تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 117

علماء كبار وزعماء دينيين عظام ، مثلما تفتر ويخبو بريقها حينما تخلو ساحتها من الوجوه العلمية اللامعة المتألقة ، حتى وإن ظلت محتفظة بعلماء من الطراز الثاني.
لقد شهدت الساحة العلمية في كربلاء عبر التاريخ ، شخصيات علمية ودينية من الطراز ألأول والطبقة المتميزة ، وبفضل هؤلاء تكثف النشاط العلمي والتدريسي فيها بشكل غير عادي حتى وصلت إلى الذروة ، اي نقطة المنعطف التاريخي.

حوزة كربلاء على عهد إبن فهد الحلي:

في القرن التاسع الهجري حدثت نقلة نوعية في حوزة كربلاء العلمية فقد تطورت المعاهد والمدارس العلمية الدينية فيها، وإكتظت برجالات الفكر وأعلام ألأدب ورواد العلم والثقافة الذين إتجهوا إليها من كل حدب وصوب ، حيث كثرت بهم وتنوعت حلقات الدرس والبحث والمناظرة ألإستدلالية ، فإنتشرت فصول الدرس وقاعات المحاضرة في ارجاءها المختلفة ، وخلال هذا القرن وخاصة في نصفه الثاني إنجذب إليها رعيل من ذوي العقول النيّرة والمواهب المبدعة وألأفكار الخلاقة ، يتصدرهم الزعيم الديني والعالم الزاهد والمجاهد ألإسلامي الشيخ أحمد بن محمد بن فهد الحلي صاحب الفضائل والكرامات الكثيرة.
إنتقل شيخنا الحلي إلى كربلاء قادما من مدينة الحلة التي كانت الحركة العلمية ناشطة ومزدهرة فيها حينذاك ، كما اشرنا في قبل ، وبرز فيها بعد فترة بوصفه الزعيم الديني والعالم والبحاثة المقتدر والمتمكن من فروع وأصول الفقه الشيعي ألإجتهادي مما جعله في مركز دائرة إهتمام الناس المؤمنين والمتدينين.
ومن موقعه العلمي المتميز تبنى الحركة العلمية في كربلاء ومنحها دفعا قويا حيث جمع حوله تلامذة كثيرين ، وكانت دروسه مليئة بطروحاته العلمية وابحاثه وتقريراته الفقهية، وغالبا ما كانت حلقات درسه تتحول إلى

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 118

ساحة يحتدم فيها النقاش العلمي الموضوعي ويدور الجدل فيها حول المسائل والموضوعات الفقهية ألأساسية والفرعية ، وقد وصفه المؤرخون وعلماء الرجال والنسابة، بأشهر وانبه فقهاء القرن الثامن والتاسع الهجري.
ولد الشيخ جمال الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن فهد الحلي ألأسدي سنة 757 هـ وتوفى سنة 841 هـ ، ودفن في كربلاء ودفن في الحائر وقبره ظاهر خلف المخيم الحسيني في بستان يعرف ببستان النقيب، وأصبح قبره مزارا للمؤمنين بوصفه الولي العابد الزاهد صاحب الكرامات والفضائل.
وقد اسهب في شرح حياته وترجمته الكثير من المؤرخين والمؤلفين ، فقال عنه مؤلف كتاب «روضات الجنات»: هو الشيخ العالم العارف وكاشف أسرار الفضائل، جمال الدين ابو العباس أحمد بن شمس الدين محمد بن فهد الحلي الساكن بالحلة السيفية والحائر الشريف (كربلاء) حيا وميتا. وله من ألإشتهار بالفضل وألإتقان والذود والعرفان والزهد وألأخلاق والخوف وألإشفاق ، جمع بين المعقول والمنقول والفروع وألأصول والقشر واللب واللفظ والمعنى والظاهر والباطن والعلم والعمل بأحسن ما كان يجمع، أجازه العلامة والمحقق الكبير علي بن الخازن في الحائر الحسيني سنة 791 هـ .
وكانت شخصيته بتلك المرتبة التي أثارت إعجاب وإستحسان أرباب العلم والقلم ، إلى جانب أن سيرة حياته طافحة بكل ما هو تليد إلى حد إعتبارها مأثرة علمية خالدة.
بيد أن زهده الشديد والمغالي فيه أوهم الكثيرين بأن له ميلا ورغبة بالنزعة الصوفية ، لكن صاحب أعيان الشيعة ـ المرحوم العلامة الكبير السيد محسن العاملي ينفي عنه هذا النعت، إذ يقول بالحرف الواحد: فالتصوف الذي ينسب إلى هؤلاء ألأجلاء ، مثل إبن فهد وإبن طاووس والخواجه نصير الدين والشهيد الثاني والبهائي وغيرهم ، ليس إلا إنقطاع إلى الخالق

