النصر ، وتم لهم الغلبة ، أرغم يزدجرد الملك بالانسحاب والتقهقر مقهورا الى اصطخر ، فارس ، عطفوا عندها باتخاذ قاعدة تكون معسكرا لهم على تخوم الجزيرة ، فاختاروا كربلاء ولتمنع ساكنيه من التسليم والخضوع لارادتهم قصدهم خالد بن عرطفة وفتح كربلاء عنوة وسبى أهلها ، وقسم سعد أرباضها بين أصحابه ، ونزل كل قوم في الناحية التي خرج سهمه بها ، فأحيوها .
فلاطلاق لفظ كربلا على مدده عامرة عند الفتح ، لابد من أن يكون جاهلي الاصل وبزعم مجوس دور الفهلوية ومعتقدهم كان بيت نار ، على ما ذكره مؤلف ( دبستان المذاهب ) (2) ، يطلقون لفظة بـ ( كار بالا ) ومعناه : الفعل العلوي ، فعرب بكربلاء .
ومن المحتمل ان المسلمين خففوا لفظ كربلا من كور بابل كما خففوا لفظ بورسيا بلفظ برس ، وهو لغة نبطي بابلي ، على ان كربلا ومطلق القطع المتلاصقة ببعضها هي ضواحي القسم الغربي من مدينة بابل .
في مبدأ الفتح في عهد خلافة أبوبكر ، عندما هادن أهل الحيرة ـ دهاقين الفرات الاوسط ـ خالد بن الوليد ، شكا عبد الله بن وثيمة النصري ذباب كربلاء ، وقال رجل من أشجع :

(1) معجم البلدان ج 7 ص 296 ، طبعة مرجليوث .
(2) راجع حول مؤلف هذا الكتاب ـ الذريعة الى تصانيف الشيعة للعلامة الشيخ أغا بزرك الطهراني .
بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 7

لقد حبست في كربلا مطيتي وفي العين حتى عاد غثاً سمينها
اذا رحلت من منزل رجعت له لعمري وأيها انني لأهينها
ويمنعها من ماء كل شريعة رفاق من الذبان زرق عيونها (1)

وتناقلت الألسن أنباه الشكوى والشعر وأحيط بعلم الخليفة عمر بن الخطاب في حينه فعند وصول كتاب سعد يخبره بما قام به ، لم يرتضه للمسلمين معسكراً . وأمر سعد بتحويلهم ونقلهم منها ، فحولهم سعد من كربلاء الى سوق حكمه (2) ، ويقال الى كويفة ابن عمر دون الكوفة (3) .
فأغفل ذكر كربلاء بعدها . الى أن ولي أمير المؤمنين علي سلام الله عليه الخلافة فوردها عند مسيره لحرب معاوية في سهل صفين ، فوقف عندما بلغ هذه الارض (4) وأخبر عما سيكون لولده الحسين ـ ع ـ من الحوادث

(1) تأريخ الطبري ج 4 . ص : 192 ، ومعجم البلدان ج 7 ص 229 ط مصر .
(2) صوق حكمه : بالتحريك موضع بنواحي الكوفة . نسب الى حكمه بن حذيفة بن بدر . وكان قد نزل عنده ( معجم البلدان ج 5 . ص 176 ) .
(3) معجم البلدان ج 7 ص 396 .
(4) وقد ورد ان سلمان الفارسي الصحابي الجليل قد مر بها عند مجيئه من المدينة اذ يحدثنا الكشي في رجاله ( ص 24 ) في سنده عن ابن نجيه الفزاري . قال : لما أتانا سلمان الفارسي قادما فتلقيته ممن تلقاه فسار حتى انتهى الى كربلاء فقال : ما يسمون هذه ؟ قالوا : كربلا . فقال : هذه مصارع اخواني ، هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم وهذا مهراق دمائهم . قتل بها خير الاولين ، ويقتل بها خير الآخرين ، ثم سار حتى انتهى الى حروراء . فقال ما تسمون هذه الأرض ؟ قالوا : حرورا ، فقال : خرج بها شر الاولين ويخرج بها شر الآخرين . ثم سار حتى انتهى الى بانقيا وبها جسر الكوفة الاول ، فقال : ما تسمون هذه ؟ . قالوا : بانقيا . ثم سار حتى انتهى الى كوفة . قال : هذه الكوفة ! قالوا : نعم ، قال قبة الاسلام » انتهى أقول : هذا الترتيب الذي ذكر لسلمان عند قدومه العراق ، لا يصح الا للوارد الى العراق من الشام لا من الحجاز ، اذ بانقيا على ما ذكر أرباب كتب الفتوح تقع على سيف البادية على خط الحيرة قريبة من أرض النجف ، ثم يتلو بانقيا الكوفة ثم كربلاء ثم حرورا . هذا وسلمان لم يقدم =
بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 8

