تاريخ الحركة العلمية في كربلاء

تـاريخ الحركـة العلميـة

في كــربــلاء

دراسة موضوعية شاملة عن جوانب
الحركة العلمية الدينية في كربلاء، وتراجم علمائها
ألأعلام منذ أن ضمّت في أرضها جثمان سيدنا
الحسين عليه السلام، وحتى وقت قريب


تأليف

نور الدين الشاهرودي


دار العلوم للتحقيق والطبعة والنشر والتوزيع
بيروت ـ لبنان


تاريخ الحركة العلمية في كربلاء


الطبعة ألأولى
1410 هـ ـ 1990 م


تاريخ الحركة العلمية في كربلاء أ

بسم ألله ارحمن الرحيم

الحمد والثناء والشكر الدائم لله العزيز المتعال على توفيقه وعونه لهذا المسعى الخيّر والعمل المخلص، وأطيب صلاته وسلامه على أشرف خلقه وخاتم أنبيائه الرسول المصطفى محمد وعلى آله الميامين، وأزكى صلواته وبركاته على جميع العلماء الشرفاء، الذين ساروا بخطى ثابتة في دروب الهدى والصلاح والتقى، فكانوا بذلك مصابيح تنير السبيل أمام الصالحين وتمزّق حُجب الظلام عن عقول المضللين والجاهلين، وحسبهم أنهم القدوة الصالحة لسائر خلق ألله وعباده المؤمنين.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء ب




تاريخ الحركة العلمية في كربلاء ج

ألإهداء

إلى من رباني وعلمني وفتح أمامي آفاق العلم والمعرفة ، فزادي القليل من العلم ما هو إلا بفضله. . . إلى من تعلمت منه الخلق الرفيع وألأدب الرصين ورحابة الصدر والحلم والصبر والصمود . . . إلى من آزرني في كتابي هذا وزودني بما لديه من معلومات وخبرات. . . إلى من إفتقدته ألأوساط العلمية الدينية عالما محققا ومؤمنا ورعا، ثلم بموته ألإسلام ثلمة لا يسدها شيء. . . إلى من أنهك نفسه وصرف جهده وأمضى أحلى سنوات عمره خدمة فقه وتعاليم سميه وحبيبه محمد بن عبدالله صلى أله عليه وآله وسلمفكل صلاة على الرسول محمد يتداعى إسمه في ذاكرتي ، فأسأل له الرحمة والمغفرة من العزيز الكريم . . . إلى والدي الرؤوف وأبي الحنون المرخوم العلامة آية أله الحاج الشيخ محمد الشاهرودي (قدس سره).
إليه اهدي كتابي فهو أحق الناس بهذا ألإهداء ، لأنه كان ركنا هاما من أركان الحركة العلمية والتدريسية في حوزة كربلاء لأكثر من نصف قرن ، فهو جزء من موضوع هذا الكتاب ، إلى جانب أنه معلم ومرشد ومربي لصاحبه، ومن هنا فهو حري بهذا ألإهداء.

نور الدين الشاهرودي



تاريخ الحركة العلمية في كربلاء د




تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 1

المقدمة

في الحقيقة أن دوافع نفسية عديدة تشجعني على تدوين كتاب عن تاريخ الحركة العلمية الدينية في مدينة كربلاء المقدسة ، وكبار علمائها وفقهائها ممن أسهموا في إثراء كنوز العلم والمعرفة فيها، وقاموا بادوار متميزة في تطوير نهضتها العلمية على مر العصور، منذ أن تحولت أرضها إلى بقعة مباركة ، ومن ثم إلى مدينة مشرقة بأنوار العلم والفضيلة وإلى مركز ديني مفعم بآيات الروحانية ، والقيمة المعنوية.
فالوفاء لهذه المدينة التي إرتبطت بها مولدا ونشأة ، يشدني إلى إنجاز عمل فكري بغرض ألإسهام في التعريف بالجانب العلمي والطابع الثقافي والبعد الروحي لكربلاء المقدسة.
وفي إعتقادي أن كثيرا من المؤرخين والمؤلفين الذين كتبوا مشكورين عن تاريخ كربلاء والحائر الحسيني الشريف، لم يعطوا الطابع العلمي العريق لهذه المدينة نصيبه من البحث والتحقيق والدراسة المتعمقة ، مع أن الحوزة العلمية الدينية في كربلاء هي من العراقة والقدم والعطاء الفكري ما يجعلها في صدر قائمة الحوزات الدينية التي أسدت أجلَّ الخدمات للفقه الجعفري ألإمامي.
ومن هنا تحمّست للكتابة عن هذا الجانب بالذات، خاصة وأنه يشكل