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 119

جل شأنه والتخلي عن الخلق والزهد في الدنيا والتفاني في حبه تعالى وأشباه ذلك ، وهذا غاية المدح، لا ما ينسب إلى بعض الصوفية مما يؤول إلى فساد ألإعتقاد كالقول بالحلول ووحدة الوجود وشبه ذلك، أو فساد ألأعمال، كألأعمال المخالفة للشرع التي يرتكبها كثير منهم في مقام الرياضة والعبادة وغير ذلك.
ولتبرئته من ميله إلى التصوف يقول صاحب كتاب «بهجة ألآمال في شرح زبدة المقال» ـ المولى علي العلياري التبريزي ـ ما نصه : وقوله (قول الشيخ يوسف صاحب الحدائق) : إلا أن له ميلا إلى مذهب الصوفية . . . الخ ، لا يخفى أن هذه النسبة نسبت إلى السيد إبن طاووس والخواجه نصير الدين والشهيد الثاني وشيخنا بهاء الدين العاملي ومحمد تقي المجلسي (والد صاحب البحار) وغيرهم من رؤساء الملة والعلماء ألأجلة ، وغير خفي أيضا أن التصوف إنما هو من فساد ألإعتقاد كالقول بالحلول أو الوحدة في الوجود أو ألإتحاد ، أو فساد ألأعمال كألأعمال المخالفة للشرع التي يرتكبها كثير من المتصوفة في مقام الرياضة أو العبادة ، وغير خفي على المطلعين على أحوال هؤلاء ألأجلة ، إنهم منزهون من كلا الفسادين قطعا ، فلهذا :قال المجلسي الثاني في آخر عقايده: وإياك أن تظن بالوالد العلامة نور ألله ضريحه ، إنه كان من الصوفية ويعتقد مسالكهم ومذاهبهم ، حاشاه عن ذلك ، وكيف يكون كذلك؟ وهو كان آنس اهل زمانه بأخبار أهل البيت (عليهم السلام) ، وأعلمهم بها ، بل كان سالك مسال الزهد والورع، وكان في بدو امره يتسمى بإسم التصوف ، ليرغب إليه هذه الطائفة ولا يستوحشوا منه، فيردعهم عن تلك ألأقاويل الفاسدة وألأعمال المبتدعة ، وقد هدى كثيرا

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 120

منهم إلى الحق بهذه المجادلة الحسنة. ولما رأى أن تلك المصلحة قد ضاعت ، ورفعت أعلام الضلال والطغيان ، وغلبت أحزاب الشيطان ، وعلم أنهم اعداء ألله صرحا، تبرأ منهم وكان يكفرهم في عقايدهم الباطلة ، وأنا أعرف بطريقته ، وعندي خطوط في ذلك.
ويقول صاحب «بهجة ألآمال في شرح زبدة المقال» : ومن هنا يظهر التأمل في ثبوت الغلو وفساد المذهب ، بمجرد رمي علماء الرجال من دون ظهور الحال كما هو حقه. ويضيف بالقول: ثم إن هذا الشيخ ألأجل (إبن فهد الحلي) كان في الحلة السيفية، وله الرواية بالقراءة وألإجازة عن الشيخ مقداد السيوري، وعلي بن الخازن الحائري ، وإبن المتوج البحراني.
وقال صاحب كتاب «روضات الجنات» : وجدت في بعض مصنفات من عاصرناه ، إن إبن فهد ناظر أهل السنة في زمان (الميرزا أسبند التركمان) في ألإمامة ، وكان واليا على عراق العرب، فتصدى لإثبات مذهبه وإبطال مذاهب أهل السنة ، وغلب على جميع علماء أهل العراق. فغير الميرزا مذهبه وخطب بإسم أمير المؤمنين وأولاده ألأئمة (عليهم السلام).
يروي عن إبن فهد الحلي عدد من كبار العلماء الثقات ألأجلة منهم : الشيخ علي بن هلال الجزائري، والشيخ علي بن عبدالعال الكركي، والشيخ العالم الفقيه عز الدين الحسن بن علي بن أحمد بن يوسف الشهير بـ (إبن العشرة الكرواني العاملي) ، وكان هذا ألأخير من العلماء العقلاء ، كثير الورع والعبادة ، وجاء ذكره في ألأمل: إنه كان فاضلا زاهدا فقيها ، وكانت أمه ولدت في بطن واحد عشرة أولاد في غشاء من جلد ، فعاش منهم واحد ومات الباقي ، فلذلك سمي إبن العشرة ، يروي عن إبن فهد.
وكان إبن فهد الحلي من أجلاء تلامذة العالم والفقيه النحرير، الشيخ علي بن الخازن الحائري، الذي كان من مشاهير أعلام الدين والفضيلة في حوزة كربلاء في القرن الثامن الهجري ، وكان على جانب عظيم من العلم والمعرفة ، والورع والصلاح والتقى، قال فيه صاحب «روضات الجنات» السيد

