تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 16

إلى كربلاء عهد الطمأنينة والسلام.
وكان العلامة محمد بن الحسين الاشتاني، قد توجه إلى زيارة قبر الحسين عليه السلام سرا في سنة 240 هـ (على عهد المتوكل) برفقة أحد العطارين، فلما وصلا القبر الشريف جعلا يتحريان جهة القبر حتى عثرا عليه ، وذلك لكثرة ما كان قد مُخَّر وحُرث حوله، فشاهداه وقد قُلع الصندوق الذي كان حواليه ، وأحرق، وأُجري عليه الماء وصار كالخندق حول القبر، ولما أتما مراسيم الزيارة كرا راجعين، بعد ان نصبا حول القبر علامات شاخصة في عدة مواضع من القبر.
وفي سنة 370 هـ كانت كربلاء مدينة مأهولة بالسكان ، وفيها من السادة العلويين ما يربو على ألفين ومئتين من ألأشخاص، وفي هذه السنة بالذات زارها السلطان عضد الدولة بن بويه، فأجزل العطاء على السادة العلويين فوزع بينهم مائة ألف رطل من التمر والدقيق، وخمسمائة قطعة من القماش.
ووصف الرحالة الطنجي العمران في كربلاء وكان قد وردها في مطلع القرن الثامن الهجري فقال: هي مدينة صغيرة تحفها حدائق النخيل ويسقيها ماء الفرات، والروضة المقدسة داخلها وعليها مدرسة عظيمة ، وزاوية كريمة فيها الطعام للوارد والصادر، وعلى باب الروضة الحجاب والقومة، لا يدخل أحد إلا عن إذنهم فيُقبّل العتبة الشريفة وهي من الفضة، وعلى الضريح المقدس قناديل الذهب والفضة ، وعلى ألأبواب استار الحرير، وأهل هذه المدينة طائفتان: أولاد زحيك، وأولاد فائز، وهم جميعا إمامية يرجعون إلى أب واحد.
وفي نفس الفترة تقريبا زار كربلاء المؤرخ والعالم الجغرافي الشهير «حمد ألله المستوفى» فوصفها بقوله: وغربي الكوفة بثمانية فراسخ ، في صحراء كربلاء مشهد الحسين عليه السلام المعروف بـ «المشهد الحائري»، وقد ذكر في عهد الخليفة المتوكل أنه أجرى الماء عليها بقصد تخريبه حتى حار الماء عند قبره الشريف، وظلت البقعة الطاهرة عند القبر جافة، وقد شيّد

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 17

عمارته عضد الدولة «فناخسرو الديلمي»وحول هذا الموضع قرية مساحتها ألفين وأربعمائة خطوة.
وقد زار كربلاء العديد من سلاطين البويهيين وحملوا معهم إليها الهدايا والصدقات، وفرّقوا بين اهليها المجاورين والزائرين التمور والثياب، منهم الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة ، وقبل أن يصل هذا الملك إلى المشهد الحسيني، ترجل بنحو فرسخ من أرض الحائر تعظيما وإجلالا لقبر الحسين عليه السلام ، وكان ذلك سنة 431 هـ.
أما كربلا اليوم فهي تبعد عن بغداد العاصمة بـ 74 ميلا، (وتربطها بها سكة حديد ثابتة) وهي مدينة واسعة نسبيا ، وتقع على ضفة ترعة «الحسينية» اليسرى ، وتحيط بها أشجار النخيل وبساتين أشجار الفواكه الباسقة المختفلة الصنوف.
وتقسم مدينة كربلاء من حيث العمران إلى قسمين، يسمى القسم ألأول «كربلاء القديمة»، والذي أقيم على أنقاض كربلاء القديمة جدا والشهيرة في بطون التاريخ، ويدعى القسم الثاني «كربلاء الجديدة» ، وهو الذي جرى تخطيطه في عهد ولاية «مدحت باشا » الحاكم العثماني على العراق في عام 1285 هـ ، وبني بعد عام 1300 هـ ، على طراز مختلف عن الطراز القديم ، إلا أنه قد تهدم معظمه لأنه أقيم على أرض سبخة تنز فيها المياء ، فتأكل أسس الجدران، ويبلغ معدل عدد الزوار الوافدين إليها بأكثر من أربعمئة ألف شخص في كل موسم زيارة (حسب ألإحصاءات السابقة).
وإن أهم ميزة لهذه المدينة دون سواها من المدن المقدسة الشيعية، هي تربتها المقدسة التي إمتزجت في البداية بدماء الحسين وأهل بيته وأصحابه الميامين عليهم السلام ففي التربة الحسينية شفاء وفوائد ومنافع كثيرة للناس، وقد أشاد بقدسيتها ومزاياها العديدة الشعراء والكتاب ، مثلما أكد على منافعها وفاوائدها العلماء وأهل الفضل والمعرفة ، ومن قبلهم كان ألأئمة ألأطهار من ذرية الحسين عليهم السلام يوصون شيعتهم ومواليهم،

