تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 84

القضية سهلة ومبسطة بل أنها مرتبطة بعبادات ومعاملات وطهرات ونجاسات وأحكام أحياء وأموات وصوم وصلاة وخمس وزكاة وأرباح وتجارت وقصاص وديات وخلع ومباراة وغيرها مما يصعب على كل فرد فهمها والتوصل إلى أسرارها ، والمغزى الكامن فيها.
وإلى جانب ذلك ، هناك الكثير من الأفراد الذين دخلوا في زمرة الرواة والمحدثين ممن لم يتورعوا عن الدس والتسميم والتلفيق ، وهكذا وضعت ودونت أحاديث وروايات ملفقة ومدسوسة وجرى في بعضها مزج الرأي بالرواية ، ثم أن رجال الحديث من هم ثقة وموثق ، وحسن وأحسن، وضعيف ومعلوم ومجهول وصحيح ومستقيم مما يطلب فرزها إلى جه كبير جدا ، وتكريس سنوات طويلة من العمر.
ومن هنا كان يتعين على الناس أن ينقسموا إلى فئتين ، فئة كبيرة وعامة تنصرف إلى الكسب والمعاش وتنظم شؤون الحياة المادية ، وفئة اخرى تختص بتحصيل العلوم الدينية وصولا إلى مرحلة ألإجتهاد والفتيا، وفي هذه الحالة تستقي الفئة الأولى ، أصول دينها وأمور آخرتها وزاد تقواها وسبيل فلاحها وصلاحها من الفئة الأولى ، ونعني بها فئة العلماء المجتهدين الذين هم جديرون بتفقد الفئة الفئة الأولى والشهر على مصلحتها ، وما يؤمن راحتها النفسية ويهدئ من روعها ويمنحها السكينة والرضا لأن الفرد المجتهد له الصلاحية في ردع المعاند وتأديب الجاني وألأنتصار للمغلوب على أمره ومنع القوي عن التطاول على الضعيف ، وزجر الظالم وألإنصاف للمظلوم ، وبتواجد هؤلاء على الساحة الإجتماعية يكثر الصلاح ويقل الفساد ويأمن العبادلأنهم في الحقيقة نواب ألإمام عليه السلام وألإمام هو وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لذلك الشخص هو المقلَّد (بفتح اللام) ، وسائر أفراد ألأمة بالنسبة له مقلِّدين (بكسر اللام).

كبار علماء الشيعة على مر العصور:

بعد وفاة آخر نائب مباشر للإمام المهدي المنتظر عليه السلام من نوابه ألأربعة،

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 85

الذين ذكرت أسماؤهم من قبل ، أعني به السيمري(رحمه ألله) في سنة 329 هـ ، وإنقطاع السفارة بين ألإمام الغائب وشيعته ومواليه، لزم ألأمر الرجوع إلى العلماء المجتهدين العادلين لأخذ الفتاوى منهم، أوبألأحرى تقليدهم في إجتهاداتهم الشعرية، وذلك حسبما شرحته آنفا، وقد هيأ الله سبحانه وتعالى للمسلمين الشيعة ، مجتهدين تقاة ومحدثين ثقاة، تبوؤا على مر العصور منذ وفاة السيمري وحتى يومنا هذا ، مكانة الزعامة الروحية والرئاسة الدينية ، نذكر فيما يلي أسماء مشايخهم ومن هم أكثر علما وفضلا وشهرة وعطاءً روحيا: ـ
ـ ثقة ألإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحق(الكليني) صاحب «الكافي» المتوفى سنة 329 هـ ، والمدفون ببغداد.
ـ رئيس المحدثين الحجة الثقة الشيخ (الصدوق) المتوفى سنة 381 هـ ، وقبره بمدينة الري.
ـ رئيس الملّة أبو عبدالله محمد بن محمد النعمان (الشيخ المفيد)المتوفى سنة 413 هـ وقبره في الكاظمية.
ـ ذو المجدين علم الهدى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى (الشريف المرتضى)، صاحب«الشافي» في ألإمامة المتوفى سنة 436 هـ وقبره بكربلاء.
ـ العلامة أبوالفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجُكي صاحب«كنز الفوائد» المتوفى سنة 449 هـ .
ـ شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين (الطوسي) المتوفى سنة 460 هـ وقبره في النجف ألأشرف.
ـ عماد الدين محمد بن علي بن حمزة الطوسي المكنى بإبن الحمزة قبره في كربلاء.
ـ الفقيه الثقة أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي صاحب