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 121

الخونساري: كان (رحمه ألله) من المحققين الفضلاء ، حاله في الفضل والنبالة ، والعلم والفقه ، والفصاحة وألأدب وألإنشاء ، معلوما معروفا عند العامة والخاصة ، وكفاه فخرا تتلمذه على شيخنا الشهيد ألأول، وأجازه وكتب في إجازته وقال: لما كان المولى الشيخ العالم المتقي ، الورع المحصل ، القائم بأعباء العلوم ، الفائق أولي الفضائل والفهوم زين الملة والدين أبو الحسن علي بن المرحوم السعيد الصدر الكبير العالم عز الدين أبي محمد الحسن بن المرحوم المغفور سيدنا ألإمام شمس الدين محمد، الخازن بالحضرة الشريفة المطهرة مهبط ملائكة ألله ومعدن رضوانه التي هي من أعظم رياض الجنة المستقر بها سيدُ ألإنس والجن إمام المتقين وسيد اشهداء في العالمين ريحانة رسول الله وسبطه وولده أبي عبدالله الحسين عليه السلام ، إبن سيد الثقلين أمير المؤمنين أبي الحسنين علي بن أبي طالب عليه السلام ممن رغب في إنشاء العلوم العقلية والنقلية وألأدبية والشرعية إستجاز العبد المغتفر إلى ألله تعالى محمد بن مكي ، فإستخار ألله واجاز له جميع ما يجوز عنه ، وله روايته من مصنف ومؤلف ومنثور ومنظوم ومقروء ومسموع ومتناول ومجاز فيما صنفه . . . الخ؟
وكان الشيخ أحمد بن فهد الحلي يروي عن الشيخ علي بن الخازن الحائري ، الذي اجازه بالرواية عنه في سنة 791 هـ بالحائر الحسيني ، توفى الشيخ علي بن الخازن كما في بعض النسخ سنة 793 هـ .

المدرسة ألإخبارية في كربلاء:

منذ القرن العاشر الهجري شهدت الحركة العلمية في كربلاء فتورا نسبيا ،وإشتد هذا الفتور ، وإتخذ منحى خطيرا في القرن الحادي عشر ، وإستمر فشمل القرن الثاني عشر أيضا ، إلا ما أستثني منه عقداه ألأخيران. ولم يقتصر الفتور العلمي على حوزة كربلاء بل شمل كذلك حوزة النجف وسائر الحوزات في العراق وإيران.
ففي القرن العاشر الهجي ، لم تبرز على الساحة العلمية في كربلاء

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 122

شخصيات علمية من الطراز ألأول، صحيح أن هناك أسماءا لمعت ، لكن أصحابها لم يكونوا بتلك المكانة العلمية الرفيعة بما يؤهلهم لخلق نهضةعلمية نشطة ، أي أن المسرح العلمي خلا من الشخصيات التاريخية ومن الرموز المتألقة التي تكمن فيها عوامل الجذب والحركة ، والتجديد وألإبداع ، وكان من نتيجة ذلك أن حصل تخلخل أو بألأحرى فراغ على الساحة العلمية ألإسلامية.
وحينما يطرأ فراغ ما على أي صعيد من أصعدة الحياة ، فإنه من الطبيعي جدا أن يتم ملء هذا الفراغ بصورة أو بأخرى ، خاصة إذا ما إستمر لفترة طويلة ، وإذا لم يحصل ملء الفراغ من جديد بواسطة قوى متجددة للإتجاه السابق الذي كان يشغله ، فأنه لا جرم سيملأ من جانب قوى لإتجاه آخر قد يكون على نقيض أو تعارض مع ألإتجاه ألأول، وإن أي إتجاه يملأ الفراغ يصبح هو الغالب فيه ، لأنه يفرض سيطرته على الساحة التي نشأ الفراغ فيها أصلا.
ولكن يبرز سؤال هنا، وهو لماذا حصل أصلا مثل هذا الفراغ في الحوزات العلمية وعلى المسرح العلمي ألإسلامي بوجه عام؟.
للرد على ذلك نقول:لقد برزت نزعة التصوف والركون إلى الغيبيات البحتة، وألإنقطاع عن شؤون الحياة المعاشة على مستوى العالم الإسلامي وبخاصة في إيران والعراق وذلك من جراء الظروف وألأحوال المتردية التي شهدتها البلدان ألإسلامية ، حينما سادتها حالة خطيرة من التقهقر والتأخر والفوضى والتناحرات الداخلية ، ألأمر الذي نتج عنه إضطراب في ألأمن وتسيب خطير في مقاليد ألأمور ، إذ الحروب الطاحنة كانت على أشدها بين ألأمراء والحكام في الدول ألإسلامية ،وبخاصة بين الدولتين ألإسلاميتين العظيمتين ألإيرانية والعثمانية وكذا بين الدولتين ألإيرانية وألأفغانية.
وقدإتسم معظم هذه الحروب بالطابع المذهبي العقائدي ، اي أنها كانت مشتعلة ألأوار تتعلق بالخلافات المذهبية العقائدية ، مما تسبب