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 2

موضوعا شيقا للغاية، أجدني راغبا في أن اشبعه بحثا ودراسة ، حتى يأتي ألإطار الذي أعالج فيه هذا الموضوع إطارا حديثا يتسم بشيء من الجدة والجاذبية ، على أمل أن يكون مادة جيدة للقراءة بإذن ألله وتوفيقه.
وإلى جانب الوفاء لمدينة الحسين عليه السلام، يجدر القول هنا: إن التأليف في حد ذاته يعتبر ألأثر النافع الذي يبقيه ألإنسان ، حيث أن الفرد بتآليفه وتصانيفه يبقي على الدوام نافعا لغيره، وطبيعي أن ما نقصده بالنفع هنا، هو النفع المعنوي والفكري، إذ أن النفع المادي زائل إن آجلا أم عاجلا.
إن ألأثر الفكري الجيد والنافع لأي إنسان هو على نسق ماء صاف عذب ومتدفق بإستمرار ينتفع الناس من شربه على أوسع نطاق، أي أن في مؤلفات الفرد يكمن رمز الحياة، حيث أن عطاؤه الفكري النافع يظل يتداوله الناس جيلا إثر جيل، فحينما يقرأون افكاره يبدو لهم وكأنه يحادثهم وجها لوجه، وينقل إليهم ما يريد قوله ، فهو ميت بجسده لكنه حيٌّ بفكره، وهكذا بقي المفكرون والعلماء على مر التاريخ ينشرون أفكارهم وطروحاتهم بين الناس ، بينما مضت على وفياتهم قرون وأزمنة طويلة.
وبديهي أن ما نقصده بالمؤلَّف هنا، ذاك ألأثر الفكري الذي يتوفر على جملة من العناصر الموضوعية والحقائق الثابتة بما يجعله أثرا نافعا أو مادة ثقافية أو دراسة توعوية يستفيد بها الناس من قريب أو بعيد.
وأخيرا لا يسعني إى أن اتقدم بوافر الشكر والتقدير لكل من ساعدني وهيأ لي من ألإمكانيات ما يُسهل علي مهمة التأليف هذه ، سائلا ألله العلي القدير أن يعينني في جهدي المتواضع هذا، وأن يسدد على طريق الصواب خطاي، فاصيب كبد الحقيقة وأن يجعل كتابي من الباقيات الصالحات بالنسبة لي ، فهو نعم المولى ونعم النصير .