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 18

بالتطبيب والتشفي بطين قبر الحسين عليه السلام، فقد قال ألإمام الصادق عليه السلام : «إذا أكلته فقل أللهم رب التربة المباركة ورب الوصي الذي واريته صل على محمد وآل محمد وإجعله علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء»، وقال الصادق عليه السلام ايضا: «في طين قبر الحسين عليه السلام شفاء من كل داء ، إذا أخذته فقل بإسم ألله أللهم بحق هذه التربة الطاهرة وبحق البقعة الطيبة وبحق الوصي الذي تواريه وبحق جده وأبيه وأمه وأخيه والملائكة الذين يحفون به والملائكة العكوف على قبره ليلا ينتظرون نصره صلى ألله عليهم اجمعين إجعل لي فيه شفاء من كل داء وأمانا من كل خوف وعزا من كل ذل ووسع علي في رزقي وصح جسمي».
وروى إسحاق بن عمار عن أبي عبدالله أنه قال: موضع قبر الحسين عليه السلام منذ يوم دفن فيه روضة من رياض الجنة ، كثيرة هي المزايا التي تتصف بها هذه ألأرض المقدسة ، والتربة الحسينية المشرفة ، وكثيرة هي الفوائد التي يجنى منها.
وقال العلامة المفضال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء المتوفى سنة 1382 هـ ، في كتابه «ألأرض والتربة الحسينية» : وهذه التربة هي التي يسميها أبو ريحان البيروني في كتاب (ألآثار الباقية) التربة المسعودة في كربلاء، نعم وإنما يعرف طيب الشيء بطيب آثاره، وكثرة منافعه وغزارة فوائده، ويدل على طيب ألأرض وإمتيازها على غيرها ، طيب ثمارها ورواء أشجارها ، وقوة نيعها وريعها، وقد إمتازت تربة كربلاء من حيث المادة والمنفعة بكثرة الفواكه وتنوعها وجودتها وغزارتها ، حتى أنها في الغالب هي التي تمون أكثر حواضر العراق وبواديه بكثير من الثمار اليانعة التي تخصها ولا توجد في غيرها، إذاٌ أفليس هو صميم الحق، والحق الصميم أن تكون أطيب بقعة في ألأرض مرقدا وضريحا، لخامس أصحاب الكساء؟
نعم لم تزل الدنيا تمخض لبلد أكرم فرد في ألإنسانية وأجمع ذات لأحسن ما يمكن من مزايا العبقرية في الطبيعة البشرية ن وأسمى روح ملكوتية في أصقاع الملكوت، وجوامع الجبروت، فولّدت نورا واحدا شطرته نصفين:

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 19

سيد ألأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وسيد ألأوصياء عليا، ثم جمعتهم ثانيا في علي والزهراء ، فكان الحسين عليه السلام مجمع النورين، وخلاصة الجوهرين، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : حسين مني وأنا من حسين، ثم عصمت أن تلد لهم أندادا أبد الدهر.
ويعلل صاحب كتاب «تراث كربلاء» السيد سلمان هادي آل طعمة، الشفاء الناتج عن التربة الحسينية بقوله متسائلا : أفلا يجوز أن يكون في تلك الطينة عناصر كيمياوية تكون بلسما شافيا من جملة ألسقام قاتلة للميكروبات؟
والجدير بالذكر هنا، أن علماء اشيعة ألإمامية متفقون على حرمة أكل الطين ، بإستثناء ما كان من تربة قبر سيدنا الحسين عليه السلام ، وذلك وفق آداب خاصة وبمقدار معين، وهو أن يكون أقل من حمصة، وأن يكون اخذها من القبر الشريف بكيفية خاصة وأدعية معلومة.
ومن جانب آخر، يرجع تاريخ بناء الحضرة الحسينية المشرفة (مرقد الحسين عليه السلام) في مدينة كربلاء ، إلى أيام معدودات بعد مقتل سيدنا الحسين عليه السلام فقد جاء في كطتاب «كامل الزيارة» لأبن قولويه ما نصه ألآتي:
«إن الذين دفنوا الحسين عليه السلام أقاموا رسما لقبره ونصبوا علما له وبناءً لا يدرس أثره»ولعل المراد من قوله : «إن الذين دفنوه» ، هم بنو أسد ، وقد هم هذه البناية ألأولية ، الخليفة العباسي «هارون» ، فقد ورد في كتاب «تسلية الجالي وزينة المجالس» لمحمد بن أبي طالب ما نصه : «وكان قد بني عليه مسجدا ولم يزل كذلك بعد بني أمية وفي زمن بني العباس ، إلا على زمن هارون، فإنه خربه وقطع السدرة التي كانت نابتة عنده ، وكرب موضع القبر ، ثم أعيد على زمن المأمون وغيره إلى أن حكم المتوكل، فأمر بتخريب قبر الحسين عليه السلام ، وقبور أصحابه . . . إلخ.
غير أنه في عام 371 هـ ، أمر عضد الدولة البويهي بإعادة بناء الحضرة الحسينية المشرفة في حلة جديدة وأسلوب بناء متميز ، إذ شيد قبة ذات