والشئون فيها . والمستفاد من ذلك لم يكن محل موقفه الذي وقف فيه واخبر عن ذلك سوى صحراء خالية لا أثر بها خلا بعض نخيلات (1) . على إن هذا لا يكون دليلاً قاطعا على عدم وجود عمران وأبنية فيها . اذ من الجائز أن تكون الوقفة الشريفة على بعض نواحيها لا نفس موقعها . أو أنه من الجائز أن أخذت الى الخراب والدثار بعد ترك سعد بن أبي وقاص لها ، وتحوله عنها الى موضع الكوفة ، بعد أن سبا أهلها ، فلم يسكنها أحد بعد ذلك اللهم الا بعض الصعاليك . وأخذت الى التقهقر يوما بعد يوم حتى أن قضت آخر أدوارها في زمن وجيز .
هذا ورغما على مر كرور الليالي والايام عن بعد ذلك الزمن الشاسع واهمال المؤرخين والجغرافيين عن تعريف موقعها . حفظ لنا يد التواتر محلها وأقام براهينه وجود الأطلال والهضبات الحاكية لنا عن قديم آثارها .
يوجد اليوم على ما بلغني على بعد بعض أميال في القسم الشمالي الغربي من مدينة كربلاء باتجاه ضريح الحر بن يزيد الرياحي في أرض القرطه والكمالية . أكم وأطلال قيل انها كربلاء الأصلية . وقبل سني الحرب العالمية الاولى كان بعض أفراد من مطره يستخرجون من نفس الأطلال طابوق فرشي ضخم سلطاني يحملونه على حميرهم الى كربلاء لبيعه على الأهلين كوسيلة للعيش والارتزاق ( وأذكر في هذا الخصوص ان السيد كاظم العطار كان مشغولا ببناء داره الواقعة في حارة باب الطاق مقابل امام بارة الأميرة تاج داربهو الهندية . يبتاع منهم لبنائه ) (2) .

= العراق الا من الحجاز . واختلفوا في سبب قدومه ، اذ ذكر البعض انه حضر غازيا فتوح ايران . بينما يذكر العلامة النوري في ( نفس الرحمن في فضائل سلمان . طبع حجر ) : توجه سلمان من المدينة الى المدائن واليا عليها في خلافة ابن الخطاب بعد ما عزل حذيفة عنها .
(1) ترجمة فتوح ابن أعثم الكوفي ص 16 .
(2) وقد جاء في نسخة أخرى من هذا الكتاب عن موضع كربلاء القديمة ، ما نصه :
فموقع ( كربلاء ) اليوم على ضوء التحقيق الذي قمت به ، واقع على بعد بضع أميال في الشمال الغربي من بلدة كربلاء ـ الحالية ـ مما يلي أرض القرطة ، وهو مكان مرتفع يسمى باصطلاح اليوم : الظهيرة أو العرقوب . ويبعد موقعها عن قبر الحر بم يزيد الرياحي حوالي سبعة آلاف متر . ( وتعود ملكيتها اليوم لآل بحر العلوم القاطنين في هذه البلدة المشرفة ) ومنهم السيد جواد أفندي الذي توفي قبل أيام .
وقد جاء في ( نفس الرحمن في فضائل سلمان . للعلامة الميرزا حسين الطبرسي ) عن موضع كربلاء ما نصه : واما كربلا فالمعروف عند أهل تلك النواحي انها قطعة من الارض الواقعة في جنب نهر يجري من قبلي سور البلدة ، يمر بالمزار المعروف بابن حمزه . منها بساتين ومنها مزارع والبلدة واقعة بينها ) اقول : يا لله ما لشيخنا الجليل قدس سره أن يخوض ما يقصر عنه علمه . وكيف يعتمد على من لا علم لهم ويعول عليهم بالتحقيق . فأين النهر الذي يجتاز قبلي سور البلدة . واذا قصد نهر الهندية فأين بعده عن السور وأين قبر ابن حمزه عنه . وما قبر ابن حمزه الا على شرق السور بمسافة . وان قصد نهرها لم ينطبق مع الحقيقة . نعم على موضع قلعة ناصر علي خان اللاهوري يطلق لفظ كربله لا كربلاء .
بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 9