1 جمادي الثاني 1409 هـ
9 كانون الثاني ـ يناير 1989
نور الدين الشاهرودي



تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 3

التمهيد

يختص هذا الكتاب بالحديث المسهب عن نشأة الحركة العلمية في كربلاء وطبيعة حوزتها الدينية الغريقة، إنطلاقا من كون هذه المدينة قطعة أرض مباركة حباها ألله سبحانه وتعالى ، لأن يكون فيها مقتل ومضجع سيدنا ألإمام الحسين وأصحابه ألأبرار (عليهم السلام) وأن تكون تربتها أبرك تربة على وجه ألأرض جميعا.
وقد آثرتُ في ان يكون هذا الحديث موضوعيا ومدعوما بجملة العناصر الروحية والجغرافية التي إختلط بعضها بالبعض ، وتلاحمت فيما بينها لتتمخض عنها حقيقة ثابتة، وهي : أن كربلاء بلد الدين والعلم معا، حيث إذا ما توطن الدين ومظاهره ورموزه أرضا ما ، فلا بد أن تنشأ عليها علومه وفنونه، إذ لكل شيء مادي أو معنوي فنه وعلمه، ثم أن نشأة العلوم في نمكان ما ، لا جرم تقبها نشأة العلماء به، فكربلاء إذن أرض العلم مثلما هي أرض للعلماء.
إن سرد الحديث في هذا الكتاب يعتمد على التسلسل التاريخي للتطورات المتلاحقة التي شهدتها النهضة العلمية في كربلاءن منذ بدايتها ألأولى وحيى وقت قريب ، إلى جانب معالجة المنعطفات الهامة التي طرأت عليها في ألأزمنة المختلفة.

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 4

وإضافة إلى ذلك ، سوف نبحث في بعض المفردات والمصطلحات الشائعة في ألأوساط العلمية الدينية، بغرض تبسيط الموضوع ودعمه بالعناصر ألإضافية.
ويشتمل هذا الكتاب على سبعة فصول رئيسية ، يختص كل منها بجانب من جوانب الحركة العلمية الدينية في كربلاء، أو بأداة من أدواتها ، وهذه الفصول هي على التوالي: ـ
1 ـ نشأة الحركة العلمية في كربلاء.
2 ـ تاريخ الحوزة العلمية في كربلاء.
3 ـ ألأسر العلمية في كربلاء.
4 ـ نخبة من الخطباء والوعاظ في كربلاء.
5 ـ المدارس العلمية في كربلاء.
6 ـ الجوامع والحسينيات في كربلاء.
7 ـ المكتبات العلمية في كربلاء.

ومن الله التوفيق. .



تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 5


الفصل ألأول
نشأة الحركة العلميّة في كربلاء


تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 6




تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 7

كربلاء أرض مقدسة:

إن الحقيقة التاريخية الثابتة التي توصل إليها المؤرخون والباحثون ألأثريون ، هي : أن ارض كربلاء القاحلة وغير ألآهلة، قد تحولت بعد فترة ليست بطريلة في اعقاب مقتل ألإمام الحسين بن علي وأصحابه البررة (عليهم السلام) في عام واحد وستين للهجرة ، إلى منطقة مأهولة ومزدحمة بالزائرين والوافدين إليها، من كل حدب وصوب لغاية روحية وعاطفية متسامية هي التبرك والتشفع بقبر الحسين الشريف عليه السلام.
لقد توفرت لهذه ألأرض ، بعدما حوت في جوفها جسد الحسين الشهيد عليه السلام من آيات الطهر والقدسية والبركة ما جعلها بمثابة قطعة من الجنة المخلّدة على ألأرض ، بدليل أنها أضحت تمثل معاني ألإباء، والكرامة، والمبدأ، والعقيدة، وتجسّد العلاقة الصميمية بقيم السماء والدين، والرباط الوثيق بالفضيلة ، والسمو الروحي ، فأستحقت بذلك أن تدخل التاريخ ألإسلامي من أوسع أبوابه.
وباتت لتراب هذه ألأرض قدسية وبركة بالنسبة لجميع عشاق الحسين عليه السلام ، ومواليه وشيعته، لأنه إمتزج بدم الحسين الشهيد عليه السلام ، فأصبح وكأنه بسم ودواء تطبيب لهم، فالمحب يشم منه رائحة الحبيب ، فيهدأ ثم يبل من