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 86

(مجمع البيان في تفسير القرآن) المتوفى سنة 548 هـ و قبره بخراسان.
ـ أبو المكارم حمزة بن علي (إبن زهرة الحلبي) صاحب «الغنية وقبس ألأنوار»المتوفى سنة 585 هـ وقبره في حلب.
ـ الشيخ رشيد الدين أبو جعفر محمد بن علي (إبن شهر آشوب) صاحب «المناقب ومعالم العلماء» المتوفى سنة 588 هـ وقبره في حلب.
ـ العلامة الكبير محمد بن احمد (إبن إدريس الحلي) صاحب «السرائر» المتوفى سنة 598 هـ .
ـ المحقق العظيم فخر الزمان محمد (إبن نما) الحلي المتوفى سنة 645 هـ وقبره في النجف.
ـ صاحب المآثر والمكارم رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى (إبن طاووس) المتوفى سنة 644 هـ .
ـ شيخ ألإسلام والمعلم ألأكبر (الخواجه نصير الدين الطوسي) المتوفى سنة 672 هـ وقبره في الكاظمية.
ـ شيخ الفقهاء جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد (المحقق الحلي) صاحب «الشرائع» المتوفى سنة 676 هـ وقبره في الحلة.
ـ رئيس الملّة الحسن بن يوسف بن مطهر (العلامة الحلي) المتوفى سنة 726 هـ وقبره في النجف.
ـ العلامة المحقق علي بن محمد (نصير الدين القاشي) البغدادي الحلي المتوفى سنة 755 هـ وقبره في النجف.
ـ العلامة الجليل محمد بن الحسن بن يوسف بن مطهر الحلي (فخر المحققين) صاحب «شرح القواعد» المتوفى سنة 771 هـ .
ـ الشيخ ألأجل أبو عبدالله محمد بن جمال الدين العاملي (الشهيد ألأول) صاحب «اللمعة»المقتول سنة 786 هـ.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 87


ـ العلامة أبوعبدالله المقداد بن عبدالله بن محمد بن الحسين (الفاضل المقدادي) صاحب «كنز العرفان»المتوفى سنة 826 هـ وقبره ببغداد.
ـ العلامة والفقيه الزاهد الشيخ جمالالدين أبو العباس أحمد بن محمد (بن فهد الحلي) الموتفى سنة 841 هـ وقبره في كربلاء.
ـ الفقيه الثقة الشيخ تقي الدين إبراهيم بنعلي بن الحسين بن محمد بن صاحل الحائري الكفعمي المتوفى سنة 900 هـ وقبره في كربلاء.
ـ ثقة ألإسلام الشيخ نور الدين علي بن عبدالعال العاملي( المحقق الكركي) المتوفى سنة 904 هـ .
ـ الفقيه ألأجل زين الدين إبن نور الدين علي بن أحمد (الشهيد الثاني) صاحب «شرح اللمعة» المقتول سنة 966 هـ .
ـ العالم الرباني أحمد بن محمد (ألأردبيلي) صاحب «آيات ألأحكام» المتوفى سنة 994 هـ وقبره في النجف.
ـ العالم المتبحر محمد علي بن محمد (البلاغي) صاحب «شرح أصول الكليني» المتوفىسنة 1000 هـ .
ـ شيخ ألإسلام وعماد المسلمين محمد بن الحسن بن عبدالصمد (الشيخ البهائي العاملي) المتوفى بأصفهان سنة 1031 هـ وقبره بخراسان (مشهد) .
ـ الشيخ فخر الدين بن محمد علي بن أحمد بن علي بن احمد (الطريحي) المتوفى سنة 1085 هـ وقبره في النجف.
ـ شيخ ألإسلام والمسلمين محمد باقر بن محمد تقي (االمجلسي) صاحب «بحار ألأنوار» المتوفى سنة 1111 هـ وقبره في أصفهان.
ـ العلامة الكبير الشيخ أحمد الجزائري صاحب «آيات ألأحكام» المتوفى ينة 1150 هـ وقبره بالنجف.
ـ المجدث الكبير الشيخ يوسف بن الشيخ أحمد بن إبراهيم الدرازي

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 88

(البحراني) صاحب «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» المتوفى سنة 1186 هـ وقبره في كربلاء.
ـ العلامة المحقق المولى محمد باقر الوحيد البهبهاني المتوفى سنة 1208 هـ وقبره في كربلاء.
ـ العلامة الفهامة السيد محمد مهدي بحر العلوم (الطباطبائي) المتوفى سنة 1212 هـ وقبره فيالنجف.
ـ الشيخ ألأكبر جعفر الجاحي النجفي صاحب «كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء» المتوفى سنة 1228 هـ وقبره في النجف.
ـ العالم النحرير والرئيس الكبير السيد علي الطباطبائي صاحب «الرياض»المتوفى سنة 1231 هـ وقبره في كربلاء.
ـ المربي الكبير المولى محمد شريف بن حسن علي المازندراني الحائري (شريف العلماء) المتوفى سنة 1246 هـ وقبره في كربلاء.
ـ مربي المجتهدين الفقيه الكبير السيد إبراهيم بن محمد باقر الموسوي القزويني صاحب «الضوابط» المتوفى سنة 1262 هـ وقبره في كربلاء.
ـ شيخ المشايخ والمجتهد ألأكبر محمد حسن النجفي صاحب «جواهر الكلام»المتوفى سنة 1266 هـ وقبره في النجف.
ـ الرئيس العظيم والعالم ألأكبر الشيخ مرتضى بن محمد أمين (ألأنصاري) صاحب «الرسائل والمكاسب» المتوفى سنة 1281 هـ وقبره في النجف.
ـ العلامة الكبير السيد مجمد مهدي القزويني المتوفى سنة 1300 هـ وقبره في النجف.
ـ العالم الجليل الشيخ المولى حسين الفاضل ألأردكاني الحائري المتوفى سنة 1305 هـ وقبره في كربلاء.
ـ المولى محمد بن محمد باقر ألأيرواني المتوفى سنة 1306 هـ وقبره في النجف.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 89


