تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 101

السلاجقة خلال النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وجرت تعميرات وترميمات إضافة للروضة الشريفة في عهد الجلائريين ، أما النقلة النوعية في عمران وتنمية كربلاء والمشهد لحسيني الشريف ، فقد بدأت منذ عهد ملوك ألأسرة الصفوية وإستمرت في فترات متعاقبة حتى العصر الحديث.
ومن منطلق ما جاء ذكره آنفا، فقد أخذت مدينة كربلاء تسير وفق منطق التاريخ ، والمعطيات العلمية والمؤشرات الدينية، التي برزت على ساحتها بإتجاه أن تأخذ قصب السبق في أن تكون الحوزة الرائدة وأن تحظى بالمرتبة ألأولى بين الحوزات العلمية الرئيسة لعلماء الشيعة ، ولم يكن حتى عذا الوقت قد ظهر ما يشير إلى مصطلح الحوزة ، بل كانت هناك حلقات درس وبحث تعقد هنا وهناك ، لكن ظهور هذا المصطلح وتبلوره ورواجه بين علماء ألإمامية لم يتحقق إلا بظهور المؤسسة العلمية الدينية في النجف.
بيد أن مهد العلم والمعرفة في هذه الحقبة الزمنية ، كان في بغداد بوصفها عاصمة للخلفاء العباسيين ومركزا متألقا للعلم، لتوفرها على المدارس الكبيرة والمعاهد العلمية المتقدمة مثل : مدرسة المستنصرية التي كانت تقف في قمة المعاهد العلمية في ذاك الوقت.
ومن جملة العوامل الرئيسية التي دفعت لعلماء اشيعة لكي يتوجهوا إلى بغداد للدراسة وتحصيل العلم فيها، إضافة إلى جاذبيتها العلمية القوية ، هو أن النواب ألأربعة للإمام المهدي المنتظر آخر أئمة الشيعة عليه السلام ، كانوا يقطنون فيها أو يترددون عليها من مدينة سامراء ، حيث مقر ألإمام الحسن العسكري وموقع إنطلاق المهدي المنتظر عليه السلام نحو غيبته الصغرى ، ومن ثم إلى غيبته الكبرى التي إستمرت حتى يومنا هذا.
ولكن عندما توفى آخر نائب للإمام المهدي المنتظر، وحلت غيبته لكبرى كان لا بد من ظهور علماء مجتهدين يتولون مهمة تسيير وتوضيح شؤون الناس الدينية والروحية ، من منطلق إنهم نواب للإمام الغائب وبصورة غير مباشرة ، وذلك تطبيقا لمقولة ألإمام المهدي نفسه عليه السلام و «وأما الحوادث

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 102

الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة ألله» .
ومن هنا وكما اشرنا من قبل ، لزم رجوع الناس إلىالعلماء المجتهدين حتى يحين موعد ظهور ألإمام الغائب عليه السلام بإذنألله . فكان أن برز طلائع الفقهاء المجتهدين والمحدثين منهم رئيس المحدثين الشيخ (الصدوق) صاحب المؤلفات الكثيرة والمتوفى سنة 381 هـ ، ورئيس الملة أبو عبدالله محمد بن النعمان (الشيخ المفيد) المتوفى سنة 413 هـ ، وذو المجدين علم الهدى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى (الشريف المرتضى) صاحب كتاب«الشافي في ألإمامة» المتوفى سنة 436 هـ ، والعلامة الجليل أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان (الكراجكي) صاحب كتاب «كنز الفوائد» المتوفى سنة 449 هـ ، وشيخ الطائفة عماد الشيعة أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين (الطوسي) المتوفى سنة 460 هـ .
كان مقر زعامة وحلقات دروس وأبحاث هؤلاء في بغداد أو على مقربة منها في الكاظمية ، نظرا لأن التركة الدينية للنواب ألأربعة للإمام المهدي الغائب عليه السلام كانت لا تزال تتفاعل في بغداد ، فكان طبيعيا أن يكون ألأخلفُ قريبين من موقع هذه التركة.
بيد أن مدينة بغداد تعرضت فيما بعد لسلسلة من حوادث الفوضى وألإضطرابات والقلاقل والشغب من جانب الغزاة المغوليين والتتاريين مما سلب ألأمن والطمأنينة من أهليها، وحينما يصبح زمام ألأمن في بلد ما فلتانا وسائبا تنعدم معه ألأرضية المناسبة لظهور وبروز القدرات الذاتية وألإبداعات الفكرية ، ذلك أن الجو المتوتر والمشبع بالهواجس والتوترات والتشنجات النفسية يفقد العقول هدوءها والنفوس طمأنينتها ,ألأفكار نقاءها وبذلك تصبح الحالة غير مناسبة بالمرة، لأن تسير ألأمور وفق مجراها الطبيعي والعادي، خاصة إذا كانت هذه ألأمور ترتبط بالعلم ، حيث أن العلماء وطلاب العلم هم أحوج الناس لجو ألأمن وألإستقرار.
وبفعل الحوادث الدامية وألأجواء المتشنجة والمتوترة على الساحة