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 20

أروقة ، وأقام ضريحا على القبر من العاج ، وبنى بيوتا حول الحائر الشريف وأحاطه بسور.
وفي النصف الثني من القرن الخامس الهجري ، زار السلطان ملك شاه السلجوقي الحائر الشريف، وأمر بإعادة بناء سور الحائر الشريف ، وكان ذلك على وجه التحديد في سنة 479 هـ .
وفي عهد السلطان «أوليس ألإيلخاني الجلائري»، تم بناء قبر الحسين الشريف من جديد ، وكان إكمال بناء الحرم الحسيني في عهد ولده، السلكان حسن في سنة 767 هـ .
وشهدت الحضرة الحسينية وإلى جانبها الحضرة العباسية المشرفة «مرقد سيدنا أبي الفضل العباس بن علي بن أبي طالب عليهما السلام» ترميمات وتوسعات مستمرة ومتعاقبة على عهد ملوك ألأسرة الصفوية في إيران إبتداءاً من سنة 914 هـ ، حينما قام الشاه إسماعيل الصفوي بزيارة كربلاء، فأمر بتذهيب الضريح المبارك، وبتزويد الحضرة الحسينية بقناديل من الذهب والفضة.
وفي عهد ملوك ألأسرة القاجارية في إيران جرى تذهيب قبة الحسين عليه السلام ثلاث مرات، ألأولى: في عهد مؤسس هذه ألأسرة (ألأغا محمد خان قاجار) ، والثانية : في عهد السلطان فتح علي شاه قاجار الذي تبرعت زوجته هي ألأخرى بتذهيب المأذنتين إلى جانب القبة المشرفة ، كما قام نجله محمد علي ميرزا قاجار، بتعمير الحائر وتزيين جدران وسقف الحرم الشريف، فيما كانت إصلاحات وترميمات كثيرة قد جرت للحائر الحسيني، في سنة 1222 هـ بمسعى آية الله العظمى الشيخ جعفر صاحب «كشف الغطاء»،وذلك بعد سنوات قليلة من غارة الوهابيين على كربلاء.
وأما المرة الثالثة : فكانت في عهد الملك ناصر الدين شاه قاجار الذي أوكل إلى أحد علماء طهران في حينه، وهو المرحوم الشيخ عبدالحسين الطهراني ، مهمة إصلاح وتجديد وتعمير الصحن الحسيني، وكذا تجديد

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 21

الصندوق الخشبي المزخرف الموضوع على القبر الشريف، والذي كان الوهابيين قد كسروه في هجمتهم على الحضرة الشريفة.
وبعد ذلك شهدت الحضرة الحسينية ومعها الحضرة العباسية ، أعمال تجديد وتزيين وتجهيز، إستمرت وتواصلت في حقب زمنية مختلفة ، حتى يومنا هذا.
* * *

كربلاء أرض ملهمة للشعراء وألأدباء:

لقد باتت كربلاء منذ مقتل الحسين عليه السلام على أرضها ، تزخر بالقيم والمثل والمعاني السامية ، وبأخلاقيات البطولة والشهامة، وألإباء والرجولة، وأدبيات النهضة الهادفة لنصرة الحق ودحر الباطل، ولذا كان لا بد والحالة هذه أن تستلفت أنظار دعاة الحق، وطلاب العدل، ورسل الفضيلة ن وأن تجتذب إليها كل المؤمنين والمتشوقين، لنيل الفوز الدنيوي وألأخروي.
من هنا كان من بين الجموع البشرية الزاحفة نحو كربلاء بهدف الزيارة أو السكنى بجوار قبر الحسين عليه السلام، عبر ألأجيال المتعاقبة، الكثير والعديد من العلماء وألأدباء والشعراء الذين وجدوا في رحابها مادة خصبة، يستلهمون منها ما يساعدهم في خلق روائعهم ألأدبية والشعرية ، أو ما يغني ويدعم معطياتهم العلمية والثقافية ، فأفادوا وإستفادوا حتى أوجدوا في كربلاء نواة جامعة علمية سبقت بأقدميتها الجوامع العلمية في كثير من المدن.
فأول شاعر زار قبر الحسين عليه السلام هو عبيدالله بن الحر الجعفي الذي ما أن وقع نظره على القبر الشريف ، حتى أجهش في البكاء والنحيب طويلا ، فأسعفته قريحته في الحال، فرثى الحسن الشهيد بقصيدة إرتجلها مستلهما معانيها من مصابه الجلل، ومن واقعة كربلاء المفجعة ، ومما قاله:
يقول أمير ، غادر وإبن غادر ألا كنت قتالت الشهيد إبن فاطمة
فيا ندمي إن ى أكون نصرته ألا كـــل نفس لا تسدد نــادمة


تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 22

ويا ندمي إن لم أكن من حماته لذو حسرة ما إن تفارق لازمة
سقى ألله أرواح الذين تآزروا على نصره سقياً من الغيث دائمة
وقفت على أجداثهم ومحالهم فكـاد الحشى ينفض والعين ساجمة
لعمري لقد كـانوا مصاليت في الوغى سراعاً إلى الهيجا حماة خضارمة
تأسوا على نصرة إبن بنت نبيهم بأسيافهم آساد غيل ضراغمة
. . . . إلخ