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 123

في خلق موجة من البلبلة والتشويش في ألأفكار وألإتجاهات وفي إضعاف وإنهاك الروح المعنوية بين الناس.
ومن العوامل الرئيسية التي قوت ألإتجاه الصوفي المغالى فيه، واسندته بشكل مقنن ، هو ظهور ألأسرة الصفوية على مسرح الحكم الزمني في إيران، والتي نهض بعض ملوكها للدعوة والترويج لنزعة التصوف، فقد كان مؤسس هذه ألأسرة «الشاه صفي» صوفيا متشددا، ونظرا لأن أيدولوجية هؤلاء الملوك في حكم الدولة تمثلت في الركون إلى التصوف ، لذا سعوا إلى نشره وترويجه سرا في البداية ، وعلنا في المراحل اللاحقة حتى أخذت النزعة الصوفية إطارها الرسمي المتقن.
إن تفكك الصلة التي تشد رجال الدين بالحياة المعاشة وبحقائقها المحسوسة والملموسة ، وإبتعدهم عن تفاعلات المسرح ألإجتماعي ، ومسيرة النشاطات اليومية وإنقطاعهم عن الموقف الزمني بوجه عام، بسبب الظروف المأساوية التي عمت أرجاء العالم ألإسلامي ، في خضم التناحرات والصراعات بين أولي ألأمر واصحاب السلطة والجاه فيه، والتي كان سواد الناس أودها وقرابينها ، أدى بالتالي إلى إنتشار عادة الزهد المغالى في جميع شؤون الحياة ، وخلق حالة من اليأس وألإحباط وتدعيم روح ألإستسلام والقنوط، مما نشأت عنه نزعة التصوف التي بإنتشارها وإستمرارها إتخذت بالتدريج إطارا علميا على حساب الفلسفة ألإشراقية التي كان لها أنصار أقوياء ، مثل الملا صدر الدين الشيرازي المتوفى سنة 1050 هـ .
وبسبب الفتور العلمي الطويل الذي ساد الحوزات العلمية في كربلاء والنجف والحوزات العلمية في إيران ، وكذا غياب ألإتجاه العلمي المتعمق والمسنود بقوة العقل والمنطق والعرف المقبول، باتت نزعة التصوف تطغى على كل شيء وتتخذ طابع الغلو المتزايد.
وهكذا إنصرم القرن الحادي عشر مثلما إنصرم أكثر عقود القرن الثاني عشر فيما الروح العلمية راكدة وفاترة إلى حد كبير ، حتى أنه بعد الشيخ

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 124

المجلسي صاحب كتاب «بحار ألأنوار»المتوفى سنة 1111 هـ ، لم تلمع أسماء بارزة من الفقهاء ألأصوليين ، ممن يستحقون أن يصنفوا في الطبقة ألأولى ، أو ممن تتوفر لهم مكانة الرئاسة العامة ، ما عدا واحد أو إثنين ظهرا في أواخر القرن الثاني عشر وهما الشيخ الفتوني في النجف المتوفى سنة 1183 هـ ، والمجتهد البارع ألآغا وحيد البهبهاني في كربلاء المتوفى سنة 1208 هـ .
وأمام ظاهرة تفشي نزعة التصوف والمغلات فيها إلى أبعد الحدود ، كان لا بد من حدوث رد فعل معاكس ، غير أن الرد العكسي هذا ، لم يأت من جاني دعاة توظيف علم ألأصول في إستنباط ألأحكام الشرعية من نصوصها ألصلية والفرعية ، وما يتطلب ذلك من تدقيق وتحقيق في مصادر ألأخبار والروايات ، ومن فرز بين قويها وضعيفها ، وبين ما هو من ألأخبار حقيقي وما هو مدسوس ومختلق تبعا لشخصية الرواة والمحدثين ، بل جاء الرد من أفكار جديدة ظهرت على الساحة الدينية في كربلاء أولا، ومن ثم في حوزة النجف ، فبدأت تدعو الناس إلى التمسك فقط بألأخبار الواردة في الكتب الموثوق بها، والتقيد بظواهرها دون إعتبار لمصادرها ونبذ علم الأصول ، من حيث أن العقل لا يجوز الرجوع إليه في كل شيء.
ثم بدأت مع هذه ألأفكار مسيرة الغلو، حتى إنتهى المطاف بها إلى مرحلة نكران ألإجتهاد وترك التقليد في المسائل وألأحكام الشرعية.
ويظهور هذه ألأفكار نشأت مدرسة ألإخبارية الحديثة ، وكان أول من دعا لهذه الفكرة هو السيد الميرزا محمد أمين ألإسترابادي المتوفى سنة 1023 هـ ، وقد تزعم ألإخباريين في القرن الحادي عشر الهجري ، وهو أول من باحث المجتهدين ألأصوليين، داعيا للعمل بمتون ألأخبار الواردة قائلا: إن إتباع العقل وألإجماع وإجتهاد المجتهد وتقليد العامي للشخص المجتهد من المستحدثات وقد ضمن آراءه هذه في كتاب سماه «الفوائد المدنية في الرد على من قال بألإجتهاد والتقليد» وهو كتاب مطبوع وكان عند تأليفه له مجاورا بالمدينة ، فسماه بـ «الفوائد المدتية . . . ».