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 103

السياسية في ميدنة بغداد، كان طبيعيا يهاجرها العلماء والفقهاء إلى مكان آمن يحظى في نفس الوقت بمظاهر القدسية وآيات التبرك والروحانية، بدليل أن علماء الدين في مسيرتهم العلمية والدراسية ينجذبون عادة إلى ألأماكن المقدسة حيث البيئة وألأجواء تناسب طبيعة العلم الذي يتلقونه كما ذكرت سابقا.
وكان منطقيا جدا أن يتوجه هؤلاء المهاجرون من بغداد إلى مدينة كربلاء، إذ ليس هناك من مدينة مقدسة أخرى تضاهيها في إزدهار العلم والفضيلة ، ثم بفعل تكاثر هؤلاء العلماء وكثرة نشاطاتهم العلمية وتجمع التلامذة حولهم، كان لابد أن تبرز للوجود تلك الحوزة ألصلية التي كان الشيعة وعلى رأسهم علماؤهم ألأفاضل ، يتطلعون إليها منذ وقت طويل.
هكذا كان منطق التاريخ يقضي بأن تصبح كربلاء مقرا ومسرحا لأولى حوزة علمية على أوسع نطاق ، وكانت قد وجدت فيها من قبل أي منذ حوالي قرن قبل هذا التاريخ ، لكن منطق التاريخ شيء ومشيئة ألله شيء آخر.
فالتاريخ عادة يأخذ مساره الطبيعي بمقتضى الظروف السائدة والمؤثرات الجانبية ، لكن هذا المسار العادي يتقطع في فواصل معينة فيصبح مساره عندئذ ذا منعطفات لوقوع حادث مفاجء وغير مرصود وغير منظور بالمرة ، وهنا تفرض المشيئة ألإلهية نفسها ، فتتجلى في حادث أو قرار شخص فيتغير مجرى التاريخ.
إذ أن مشيئة ألله سبحانه وتعالى تبرز وتتجلى دائما في إطار حوادث ووقائع ومفاجئات خارجة عن الحساب والتخطيط، كما تبرز في إندفاعات ألأشخاص وقراراتهم الحاسمة والملهمة لهم بوحي باطني، فعندئذ تكون هذه ألإندفاعات أو القرارات عاملا من عوامل صنع التاريخ . حيث تصبح للأشخاص أدوارهم في هذا الصنع، تبعا لذلك يصبحون اشخاصا تاريخيين

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 104

بسبب انهم غيروا من مسار التاريخ في فاصلة معينة منه ، فاوجدوا له منعطفا تناسب أهميته مع مدى أهمية الحدث أو الدور الذي أدوه.
وتوضيحا في التعبير نقول: إن كل ما يجري في الكون ما هو إلا بمشيئة ألله سبحانه وتعالى ، لكنه جلت قدرته جعل لهذا الجري قانونه وناموسه ، فكل شيء يجري في الكون مبيزان دقيق ووفقا لنظام مخطط بكل عناية وحكمة وبصيرة ،ولكن في أزمنة معينة وبفواصل محددة ، يختل الجري وتضطرب الحركة لفترة ما لحين إنسحابها للنظام المخطط الموزون من جديد، وهنا تتجلى مشيئة جديدة من جانبه عز وعلا، إقتضتها مصلحته، فهو العليم والقدير بكل شيء ، غير أن هذه المشيئة ألإلهية لابد أن تتجسد في شيء ما أو فعل ما ، أي انه لا يمكن أن تبرز المشيئة في الفراغ ، بل يجب ان تتجسد ماديا لتترك أثرها الملموس والمحسوس.
وغالبا ما تبرز هذه المشيئة في قالب أشخاص ، أو في إطار القرارات الهامة التي تصدر عنهم، فألأنبياء والرسل المتنزلون والمبعوثون من عنده هم التجسيد العملي لمشيئته سبحانه وتعالى، كما أن القرارات التاريخية لأشخاص عظام هي التجسيد العملي ، كذلك لهذه المشيئة ألإلهية، إلى جانب الحوادث والوقائع العظيمة التي شهدها التاريخ والتي لم يكن لأبناء البشر أي دور فيها مثل الكوارث الطبيعية وغيرها، صحيح أن لكل فرد دورا في حركة التاريخ التي هي التشكيلة الجامعة لكل أدوار أبناء البشر، لكن دور الفرد في هذه الحركة يختلف من واحد لآخر إنطلاقا من معطيات الفرد نفسه، ويقينا أن دور العلماء ألعظام والشخصيات الكبار على مختلف ألأصعدة هو دور أهم وأكبر لما لهؤلاء من معطيات كثيرة وغنية خدمت وتخدم البشرية بشكل إو بآخر ، بيد أنه يبرز من بين هؤلاء ايضا العباقرة ودعاة قدسيون ومصلحون عظام ، فتكون أدوارهم تاريخية متميزة تماما مثل ألأنبياء وألأولياء الصالحين الكبار ، فهم بأفكارهم وحركاتهم وتصرفاتهم وسيرهم ومواعظهم ونصائحهم يجسدون المشيئة ألإلهية ، لأنهم يتحركون بوحي إلهي إو إلهام رباني، ويفكرون ويتصرفون بوحي إلهي لتكون بالتالي سيرتهم