وفي الجنوب الشرقي من البلدة المشرقة قطعة أرض يطلق عليها اليوم لفظة ( كربله ) بهاء . ويزعم من لا علم له بذلك انها القرية التي كانت عليها المزارع حين ورود أبي عبد الله ( ع ) اليها . ومنها اشتق الاسم لهذه البلدة . وقد بنا بها النواب ناصر علي خان اللاهوري بناء جليلا . وبذل الأموال الجزيلة لاعمار هذه القطعة من الأرض بعد أن ابتاعها من الحكومة العثمانية . ولما كانت تتصل بهور السليمانية فقد تكرر اطلاق الماء عليها . وذهبت بمجاسنها ولم يبق بها الا القليل من ذلك . وببنائه اليوم يسكن أحفاده ، وتجرى لهم الارزاق الكافية وهم على كمال السعة .
فلم يعد يحدثنا التأريخ عن كربلاء بعد تلك الواقفة ( أي وقفة أمير المؤمنين ـ ع ـ ) الا بعد مرور ربع قرن من الزمان ولكن هذه المرة

بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 10

بحديث ذي شجون عن أعظم مأساة في تأريخ البشرية . ألا وهي الحادثة الشهيرة بواقعة الطف أو يوم عاشوراء في يوم الجمعة العاشر من محرم الحرام لسنة 61 هجرية التي استشهد فيها سبط الرسول وحبيب البتول الامام الحسين بن علي سلام الله عليهما وجمع من أصحابه رضوان ألله عليهم (1) .
هذا ولم تكن كربلاء عامرة يوم ورود الحسين ـ ع ـ لها يوم الخميس الثاني من المحرم سنة 61 هـج وهو على ظهر جواده على شفير ذلك الوادي الا بعض قرى تحف أطرافها كشفيه والغاضريات ونينوى وماريه (2) والعقر التي بقيت آخر أثر للبابليين لا يزال قائماً . هذا واذا أراد الله شيئاً هيئ أسبابه ، اذ قد قدر أحياء اسم كربلا وبقاء التلفظ بلفظتها . لم يرتض الحسين ( ع ) من أسماء القرى التي أخبروه بها سوى اسم كربلا . اذ عندما طرقت لفظتها مسامعه الشريفة . . ارتضاها من غير تأن ولا توان بحيث كأنه تفوه بلفظتها مع مخبره عن تلك الأسماء . فلم يكد أن قال : هي هي هي والله محط رحالنا ومناخ ركابنا ومسفك دمائنا ، ثم أمر بأثقاله فحطت وبسرادفه فأقيمت . ثم كان من أمره ما كان ليوم التاسع من نزوله سلام الله عليه . كربلا . . . . فأخذت لفظتها بعد وقوع هذا الحادث الأليم مما جرى على بسيط أديمها من ضروب الفضاعة وغلواء صنوف الشناعة من تفنن أهل الكوفة في الاتيان بأنواع الطرق البربرية ، حتى أظهروها الغاية وبلغوا مراتب النهاية في ذلك . بحيث لم يعهدنا التأريخ بمثله منذ أقدم الأعصر الغابرة ، وان قلنا من حين أن عرف النوع الانساني ، لجاز