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 125

ثم لمع إسم شخصية علمية ذات مكانة مرموقة وشأن عظيم على صعيد الفقه الجعفري ألإمامي في حوزة كربلاء ، هو المحدث الكبير والفقيه النحرير الشيخ يوسف بن الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صالح بن عصفور بن أحمد بن عبدالحسين بن عطية بن شيبة الدرازي البحراني صاحب كتاب «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» ، المولود سنة 1107 هـ والمتوفى سنة 1186 هـ والذي كان من أجلاء وأفاضل العلماء المتأخرين ،وكان صاحب ذهن متوقد وذوق سليم متزن وله باع طويل في الفقه والحديث وكان على طريقة ألإخباريين ، وإن لم يكن متطرفا في ميله هذا ، ويقال إنه إتجه إلى ألأصول عندما أقنعه العلماء المجتهدون وعلى رأسهم الوحيد البهبهاني.
وقد قال في حقه أبو علي صاحب كتاب الرجال : عالم فاضل متبحر ماهر محدث ورع عابد صدوق ديّن من أجلة مشايخنا المعاصرين ، وأفاضل علمائنا المتبحرين ، كان أبوه الشيخ أحمد من أجلة تلامذة شيخنا الشيخ سليمان الماحوزي وكان عالما فاضلا محققا مدققا مجتهدا صرفا . . . رجع إلى الطريقة الوسطى وكان يقول أنها طريقة العلامة المجلسي صاحب البحار وعلق صاحب «أعيان الشيعة» على الطريقة الوسطى بقوله: وكان مراده بالطريقة الوسطى ترك بعض ما يقوله ألإخباريون من أنهم لا يعملون إلا بالقطع ، وإن ألأخبار قطعية وغير ذلك من ألأمور، وإلا فالرجل إخباري صرف ، لا يدخل في شيء من طرق المجتهدين كما تشهد بذلك مصنفاته، نعم ربما يكون قد ترك شيئا من مقالاتهم ، فقيل فيه أنه على الطريقة الوسطى.
وقال في ترجمته نفسه في «إجازته الكبيرة» : أنه ولد في السنة السابعة بعد المائة وألألف في قرية «الماحوز» بالبحرين ، وإشتغل وهو صبي على والده (طاب ثراه) ثم على العالم العلامة الشيخ حسين الماحوزي، وإشتغل أيضا على الشيخ أحمد إبن عبدالله البلادي وغيرهما من علماء البحرين، وبقي مدة مشتغلا بالتحصيل ، ثم سافر إلى الحج وزار النبي صلى ألله عليه وآله وسلم وأهل بيته،

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 126

ثم رجع إلى القطيف وبقي بها مدة مشتغلا بالتحصيل ، وبعد خراب البحرين وإستيلاء ألأعراب وغيرهم عليها فر إلى ديار العجم وقطن كرمان ، ثم في شيراز وتوابعها من ألأصطهبانات مشتغلا بالتدريس والتأليف ، ثم سافر إلى العتبات العاليات وجاور كربلاء شرفها ألله ، إلى أن قبض بها بعد ظهر يوم السبت الرابع من شهر ربيع ألأول سنة ست وثمانين بعد ألألف والمائة ، وتولى غسله كما في رجال أبي علي المقدس الشيخ محمد علي الشهير بإبن السلطان والحاج معصوم وهما من تلامذته، وقال : صلى عليه العلامة البهبهاني (الوحيد البهبهاني) ، وإجتمع خلف جنازته جمع كثير وجمهور غفير مع خلو البلاد من أهلها لحادثة نزلت بهم ، قيل وهي الطاعون العظيم الذي كان في تلك السنة في العراق، وهاجر فيها السيد بحر العلوم إلى مشهد الرضا عليه السلام ثم رجع إلى أصفهان ، ودفن في الرواق عند رجلي سيد الشهداء مما يقرب من الشباك المبوب المقابل لقبور الشهداء ، وإبتلي في آخر عمره بثقل السامعة ، كما عن المحقق السيد محسن البغدادي في رسالته التي رد بها مقدمات الحدائق.
له مؤلفات نافعة منها وهو أحسنها : «الحدائق الناضرة في احكام العترة الطاهرة » ، خرج منه جميع العبادات إلا الجهاد، وأكثر المعاملات إلى الطلاق ، و «الدرر النجفية»، و «سلاسل الحديد في تقييد أبي الحديد» ردا على شرحه لنهج البلاغة ، و «الشهاب الثاقب في معنى الناصب» ، و «النفحات الملكوتية في الرد على الصوفية»، و »أعلام القاصدين إلى مناهج أصول الدين» ، و «معراج النبيه في شرح من لا يحضره الفقيه» ، و «جليس الحاضر وأنيس المسافر» ، و «لؤلؤة البحرين» ، والكتاب ألأخير يشتمل على ترجمة أحوال أكثر علماء الشيعة إلى زمان الصدوقين ، وعشرات من الرسائل من أهمها : «إنفعال الماء القليل بالنجاسة» ردا على الكاشي، و «الرد على السيد الداماد في قوله بعموم المنزلة في الرضاع» ، و «أجوبة المسائل البحرانية»، و «أجوبة المسائل البهبهانية» و «أجوبة المسائل الكازرونية»، و «أجوبة المسائل الشيرازية ».