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 105

إطارا عمليا مجسدا لمشئة الله سبحانه وتعالى.
وعلى كل حال ، كانت بغداد مسرحا لقلاقل وإضطرابات دموية حينما أغار عليها السلاجقة بقيادة ملكهم ألأول طغرل بيك ، وفي هذا الوقت كان العالم الجليل والفقيه الكبير الشيخ أبو جعفر محمد الطوسي يعقد حلقات درسه الزاخرة بالعلوم العقلية والنقلية في منطقة الكرخ على الجانب ألآخر لضفاف نهر دجلة المار من وسط مدينة يغداد ، وكان يجهد في تربية جيل متميز من الفقهاء الربانيين، وكان هو قد تتلمذ من قبل لدى زعيم المذهب الشيعي يومذاك شيخ ألأمة وعلم الشيعة أبي عبدالله محمد بن النعمان الشهير بالشيخ المفيد البغدادي، فكن يلازمه الظل، وعكف على ألإستفادة منه وادرك شيخه (أستاذ ألشيخ المفيد) الحسين بن عبدالله إبن الغضائري المتوفى سنة 411 هـ ، وشارك النجاشي في جملة من مشايخه وبقي على إتصال بشيخه حتى إختار ألله أستاذه لدار بقاءه في سنة 413 هـ ، فانتقلت زعامة الدين ورئاسة المذهبب إلى تلميذه المبرز علم الهدى السيد المرتضى ، فانحاز إليه الشيخ الطوسي ولازم الحضور تحت منبره ، وعنى به السيد المرتضى وبالغ في توجيهه وتلقينه ، وبقي ملازما له طيلة ثلاث وعشرين سنة حتى توفى السيد المعظم علم الهدى سنة 436 هـ ، فإستقل الشيخ الطوسي بألإمامة وتولى الرئاسة.
وقد نال الشيخ الطوسي مرتبة أعلم علماء دهره، وحاز على كرسي الكلام أو بالمصطلح الحديث «منصة المحاضرة» ، والذي كان يجوز به من أثبت جدارته وأهليته لمرتبة أعلم العلماء على ألإطلاق ، وكانت له في ذات الوقت مكتبة عامرة تحتوي على أكثر من عشرة آلاف كتاب قيم جدا، والتي كانت قد أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي، كما كانت تحت تصرفه مكتبة أستاذه السيد المرتضى التي كانت تضم ثمانين الف كتاب.
ومن هنا ، توفرت له مستلزمات زعيم ديني ، وعالم كبير متتبع يشد إنتباه الجميع لشخصيته التاريخية ، وينال محبة وتقدير جموع المسلمين ، ويحظى

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 106

بطاعتهم وإنقيادهم له ، وكان لابد والحالة هذه أن لا يسلم من بطش وتنكيل السلاجقة ، الذين إتخذوا من بغداد مسرحا سهلا لصولاتهم وجولاتهم، ويقتلون ويعتقلون ، يهدمون ويحرقون، وقد أمر ملكهم طغرل بيك بهدم بيت الشيخ الطوسي وإحراق كرسي كلامه ومكتبته العامرة ، ولكن قبل أن يصبح الشيخ نفسه عرضة لتنكيل هؤلاء الغزاة ، قرر الهجرة من بغداد واللجوء إلى أرض النجف، وإلتماس الحماية والوقاية من ألإمام علي عليه السلام حيث مرقده الطاهر الشريف يقع في زاوية من هذه الأرض ، وكان لهذا القرار تأثيره المباشر في تغيير مجرى التاريخ ، إذ تحول ألإهتمام ألأول وألأكبر من كربلاء إلى النجف.

نشأة مدينة النجف:

كانت النجف قبل أن يهبطها رئيس الملة وعماد الشيعة وشيخ الطائفة ، أبو جعفر الطوسي رحمه ألله عام 448 هـ ارض فضاء تخلو من المباني ومن أي شيء ينبئ عن مظاهر التمصر والمدنية ، ولم يكن عليها سوى القبر اشريف للإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام وقريبا من اقبر يقوم مبنى متواضع مخصص لإستراحة الزائرين والوافدين للتشفع به والتبرز بذكر إسمه الكريم، ولم يكن يشقها نهر إو يخضرها زرع أو كلأ، حيث كانت تفتقد لكل عوامل النماء والعمران ، ولهذا لم تمتد لها يد العمران إلا في وقت متأخر جدا، وحتى أن التعمير المتأخر الذي طالها لم يكن ليتحقق إلا لكونها أرضا مقدسة شرفها الله ، بأن تكون حاوية في جوفها لقبر وصي رسوله ألأمين محمد صلى ألله عليه وآله وسلم ولكن ميزتها الرئيسية إلى جانب قدسيتها هي أنها تقع علاى مقربة من مدينة الكوفة العامرة والمزدهرة آنذاك ذات الهواء العليل ، والنخيل وألأشجار، ونهر الفرات العريض الذي يشقها ، فالمسافة بينها وبين هذه المدينة لا تتجاوز أربعة عشر كيلومترا.
وقد يكون قربها من ميدنة الكوفة السبب في التأخير الذي حصل في تعميرها وتحولها إلى مدينة ذات مقومات ذاتية ، نظرا لأن زائري قبر ألإمام علي عليه السلام كانوا يحلون أولا بمدينة الكوفة ، ومن ثم يتوجهون إلى حيث يقوم