ـ المجتهد ألأكبر الشيخ زبن العابدين بن ملسلم البارفروشي المازندراني الحائريالمتوفى سنة 1309 هـ وقبره في كربلاء.
ـ آية ألله المجدد الكبير الميرزا محمد حسن الشيرازي المتوفى سنة 1312 هـ وقبره في النجف.
ـ الشيخ ألأجل المعلم الكبير المولى محمد كاظن الخراساني صاحب «كفاية ألأصول» المتوفى سنة 1320 هـ وقبره في النجف.
ـ آية الله العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب «العروة الوثقى» المتوفى سنة 1337 هـ وقبره في النجف.
ـ الزعيم المجاهد الفقيه الورع الشيخ محمد تقي الشيرازي المتوفى سنة 1339 هـ وقبره في كربلاء.
ـ حجة ألإسلام الشيخ فتح ألله شيخ الشريعة ألأصفهاني المتوفى سنة 1339 هـ وقبره في النجف.
ـ الفقيه المحقق الشيخ علي بن محمد الشاهرودي المتوفى سنة 1351 هـ وقبره في النجف.
ـ الشيخ الجليل وألأستاذ البارع الميرزا حسين (النائيني) المتوفى سنة 1355 هـ وقبره في النجف.
ـ المرجع الديني ألأكبر العلامة الفهامة السيد أبو الحسن ألأصفهاني المتوفى سنة 1365 هـ وقبره في النجف.
ـ آية ألله العظمى السيد آقا حسين القمي المتوفى سنة 1366 هـ وقبره في النجف.
ـ آية ألله العظمى عبدالكريم الحائري المتوفى سنة 1355 هـ وقبره في قم.
ـ المرجع الأكبر آية ألله العظمى السيد آقا حسين (البروجردي) المتوفى سنة 1380 هـ وقبره في قم.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 90

ـ آية ألله العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي المتوفى سنة 1380 هـ وقبره في كربلاء.
ـ آية ألله العظمى العالم المجاهد السيد محسن (الحكيم) صاحب «مستمسك العروة الوثقى» المتوفى سنة 1390 هـ وقبره في النجف.
ـ آية ألله العظمى السيد عبالهادي الشيرازي المتوفى سنة 1381 هـ وقبره في النجف.
ـ آية ألله العظمى السيد أحمد الخوانساري المتوفى سنة 1406 هـ والمدفون بقم.
. . . . . . .
. . . . . . .

الدراسة في الحوزات العلمية:

إن الدروس التي تعطى لطلاب العلوم الدينية في مسيرتهم الدراسية المتقدمة بخطى وئيدة وصولا إلى مرحلة ألإجتهاد «ألإفتاء» هي حسب العرف المتبع منذ عهد مشايخ الشيعة ألأوائل وحتى يومنا هذا تتحدد عادة بالموضوعات التالية:
1 ـ اللغة العربية : من نحو وصرف وبلاغة ، لما في معرفة هذه اللغة وإتقانها من تقويمٍ للسان، وتفتح للأذهان ، وذلك تمهيدا لإعدادها لفهم السنة ومعاني القرآن.
وفي الحقيقة إنه لا يتسنى لمن لا يحسن ولا يتقن هذه اللغة بصورة علمية مدروسة ، أن يتذوق ويتفهم أسرار ورموز الكلام العربي الفصيح ، وأن يتعرف على معاني الجملات ومضامينها ، ودلالاتها المبطنة والظاهرية ، وقد جاء كلام القرآن بأعلى درجات الفصاحة ، وحذت السنة النبوية واحاديث أهل بيت النبوة(عليهم السلام) حذو القرآن ، فجاء كلام ألأئمة المعصومين دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ، وكم في الكتاب والسنة من تقديم وتأخير، وذكر وحذف وفصل ووصل وشرح وإيجاز وأطناب ومترادف وحقيقي ومجازي وتشبيه وإستعارة وكناية ومطلق ومقيد ومجمل ومبين وغيره مما