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 8

داءه ، إذ لُقى الحبيب تدب الحياة من جديد في أوصال المحب، ولكن ما أحلى أن يكون الحب نابعا عن عقيدة روحية ومتدفقا من نبع القيمة السماوية، وإذ ذاك ينفذ إلى كل الجوارح ، فيمسها بعنف ويحفزها للحركة والحياة النابضة بالدفء والحيوية ، وبذلك يصبح الحب عامل تحريك قوي لها ، ومن ثم تطبيب لها، وعند ذاك يشفي المحي من مرضه وينجو من علته.
ومن هنا إكتسبت أرض كربلاء عامل جذب روحي ومعنوي قوي جدا، ظل يشد الناس المؤمنين إليها، وكل أولئك الذين باتت واقعة عاشوراء المفجعة تثير في نفوسهم كوامن الحزن واللوعة وألأسى، وتستنهض هممهم للتوجه إلى هذه ألأرض، وشد الرحال إليها من كل حدب وصوب لغاية التشرف والتبرك والتشفع بزيارة روضة ابي ألأحرار الصناديد، وسيد الشهداء ألأبرار، وسليل رسول ألله ألإمام الحسين عليه السلام، فيما الكثيرون من هؤلاء المندفعين، والمُشوّقين لزيارة قبره الشريف لم يكتفوا بزيارته بصورة عابرة، إو في خلال وقت قصير ، بل تشبّثوا بهذه ألأرض ، وفضلوا البقاء فيها لأطول فترة ممكنة ، وحتى لآخر أيام حياتهم، ممن تمثلت أمنيتهم الغالية في ان يكون محياهم ومماتهم ، بجوار قبر الحسين عليه السلام.
ويذكر المؤرخون: أنه بعدما فشلت محاولات الحكم ألأموي الغاشم في التعتيم ألإعلامي على واقعة كربلاء المروعة، والحادث المهول الذي شهدنه هذه ألأرض بقتل الحسين وأصحابه ، على يد زبانية إبن زياد والي الكوفة في حينه، وبعدما تكسر الجدار ألإعلامي الذي كان قد فرضه هذا الحكم بهدف التغطية على ثورة الحسين عليه السلام بشكل مغلوط ومختلق، وأنكشف زيف دعايته التي روّج لها من أن فردا متمردا على طاعة الخليفة ألأموي يزيد، ومعه فئة قليلة من أنصاره ، قد تم سحقهم وقتلهم في منطقة نائية من أرض العراق، وأن كل شيء قد سُوي لصالح تدعيم النظام ألأموي وبعدما توضحت حقيقة ما جرى من هول الفاجعة الكبرى ، تحوّل قبر الحسين الشهيد عله السلام ، إلى مزار عزيز وغال على قلوب الناس الذين كانوا يتوافدون

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 9

عليه جماعات وفُرادى للتبرك والتشفع به، وذرف الدموع الساخنة حزنا ولوعة على مُصابه ألأليم.
وبسبب تجمهر الناس بأعداد متزايدة حول قبر الحسين عليه السلام ، إضطرت سلطات الحكم الأموي ، إلى تطويقه بمخافر وجنود، تولوا مهمة منع الزائرين من الوصول إلى موقع القبر الشريف، وتفريق أي تجمع كان يحصل في هذا الموقع، خوفا من المضاعفات التي قد تنجم عن هذا التوجه الجماهيري الخطير للغاية.
وعلى عهد خلفاء العباس ، حيث إشتد إقبال وتحمس جماهير الناس بشكل غير عادي لزيارة قبر الحسين عليه السلام ، وكثرت الموجات البشرية المتجهة إلى حيث القبر الشريف، بادر الخليفة العباسي هارون، إلى تضييق الخناق على زائريه ، وأمر بقطع وإستئصال شجرة السدرة ، التي كانت معلما هاما لإرشاد الناس إلى موقع القبر، كما أمر بحرثه وتسوته مع ألأرض ، وهدم ألأبنية التي كانت تحيط من جوانبه.
وفي الفترة من عام 236 وحتى عام 247 للهجرة، كان قبر الحسين عليه السلام وزائروه، عُرضة للتنكيل والبطش من جانب الخليفة العباسي المتوكل، الذي أمر بوضع سرية من الجنود تتولى مهمة منع حشود الزوار من التجمهر والتجمع حول القبر الشريف أو التقرب منه، ولم يكتف بهذا القدر ، بل أمر بهدم قبر الحسين عليه السلام ، والقضاء على أي أثر، أو معلم له، وذلك بحرث موقعه وإطلاق مجرى الماء نحوه.
ويقال: أن الماء سال وجرى بإتجاه القبر الشريف ، ولكنه توقف على مقربة منه، فحار ولم يتقدم بعد ذلك ولو بشبر واحد ، ومن هنا سميت ألأرض التي تحيط بجوانب القبر بأرض الحائر.
وحول طبيعة معاملة المتوكل تجاه قبر الحسين عليه السلام ، فقد روى الشيخ الطوسي في «ألأمالي»عن إبن حشيش، عن أبي الفضل الشيباني، عن علي بن عبدالمنعم بن هارون الخديجي من شاطيء النيل، قال: حدثني