وفي الحقيقة إن واقعة عاشوراء بما إنطوت عليه من لوحات تراجيدية في غاية المأساوية ، تجسد أبهى صور النزال والصراع بين الحق والمبدئية من جهة، والباطل والنزعة الدنيوية الوضيعة من جهة أخرى، كانت على مر التاريخ ولا تزال حتى يومنا هذا تشكل مادة خصبة يستلهم منها الشعراء والكتاب وكل ذي قريحة أو مقدرة أدبية وفكرية ما يعينهم في خلق روائعهم الشعرية وألأدبية ونتاجهم الفكري الخصب.
إن حركة الحسين عليه السلام الشجاعة في مواجهة شيوع الرذيلة ورواج السفالة والسفاهة والغوغائية وتفشي ظاهرة التحلل الخلقي والسقوط ألأدبي وتخلي الناس عنألإلتزام بدينهم وتعاليم نبيهم وما يقابلها من حركة يزيد بن معاوية ألأموي، التي إنطوت على ما هو دنيوي ومادي منحط، وغرائز حيوانية ولذات شهوانية وخسة مفرطة وأنانية وذاتية وتحكم وتسلط وإستعلاء، لا شك أنها تفسح المجال أمام خيالات وتصورات كل شاعر أو كاتب موهوب أو صاحب ضمير حي، لكي ينطلق بذهنيته المتوقدة في آفاق وأجواء هاتين الحركتين: حركة نبل إنساني شريف ومتسامي ، وحركة سفالة وإنحطاط وسقوط حيواني، ثم ليقارن ويقيس بينهما وليستحصل بعد ذلك على مادة تكون أساسا لأرجوزة شعرية أو رائعة أدبية أو دراسة موضوعية ، ففي مصر مثلا، ألف الكاتب المصري المعروف الدكتور عبدالرحمان الشرقاوي المتوفى سنة 1408 هـ مسرحية شعرية تصور في فصلها ألأول نهضة وثورة الحسين عليه السلام وتصور إستشهاده في فصلها الثاني ، وهي مسرحية في غاية الروعة والموضوعية ، ويقول كاتبها: إن مسرحيته تصور نهضة الحسين عليه السلام

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 23

عندما وجد نفسه بين إحدى إثنتين : إما أن يبايع بالخلافة رجلا لا يطمئن إليه ـ وإما أن يعلن إحتجاجه ويرفض البيعة ، وأمام هذا الخيار أدرك الحسين بن علي عليه السلام أن مسؤوليته تحتم عليه أن يطلق صرخة إحتجاج ضد ما رآه يخالف عقيدته، كان يسعه أن يسكت وأن يعيش ناعم البال في المدينة، يعلم الناس ويفقههم في شؤون الدين في مسجد جده، وقد آثر كثير من أولاد الصحابة الكبار أن يسلكوا هذا المسلك، ولكن الحسين عليه السلام شعر بأنه مسؤول عن الصمت أيضا ، وليس أمامه في هذا الخيار إلا أن يختار ألأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إنها مسرحية تتحدث عن مسؤولية القائد وعن دور المثقف في عصره ، كيف يجب أن يحول ما يعتقده إلى حركة إيجابية.
ويقول الدكتور عبدالرحمان الشرقاوي: إذا كان الشباب في كثير من بلاد العالم يفتتنون بأبطال ألإستشهاد من أجل الحرية في جيلنا ، فإن الحسين عليه السلام في إستشهاده أولى بكل ألإعجاب ، وهذه المسرحية الشعرية تصور إستشهاد الحسين عليه السلام ، وتمجد ألإستشهاد في سبيل اقيمة التي يؤمن بها ألإنسان، لقد أدرك الحسين عليه السلام منذ خرج ثائراً أن بعض الذين إعتمد عليهم قد تخلوا عنه، وعرضت عليه السلطات التي ثار عليها أن يعود إلى داره، وأن تغدق عليه مزيدا من المال، ولكنه كان قد أدرك أن حياته لا تساوي شيئا بالقياس إلى حياة المبادئ التي يدافع عنها، يجب أن يدفع الحياة نفسها لقيمة أغلى عليه من الحياة ، أن هذه المسرحية تصور بطلا تراجيديا يسير إلى مصيره الفاجع، وهو مدرك ويعرف أن المبادئ التي يدافع عنها ستنصر وتزدهر إذا منحها دمه، فهو مدرك أنه مقتول بلا ريب ، وأنه ثأرُ ألله.
وقد صاغ الدكتور الشرقاوي رأي الحسين عليه السلام بما آل إليه زمانه شعرا حرا وكما يلي:
ما عاد في هذا الزمان سوى رجال كالمسوخ الشائهات
يمشون في حلل النعيم وتحتها نتن القبور
يتشامخون على العباد كأنهم ملكوا العباد

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 24

وهم إذا لاقوا ألأمير تضاءلوا مثل العبيد
صاروا على أمر البلاد فأكثروا فيها الفساد
أعلامهم رُفعت على قمم الحياة
خرق مرقعةٌ ترفرف بالقذارة في السماء الصافية
راياتهم مزق المحيض البالية
ياأيها العصر الزري لأنت غاشية العصور
قد آل أمر المتقين إلى سلاطين الفجور
قل أي أنواع الرجال جعلتهم في الواجهات؟
قل أي أعلام رفعت على البروج الشاهقات؟
أي الذئاب منحته السلطان والمُلك العريض؟
ياأيها العصر البغيض
با أيها العصر الزري وأنت غاشية العصور
العصر ينفث حولنا الغثيان مما أحدثته به أمية
عصرٌ يثير تقزز النفس ألأبية
ياأيها الشرفاء لا تهنوا إذا طغت الذئاب
سيروا نُعِد للعصر رونقه القديم
وننصر الحق الهضيم
لا ترهبوا طُرق الهداية إن خلت من عابريها
لا تأمنوا طُرقَ الفساد وإن تزاحم سالكوها
سيروا على إسم ألله لا تهنوا فنحن بنو أبيها
سيروا بنا نستخلص ألإنسان من عار العذاب
* * *