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 91

لا يحيط به إلا المتبحرون والعارفون جيدا بقواعد اللغة العربية.
2 ـ العلوم الرياضية: كالحساب والفلك والهندسة وهي العلوم التي يتوقف عليها قسم كبير من ألأحكام الشرعية فالفرائض والهبات والمبيعات والعتق وألأوقاف وحساب ماء الكر الشرعي الذي لا يتنجس وألأوزان كلها في حاجة إلى معرفة قواعد علم الحساب ثم أن علم الهندسة ضروري بالنسبة لجملة من ألأمور الدينية إذ عليه تتوقف خرائط الجوامع والمساجد والمآذن والمحاريب التي لها أشكالها ومقايسها الخاصة في الشرع إضافة إلى المؤشر الشمسي (الشاخص) الذي يميز ميل اشعة الشمس لمعرفة مواقيت الصلاة ، وكذا الخطوط المستقيمة للمصلين خلف ألإمام بحيث لو إنحرفت لأنحرف إتجاه المصلين عن القبلة ، والخطط التي تلزم معرفتها وقت الجهاد الشرعي وغيرها من ألأحكام.
وإن علم الفلك ضروري لمعرفة إتجاه القبلة والكواكب التي يتخذها المصلي إمارات للتوصل إلى القبلة، وكذا معرفة وقت الفجرودلوك الشمس وغسق الليل ومعرفة ألأهلة بالنسبة للإفطار والصوم والحج وأمور أخرى تتعلق بالزواج والسفر.
3 ـ العلوم ألإجتماعية : كالتاريخ والجغرافيا ، فالتاريخ ضروري لمعرفة الناسخ والمنسوخ في الكتاب والسنة والتعرف على رجالات الحديث والرواة ، وعلى هذه المعرفة تتوقف أحكام الدين ، أما الجغرافيا فترتبط بها أمور منها: معرفة ألأرض المعدنية وعلاقتها بالمصلي ،وألأرض المخسوفة بالنسبة للصلاة، وألأرض المغضوب عليها وعلى أهلها ، كمنازل ثمود التي مر بها النبي صلى ألله عليه وآله وسلم ونهى عن شرب ىبارها إلا بئر الناقة، وأرض بابل التي إجتازها ألإمام علي عليه السلام ، فلم يصل عليها حتى فاتت العصر ، وتعين بالجغرافيا مواقع المساجد الهامة ، ومساحتها ألأصلية قبل حدوث الزيادة والنقصان فيها.
4 ـ العلوم العقلية: كالمنطق والحكمة ، بما تنطوي عليه من إستدلالات

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 92

وبراهين عقلية ،وهذه العلوم ضرورية لفهم أحكام الدين ، لما بين الدليل الشرعي والدليل العقلي من تطابق على تفصيل مقرر في قاعدة (الملازمة) .
وقد جرت العادة في أن يكونمجرى الدرس في مرحلة المقدمات من علوم اللغة والمنطق والحساب والهندسة والفلك ومبادئ الفقه وعلم ألأصول على صورة دروس (السطوح) ، بمعنى أن يتقدم طالب أو طالبان أو أكثر بكتبهم المعينة لدى أستاذ في علم من هذه العلوم ، فيشرح لهم بطريقة قراءة الكتاب سطحا أي من على صفحات الكتاب مواد ذلك العلم فصلا بعد فصل وبابا بعد باب ، وبذلك يتلقى الطالب العلم ولكن عبر المناقشة والتدقيق والتحقيق ، ثم يتدعم الدرس بالتباحث الجدلي بين طالبين أو أكثر لنفس الدرس وذات الموضوع ، ولا يخفى ما يكمن في هذا البحث الجدلي من تركيز وترسيخ العلم في ذهن طالبيه ، مما لا يتيسر لغيرهم من طلاب العلوم الحديثة.
كما جرت العادة على أن تتبع دروس السطح بدراسة متعمقة وفي أعلى المستويات للفقه وأصوله وللتفسير والحديث وتعرف هذه الدروس بـ «درس الخارج» ، ومعنى هذا ألإصطلاح هو أن يجتمع الطلاب بالعشرات أو المئات ممن أكملوا دروس المقدمات لدى أحد ألأساتذة المبرزين ، حيث يلقى عليهم الدرس في موضوع الفقه أو علم ألأصول وما يرتبط بهما من تفاسير وأحاديث ، وذلك على شكل محاضرة دون ألإستعانة بالكتب، مستعرضا فيها ما توصل إليه بإجتهاده وإستنتاجه وتقريراته مؤيدا ومفندا ، ناقضا ومبرما، مارا على الروايات والرواة وألدلة والسيرة وألإجماع والعقل والسنة والكتاب، وذلك بحسب الموضوع المثار للبحث وما يقتضيه من شروحات وإستدلالات وتعبرات عقلية ونقلية ،وإن الطلاب المشاركين في مثل هذه الدروس المتعمقة جدا يتعين عليهم أن يكونوا على مستوى الدرس ، وإلا فإن مشاركتهم في غير هذه الصورة تصبح نوعا من العبث ليس إلا.
وإن هذه الدروس تتيح الفرصة المناسبة لتفوق طالب على طالب آخر،

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 93

وتقدم مجتهد على نظيره ، لأنه بهذه الوسيلة المثلى ترهف ألأسماع صاغية ، وترنو النواظر شاخصة و «مُميِّزة» هذا عن ذاك وبالتالي تنطق ألألسن مشعرة بتفوق ألأقران وتمايز ألأعلام.