(1) وتأتي تفصيل هذه الواقعة المروعة في الجزء الثاني من هذا الكتاب .
(2) راجع بشأن هذه القرية والقرى الاخرى التي كانت تحيط كربلاء يوم ورود ابي عبد الله عليه السلام لها في ( الزهر المقتطف في أخبار أرض الطف ) للعلامة المؤلف . وهو مصنف نفيس لا نظير له في موضوعه .
بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 11

ذلك . بما فاضت تلك الأرض القاحلة من دماء الأبرياء الذين ثبتوا في ذلك اليوم في مستنقع الموت . ذباً وراء نفوسهم الطاهرة . واباء عن مديد الذل الكريم انوفهم الحمية ، حتى أعجبوا الملأ الأعلى لعظيم صبرهم فضلا عن أهل البرية .
ومن ذلك الحين ذاع صيت هذه الآفاق وانتشر في الاقطار . وقد جاء ذكرها في أشعار العرب ودواوينهم ، ففي أول بيت شهر وردت لفظتها :
أبكي قتيلاً بكربلا . . . . . . . .
ثم البيت :
غادروه بكربلا صريعاً لا سقى الله جانبي كربلا (1)
ثم تلاها قول السهمي (2) :
مررت على قبر الحسين بكربلا ففاض عليه من دموعي غزيرها
وقوله :
سلام على أهل القبور بكربلا وقل لها مني سلام يزورها
وقول كشاجم :
وأظلم في كربلا يومهم ثم تجلى وهم ذبائحه(3)
وقول السوسي :
كم دموع ممزوجة بدماء سكبتها العيون في كربلاء
وقول منصور النمري (4) :

(1) في معجم البلدان ، الشطر الثاني : لا سقى الغيث بعده كربلا والبيت لزوجة الحسين (ع) عاتكة بنت عمرو بن نفيل في رثائها للحسين .
(2) امالي الشيخ الطوسي ص 148 .
(3) مناقب ابن شهر آشوب ج 4 ص 117 ط . طهران .
(4) زهر الآداب في هامش العقد الفريد للحصري ج 2 ص 272 .
بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 12

بيثرب كربلاء لهم ديار نيام الاهل دارسة الطلول (1)
وقول الزاهي :
وأضحى بكم كربلا مغربا كزهر النجوم اذا غورت

الى ما هنالك من ذكر لفظتها ، وان أردنا استيعاب ذلك لم تسعنا المجلدات لكثرته اذ لم يخل بيت شعر رثي به الحسين (ع) من ذلك .
هذا وموضع تلك الواقعة ، صار مقصد الراغبين وبغية الطالبيين ، بعد قيام الأسديين أهل الغاضريات بدفن الجثث الطاهرة ، والأجساد المضرجة بالدماء التي أريقت بسيف البغي والعدوان . الا ان أشلائهم بم تقبر كلها في صعيد واحد . اذ لم ترض بنوا تميم ترك شلو صاحبهم الحر بن يزيد عند تلك الاشلاء ، أخذوه الى موضع قبره المعلوم ، وشلو العباس بن علي (ع) ترك على المسناة على شاطئ العلقمي لتعسر الحاقه بجثة أخيه ، اذ كانت أربا أربا . الا ان الحائر محيط بأشلاء بقيتهم . وليس اليوم علما يركن اليه للوقوف على حفرهم ، سوى الحسين (ع) وولده المقتول بين الشهداء كأنهم اقبروا فيه . وعلم يشير الى ضريح حبيب بن مظاهر الأسدي .
فكان أول من زار الحائر بعدما حازت تربتها تلك السعادة الأبدية ، عبيد الله بن الحر الجعفي (2) لقرب موضعه منها ـ اذ كان على الفرات ـ