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 127

مما تقدم يتبين لنا أن حوزة كربلاء اصبحت متأثرة بالمدرسة ألإخبارية وباتت هذه المدرسة هي الموجهة للحركة التدريسية فيها وإستمرت هذه المدرسةتفرض نفسها على الحركة العلمية في حوزتي كربلاء والنجف وبعض الحوزات ألأخرى، لفترة ناهزت نصف القرن ، لكنها هي ألأخرى طوت مسيرة الغلو ، وذلك بالرغم من ميل كبار الفقهاء ألإخباريين ، الذين إختاروا الطريقة الوسطى والذين لم ينزلقوا في متاهات اللو المفرط، مثل العالم الجليل الشيخ يوسف البحراني المتزمتين والمغالين ، كما جاء آنفا. ولكن عندما وصلت المدرسة الإخبارية إلى ذروة شأنها ، كان لابد من حصول ردة فعل في مواجهتها ، وهكذا برز التحدي الكبير ، وكان ذلك من جانب الفقيه العبقري ، والمجتهد الفحل الشيخ باقر وحيد البهبهاني.
وتبقى هناك حقيقة أخرى وهي أن للإخباريين حججهم وبراهينهم ، ووجهة نظرهم التي لم يتسنى ألإطلاع عليها بالتفصيل ، بيد أن من جملة ما يقولونه ، هو أن ألإلتزام بألأخبار المنقولة ، كان سنة السلف الصالح وكبار علماء الشيعة من قبل، وحتى أن ألأئمة ألأطهار (عليهم السلام) كانوا أخباريين بدورهم أيضا.
والجدير بالذكر هنا، ان هذه المعالجة للحركة ألإخبارية لا تبطن إنحيازا أوإساءة لأحد أو لفئة ، بل الغاية منها هي شرح حقيقة عاشتها الحوزة العلمية في كربلاء قبل أكثر من قرنين ، إذ لا يمكن نكران حقيقة أنه كانت هناك جولة فكرية للإخباريين على الساحة التدريسية والعلمية في كربلاء والنجف، ومن ثم إنكماش لهم أمام مدرسة ألأصوليين بزعامة الوحيد البهبهاني ، هذا تاريخ لم نأت به جديدا . والمهم في ألأمر أن الحرية الفكرية الموجودة في الحوزات العلمية تُاطر دائما بإطار التقوى والتدين ويرجع الشرخ الذي يحدث أحيانا بسبب نشوء أفكار جديدة على الساحة العلمية يرجع ليكون التلاطم هو البديل.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 128


مرحلة ترسيخ ألإجتهاد في حوزة كربلاء:

وهكذا مرت ثلاثة قرون متتالية على حوزة كربلاء، والحركة العلمية فيها متواصلة لكنها فاترة نسبيا ، اوأن ساحتها اصبحت وقفا على المدرسة ألإخبارية حتى أواخر القرن الثاني عشر ، حينما لمع نجم عالم كبير ، ومحقق فهامة ،وفقيه متبحر، هو الشيخ آغا الوحيد البهبهاني ، الذي تصدى للتوفيق بين المدرستين وإرجاع حالة التحقيق العلمي إلى الحوزة ، وإستطاع بمنطقه المقنع ، وتعبيراته المبرهنة ، وإستدلالاته الرصينة ، من أن يغير رأي الكثيرين، فقد كان هذا العالم النحرير والمفكر الفطن ، الذي قيل عنه : إنه مجدد المذهب على رأس المائة الثانية عشرة متكلما لبقا وحصيفا ، حيث مكنته قدرته العلمية الهائلة ، وتعبيراته ألإستدلالية المتزنة من أن ينهض لمجادلة ومناقشة المسائل الخلافية ، مدعوما بمجملة من مؤلفاته ومحاججاته الشفوية، ودروسه وتقريراته ألأصولية التي كان يلقيها على تلامذته الكثيرين ، الذين إلتفوا حوله بالمئات ، حتى إنكمشت في عصره الخلافات الحادة ورجعت الحوزة إلى سابق عهدها في البحث والتحقيق على ضوء المدرسة ألإجتهادية المعروفة. وقد وصفه تلميذه المبرز، العالم الجليل والفقيه النحرير السيد محمد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة 1212 هـ ، في بعض إجازاته بقوله: شيخنا العالم العامل، وأستاذنا الحبر الفاضل، الفهامة المحقق النحرير، والفقيه العديم النظير ، بقية العلماء ونادرة الفضلاء ، مجدد ما إندرس من طريق الفقهاء ، ومعيد ما إنمحى من أثر القدماء ، البحر الزاخر ، وألإمام الباهر، الشيخ محمد باقر إبن الشيخ ألأجل ألأكمل ، والمولى ألأعظم ألأبجل ، المولى محمد أكمل، أعزه ألله برحمته الكاملة ، وألطافه السابغة الشاملة.
كما ترجمه تلميذه ألآخر ، العالم الرجالي ، ابو علي محمد بن إسماعيل المقدس الحائري، المتوفى سنة 1216 هـ ، صاحب كتاب «منتهى المقال في أحوال الرجال» ، فقال فيه : أستاذنا العالم العلامة ، وشيخنا الفاضل الفهامة ، ـ دام علاه ومد في بقاه علامة الزمان، ونادرة الدوران ، عالم عريف ، وفاضل