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 107

القبر الشريف فيقضون يوما أو نصف يوم ، ثم يعودون إلى الكوفة تمهيدا للعودة إلى مدنهم وقراهم، وإذا كان القلائل من الناس يريدون المبيت إلى جانب القبر الشريف ، فهناك مبنى متواضع بعدة غرف قديمة ونصف خربة يوفر لهم المكان اللازم ، إضافة إلى أن قبر ألإمام علي عليه السلام ، ظل مجهولا أو بألأحرى مخفيا عن ألأنظار لفترة طويلة.
هكذا كانت الحالة في أرض النجف الجرداء القاحلة عندما هبطها شيخنا الطوسي لاجئا ولائذا بقبر ألإمام عليه عليه السلام وهو كعادة الناس ألآخرين إنجذب أولا إلى مدينة الكوفة ، كيث اقام حلقة درسه وشرع نشاطه التدريسي المكثف وأصبح مقره في هذه المدينة يشد إنتباه المسلمين الشيعة وخاصة العلماء والفقهاء وطلاب العلوم الدينية ، لكنه لم يكتفي بذلكبل سعى إلى إنشاء جامعة علمية على أرض النجف قريبا من القبر الشريف.
وكان إنشاء هذه الجامعة وتمركز علماء الدين فيها عاملا أساسيا في خلق موجة هجرة بشرية بإتجاه أرض النجف ، إنطلاقا من القرى والقصبات الواقعة على ضفاف نهر الفرات وفي منطقة الحلة وغيرها من المناطق التي إشتهر أهلها بحب آل رسول ألله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت هذه الهجرة البشرية المتعاقبة هي البداية في مسيرة تعميرها وتشييدها بالتدريج لتبرز إلى الوجود مدينة ذات قدسية متزايدة سميت بإسم أرضها نجف ، والتي بات إسمها يرمز إلى العلم والفضيلة من منطلق إكتضت منذ بداية عهدها بالتمصير ، وفي المراحل اللاحقة حتى يومنا هذا بمجموع العلماء وصفوة الفقهاء وخيرة ألساتذة البارعين ، والمحققين اللامعين ، ومن مختلف الجنسيات ، إضافة إلى انها تضم بابا لمدينة العلم ، فألإمام علي عليه السلام هو الباب العالي لمدينة العلم لقول الرسول محمد صلى ألله عليه وآله وسلم : «أنا مدينة العلم وعلي بابها».
فهذه المدينة بنيت أصلا ومنذ البداية بإسم العلم ، وعلى دعامات الفضيلة والتقى وأقيمت جدرانها ومرافقها بإسم ألله وعلى بركة ألله ، حيث منها تسطع أنوار الشريعة ويجري عبرها ينابيع الحكمة ، وتغطيها بحور العلم وتلفها هالات المعرفة.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 108

ولهذا فإن ميزتها الرئيسية ألصلية هي أنها نشأت ووجدت من أجل العلم والدين ، بسبب أن العلماء هم أول من سكنوها، ومن ثم جلبوا بسكناهم في هذه ألأرض الناس ألاخرين لكي يهيئوا المرافق واسباب العيش ومستلزمات الحياة عليها ، حتى تظل مسيرة العلم والفضيلة دائمة وجارية في ربوعها ، وهي ميزة قلما إكتسبتها مدينة أو بلدة أخرى في التاريخ القديم على أقل تقدير.

أولى حوزة علمية للإمامية:

لقد شاء الله سبحانه وتعالى في أن يكون مقر أولى وأعرق حوزة علمية شيعية بمعنى الكلمة ، في النجف ألأشرف ومن حول مرقد وصي رسوله وخاتم أنبياءه محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهيأ لها من ألأسباب والممكنات ، فكان قرار الشيخ الطوسي بالتوجه إلى الكوفة ، ومن ثم إلى النجف مؤسسا لنواة أعرق حوزة علمية على ارضها.
وقد تكمن المصلحة ألإلهية في ان تصبح أرض النجف عامرة مزدهرة ، وناشطة بالعلم والمعرفة ، وأن تتحول إلى مركز إشعاع ألنوار ألإلهية ، وذلك تكريما وتشريفا لعبده الصفي الزكي التقي الطاهر الأمين وصي رسوله الكريم ألإمام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، إذ لولا هجرة الشيخ الطوسي لها لما كانت ترى العمران وألإزدهار ، ولما برزت شامخة ومرموقة ،وساطعة بأنوار العلم والفضيلة ، حتى بعد عدة قرون، اي أن حركة الشيخ الطوسي كانت حركةإلهية تكمن فيها مشيئة الله سبحانه وتعالى كما نوهت من قبل.
لقد أضحت النجف منذ ان رحل إليها الشيخ الطوسي كعبة العلم وأم العواصم الدينية ، وملتقى العقول ومأوى لعظماء العلماء وكبار رجال التشريع، وزعماء الدين ومراجع التقليد ، فالنجف بالنسبة لهؤلاء مسكن في الحياة، ومدفن عند الممات ، ومن لم يوافه الموت على أرضها أوصى بأن تنقل رفاته إليها تبركا بتربتها وتشرفا بمجاورتها ، وليس في هذه المدينة من عائلة عريقة