ثم يصوغ الدكتور عبدالرحمان الشرقاوي ما اراد الحسين الشهيد من تعبيره حينما كان يلقى مصرعه في مقتله، وذلك في ألإطار الشعري الحديث ألآتي:

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 25

فلتذكروني لا بسفككم دماء ألآخرين
بل فأذكروني بإنتشال الحق من ظفر الضلال
بل فأذكروني بالنضال على الطريق
لكي يسود العدل فيما بينكم
فلتذكروني بالنضال
فلتذكروني عندما تغدوا الحقيقة وحدها
حيرى حزينة
فإذا بأسوار المدينة لا تصون حمى المدينة
لكنها تحمي ألأمير وألهله والتابعينه
فلتذكروني عندما تجد الفضائل نفسها
أضحت غريبة
وإذا الرذائل أصبحت هي وحدها الفُضلى الحبيبة
وإذا حُكمتم من قصور الغانيات
ومن مقاصير الجواري
وإذا غدا أمراؤكم كالمحظيات
وإن تحكمت الساري
فأذكروني
فلتذكروني حين تختلط الشجاعة بالحماقة
وإذا المنافع والمكاسب صرن ميزان الصداقة
وإذا غدا النبل ألأبي هو البلاهة
وبلاغة الفصحاء تقهرها الفهاهة
والحق في ألأسمال مشلول الخطى حذر السيوف
فلتذكروني حين يختلط المزيّف بالشريف
فلتذكروني حين تشتبه الحقيقة بالخيال
وإذا غدا جُبن الخنوع علامة الرجل الحصيف
وإذا غدا البهتان والتزييف والكذب المجلجل هُنّ
آيات النجاح

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 26

فلتذكروني حين يستقوي الوضيع
فلتذكروني حين تغشىالدين صيحات البطون
وإذا تحكم فاسقوكم في مصير المؤمنين
وإذا إختفى صرح البلابل في حياتكم ليرتفع النباح
وإذا طغى قرع الكؤوس على النواح
وتلجلج الحق الصراح
فلتذكروني
وإذا النفير الرائع العزاف أطلق في المراعي الخضر صيحات العداء
وإذا إختفى نغم ألأخاء
وإذا شكا الفقراء وإكتظت جيوب ألأغنياء
فلتذكروني
فلتذكروني عندما يُفتي الجهول
وحين يستخزي العليم
وعندما يهن الحكيم
وحين يستعلي الذليل
وإذا تبقى فوق مائدة إمرئ ما لا يريد من الطعام
وإذا اللسان أذاع ما يأبى الضمير من الكلام
فلتذكروني
فلتذكروني إن رأيتم حاكميكم يكذبون
ويغدرون ويفتكون
وألأقوياء يُنافقون
والقائمين على مصالحكم يهابون القوي
ولا يُراعون الضعيف
والصامدين من الرجال غدوا كأشباه الرجال
وإذا إنحنى الرجل ألأبي
وإذا رأيتم فاضلا منكم يؤاخذ عند حاكمكم بقوله
وإذا خشيتم أن يقول الحق منم واحد في صحبه

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 27

أو بين أهله
فلتذكروني
وإذا غُزيتم في بلادكم وأنتم تنظرون
وإذا إطمأن الغاصبون بأرضكم وشبابكم يتماجنون
فلتذكروني
فلتذكروني عند هذا كله ولتنهضوا باسم الحياة
كي ترفعوا علم الحقيقة والعدالة
فلتذكروا ثأري العظيم لتأخذوه من الطغاة
وبذلك تنتصر الحياة
فإذا سكتّم بعد ذاك على الخديعة وإرتضى ألإنسان ذله
فأنا سأذبح من جديد
وأظل أقتل من جديد
وأظل أقتل كل يوم الف قتلة
سأظل أقتل كلما سكت الغيور وكلما أغفى الصبور
سأظل اقتل كلما رغمت أنوف في المذلة
ويظل يحكمكم يزيد ما . . . ويفعل ما يريد
وولاته يستعبدونكم وهم شر العبيد
ويظل يلعنكم وإن طال المدى جُرحُ الشهيد
لأنكم لم تُدركوا ثأر الشهيد
فأدركوا ثأر الشهيد . . .
* * *

بداية الحركة العلمية في كربلاء:

إن من الثابت تاريخيا هو أن كربلاء شهدت نهضة علمية متطورة ومتواصلة منذ وقت مبكر في أعقاب مقتل سيدنا ألإمام الحسين عليه السلام فيها ، غير أن هذه النهضة أخذت شكلها المحدد، ثم بدأت بالإزدهار والتقدم،