تكوين الحوزة العلمية في كربلاء:

لقد جاء من قبل ، ان أرض كربلاء بعدما اصبحت مسرحا لواقعة تاريخية دموية ، أفجعت قلوب المسلمين ، وبثت الحزن وألأسى واللوعة في نفوسهم، وبعدما حوت لقبر أعز شهيد ، وأكرم ثائر ، وأشجع حر أبي ، هو سبط رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألإمام الحسين بن علي عليه السلام شهدت النماء والعمران وألإزدهار في وقت مبكر جدا ، لما إكتسبت من قدسية متزايدة وروحانية متسامية ، حتى أصبحت في فترة قياسية موئلا وملاذا لكل صاحب عقيدة وكل داعية حق وحقيقة.
لقد اضحت كربلاء تجسيدا لكل معاني السماء وقيم الدين ومفاهيم الدفاع المستميت عن شرعة النبي ألأعظم صلى ألله عليه وآله وسلم فكان طبيعيا أن تصبح بالتدريج محط رحال علماء الدين والفضيلة ، وأن تتحول إلى مسرح يحوي كل ذي علم وادب وإبداع فكري ، وكل صاحب إيمان حقيقي.
وفي الحقيقة أن البيئة التي يدرس فيها العالم والمحقق والباحث أو الشاعر وألأديب لها تأثيرها المباشر على سير تحصيله وجهده الفكري ، فألأجواء والظروف السائدة في هذه البيئة ، تخلق له من الحوافز والدوافع ما تساعده وتسهل له الدراسة والبحث والتفكير.
وعلى سبيل المثال نجد أن المهندس المتخصص في شؤون الزراعة يواصل دراسته وأبحاثه في بيئة زراعية ، اي في بيئة تنسجم مع نوع العلم الذي يدرسه، وكذا الطبيب يدرس ويتلقى تدريباته ألأولية قبل أن يصبح طبيبا مهنيا في داخل المستشفيات والمستوصفات والعيادات الطبية، أو في مختبرات التحاليل الكيمياوية، وعلى شاكلته يواصل طالب الهندسة دروسه وابحاثه داخل المباني والطرقات ،والجسور والمطارات والشوارع،

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 94

التي هي في طور البناء وألإنشاء.
ذلك أن أجواء البيئة التي يدرس فيها المرء بما ينسجم مع العلم الذي يتلقاه توحي له بكل ما يرتبط بهذا العلم ، وتشجعه على دراسته مثلما تسهل له أمر التدريس والتحقيق ، فالبيئة لها تأثيراتها التلقائية في نفس ألإنسان ، فهو عندما يجد نفسه داخل حديقة غناء يبتهج وينتعش تلقائيا ، أو عندما يرى مشها محزنا ومؤلما يتألم ويحزن ، أو حينما يرى نفسه في مكان روحاني مقدس ومبارك تمتلئ نفسه بمعاني الروحانية والصفاء والنقاء ألقدسي ، تماما مثل الشخص الذي يؤدي مناسك الحج ، فالجو الروحاني السائد في الديار المقدسة خاصة في موسم الحج ، يؤثر عليه دون أن يدري هو ، فتجده في هالة من الصفاء النفسي والنقاء الروحي ممتلئا بمعاني الصدق والخلوص، على غير عادته في ألأوقات العادية.
وإنطلاقا من ذلك فإن طالب العلوم الدينية أو العالم الديني يختار لدراسته وأبحاثه بيئة تناسب العلم الذي يطلبه أي بيئة مقدسة ومباركة مفعمة بمؤشرات الدين وقيمه وتعاليمه ، بدليل أن العلم الذي يدرسه هو علم إلهي وسماوي فلا جرم أن تكون البيئة التي يتواجد فيها بيئة تشع منها معاني السماء والقيم الروحية ، ولهذا تجده ينجذب لمكان مقدس ومتبرك، إن لم يكن لكل فترة حياته فخلال سنوات دراسته وتحصياه العلوم الدينية على أقل تقدير، فير أن ذلك لا يعني أن تحصيل العلوم الدينية في اماكن عادية غير ممكن، كلا أنه ممكن في كل ألأمكنةوفي كل ألأحوال ، لكن تحصيل هذه العلوم في البيئات المقدسة والدينية ينطوي على حوافز مشجعة ، وممهدات وظروف تجذب الفرد نحو الدرس والبحث والتقصي العلمي مما لا يتوفر أو قد تنعدم في البيئات العادية وغير المقدسة.
ومن هنا نجد ظاهرة إنتشار الحوزات العلمية الدينية في المدن المقدسة مثل النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء وقم ومشهد أن حوزات هذه المدن بقيت محتفظة بإستمراريتها وديمومتها ، وذلك بالرغم من أنها مرت بفترات فتور، لكنها ظلت متمسكة بهويتها وخصوصياتها على مر التاريخ،