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 109

إلا وكان سبب سكناها فيها هجرة علمية أو نقلة دينية.
وهكذا برزت وتجلت وأشرقت النجف بفضل ألإرادة الإلهية ، فحوزتها منذ النشأة ألأولى ومرورا بالقرون الهجرية التسعة ألأخيرة وحتى يومنا هذا كانت ولا تزال مزدهرة وزاخرة بالآلاف من العلماء والفقهاء ، وبالعديد من مراجع التقليد ورؤساء الدين ، ويتخرج من حلقات الدروس الكثيرة والمتنوعة المنتشرة في ارجاءها وزواياها المثات بل ألآلاف من الطلاب المنتهين ، أو ممن نالوا درجة ألإجتها والتفقه الكامل في الدين.
وعلى أية حال كانت حوزة النجف مزدحمة بألأدمغة والعقول المعطاءة ومعرضا لآثارهم العظيمة ،وواجهة لمخلفاتهم الفكرية في الفقه وألأصول ، وعلوم المعقول والنقول.
لقد كانت ولا تزال أمنية كل طالب علم متفوق أن يحظى بشرف المثول بين يدي جهابذة العلم والفضيلة ،واجلاء المحققين والباحثين والمدققين ، الذين تزخر وتعج بهم حوزة النجف ، فتجد بين هذه الصفوة المتألقة ، من ىلت غليه رئاسة الفقه ومن يمسك برأس طبقة المحدثين ، ومن اسندت إليه مهمة التدريس في ألأصول على اعلى المستويات ، ومن هو بأوحد المتكلمين ، ومن يبرز بوصفه النحوي المتفوق، ومن تشاهده يحل هنا وينتقل غلى هناك يلتقط من كل شجرة اطيب ثمارها فلا يلبث حتى يصبح جامعا للمحسنات.
بيد ان الحوزة العلمية في النجف لم تكن لتصل إلى هذا المستوى العلمي المتقدم لو لم يكن هناك من عوامل مساعدة وداعمة لها، فكان هذا الدعم يأتيها من الحوزة العلمية في كربلاء بالدرجة ألأولى.

الحوزة الفقهية في الحلة:

تزامنا مع رحلة شيخ الطائفة وعماد الشيعة الطوسي (رحمه ألله) إلى

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 110

النجف هربا من بطش وتنكيل غزاة بغداد من المغول ، وبعد أن تم إحتلال مدينة بغداد من قبل جيش هولاكو ، شرع الكثير من علماء الشيعة المقيمين والدارسين والمدرسين في بغداد بمغادرة هذه المدينة طلبا للأمن وألأمان ، وبحثا عن مكان يمكنهم فيه من مواصلة دروسهم وابحاثهم ، وما يساعدهم على تنظيم حلقات دروسهم من جديد ، وذلك بعدما اصابها ألإضطراب على مسرح العلم في بغداد.
في هذه ألأثناء قام أهالي مدينة الحلة بإرسال وفد عنهم إلى قيادة الجيش المغولي ، يلتمسون ألمان لبلدتهم فإستجاب لهم كبيرهم «هولاكو حان» وأمنهم على بلدتهم بعدما إختبر صدقهم.
وبهذه الصورة بقيت الحلة مأمونة من مضاعفات النكبة التي حلت بسائر البلاد، فيما أخذت تستقطب المهاجرين من يغداد بضمنهم الطلاب والعلماء وألأساتذة والفقهاء.
وإنتقل مع هؤلاء قسم من النشاط العلمي في بغداد إلى الحلة ، وبرزت فيها من جراء ذلك حوزة فقهية لمع في سماءها الفكري فقهاء كبار ، كان لهم دور كبير في تطوير وإغناء الفقه ألإمامي وأصوله ، وتجديد صياغة ألإجتهاد أمثال المحقق الحلي والعلامة الحلي ونجله فخر المحققين وإبن نما وإبن ابي الفوارس والشهيد ألأول وإبن طاووس وغبن ورّام وكثيرين غيرهم من فطاحل العلماء ورجال الفكر ، غير أن معظم هؤلاء وغيرهم لم يبقوا طويلا في الحلة ، بل رحل بعضهم إلى النجف وبرز وتجلى بحوزتها العلمية ، والبعض ألآخر رحل إلى كربلاء ولمع في سماء العلم والفضيلة فيها مثل العلامة الكبير والزاهد الورع الشيخ إبن فهد الحلي الذي إزدهرت الحوزة العلمية في كربلاء على عهده.
وبرحيل رموز العلم والفضيلة من الحلة إلى النجف ـو كربلاء ، خف بريق الحوزة الفقهية في هذه المدينة ، ثم إنكمشت على نفسها إى الحد الذي لم يعد بألإمكان القول: بأن مدينة الحلة تضم حوزة بين ظهرانيها.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 111

الموقف في حوزة كربلاء:

في اعقاب القرار التاريخي الهام الذي إتخذه شيخنا ألأجل الطوسي (عليه الرحمة) في ظروف عصيبة للغاية ، والذي تمثل بلجوئه إلى قبر سيدنا ألإمام علي عليه السلام في ارض النجف ، والتطورات اللاحقة التي ادت إلى نشأة مدينة النجف وظهور حوزتها العلمية ألأولى ، كان لا بد ان تتطور الحالة على الساحة العلمية في كربلاء ، لتتمخض عنها الحوزة العلمية التالية بعد حوزة النجف ، نظرا للترابط الروحي والجغرافي القائم بين هاتين المدينتين المقدستين.
ويمكن القول أن نشوء وبلورة الحوزة العلمية الرائدة في النجف لم يحد من النشاط العلمي والفكري في كربلاء، بل أدى إلى تحريكه وتطويره بوتائر عالية ، ومن ثم إلى نشأة حوزة مكملة أو رديفة لحوزة النجف، بسبب أن نوعا من التشاطر والتعاطي الفكري برز بين هاتين الحوزتين ، كان بنتيجته أن تبوأت الحوزة العلمية في كربلاء ، مكانة رئاسة العلمية الأولى في فترات زمنية مختلفة ، وذلك حينما كانت تتألق وتبدو ساطعة وضاءة مشرقة في سماء العلم والفضيلة وزاخرة بفطاحل العلماء أكثر من اي مكان آخر.
إن قصر المسافة بين مدينتي النجف ألشرف وكربلاء المعلى والتي لا تتجاوز الثمانين كيلو مترا ، والتي كان بألإمكان إجتيازها سابقا بالعربات المسحوبة بالدواب خلال يوم واحد أو أقل ، ويمكن إجتيازها اليوم بالسيارات والحافلات الحديثة خلال ساعة واحدة من الزمن. ونظرا لأن كلتا المدينتين مقدستان ومباركتان جدا بالنسة للشيعة وعلماءهم وفقهاءهم، وفي ضوء عوامل أخرى عديدة ، فإن السبيل كان ممهدا دائما أمام الكثيرين من العلماء وألأساتذة الكبار المقيمين والمجاورين في مدينة النجف ، لكي يترددوا على مدينة كربلاء أو يهاجروا إليها ، حيث بتواجد هؤلاء على الساحة العلمية بهذه المدينة نشطت الحركة العلمية فيها لأن حوزتها وجدت عناصر إضافية أسهمت بدورها في إنعاشها وتطويرها اكثر فأكثر.
وفي المقابل كان هناك علماء وأساتذة كبار تربو وتعلموا وأنهوا

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 112

دروسهم العالية في حوزة كربلاء ، ثم رحلوا عنها إلى النجف فأسهموا هم أيضا في إزدهار الحوزة العلمية فيها.
ومن هنا حصل نوع من التعاطي العلمي بينهما ، افاد الحوزتين إلى الحد الذي يمكن القول معه: إن هاتين الحوزتين إن لم تكونا نظيرتين متساويتين في المرتبة والمستوى فإنهما مكملتان لبعضها البعض. وإن هذه الظاهرة لم تكن لتحصل لولا وجود عوامل أساسية تخص الموقع الجغرافي والحضاري وهالة القدسية المتناهية لهاتين المدينتين المتقاربتين ، وكذا المكانة الروحية المتسامية التي تحتلانها في قلوب المسلمين الشيعة وغير الشيعة في العالم، وذلك كون ألأولى وأعني بها النجف تضم في جنباتها الروة الطاهرة للإمام علي عليه السلام ، بوصفه ألإمام ألأول والوصي المتقدم لرسول ألله محمد صلى الله عليه وىله وسلم ، وكون الثانية أي كربلاء تضم روضة إبنه البار الشهيد ألإمام الثالث للشيعة الحسين بن علي عليه السلام.
وبما أننا بصدد الحديث الموضوعي عن التشاطر بين هاتين الحوزتين ، فلا بأس أن نورد هنا مقتطفات مما كتبه العالم المحقق وألأستاذ المتتبع الرحوم الشيخ محمد رضا المظفر العميد السابق لجامعة منتدى النشر في النجف، حول التشاطر والتنافس بين حوزتي كربلاء والنجف ، والذي جاء في ترجمته القيمة والموضوعية جدا لشيخ المحققين والفقهاء المجتهدين المرحوم الشيخ محمد حسن النجفي ، صاحب كتاب «جواهر الكلام» ، وذلك على النحو ألآتي:
«كانت الحركة العلمية في عهد شيخنا المُتَرجم له (الشيخ محمد حسن النجفي) في القمة من الحركات العلمية ، التي إمتاز بها القرن الثالث عشر الهجري في خصوص النجف ألأشرف وكربلاء.
فإن النهضة العلمية التجديدية في الفقه واصوله ، بعد الفتور العام الذي أصابها في القرن الحادي عشر ، وأكثر الثاني عشر ، إبتدأت في كربلاء على يد المؤسس العظيم ألأغا محمد باقر الوحيد البهبهاني المتوفى سنة 1208 هـ .