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 28

إبتداءا من أواخر القرن الثالث ومطلع القرن الرابع الهجري ، وذلك حينما لمع في سماء الدين والعلم والفضيلة فيها ، نجم العالم الجليل والفقيه العبقري وألأستاذ البارع «حُميد بن زياد النينوي»، الذي تمخضت عن نشاطه العلمي وجهده التحقيقي والتدريسي الدؤوب، وعطاءه الخصب ، نشأةُ أولى جامعة علمية تقليدية في كربلاء.
ومما يجدر ذكره هنا هو أن كربلاء وجدت في النصف الثاني من القرن الثالث وطوال القرن الرابع الهجري ، من أسباب ألأمن والطمأنينة ما جعلها مزدحمة ومكتضة بالزائرين والوافدين من كل حدب وصوب ، وكانت أسواقها عامرة ـ وتجارتها رائجة، وحركة التنقل والسفر إليها نشطة، فطثرت فيها القبائل العلوية وغير العلوية التي أخذت تتمصر فيها رويدا رويدا، كما إنجذب لها كبار رجال الحديث والسيرة من علماء ألإمامية ، والذين بادروا بإقامة حلقات التدريس للمسائل والموضعات الدينية والفقهية لسكانها المقيمين والزائرين ، فكان إن إتسعت وتطورت الحركة العلمية فيها، حتى صار طلاب العلم والمرعفة يقصدونها ويشدون الرحال إليها من مختلف البلدان وألأمصار، للإغتراف من معين العلم والفضيلة فيها.
ولموقعها الديني والعلمي المتميز ، فقد قام علماء كبار وأساتذة معروفون آنذاك بزيارتها في أوقات مختلفة ، لتفقد جامعتها العلمية والوقوف على ما وصلت إليه من تقدم وإزدهار مثلما تحمس وتشجع لتطوير نهضتها العلمية الحكام وألأمراء واصحاب السلطة ، ففي مطلع القرن الرابع الهجري زارها عضد الدولة البويهي فأحيا فيها حركة العلم والعمران.
وفي هذا السياق يقول الدكتور عبدالجواد الكليدار في كتابه «تاريخ كربلاء وحائر الحسين عليه السلام» : وقد إتسعت وإزدهرت كربلاء في عهد البويهيين وتقدمت معالمها الدينية ، وألإجتماعية والسايسية، وألإقتصادية، فإتسعت تجارتها ، وأخضلت زراعتها ، وأينعت علومها وآدابها، فدبت في جسمها روح الحياة والنشاط فتخرج منها علماء فطاحل وشعراء مجيدون، وتفوقت في مركزها الديني المرموق.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 29


وفي الحقيقة أن للبويهيين قصب السبق في تمصير أرض كربلاء بعد حادثة الخليفة العباسي «المتوكل»، ولهم القدح المعلى في بناء قصبة كربلاء، فقد شهدت كربلاء في عصرهم دورا ذهبيا كان من خيرة أدوارها منذ أن ضمت أرضها جثمان سيد الشهداء الحسين بن علي عليها السلام ودام هذا الدور طيلة أيام حكمهم إذ إهتموا كثيرا بتمصير كربلاء وعمرانها ، فخصصوا لها ألأموال الطائلة، واشادوا مباني الروضة الحسينية المقدسة ، وأسسوا فيها مقبرة لهم، وهم أول من بادروا بتخليد ذكرى الحسين عليه السلام، في يوم عاشوراء من كل عام، ففي محرم سنة 352 هـ ، أمر السلطان معز الدولة بتعطيل ألأسواق وشل حركة البيع والشراء ، وسقي الماء للناس المارة في ألأسواق، وخروج النساء لاطمات وجوههن وناحبات على الحسين الشهيد عليه السلام.
وتمصرت كربلاء مجددا في عام 372 هـ ، على عهد السلطان عضد الدولة بن ركن الدولة ، وعمل لها سورا وشق لها قناة لسقي أهاليها ، فباتت كربلاء على عهده مزدهرة عامرة، وأنشأ حول القبر الشريف العمارات والخانات ، وقطنها كثير من القبائل العلوية وغيرهم من المسلمين ، فأخذت البلدة في التوسع شيئا فشيئا ، ولم ينقض القرن الرابع إلا وكان في كربلاء زهاء (2200) نسمة من العلويين عدى غيرهم من المسلمين، وهكذا أخذت بلدة كربلاء في التوسع والنماء منذ القرن الرابع الهجري حتى يومنا هذا.
وطبيعي أن مثل هذه الظروف الحضارية المؤاتية ، قد هيأ ألأجواء المناسبة لظهور علماء ومؤسسات علمية ، ففي مطلع (القرن الرابع عشر الهجري)(1)، برز عالم ديني كبير ، وفقيه عبقري ، هو «حميد بن زياد النينوي» نسبة إلى قرية نينوى المجاورة لكربلاء، لقد سعى إلى إنشاء أولى مؤسسة علمية دينية في كربلاء ، وجلب لمدينة كربلاء مكانة الرئاسة العلمية والزعامة الدينية ، وذلك بفترة تناهز القرن تقريبا ، قبل أن تنشأ على أرض النجف ألشرف نواة أولى جامعة علمية على يد شيخ الطائفة وعماد الشيعة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي في سنة 443 هـ.