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 10

جدّي القاسم بن احمد بن مُعمر ألأسدي الكوفي ، كان له علم بالسيرة وأيام الناس ، قال: بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم ، أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين عليه السلام، فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، فأنفذ قائدا من قُواده وضم إليه عددا كثيفا من الجند ليشعث قبر الحسين عليه السلام، ويمنع الناس من زيارته وألإجتماع إلى قبره ، فخرج القائد إلى الطف، وعمل بما امر ، وذلك في سنة 237 ، فثار أهل السواد وإجتمعوا عليه وقالوا: لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا ، فكتب بألأمر إلى الحضرة، فورد كتاب المتوكل إلى القائد : بالكف عنهم إلى الكوفة، مظهرا أن مسيره إليها في مصالح أهلها وألإنكفاء إلى المصر، فمضى على ذلك زمن حتى كانت سنة 247 ، فبلغ المتوكل أيضا مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء ، لزيارة قبر الحسين عليه السلام، وأنه قد كثر جمعهم لذلك، وصار لهم سوق كبير ، فأنفذ قائدا في جمع كثير من الجند وأمر مناديا ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبره، ثم نبش القبر ، وحرث أرضه، وإنقطع الناس عن الزيارة ، وعمد على تتبع آل أبي طالب والشيعة، فقتل ولم ينم له ما قدره.
ويقول العلامة اليد محسن ألأمين العاملي صاحب أعيان الشيعة: إن التعامل الشيء للمتوكل مع قبر الحسين عليه السلام ، قد إبتدأ سنة 236 ، ثم اعاد الكرة سنة 237 ، ثم فعل مثل ذلك سنة 247 ، وفيها قتل المتوكل ، فكان يمنع من زيارته ، فيمتنع الناس مدة أو تقل زيارتهم ويزورون خفية ، ثم تكثر زيارتهم فيجدد المنع إلى أن قتله ألله ن وقد قال بعض الشعراء في ذلك:
أيحرث بالطف قبر الحسين ويعمر قبر بني الزانيـه
لعل الزمان بهم قد يعود ويأتي بدولتهم ثانيه

وبعد قتل المتوكل خلفه إبنه المنتصر ، الذي تصرف على عكس أبيه ، فعطف على آل أبي كالب ، وأحسن إليهم ووزع ألأموال بينهم وأعاد بناء قبورهم، وذكر عدد من المؤرخين أنه أمر الناس بزيارة قبر الحسين عليه السلام،

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 11

وقال العلامة المجلسي في البحار: أن امنتصر لما قتل أباه وتخلف بعده، أمر ببناء الحائر وبنى ميلا على المرقد الشريف، وأحسن إلى العلويين وآمنهم بعد خوفهم.