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 95

صحيح أن حوزات أخرى ظهرت في مدن تفتقد لقدسية المدن ألآنفة الذكر غير أنها كانت حوزات وقتية لم تدم طويلا مثل حوزة حلب في سوريا والتي إزدهرت على عهد العالم الجليل أبو المكارم حمزة بن علي «إبن زهرة الحلبي»صاحب «الغنية وقبس ألأنوار»المتوفى في حلب سنة 585 هـ وقبره بها، وإستمرت هذه الحوزة في إزدهارها على عهد الشيخ رشيد الدين أبو جعفر محمد بن علي «إبن شهر آشوب»صاحب «المناقب ومعالم العلماء» المتوفىسنة 588 هـ وقبره في حلب، أو مثل الحوزة العلمية في مدينة الحلة حينما نهض فيها علماء وفقهاء أجلاء أمثال: العلامة الكبير محمد بن أحمد «إبن إدريس الحلي»صاحب كتاب «السرائر» المتوفى سنة 598 هـ ، والمحقق العظيم فخر الزمان «إبن نما»الحلي المتوفى سنة 645 هـ وقبره في النجف ، وشيخ الفقهاء جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد «المحقق الحلي» صاحب «الشرائع» المتوفى سنة 676 هـ وقبره في الحلة، ورئيس الملة الحسن بن يوسف بن مطهر «العلامة الحلي» المتوفى سنة 726 هـ وقبره في النجف، ونجله العالم الجليل محمد بن الحسن بن يوسف بن مطهر الحلي «فخر المحققين» صاحب كتاب «شرح القواعد» المتوفى سنة 771 هـ ، أو مثل حوزة أصفهان التي لاقت رواجا وإزدهارا على عهد ملوك ألسرة الصفوية ولمع في سماءها نجم شيخ ألإسلام محمد إبن الحسين إبن عبدالصمد العاملي «الشيخ البهائي»صاحب المؤلفات والمصنفات العظيمة المتوفى سنة 1031 هـ ، وقبره في مشهد، وشيخ ألإسلام والمسلمين محمد باقر بن محمد تقي «المجلسي» صاحب كتاب «بحار ألأنوار في علوم أهل البيت ألأطهار» المتوفى سنة 1111 هـ .
لكن هذه الحوزات إما إندثرت وإما إنحسرت وإنكمشت على نفسها ، نظرا لأن كيانها إرتبط بشخصيات علماء عظام برزوا في صدفهم ، فكانت حلقات دروسهم وأبحاثهم وتقريراتهم تستلفت ألأنظار ، فتجذب النفوس إليها، ولكن ما ان رحلوا وتوفوا حتى فقدت الحوزة التي أقاموها أهميتها رويدا رويدا فإندثرت وإنمحت ، غير أن لبعض هذه الحوزات أسبابها السياسية الوقتية

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 96

كشان الحوزة العلمية في مدينة أصفهان ، التي أوجدها أصلا ملوك ألأسرة الصفوية بدافع من نزعتهم وميولهم نحو المذهب الشيعي ألإمامي ، فإستقدموا علماء الدين من مختلف البلدان وخاصة من جبل عالمل في الجنوب اللبناني حيث المهد العريق للشيعة ألإمامية بعد العراق ، وذلك في محاولة منهم لتوريج وإشاعة المذهب الشيعي الجعفري في إيران.
والجدير بالذكر هنا، أن بلاد إيران ترسخ وإزداد إنتشار المذهب الشيعي فيها على عهد الشاه صفي مؤسس السلالة الصفوية والذي إختار مدينة أصفهان عاصمة لملكه وظلت هذه المدينة عاصمة لإيارن لفترة أربعمئة عام من الزمن.
ولكن عندما إنقرضت السلالة الصفوية وإنتقلت السلطة في إيران بعد فترة من الزمن إلى الأسرة القاجارية ، وبعدما إخار رأس هذه ألأسرة «ألآغا محمد خان قاجار» بلدة طهران الصغيرة وقتها عاصمة لإيران قبل مئتي عام تقريبا ، فقدت حوزة أصفهان أهميتها وإنكمشت على نفسها ، بينما أصبحت الحوزة العلمية في طهران تحظى بألأهمية وألأولوية ، لحينما تأسست الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة.
صحيح أن حوزة أصفهان أو حوزة طهران لم تندثر بل إستمرت على نطاق ضيق نسبيا ، وذلك لأسباب سياسية ، فمدينة طهران هي عاصمة إيران وهي مدينة كبيرة جدا وفيها العديد من المعاهد والمدارس الدينية ، كما أن في مدينة أصفهان من ألآثار والمخلفات ألإسلامية ومن مكانة دينية ، بوصفها معقلا لأولى دولة إسلامية شيعية ترى النور في إيران ما يجعلها مؤهلة ، لأن تضم بين ظهرانيها حوزة علمية ، إن لم يكن على نطاق واسع فلتكن على نطاق ضيق.
بيد أنه نجد في المقابل ، الحوزة العلمية في مدينة قم والتي لم تنشأ إلا قبل سبعين عما ، حينما نقل إليها المرحوم المؤسس آية ألله العظمى الشيخ عبدالكريم الحائري حوزة درسه من مدينة أراك ، قد إحتفظت بهويتها وتماسكها بعيا عن المؤثرات السياسية والزمنية ، نظرا لأن المكان الذي نشأت