(1) الصحيح (مطلع القرن الرابع الهجري) .
تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 30


ثم تواصل النشاط العلمي والتدريسي في كربلاء عبر القرون المتتالية، وكثرت وتنوعت حلقات الدرس والبحث المنتظمة في ارجاءها جيلا بعد جيل، وبرز على ساحتها الدينية علماء كبار وأسايذة أجلاء، ومراجع ذوو شأن عظيم ودور ريادي، فاستطاعوا بمجهوداتهم العلمية والتدريسية ، ونشاطاتهم ألإجتماعية الخيّرة ، أن يحافظوا على تماسك الحركة العلمية والمؤسسات الدينية فيها متحدين الصعاب ، والمعوقات وصامدين بوجه الخطوب والنائبات حتى لوقت قريب.
وإن الميزة الرئيسية التي توفرت لهذه المدينة المقدسة خلال هذه القرون ، هي أن قوىً داخلية كانت تهرع لنجدتها والدفاع عنها أمام كل هجمة أو غارة أو نكبة تعرضت لها خلال كل هذه الفترة الطويلة ، وكانت هذه القوى مدعومة من جانب العشائر المؤمنة، وبعض أنظمة الحكم التي تعاقبت في حكم العراق وأرض ما بين النهرين ، وهو أمر متناقض تماما مع ما كان الحال عليه في عصر الحكم الأموي أو الحكم العباسي، حيث الحكام أنفسهم كانوا يتخذون موقف المعاداة والتعامل السيء مع قبر الحسين عليه السلام وجموع زواره، ولذلك كانت هذه الغارات والهجمات على مدينة كربلاء وقبر الحسين الشريف بالذات وقتية عابرة في أكثرها ، نظراً لتسارع قوىً أخرى لدحر هذه الهجمات والغارات.
وفي الحقيقة أنه بعد مقتل الخليفة العباسي «المتوكل» على يد إبنه «المنتصر» سنة 247 للهجرة لم يعكر صفو ألأمن وألإستقرار والهدوء في مدينة كربلاء ، إلا بعض الغارات والهجمات التي لم تكن بتلك الصورة التي يختل معها مجرى الحياة الروتينية والعادية في هذه البلدة المقدسة ، حتى وأن أتسم بعضها بالقسوة والعنف والوحشية ، مما اسفر عن قتل أفراد من أهاليها وإدخال الرعب والخوف والقلق في نفوسهم لحينٍ من الوقت، وعن نهب وسلب لأموال من أماكنها المقدسة ، غير أنها بالرغم من كل ذلك كانت وقتية عابرة ، لم تترك تأثرات سلبية لفترة طويلة يمكن أن تُقلب موازين الحياة، فتضطرب الحركة فيها بسبب أن إتعدام ألأمن يؤثر سلبا على حركة العلم،

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 31

ومجهودات العلماء الذين هم أحوج الناس للأمن الذي به تصفو ألأفكار وتطمئن القلوب وتتوفر الفرص أمام حركة الخلق وألإبداع والعطاء الفكري الخصب.

كربلاء عرضة للغارات والهجمات:

إن مدينة كربلاء بوصفها تمثل الملحمة البطولية الرائعة الحقة للإمام الحسين عليه السلام ، إنما ترسم للناس المؤمنين منهجية الحياة الحرة الكريمة، ولذلك كانت دوما رمزا شاخصا وبارزا، للنزال بين دعاة الحق من جهة ، والطواغيت من جهة أخرآ، ومن هنا كانت على الدوام أيضا موضع سخط وغضب من لهم نزعة الطغاة، وميل ألأشرار والذين ما أن وجدوا أمامهم الفرصة المناسبة حتى أنقضوا على كربلاء ليفرغوا برموزها وأماكنها المقدسة ، وأهليها الحسنيين أحقادهم وشحنات الغضب والحنق والكره التي تعصر نفوسهم المريضة ،وبسبب هؤلاء واجهت كربلاء في فترات مختلفة تحديات تمثلت في غارات وهجمات مباغتة وجبانة لم تدم طويلا ، ومن أهم هذه التحديات ، غارة أمير قلعة «عين التمر» وةأسمه «ضبة بن محمد ألأسدي» الذي هجم مع أفراد جماعته على مدينة كربلاء سنة 369 هـ ، ونهبها وحمل بعض أهلها أسرى مقيدي اليد إلى قلعته، بيد أن عضد الدولة أبا شجاع «فنا خسرو» غضب اشد الغضب من فعلته الشنعاء تلك، فسار بجيشه إليه وحاصر قلعته «عين التمر» لفترة من الوقت ثم إستولى عليها ودخلها عُنوة ، وأخذ أهلها اسرى إلى كربلاء ، فيما ارجع أهالي كربلاء الذين كانوا موجودين في أسر «ضبة ألأسدي» إلى بلدتهم، بينما تمكن هذا ألأخير من الهرب بجواده.
ثم غارة جماعة «الخفاجه» في سنة 489 هـ والذين أعملوا السيف في رقاب أهالي كربلاء فغضب سيف الدولة عليهم وأرسل جيشه وحاصرهم في الحائر الحسيني ، حيث قتل منهم خلقا كبيرا.
وغارة آل مُهنّا الذين غزوا كربلاء بقيادة أميرهم المدعو «ناصر بن