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 113

وبقيت بعده النجف تنازع كربلاء وتشاطرها الحركة العلمية بفضل تلميذيه العظيمين : السيد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة 1212 هـ ، والشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى في سنة 1228 هـ ، إذ تحول قسم من ألإتجاه العلمي شطر النجف بسببهما (أي بسبب بحر العلوم وكاشف الغطاء) ، وإن كانت كربلاء بقيت محتفظة على مركزها ألأول حتى وفاة المربي العظيم المعروف بشريف العلماء ، وهو الشيخ محمد شريف المازندراني المتوفى سنة 1245 هـ ، الذي قيل إن حُضار درسه كانوا يبلغون الف طالب ، وكفى أن أحد طلابه وتلاميذه هو الشيخ ألأنصاري. وبوفاة شريف العلماء فقدت كربلاء صاحب الجواهر المترجم له الذي إجتذب إليه طلاب العلم بفضل براعته البيانية ، وحسن تدريسه وغزارة علمه، وثاقب فكره الجوال وبحثه الدؤوب وإنكبابه على التدريس والتأليف ،ولعل هناك أسبابا أخرى لهذا التحول ، ولا يبعد أن من أهمها أن كربلاء بالخصوص كانت عرضة للغارات السعودية ، وضغط الحكومة العثمانية وتعدياتها.
وعلي كل حال فقد شهد هذا القرن وهو القرن الثالث عشر ، حركة علمية واسعة في كربلاء والنجف متبدئة بالوحيد البهبهاني ، وبلغت غاية إزدهارها في عصر شيخنا المترجم له في خصوص النجف، فإن عصره إزدهر بكبار الفقهاء وفطاحل العلماء من أساتذته وأقرانه وتلاميذه ما لم يشهده أي عصر مضى ، ويكفر أن يكون من نتاج ذلم العصر ، حبر ألأمة وإمام المحققين الشيخ مرتضى ألأنصاري المتوفى سنة 1281 هـ ، الذي انسى ألأولين وألآخرين إذ تجدد على يديه الفقه واصوله التجدد ألأخير ، وخطا بهما شوطا بعيدا قلب فيه المفاهيم العلمية رأسا على عقب ، ولا يزال أهل العلم غلى يومنا هذا يدرسون على مدرسته العلمية الدقيقة ويستقون من نمير تحقيقاته ويتغذون بآرائه ويتخرجون على كتبه البارعة الفاخرة.
وكان شيخنا وأستاذنا العظيم الميرزا حسين النائيني المتوفى سنة 1355 هـ ، يفتخر بأنه من تلامذة مدرسته وإن كل ما عنده من تحقيق ومعرفة

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 114

فهو فهم اسرار آراء الشيخ ألنصاري وتحقيقاته وعرضها عرضا مبسطا ، وكم صرح بهذا المعنى على منبر الدرس معتزا بذلك ، وفي الحقيقة كان الميرزا النائيني يعد فاتحا مظفرا ومجددا موصلا لما إنقطع ـ أو كاد ـ من المنهج البحثي للشيخ ، وهو وتلامذته يعتزون بهذه الصلة والوصلة العلمية بالشيخ.
نعم لقد إزدهر عصر شيخنا صاحب الجواهر بالعلم والعلماء والطلاب، فإزدحمت النجف يومئذ برواد العلم من كل حدب وصوب ، لا سيما من القطر ألإيراني وبلغت القمة في رواج العلم بها ، ومرد ذلك فيما أعتقد هو ألإستقرار السياسي وفترة السلم التي سادت في البلاد الإسلامية يمئذ ، لا سيما بين الدولتين العثمانية وألإيارنية اللتين كانتا تتناطحان وتتصارعان للتغلب على العراق مدة قرنين تقريبا ، أنهكت فيها ألأمة العراقية أيما إنهاك وتأخرت تأخرا أفقدها كل حيوية ، فسادهاه الوباء والجهل والفقر وأنواع الأمراض الفتكة.
وإبتأت الهدنة بين الدولتين قبيل عصر شيخنا المترجم له ، وذلك في أخريات أيام الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، غذ سافر إلى إيران بقصد إطلاق سراح أسرى جيوش الحكومة العثمانية بعد موقعة حربية سنة 1221 هـ ، توغلت فيها إلى حدود إيران ، ففشل الجيش العثماني وأسر اكثره، فأستطاع الشيخ كاشف الغطاء أن يقنع شاه إيران فتح علي شاه وإبنه ميرزا محمد علي قائد الجبهة ، بالعفو عن ألأسرى وإرجاعهم إلى حكومتهم ، بعد ان فشلت كل الوسائط التي إستعملتها الحكومة العثمانية ، فكان الصلح بعد ذلك بين الدولتين على يد مصلح الدولتين العظيم الشيخ موسى نجل الشيخ كاشف الغطاء المتوفى سنة 1241 هـ ، وفتح الباب واسعا أمام الهجرة ألإيرانية إلى العتبات المقدسة ، وأمام ألأموال التي كانت ترسل لتعمير العتبات وصيانتها ، ولرجال الدين ومراجع التقليد، فتزاد ذلك في نشاط الحركة العلمية ، لا سيما أنها كانت تحظى بتشجيع شاه إيران وبتقديره للعلماء تقديرا منقطع النظير ، وكفى من تقديره الحفاوة البالغة التي لاقاها الشيخ كاشف الغطاء في إيران وقبول وساطته في أعظم أمر كان ، يحرص عليه الشاه وهو ألإحتفاظ بأسرى الترك