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 97

عليه هو مكان مقدس لدى الشيعة ، كونه يضم مرقد السيدة معصومة بنت ألإمام موسى الكاظم عليه السلام ، فأصبحت مدينة قم البيئة المناسبة لظهور أقوى وأوسع حوزة علمية في إيران على ألإطلاق، حوزة واصلت مسيرتها المتقدمة فمرت بفترة الذروة على عهد المرحوم آية ألله العظمى البروجردي وتمر اليوم بفترة أخرى مماثلة ، فهي اليوم تقف في قمة إزدهارها وتطورها.
ومن جانب آخر إحتفظت الحوزة العلمية العريقة في مدينة مشهد المقدسة بإستمراريتها وديمومتها ، بسبب إرتباطها بموقع تاريخي مقدس حيث الروضة المباركة لسيدنا ألإمام علي إبن موسى الرضا عليه السلام.
من كل ذلك ، نتوصل إلى نتيجة أن الحوزات العلمية الدينية تنشط وتستمر وتزدهر وتتطور في ألأماكن الدينية المقدسة أكثر بكثير جدا من ألأماكن العادية ، ففي ألأماكن الدينية المقدسة جاذب وحافز لا يوجدان في خلافها، وإن من أكثر ألأماكن قدسية وتبركا لدى الشيعة ، هي أرض كربلاء ومدينة الحسين المشرفة.
لقد اخذت مدينة كربلاء ، بعدما إنحسرت عنها إجراءات الردع والقمع وألأعمال القسرية والزجرية التي كان يواجهها جموع زوار قبر الحسين عليه السلام، على يد زبانية الخلفاء ألأمويين والعباسيين، تعج بالعلماء والفقهاء ، وذلك مذ أواخر القرن الثالث الهجري، حينما بدأت أعداد كبيرة من العلويين تفد إلى كربلاء للسكنى بجوار قبر الحسين عليه السلام، ثم تضاعفت نسبة الوافدين من السادة العلويين وخاصة من ذرية ألإمام موسى الكاظم عليه السلام، المعروفين بالسادة الموسويين، في عهد الدولة البويهية ، مثلما رحل إليها طلاب العلم والفضيلة من ألأقطار والمدن القريبة والنائية ، فنشطت في ارجاءها الحركة العلمية وباتت حلقات الدرس والبحث تقعد في حنبات صحن الروضة الحسينية الشريفة ، وفي بيوت الشعر وألأكواخ التي كانت تحيط حول الروضة الشريفة ، وذلك نظرا لأن أرض كربلاء لم تتخذ شكل مدينة متكاملة متمصرة بمعنى الكلمة ، إلا على عهد البويهين في مطلع القرن الرابع الهجري ، فالبويهيين هم أول من أهتم بتشييد وتعمير أرض كربلاء

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 98

المقدسة إلى جانب إهتمامهم الكبير بخلق حركة علمية فيها.
ومما زاد من تطور حركة العلم والمعرفة والفضيلة بمدينة كربلاء ومهد السبيل أمام ظهور أعرق وأقدم حوزة علمية للشيعة ألإمامية على ارضها الطاهرة، هو بزوغ نجم عالم كبير وفقيه فحل فهوم، كان له دوره التاريخي في دفع مسيرة العلم أشواطا بعيدة إلى ألأمام . وهذا العالم الكبير هو «حميد بن زياد بن حماد بن هواز الدهقان أبو القاسم النينوى» الذي إشتهر بغزارة علمه وكثرة تصانيفه وباعه الطويل في البحث والدرس والتحقيق والمناظرة ألإستدلالية وسعيه وجهده الدؤوب في تربية جيل من العلماء والفقهاء.
وقد ذكره الشيخ الطوسي في كتابه المسمى بـ «الفهرست» فقال: حميد بن زياد من أهل نينوى قرية إلى جانب الحائر على سكنه السلام ، ثقة كثر التصانيف ، روى ألأصول أكثرها ، له كتب كثيرة على عدد كتب ألأصول، أخبرني برواياته وكتبه أحمد بن عبدون عن أبي طالب ألأنباري عن حميد، واخبرني بها ايضا احمد بن عبدون عن أبي القاسم علي الكاتب عن حميد . وذكره في رجاله فيمن لم يرو عنهم (عليهم السلام) فقال: إبن حبشي بن قوني بن محمد حميد بن زياد من أهل نينوى قرية إلى جانب الحائر على ساكنه السلام، عالم جليل واسع العلم ، كثير التصانيف ، قد ذكرنا طرفا من كتبه في الفهرست.
وقال عنه «النجاشي» في رجاله ما يلي: حميد بن زياد بن حماد بن زياد الدهقان أبو القاسم ، سكن «سورا» ,إنتقل إلى نينوى ، قرية على العلقمي إلى جانب الحائر على ساكنه السلام، كان ثقة واقفا وجها فيهم ، سمع الكتب وصنع وصنف: 1 ـ الجامع في أنواع الشرائع ، 2 ـ الخمس، 3 ـ الدعاء، 4 ـ الرجال ، 5 ـ من روى عن ألإمام الصادق عليه السلام، 6 ـ الفرائض ، 7 ـ الدلائل، 8 ـ ذم من خالف الحق وأهله، 9 ـ فضل العلم والعلماء، 10 ـ الثلاث وألأربع، 11 ـ النوادر وهو كتاب كبير، اخبرنا أحمد بن علي بن نوح : حدثنا الحسين بن علي بن سفيان، قرأت على حميد بن زياد كتاب الدعاء، وأخبرنا الحسين بن عبدالله : حدثنا أحمد بن جعفر بن سفيان عن حميد بكتبه، قال