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 129

غطريف ، ثقة وأي ثقة ، ركن الطائة وعمادها ، وأروع نساكها وعبادها ، مؤلف ملة سيد البشر في رأس الحادية عشرة، باقر العلم ونحريره، والشاهد عليه تحقيقه وتحبيره، جمع فنون الفضل فإنعقدت عليه الخناصر، وحوى صنوف العلم فإنقاد له المعاصر ، والحري أن لا يمدحه مثلي ويصف ، فلعمري تفنى في نعته القراطيس والصحف ، لأنه المولى الذي لم تكتحل عين الزمان له بنظير ، كما يشهد له من شهد فضائله ، ولا ينبئك مثل خبير ، كان ميلاده الشريف في سنة ثماني عشرة أو سبع عشرة بعد المائة وألألف في اصفهان ، وقطن فترة في بهبهان ثم إنتقل إل كربلاء ـ شرفها الله ـ وكان ربما يخطر بخاطره الشريف ألأرتحال منها إلى بعض البلدان ، لتغير الدهر وتنكد الزمان ، فرأى ألإمام الحسين عليه السلام في المنام يقول له : لا أرض أن تخرج من بلادي ، فجزم العزم على ألإقامة بذلك النادي ، وإهتدى المتحير في ألأحكام بأنوار علومه ، وبالجملة كل من عاصره من المجتهدين ، فإنما اخذ من فوائده وإستفاد من فرائده ، وله مصنفات رشيقة ، وتحقيقات أنيقة ، ثم أنهاها زهاء ستين مصنفا صرفنا عن ذكرها مخافة التطويل.
وترجمه الشيخ آغا بزرك الطهراني في كتابه «الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة» فقال عنه: هو الشيخ ألآغا محمد باقر ـ الشهير بألأستاذ ألأكبر وبالوحيد ـ إبن المولى محمد أكمل ألأصفهاني البهبهاني ، مجاهد كبير ، ومؤسس محقق ، وأشهر مشاهير علماء ألإمامية واجلهم في عصره ، ولد بأصفهان في سنة 1118 هـ ، أو 17 ، أو 16 ، نشأ بها ثم إنتقل إلى بهبهان مع والده فاشتغل بها عليه ردحا من الزمن ، ثم هاجر إلى كربلاء فجاورها وحضر على أركان الملة وأقطاب الشريعة من سدنة المذهب وفحول العلماء والغريب أن المترجمين له من القدماء والمتأخرين ، لم يشيروا إلى أحد من مشايخه إلا والده الجليل، وقد عرفنا من بعض مؤلفاته إنه من تلاميذ العلامة السيد صدر الدين الرضوي مؤلف «شرح الوافية التونية» ، فإنه ذكره في «رسالته في ألإجتهاد والتقليد» ، التي الفها في سنة 1155 هـ ، وقد عبر عنه هناك بقوله: السيد السند ألأستاذ ، ومن عليه ألإستناد (دام ظله) ومن

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 130

دعائه له كذلك إستفدنا أن وفاة السيد صدر الدين كانت بعد تلك السنة ، وعلى أي حال فإن المترجم لما ورد كربلاء المشرفة قام بأعباء الخلافة ونهض بتكاليف الزعامة وألإمامة ، ونشر العلم بها وإشتهر تحقيقه وتدقيقه وبانت للملأ مكانته السامية ، وعلمه الكثير ، فانتهت إليه زعامة الشيعة ورئاسة المذهب ألإمامي في سائر ألأقطار، وخضع له جميع علماء عصره ، وشهدوا له بالتفوق والعظمة والجلالة ، ولذا أعتبر مجددا للمذهب على رأس هذه المائة، وقد ثنيت له الوسادة زمنا إستطاع خلاله أن يعمل ويفيد ، فهو الوحيد من شيوخ الشيعة ألأعاظم الناهضين بنشر العلم والمعارف ، وله في التاريخ صحيفة بيضاء، يقف عليها المتتبع في غضون كتب السير ومعاجم الرجال، والحق إنا وإن أطنبنا في ذكره ، وأشدنا به فلا شك أنا غير واصفيه على حقيقته ، وقد أحسن وأنصف الشيخ عبدالنبي القزويني في «تتميم ألأمل» ، حيث إعترف بالعجز عن توصيفه وتعريفه ، فكيف يوصف وبأي مدح من خرج من معهد درسه جمع من أعلام الدين وعباقرة ألأمة وشيوخ الطائفة ونواميس الملة كالمولى مهدي النراقي والميرزا أبي القاسم القمي والميرزا مهدي الشهرستاني والسيد ألأعرجي والشيخ أبي علي الحائري والشيخ ألأكبر كاشف الغطاء (الشيخ جعفر) ، والسيد مهدي بحر العلوم، والشيخ أسد ألله الدزفولي والسيد أحمد الطالقاني النجفي ، والسيد محمد باقر حجة ألإسلام ألأصفهاني وغيرهم من مشيدي دعائم الدين ، ومقومي أركان المذهب ، اعلى ألله درجاتهم جميعا. توفى المترجم في الحائر الشريف في سنة 1208 هـ ، ودفن في رواق حرم الحسين عليه السلام مما يلي أرجل الشهداء ، ورثاه جمع كبير من علماء ذلك العصر وشعراءه، كالشسخ محمد رضا النحوي والشيخ مسلم إبن عقيل . . . والسيد محمد زيني ، والشيخ علي بن محمد حسين الكاظمي المعروف بـ «زيني»أيضا، والشيخ محمد علي ألأعسم وغيرهم، وله تصانيف جليلة ، ورسائل كثيرة ملأها بنظراته العميقة وأفكاره العالية ، يقول بعض مترجميه أنها قرب ستين رسالة وكتاب، إلا أني رأيت فهرسها بخطه الشريف على ظهر بعض تصاينفه التي رأيتها في مكتبة السيد محمد علي السبزواري كتبه بالفارسية هكذا: «تفصيل مؤلفات أين أقل أذل محمد باقر بن محمد