نشأة مدينة كربلاء المعلى:

يتبين مما تقدم أن أرض كربلاء التي أريق على ترابها الطهور دم الحسين الزكي، تحولت في فترة قياسية ، بعدما تمزقت حجب التعتيم ألإعلامي ألأموي على واقعة عاشوراء المفجعة، وبعدما فشلت إجراءات ألأمويين في إحتواء المضاعفات الجماهيرية التي نجمت عنها تباعا ، إلى مركز روحي وقدسي ، يحظى بجاذب قوي وشديد للناس، قلما حظيت به أرض أخرى.
ويقينا أن جاذب الروح وعامل شد النفس لأرض معينة ولمكان محدد هما أقوى بكثير من العوامل الرئيسية لهجرة الموجات البشرية طلبا للماء ، والكلأ، والمناخ الجيد، والموقع المتميز.
إن مثل هذه العوامل المادية الصرفة، وأعني بها وفرة الماء والخصوبة ، والمناخ الملائم، والموقع الجغرافي المناسب، ووقوع ألأرض على مفترق الطرق التجارية ، تؤدي إلى ظهور مجتمعات بشرية متكتلة داخل قطعة أرض محدودة المساحة وواضحة المعالم، ومن ثم تنشأ عنها المدن النامية، بدليل أن تجمع أفراد البشر في موقع ما، لا بد أن يسفر عن نماءه، وعمرانه، وإزدهاره ، وتطويره، وتوسيعه، عبر خطوات متتالية ومتدرجة، وهكذا نشأت معظم المدن على مر التاريخ وهو أمر معروف للجميع.
غير أن هناك أيضا عوامل روحية ومعنوية تتفاعل في النفوس ، فتشدها لمكان معين، ولكن لا بسبب أنه يتوفر على الماء، والكلأ، وإمكانيات العيش ألأخرى، بل لأنه يضم أثرا، أو يرمز لواقعة، أو يوحي بشيء معنوي، ترك تأثيرا عاطفيا في نفوس الناس، فتصير لهذا المكان قسيته وجاذبيته العاطفية الصرفة، فيصبح عامل الهجرة إليه حافزا روحيا

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 12

ومعنويا حتى ولو كان هذا المكان أرضا صخرية ، أو جبلية وعرة تفتقد لعوامل الحياة ألأساسية ، وهو ما نشهده اليوم في بعض مزارات ألأولياء الصالحين، وأبناء وأحفاد ألأئمة ألأطهار (عليهم السلام) ، والتي تقع في مناطق جبلية وعرة جدا، أوفي مناطق صحراوية نائية ، لكنها بالرغم من ذلك ، لها عامل جذب روحي شديد للناس الزائرين والحاجين، ولذا نجد المناطق التي من حولها ، قد تحولت إلى أماكن معمورة ومأهولة بالسكان، إن لم يكن على نطاق واسع، فعلى نطاق ضيق بحسب القداسة وألأهمية لهذا المزار أو ذاك.
ففي مثل هذه الحالة، يغلب عامل الروح عامل المادة، فتصبح عوامل العيش المادية شيئا ثانويا بالنسبة لحافز الروح، وجاذب النفس لدى ألإنسان الذي إن إستوطن مكانا ما ، حتى ولو كان أرضا قاحلة ، وصخرية جرداء لحوله إلى ارض عامرة، وزاهرة، ونامية، وذلك بفضل إرادته القاهرة ، وعزمه الذي لا يلين، فحب التشبث بألأرض، يخلق المعجزات ويثير ويستفز العزائم والهمم العالية.
وعلى هذا النمط تماما ، كانت كربلاء أرضا قاحلة في الوقت الذي هبطها ألإمام الحسين وأفراد اسرته وأصحابه البررة (عليهم السلام) جميعا، عام واحد وستين للهجرة، لكنها كانت في العصور الغابرة ولا سيما في عهد البابليين محاطة بعدة قرى أهمها قرية (نينوى) ، التي كانت في ذاك العهد بالذات عامرة مزدهرة، وهي تقع شمال شرقي أرض كربلاء، وقرية (عقر)، في الشمال الغربي، ثم ألأراضي المنيسطة التي كانت فيها مزرعة لقبيلة (بني أسد) ، وتعرف بالغاضرية، كما كانت تقع على مقربة من أرض كربلاء مقبرة عامة للنصارى قبل تاريخ الفتح ألإسلامي ، تعرف بإسم (النواويس).
غير أن هذه الأسماء أطلقت على أرض كربلاء نفسها أيضا، وفي هذا الصدد يقول الدكتور عبدالجواد الكليدار صاحب كتاب تاريخ كربلاء: وقد نعتت كربلاء ، منذ الصدر ألأول في كل من التاريخ القدين والحديث بإسم كربلاء، والغاضرية، ونينوى، وعمورا، وشاطئ الفرات، وورد منها في الرواية