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 99

أبو المفضل الشيباني / أجازنا سنة 310 هـ ، وقال أبو الحسن علي بن حاتم: لقيته سنة 306 هـ وسمعت منه كتابه «الرجال» وأجاز لنا ، ومات حميد سنة 310 هـ .
وجاء في كتاب «إيضاح ألإشتباه» : حُمَيد مصغرا إبن زياد بن حماد بن حماد (مرتين) إبن زياد هواز بفتح الهاء والواو بكسر الزاي المهملة (بمعنى رئيس القرية) .
كما ترجمته الوافية والتفضيلية ، وردت في كتاب الرجال للمامقاني، ذكر فيها تعداد آثاره المصنفة وتلامذته، وممن أخذوا إجازتهم عنه.
وفي ضوء النشاطات العلمية والفقهية والتدريسية المكثفة التي قام بها حميد بن زياد النينوى من موقعه بمدينة كربلاء ، يمكن القول أنه كان مؤسسا ومنشأ لنواة أولى حوزة علمية عريقة في كربلاء ، لأن في زمانه ظهرت وبرزت نهضة علمية وحركة تدريسية تطورتا وتوسعتا وتواصلتا على مر القرون في ساحة كربلاء المقدسة.
ومن مؤشرات تواصل وإستمرار هذه النهضة العلمية جيلا بعد جيل ، في أعقاب وفاة هذا العالم والفقيه المؤسس هو ظهور عالم عظيم وفقيه متبحر وأستاذ بارع فهّام هو عماد الدين محمد بن علي بن حمزة الطوسي المكنى بابن حمزة، والذي لعب دورا فاعلا ومؤثرا في تربية جيل من الفقهاء والعلماء مثلما خلف تركة علمية وفقهية غنية ، فمن تصانيفه : الوسيلة ، الواسطة ، الرايع في الشرايع، مسائل في الفقه ومنتخب الدين.
تتلمذ إبن حمزة في بغداد على يد شيخ الطائفة ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، فعندما أنهى دراسته في حوزته قفل راجعا إلى كربلاء ، لما على ساحتها العلمية من جاذب شده إليها ، بسبب أن عالم الدين لا جرم ينجذب لبيئة تناسب علمه ، ولم تكن في هذا الوقت بعد بغداد والكاظمية على مقربة منها ، بيئة علمية أخرى سوى مدينة كربلاء.
وفي هذا الوقت لم تكن مدينة النجف قد نشأت بعد ، ولم تكن قد رأت

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 100

النور، إذ لم يكن على أرضها الطاهرة المقدسة سوى قبر ألإمام علي إبن أبي طالب عليه السلام ومبنى غير كبير مخصص لإستراحة زواره يقع على مقربة من القبر الشريف.
وعلى ضوء ما تقدم ، نتوصل إلى حقيقة أن مدينة كربلاء كانت مؤهلة تماما لأن تضم في رحابها وبين ظهرانيها أولى وأعرق حوزة علمية للشيعة ، فلها من آيات القدسية والبركة والكرامة والشرف ، القسط ألأوفر والنصيب ألأكبر ، خاصة أن تشكيلة الناس الذين سكنوها هي تشكيلة إجتماعية ذات إتجاه علمي وأدبي وديني قوي وإن نسبة كبيرة ممن قطنوها خلال القرون ألأولى من نشأتها وتمصرها ، هي من العلويين والسادة الموسويين الذين ينتسبون للأئمة ألأطهار، والذين من المفترض فيهم أن ينهضوا لترسيخ دين وشرعة جدهم ألأكبر النبي محمد صلى ألله عليه وآله وسلم ، ولتدعيم أسس ألإمامة والولاية ، ألأمر الذي وفر جوا دينيا وروحيا متساميا في كربلاء ، كان لا بد أن ينشأ ويترعرع في وسطه دعاة الدين والفضيلة ، ومبلغوا القيم الروحية.
وإلى جانب كل ذلك ، كان الجاذب الحسيني يقوى ويشتد عقدا بعد عقد وجيلا بعد جيل، نظرا لأن العقليات والعراقيل والصعوبات التي كانت تقف في وجه حركة الهجرة المتزايدة بإتجاه مدينة كربلاء أو في وجه وفود الزائرين لمرقد الحسين عليه السلام أخذت وتزول بالتدريج وذلك بسبب زوال الحكام الطغاة ، الذين إتخذوا موقف العداء والحقد والكراهية أزاء حماة الحسين عليه السلام ، وأنصاره وتبعيه وزائري قبره ، وعشاق ملحمته التاريخية ، بل وعلى العكس من ذلكبدأ بعض الملوك وألأمراء والحكام يتبارون في التقرب لهذه ألأرض الطاهرة ، والتسارع لتشييد الروضة الحسينية وتوسيعها وتطويرها ، وألإسهام الفاعل في دفع عجلة العمران والنماء وألإزدهار في مدينة كربلاء، إضافة لتسابقهم في تنشيط الحركة العلمية في ربوعها.
فمنذ مطلع القرن الرابع الهجري وبالتحديد منذ عهد البويهيين بدأت كربلاء تشهد مرحلة متميزة من حركة العمران وألإزدهار ، فيما تجدد بناء الروضة الحسينية كما جرت أعمال التعمير والتشييد للحائر الحسيني في عهد

السابق السابق الفهرس التالي التالي