(1) في بحار الأنوار للمجلسي ( ج 45 ص 289 ) : بتربة كربلاء .
(2) وقد وردها المختار ابن أبي عبيدة بعد رجوعه من الحج . وسلم على القبر ، وقبل موضعه ، وأخذ بالبكاء وقال : يا سيدي قسما بجدك وأبيك وأمك الزهراء وبحق شيعتك وأهل بيتك ، قسماً بهؤلاء جميعاً أن لا أذوق طعاماً طيباً أبداً ، حتى انتقم من قتلتك » . عن مجالس المؤمنين ص 172 .
بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 13

وقف على القبر الشريف واستعبر باكياً متأوها كمدا على ما فاته من القيام بالسعادة وفوزه بمراتب الشهادة بين يدي سيد السادة . منشدا أبياته الشهيرة التي يقول فيها (1) :
فواندمي أن لا أكون نصرته ! ألا كل نفس لا تسدد نادمه !
وإني لأني لم أكن من حماته ، لذو حسرة ما إن تفارق ، لازمه !
سقى الله أرواح الذين تآزروا على نصره سقياً ، من الغيث ، دائمه !
وقفت على أجدائهم ومحالهم فكاد الحشى ينقض والعين ساجمه
لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى سراعاً الى الهيجا حماة ضبارمه
تأسوا على نصر ابن بنت نبيهم بأسيافهم آساد غيل ضراغمه
فان يقتلوا فكل نفس زكية ، على الأرض قد أضحت لذلك واجمه
وما أن رأى الراؤن أصبر منهم لدى الموت سادات وزهراً قماقمه

واللوم ابن زياد وعتبه اياه لعدم رؤيته لذلك المشهد الفضيع ، فقال يعنيه :
أتقتلهم ظلماً وترجوا ودادنا ؟ فدع خطة ليست لنا بملائمه !
لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم فكم ناقم منا عليكم وناقمه ؟
أهم مراراً أن أسير بجحفل الى فئة زاعت عن الحق ، ظالمه
فكفوا ! والا زرتكم في كتائب أشد عليكم ، من زحوف الديالمه (2)
وعند تحقق خبر شهادته في الأقطار قصدته العقم من النساء ، مائة ألف امرأة ، لما عند العرب من العوائد في المرة التي لا تلد ، أن تحضر

(1) في هامش خزانة الادب للبغدادي ( الطبعة السلفية ) ج 2 ص 138 تعقيب على هذه الابيات هذا نصه : ( غير ان الادبيات الميمية ليست له البته وانما هي للحر بن يزيد الرياحي ، كما هو عند أبي مخنف . فلا أدري هل هذا الوهم من أبي سعيد أو من نساخ كتابه ، أو من البغدادي . . . ) . وهذا زعم باطل مغرض ، اذ ان الابيات نفسها ترد على ذلك . ( عادل )
(2) شرح خزانة الادب للبغدادي . ج 1 : ص 299 . وج 2 ص 139 من ط : السلفيه .
بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 14

قبر رجل كريم (1) .
وقيل التي لا يعيش لها ان أتت الشريف المقتول غدرا ، ووطئت حوله عاش لها (2) . وقد عنى الكميت بن زيد الأسدي ذلك في الهاشميات ، حيث قال :
وتطيل المرزآت المقاليت اليه العقود بعد القيام (3)
وهناك ورد وفد ابن عبد الله الأنصاري جابر في جماعة من الهاشميين ، يوم العشرين من صفر سنة الشهادة . وقد عد البعض ذلك ضرب من المستحيل ان كان واردا من الحجاز لما يستغرق من الوقت لوصول الخبر