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 13

والتاريخ بإسم ماريه، والنواويس، والطف، وطف الفرات، ومشهد الحسين عليه السلام، والحائر ، والحير ، إلى غير ذلك من ألأسماء المختلفة الكثيرة، إلا أن أهم هذه الأسماء في الدين هو (الحائر) لما أحيط بهذا ألأسم من الحرمة والتقديس ، أو أنيط به من أعمال وأحكام في الرواية والفقه، إلى يومنا هذا.
وذكر صاحب كتاب دبستان المذاهب: أن كربلاء كانت في العهود الغابرة تضم معابد النار المجوس، الذين أطلقوا عليها بلغتهم إسم «مه بارسور علم» ومعناه المكان المقدس.
وهناك قرى أخرى كانت تحيط بكربلاء حينما وردها الحسين عليه السلام، منها عمورا، وماريه وصفورا، وشفية ، فيما اسماء أخرى أطلقت عليها بعد مقتل الحسين عليه السلام منها مشهد الحسين عليه السلام ومدينة الحسين عليه السلام والبقعة المباركة ، وموضع ألإبتلاء ، ومحل الوفاء.
وكانت أرض كربلاء قبل بزوغ فجر ألإسلام مكانا لدفن ألأموات للساكنين والقاطنين في المناطق التي جاورها، وظلت حتى لوقت قريب محلا لدفن ألأموات كذلك، وكثرت حولها المقابر فقد عثر فيها على جثث موتى داخل أواني خزفية يعود تاريخها إلى قبل العهد المسيحي.
وعلى شاكلتها كانت أرض النواويس ، وهي البقعة التي فيها ألآن مرقد ومزار الحر الشهيد عليه السلام.
وأما مرقد سيدنا الحسين عليه السلام فيقع بين كربلاء والنواويس على وجه التحديد ، وقد تنبأ بذلك الحسين عليه السلام نفسه قبل أن يرد أرض كربلاء ويلقى مصرعه فيها، إذ قال: وكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء.
ومن جانب آخر روي أن ألإمام الحسين عليه السلام حينما وصل إلى كربلاء وأحاط به جيش عبيد الله بن زياد سأل: ما إسم تلك القرية ؟ وأشار إلى العقر، فقيل له: إسمها العقر، فقال: نعوذ بألله من العقر. ثم سأل : فما إسم