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 131

أكمل عفي عنهما بمحمد وآله . . . » ، ثم شرع في تعدادها حتى انهاها إلى أربعة واربعين كتابا ورسالة ، مع تعيين مواضيعها وفهرس فصول بعضها. . . الخ.
وبخصوص مدرسة ألآغا باقر الوحيد البهبهاني ومباحثاتها مع مدرسة ألإخباريين، فقد ذكر رجل الدين المسيحي ألأب «أنستاس ماري كرملي» ما معناه: لقد كانت في القرن الثاني عشر لهجرة نبي ألإسلام محمد العربي ، مدرستان فكريتان للشيعة في كربلاء تتنافسان ، وهما : مدرسة ألإخبارية ومدرسة ألأصولية ، حتى ظهر ذلك العالم الكبير والمصلح العظيم ، العلامة المعروف بألآغا باقر البهبهاني ، نشأ وتألق ذلك العالم العبقري في بهبهان إحدى مدن الخليج الفارسي ، ثم هاجر إلى كربلاء بالعراق، فنفخ في روحه في مدرسة ألأصولية وعلى يد ذلك العلامة الشهير تأسست المدرسة ألأصولية الكبرى أو «دار المعلمين في النجف» ، وصارت هذه المدينة مدرسة عالية ، فالنجف اليوم هي مدرسة ألآغا باقر البهبهاني ، وكل من نبغ فيها أو ينبغ من العلماء ، فهم تلامذة ألآغا البهبهاني.
وعلى كل حال ، فإنه بخلو الساحة العلمية في كربلاء من دعاة ومبلغي الخلافات الحادة ،عاد ألإتجاه ألإجتهادي ألأصولي ليملأها من جديد ، ولكن بمرتكزات علمية ومعطيات دراسية متجددة ، وذلك بفضل التراث الكبير الذي خلفه الوحيد البهبهاني.
ومن مدرسته ألأصولية العقلية التي ترسخت جذورها وتدعمت أسسها في حوزة كربلاء أولا وفي حوزة النجف ثانيا، تخرج فيما بعد رعيل من فطاحل العلماء ألأصوليين ، الذين برزوا وتفوقوا على أسلافهم بدرجات عالية مثل : العلامة الكبير المولى محمد كاظم الخراساني صاحب كتاب «الكفاية» ، الذي بات منذ عهده وحتى اليوم أهم كتاب أصولي متعمق يدرسه ويتفقه فيه العلماء وطلاب العلوم الدينية على حد سواء ، ومثل تلميذ هذا ألأخير ، وهو العلامة الميرزا محمد حسين النائيني ، الذي سعى بدوره إلى تربية جيل من العلماء الأصوليين ، الذين لا يزال عدد كبير منهم ومن تلامذتهم أيضا ، يتولى

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 132

مقاليد حركة الدرس والبحث في الحوزات العلمية القائمة في وقتنا الحاضر، وكذا تلميذ الخراساني ألآخر ، وأعني به العالم ألأصولي الكبير الشيخ ضياء الدين العراقي المتوفى سنة 1361 هـ ، والذي كان بحق عالما أصوليا مبرزا وفحلا أسهم بدور فاعل في تربية جيل من العلماء ألأصوليين ، الذين لا يزال البعض منهم على قيد الحياة ويقوم بدور فاعل في دفع مسيرة العلم والتدريس قدما إلى ألأمام ، وفي حق هذا ألأخير ـ الشيخ ضياء الدين العراقي ـ ذكر صاحب «أعيان الشيعة »بما يلي : كان يعتبر المعلم ألأول بحق للعلوم الدينية ولاسيما ألأصول ، فقد رقي منبر التريس مدة خمسين سنة متواصلة . . . الخ.

حوزة كربلاء على عهد الوحيد:

كان طبيعيا والحالة هذه أن تنشط الحوزة العلمية في كربلاء على عهد الشيخ الوحيد البهبهاني ، وأن تدب الحركة والحياة النابضة في اوصالها من جديد ، بعد تلك الفترة الطويلة من الفتور النسبي، حتى أضحت كربلاء مركز إستقطاب للعلماء وطلاب العلم والمعرفة من كل حدب ومكان ، نظرا للجاذبية الشديدة التي كان الوحيد البهبهاني قد أوجدها بشخصيته العلمية الفريدة في نوعها ، ويناشاطاته التدريسية والبحثية المكقفة ، فتحولت الحوزة العلمية بهذه المدينة إلى ساحة تعج وتزخر برهط كبير من العلماء والفقهاء ، وألأساتذة والمحققين وجموع غفيرة من طلاب العلم والفضيلة ، حتى برزت وتألقت بوصفها المركز الشيعي الديني ألأول في العالم ألإسلامي ، وفي هذا الوقت كانت الحوزة العلمية في النجف تابعة فكريا لحوزة كربلاء المزدهرة والمتوهجة بصولة الوحيد واصحابه وتلامذته.
وفي الحقيقة أن النقلة النوعية والحركة التجديدة التي شهدتها حوزة كربلاء العلمية في عهد الوحيد ، تساويان بل تفوقان كل ما أحرزته هذه الحوزة من قبل وعبر القرون الطويلة ، من عطاء علمي وتراث فكري زاخر، ذلك أن في عهد هذا العالم العبقري فتحت صفحة جديدة من التحقيق ، والبحث ألإستدلالي ، والمنطق البرهاني ، فأصبح للفقه إطاره العقلي المحدد ، إلى

السابق السابق الفهرس التالي التالي