(1) بحار الأنوار للمولى ذو الفيض القدسي الشيخ محمد باقر المجلسي . ج 22 : ص 124 .
(2) بلوغ الارب في معرفة أخبار العرب لمحمود شكري الآلوسي في 2 : ص 351 .
(3) قال ابن السكيت ان العرب كانت تقول : ان المرأة المقلاة ـ وهي التي لا يعيش لها ولدا ـ اذا وطئت أرض القتيل الشريف عاش ولدها .
قال بشر بن حازم :
تظل مقاليت النساء يطانه يقلن ألا يلقى على المرء مئزر
وقال أبو عبيده : تتخطاه المقلاة سبع مرات ، فذلك وطؤها له .
وقال ابن الاعرابي : ويطاؤن حوله ، وقيل انما كانوا يفعلون ذلك بالشريف يقتل غدرا أو قودا .
وقال آخر :
تركنا الشعثمين برمل خبت تزورهما مقاليت النساء
وقال آخر :
بنفسي الذي تمشي المقاليت حوله يطاف له كشحا هظيما مهشما
وقول آخر :
تباشرت المقاليت حين قالوا : ثوى عمر بن مرة بالحفير
( شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 : ص 439 ) .
بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 15

الى المدينة ثم مجيئهم الى كربلاء . ولا يمكن تعليل ذلك الا بوجود جابر في محل قريب من كربلاء عند بلوغه الخبر فأمكنه الوصول في ذلك اليوم ـ أو انه قد وفد في السنة التي تلت سنة الشهادة . هذا وعندما بلغ جابر الغاضرية ، اغتسل في شريعتها وتقمص بأطهر ثيابه ، وتطيب بسعد كان مع صاحبه عطاء . ثم سعى نحو القبر الشريف ، حافي القدمين وعليه امارات الحزن والكآبة ، حتى وقف على الرمس الكريم ، انكب ووقع مغشياً عليه . . . وعند اقامته من غشوته ، سمعه عطاء يقول : السلام عليكم يا آل الله (1) .
ثم ذكروا ملاقاته للسجاد علي بن الحسين ( ع ) ـ في ذلك اليوم ـ مع أهل بيته راجعاً من الشام ، وهو حامل للرأس الشريف وسائر الرؤوس لالحاقها بالخبث الطاهرة ـ أو الرأس الشريف فقط ـ بعد اطلاق سلبيهم من قيد الأسر . ان التصدي لتوثيق صحة هذا الخبر وتأكيده ، لهو من الاستحالة بمكان . اذ كيف تسنى للسجاد بطي الارض بهذا الزمن القصير ، مع ما هم عليه من المصائب والحزن على استشهاد الحسين ـ ع ـ حيث قادوهم من ساحة كربلاء الى الكوفة وبقائهم بها مدة استئذان ابن مرجانة طاغيته ( يزيد ( في حملهم اليه . وتسييرهم بعد صدور ارادة يزيد وقد ساروا بهم على طريق الفرات ، واجتازو بهم حلب حتى دخلوا بهم الشام في اليوم السادس عشر من ربيع الاول على ما نص عليه عماد الدين الحسن بن علي الطبرسي في كتابه الموسوم بـ : الكامل البهائي ( 61 صنيع الدولة ) . مع انه لم نقف على مدة اقامتهم بالشام . الا وقد ورد انهم أقاموا شهرا في موضع لا يكفهم من حر ولا برد ( بحار ج 21 : ص 203 ) فنرى من ذلك انه من الصعوبة بمكان قدوم السجاد وأهل بيته من الشام في نفس السنة التي استشهد فيها الحسين وفي نفس ذلك اليوم . ولا يمكن تعليل

(1) بحار الانوار ج 21 ص 203 .
بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 16