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 14

هذه ألأرض التي نحن فيها؟ قالوا : كربلاء. فقال : ارض كرب وبلاء.
وقد سبق أن نزلها والده ألإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في سفره إلى حرب صفين، وشوهد فيها متأملا في ما بها من أطلال وآثار، فسُئل عن السبب؟ فقال: إن لهذه ألأرض شأنا عظيما ، فها هنا محط ركابهم ، وها هنا مهراق دمائهم، فسئل عن ذلك ؟ فقال: ثقل لآل محمد صلى ألله عليه وآله وسلم ينزلون ها هنا ، فويل لهم منكم وويل لكم منهم.
وكربلاء ، إسم قديم له جذوره في التاريخ التليد، إذ يرجع إلى عهد الكلدانيين، والتنوخيين، واللخميين، والمناذرة، يوم كانت مدينة الحيرة، ذات القصور والحدائق عاصمة لملكهم. وكانت ألأقوام التي سكنوها يعولون على الزراعة لخصوبة تربتها وغزارة مائها ، وكثرة العيون، وألأنهر الصغيرة التي كانت منتشرة في ارجائها.
وقد قام علماء ألآثار بتحديد ألأماكن التي كانت مأهولة بالسكان في هذه المنطقة فإكتشفوا بين اطلالها وبقاياها ما يستدل منه على أن منطقة كربلاء كانت بها مدن وقرى زاهرة منذ ألفي سنة قبل الميلاد، وفيها ما يعود إلى العهد ألآشوري والكشي والبابلي الحديث، وهناك أماكن للسكنى غيرها يرجع زمنها إلى العهدين الغرّني والساساني، وفيها أيضا ما يعود إلى العهود ألإسلامي ألأولى والمتوسطة وألأخيرة.
غير أنها كانت أرض فضاء جرداء تخلو من السكان والمباني ما عدا بعض ألأطلال وألآثار الممتدة على أطرافها حينما هبطها ألإمام الحسين عليه السلام بصحبة أهله واصحابه ألأبرار، لكن يد العمران والنماء وألإزدهار إمتدت إليها سريعا، وذلك بعد ما أضحت مقتلا ومضجعا لجسد الحسين وأصحابه (عليهم السلام) فتحولت إلى ملجأ وملاذ ومهبط لكل محبيه،

تاريخ الحركة العلمية في كربلاء 15

وناصريه ، وتابعيه، وشيعته ، ومواليه، وكل من يمثل الحسين عليه السلام لهم رمزا للحق ، والحرية، والرجولة، والبطولة ، والدفاع عن المبادئ ألإنسانية والقيم السامية ، يفدون إلى أرضه ومدينته الطاهرة من كل مكان قاص ودان، وعلى مر ألأجيال.
ومع هذا لم تكن كربلاء عامرة في القرن ألأول الهجري، وذلك بالرغم مما كان في نفوس الهاشميين، وشيعتهم وتابعيههم، من شوق ولهفة ، ورغبة في العيش بمجاورة قبر سيد الشهداء عليه السلام، لأنهم يتمكنوا من بناء الدور والبدء بالعمران فيها خوفا من بطش وتنكيل زبانية بني أمية.
ولكنها أخذت بالتقدم والعمران في أوائل حكم الخلفاء العباسيين ، ثم رجعت القهقرى في ايام خلافة هارون ، وإزداد خرابها في أيام الخليفة العباسي «المتوكل» لأنه أمر بهدم قبر الحسين الشريف ، والتعامل مع زائريه بكل قسوة ووحشية مما دفع بالناس إلى الرحيل عنها.
وفي عهد الخليفة المنصر العباسي، أخذ الشيعة يتوافدون على أرض كربلاء ساعين إلى إعمارها، فبنوا الدور عند رمسه وأقاموا المباني الكبيرة وألأسواق من حوله، ولم يمر قرن أو بعض قرن، إلا وتحولت ألأراضي الواقعة حول القبر الشريف إلى مدينة صغيرة تضم آلاف النفوس.
وجاء في كتاب «مروج الذهب» للمسعودي: فلما تخلف (المنتصر أباه المتوكل) أمر بالكف عن آل أبي طالب وشيعتهم ، وترك البحث عن أخبارهم، وأمر أن لا يمنع الناس من زيارة قبر الحسين عليه السلام ، ولا قبر غيره من آل رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسلم.
ولما بلغ خبر إستخلاف المنتصر إلى العالم الفاضل محمد بن الحسين بن علي الشيباني المعروف (بألأشتاني) ، توجه من ساعته إلى كربلاء، ومعه جماعة من الطالبيين والشيعة، فلما وصلوا قبر الحسين عليه السلام، أعادوا للقبر معالمه القديمة ، فعند ذلك أمر المنتصر العباسي ببناء قبر الحسين عليه السلام، ووضع على القبر سارية لإرشاد زوار قبر الحسين عليه السلام، وعاد

الفهرس التالي التالي