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 115

تأديبا للحكومة العثمانية ، لاسيما قائد الجيش «كهيا سليمان باشا» إبن اخ والي بغداد يومئذ «علي باشا».
وبلدة النجف مع كل هذا أصبحت في ذلك العهد في أمان من الغارات الوهابية التي كانت لا تنقطع ، والتي كانت النجف وكربلاء وهددتين بها دائما، بعد أن فشلت الغارة ألأخيرة لهم على النجف، بإعجوبة ومعجزة وقد بيتوها على حين غرة».
وفي ضوء كلام المحقق الجليل الشيخ محمد رضا المظفر، نتأكد من أن تشاطرا في السبق العلمي كان مسنمرا بين الحوزتين العميتين في النجف وكربلاء، وأن النهضة العلمية التجديدية إبتأت وإزدهرت أولا في كربلاء ثم إنتقلت إلى النجف، رغم أن حوزة كربلاء ظلت محتفظة بحركتها العلمية النشطة ، وهذا ما يفسر مقولة أن هاتين الحوزتين مكملتان لبعضهما البعض، حيث أن حوزة كربلاء كانت دوما تغذي حوزة النجف أو تتغذى منها . بيد أن من نافلة القول هنا: أن كلتا الحوزتين ساهمتا بشكل فعال ومؤثر في تطوير الفقه الشيعي ألإجتهادي ، وإنهما معا خدمتا ألإسلام واسهمتا في ترسيخ مبادئ وأسس التشيع. وأن التشاطر أو التنافس بينهما لم يكن من باب التفاخر أوالمباهاة أو التعالي بل إن مثل هذا التشاطر وأي نوع من السبق العلمي إنما يخدم العلم نفسه ليس إلا.
ثم إننا عندما نتطرق لهذا الجانب لا نقصد ألإنحياز لهذه الحوزة أو تلك ، بل نهدف إلى إبراز دورهما ومكانتهما في دفع مسيرة العلم والفضيلة لصالح ألإسلام ولصالح المذهب الشيعي ألإمامي ،وإلا فإن اي سبق علمي تحرزه الحوزة العلمية في كربلاء ينطوي على منفعة لصالح الحوزة العلمية في النجف ، والعكس هو الصحيح، وإن أي سبق مشترك لهما فيه منفعة لسائر الحوزات العلمية في ألإسلام.
وتأسيسا على ذلك يتأكد لنا أن نشأة الحوزة العلمية في النجف ألأشرف على يد مؤسسها العالم المجاهد عماد الشيعة الطوسي قبل أكثر من تسعة قرون لم تؤدي إلى إنحسار حركة العلم والدراسة في حوزة

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 116

كربلاء، بل أن نشوء مثل هذه الحوزة الغنية الزاخرة بألأدمغة العظيمة ، على مقربة من مدينة كربلاء ، خلق عاملا إضافيا في تحريك نهضة العلم والمعرفة فيها، إلى جانب أن هذا التحول التاريخي دفع بحوزة كربلاء ، لأن تشاطر وتسابق نظيرتها في النجف، ومعلوم أن روح التسابق هي من عوامل التحرك والتقدم إلى ألأمام بإستمرار ، وقد قال ألله سبحانه: «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون» صدق ألله العلي العظيم.

المنعطفات التاريخية في حوزة كربلاء:

من الثابت تاريخيا أن كربلاء بعدما تمصرت وتوفرت لها مقومات التحضر والمدنية ، وخاصة في أواخر القرن الثالث ومطلع القرن الرابع الهجري ، شهدت حركة علمية متطورة إستمرت عبر القرون اللاحقة حتى القرن الحاضر.
لقد تواصلت مسيرة العلم والتدريس في ساحة كربلاء لأحد عشر قرنا، غير أن هذه المسيرة شهدت نقلات نوعية في فترات مختلفة يمكن إعتبارها منعطفات تاريخية هامة.
وبعبارة أخرى إن حركة العلم والفضيلة في حوزة كربلاء وبالرغم من إستمراريتها وتواصلها خلال هذه القرون كانت تفتر تارة وتنشط تارة أخرى، وإن مرد هذا الفتور يرجع لخلو ساحتها العلمية من الرموز اللامعة أو بألأحرى من العلماء العظام ممن يصنفون بالطراز المتميز أو من هم في الطبقة ألأولى المتفوقة ، مثلما مردُ نشاطها وإزدهارها يرجع لظهور مثل هذه الرموز المتميزة والمتألقة ، وهو أمر طبيعي جدا لأن للأشخاص دورهم الحيوي والمصيري في صنع التاريخ ، وفي دفع مسيرة حركة الحياة أشواطا إلى ألأمام.
بيد أن أهمية دور ألأشخاص تتناسب مع مكانتهم العلمية وألإجتماعية ، إذ كلما كانت هذه المكانة رفيعة وشامخة ، كلما كان دورهم ذا أهمية متزايدة وهذا ما نوهناه سابقا.
وبناءً على ذلك ، كانت الحوزة العلمية في كربلاء تتألق وتزدهر بوجود

السابق السابق الفهرس التالي التالي