ذلك ، سوى ما ذكرناه من تعليل لمجيء جابر لكربلاء وهي ورودهم لها في السنة التي تلت الحادية والستين . ولم يتعرض المفيد قدس الله روحه الى ذكر ورودهم كربلاء بعد اطلاق سبيلهم الا ان السيد ابن طاوس قال : « أمر يزيد برد الأسرى وسبايا الحسين عليه السلام الى أوطانهم بمدينة الرسول ، وأما الرأس الشريف ، روى انه اعيد فدفن بكربلا(1) مع جسده الشريف » . ومن الغريب ان ابن طاوس قد ذكر العبارة السالفة بعد أن ذكر تمنع يزيد عندما أراد السجاد رؤية وجه أبيه ، فضلا عن اعطائه اياه . واعتذر بعد أن أورد لفظ الحاق الرأس الشريف بالجسد الطاهر بهذه العبارة « وكان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار اليه . ورويت آثار كثيرة مختلفة غير ما ذكرناه ، تركنا وصفها كل لا ينفسخ ما شرطناه » . ثم أوصل كلامه بهذه الجملة : « ولما رجعت نساء الحسين ـ ع ـ وعياله من الشام وبلغوا العراق قالوا لله ليل مر بنا على طريق كربلاء . فوصلوا الى موضع المصرع فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجالا من آل رسول الله صلى الله عليه وآله قد وردوا لزيارة قبر الحسين ( ع ) . فوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد واجتمع اليهم نساء ذلك السواد فأقاموا على ذلك أياما » (2) .
ومع هذا لم تكن كربلاء في القرن الاول الهجري عامرة ، مع ما كان في أنفس الهاشميين وشيعتهم من شوق ولهفة في مجاورة قبر سيد الشهداء لم يتمكنوا من اتخاذ الدور واقامة العمران خوفا من سلطان بني أمية .
وقد أخذت بالتقدم في أوائل الدولة العباسية ، ورجعت القهقري في

(1) سيأتي تفصيل ما قيل في محل الرأس الشريف ، وفصل القول به ، في الجزء الثاني من هذا الكتاب .
(2) اللهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاوس ص 176 .
بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 17

أيام الرشيد (1) . وقد ازداد خرابها في أيام المتوكل لأنه هدم قبر الحسين ( ع ) فرحل عنها سكانها .
ثم أخذ الشيعة في أيام المنتصر يتوافدون الى كربلاء ويعمرونها . ( وكان أول علوي سكنها ، وهو تاج الدين ابراهيم المجاب حفيد الامام موسى بن جعفر عليهما السلام ، وقد وردها في حدود سنة 247 هجرية ) . واتخذت الدور عند رمسه ، وقامت القصور والأسواق حوله ولم يمض قرن أو بعض قرن ، الا وحول قبره الشريف مدينة صغيرة بها آلاف النفوس .
وقد زارها السلطان عضد الدولة بن بويه (2) سنة 370 هجرية ، وكانت قرية عامرة بالسكان ، وعدد من جاور القبر في ذلك العهد من العلويين فيها خاصة ما يربوا على ألفين ومائتين نفس . فأجزل لهم عضد الدولة في العطايا ، وكان ما بذل لهم مائة ألف رطل من التمر والدقيق ومن الثياب خمسمائة قطعة (3) .

(1) راجع الفصل الموسوم بـ : ( أخبار عن الحائر وزائريه ) .
(2) فرحة الغري : ص 59 .
(3) وقد زار كربلاء من البويهيين : عز الدولة عام 366 هـ مع ابن بقية بعد أن استخلف على بغداد الشريف أبا الحسن محمد . ( تكلمة تأريخ الطبري للهمداني ، ص 231 ) .
وفي سنة 369 هـ في زمن عضد الدولة ـ أطلقت الصلات لاهل الشرف والمقيمين في المشهدين الغري و ( الحائر ) على ساكنهما السلام وبمقابر قريش ، فاشترك الناس في الزيارات والمصليات بعد عداوات كانت تنشؤ بينهم ( انظر تجارب الامم لابن مسكويه ج 6 ص 407 ) .
وفي سنة 402 هـ واصل فخر الملك الصدقات والحمول الى المشاهد بمقابر قريش والحائر والكوفة ، وفرق الثياب والتمور . ( المنتظم ج 7 ص 256 ) . وقد زارها من البويهيين أيضاً الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة ، وترجل قبل أن يرد المشهد بنحو الفرسخ تعظيما واجلالا لقبر سيد الشهداء . وكان ذلك سنة احدى وثلاثين وأربعمائة . ( الكامل ج 9 . وراجع أيضاً المنتظم ج 8 ص 105 ) . =

الفهرس التالي التالي