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 32

مُهنّا» في حدود عام 1013 للهجرة.
غير أن أعنف وأشد الغارات والهجمات التي شهدتها كربلاء هي هجمة الوهابيين سنة 1216 للهجرة ، وقد كانت من الهول والقسوة والعنف والبشاعة بحيث أن المصادر التاريخية الغربية وصفتها بالغارة الوحشية المقززة للنفوس ، والمستفزة لأعمق مشاعر السخط والغضب.
فقد قال الكاتب الغربي «المستر لونكريك» في كتابه «أربعة قرون من تاريخ العراق» بالحرف الواحد وكما يلي:
حالما أنتشر خبرُ إقتراب الوهابيين من كربلاء في عشية اليوم الثاني من شهر نيسان ـ أبريل، حتى سارع من بقي في المدينة لإغلاق ألأبواب ، إذ ان معظم المدينة كانوا في النجف يقومون بالزيارة ، غير أن الوهابيين ويقدر عددهم بستمئة هجان وأربعمئة فارس ، نزلوا فنصبوا خيامهم وقسموا قوّتهم إلى ثلاث فرق ، ومن وراء أحد الخانات قاموا بالهجوم على أقرب باب من أبواب المدينة ، وتمكنوا م فتحه عنوة ثم تسللوا إلى داخلها ، فإندهش السكان وأخذتهم حالة من الذعر ، وأصبحوا يفرون على غير هدى ، أما الوهابيون القساة فقد واصلوا طريقهم إلى ألأضرحة المقدسة ، وشرعوا في تخريبها فاقلعوا القضبان المعدنية والسياج من أماكنها ونهبوا المرايا الكبيرة والنفائس والحاجات الثمينة ، بينها هدايا الباشوات وأمراء وملوك الفرس ، وسلبوا أيضا زخارف الجدران، وقلعوا الذهب من السقوف ، وأخذوا الشمعدانات والسجاجيد الفاخرة ، والمعلقات القيمة، وألأبواب المزخرفة والمرصعة ، ولم يكتفوا بهذه ألأعمال ، بل قتلوا قرابة خمسين شخصا بالقرب من الضريح ، وخمسمئة شخص آخر خارج الضريح، أما المدينة نفسها فقد عاث فيها الغزاة المتوحشون فسادا وتخريبا ، وقتلوا من دون رحمة كل من صادفوه ، كما سرقوا كل دار ، ولم يرحموا الشيخ ولا الطفل ، ولم يحترموا النساء ولا الرجال ، فلم يسلم الجميع من وحشيتهم ، ولا من أسرهم ، ولقد قدر بعضهم عدد القتلى بألف نسمة، فيما قدر ألآخرون عددهم بخمسة اضعاف ذلك.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 33

وحول نفس الواقعة جاء في أعيان الشيعة للعلامة العاملي ما نصه:
في سنة 1216 ه، جهز سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود الوهابي النجدي جيشا من أعراب نجد، ويقول بعض مؤرخي ألإفرنج أنه يقرب من شتمائة هجان وأربعمئة فارس ، وغزا به العراق وحاصر مدينة كربلاء ، مغتنما فرصة غياب جل الأهلين في النجف لزيارة الغدير ، ثم دخلها يوم 18 ذي الحجة عنوة ، وأعمل في أهلها السيف، فقتل منهم ما بين أربعة آلاف إلى خمسة آلاف ،وقتل الشيوخ وألأطفال والنساء ، ولم ينج منهم إلا من تمكن من الهرب أو إختبأ في مخبأ ونهب البلد، ونهب الحضرة الشريفة ، وأخذ جميع ما فيها من فرش وقناديل وغيرها وهدم القبر الشريف ، وإقتلع الشباك الذي عليه ، وربط خيله في الصحن المطهر، ودق القهوة وعملها في الحضرة الشريفة ، ونهب من ذخائر المشهد الحسيني الشيء الكثير ، ثم كر راجعا إلى بلاده.
وشرح إبن بشر الحنبلي في كتابه بعنوان «المجد في أحوال نجد»، تفاصيل هذه الهجمة على كربلاء ، فقال: ان سعوداً قصد أرض كربلاء ، ونازل اهل بلد الحسين عليه السلام ، في ذي القعدة سنة 1216 للهجرة ، فحشد عليها قومه تسوروا جدرانها ن ودخلوها عنوة وقتلوا غالب أهلها في ألأسواق والبيوت، وهدموا القبة برغم من أعتقد فيها على قبر الحسين عليه السلام ، وأخذوا ما في القبة وما حولها ، واخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر ، وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت ، وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد ، من أنواع ألأموال، والسلاح ، واللباس، والفرش، والذهب، والفضة ، والمصاحف الثمينة ، وغير ذلك مما يعجز عنه الحصر. ولم يلبثوا فيها إلا ضحوة ، وخرجوا منها قرب الظهر بجميع تلك ألأموال، وقتل من أهلها نحو ألفي رجل، ثم أن سعودا إرتحل منها على الماء المعروف بألأبيض ، فجمع الغنائم وعزل أخماسها ، وقسم باقيها بين جيشه غنيمة ، للراجل سهم وللفارس سهمان ، ثم إرتحل قافلا إلى وطنه.
وبهذا الخصوص ، قال السيد عبدالحسين الكليدار في كتابه «تاريخ كربلاء المعلى» ولم تزل كربلاء بين صعود وهبوط ، ورقي وإنحطاط ، تارة

السابق السابق الفهرس التالي التالي