الذنوب الكبيرة - 2 363


لقد زال من المجتمع البشري التعاون والتعاضد والحنان العاطفي، والشعور بالرحمة، وطلب الخير ، والعفو ، وأمثال ذلك مما يتوقف عليها نظام الحياة الدنيا وسعادة العقبى ، وحل محلها الذاتية وألأنانية وقساوة القلب، وفقدان الرحمة وطلب الراحة للنفس والزحمة للآخرين وامثالها.
كما فقد الصدق في القول والعمل من جميع الطبقات وحل محله الكذب والخداع والغش والتحايل والتلاعب كما يلاحظ ان صاحب كل جنس يتلاعب بأشكال مختلفة في جنسه حتى يجعله بصورة السالم الصحيح في مقام بيعه، ولا يمتنع عن أية خيانة وجناية من اجل تحصيل الثروة وتأمين وسائل الرفاه المادية له ، كما حدث مرارا ان يبيع طعاما مسموما بحيث يعرض أرواح بني نوعه للخطر.
والخلاصة انهم اصبحوا كالحيوانات مفصول أحدهم عن الآخر، ويتعاملون فيما بينهم بتناكر وتنافر وبمنطق القوة والغلبة ، وما ذكر هو نموذج من مفاسد الفتنة المادية، اما لو أردنا المضي في شرحها لامتلأت به الكتب.
ولا يفوتنا القول ان من مكائد المؤسسين والمروجين لهذه الفتنة تضعيف وسحق علماء الدين في المجتمع ، واكبر وسيلة لهم لتحقيق ذلك هو ايجاد حالة التشاؤم والسخرية بالأديان في المجتمع وبالخصوص في طبقة الشباب، والسعي في إيجاد الفواصل بينهم وبين المجتمع حتى لا يسمعوا شيئا من ذوي الدين والصفات الكمالية الانسانية، ولا يتعرفوا على مواصفات الآدمية وعلاماتها، ولا يدركوا الحقائق فينزلقوا في تيار الفساد وهم صم بكم ويشتغلوا بانواع الأهواء والقذارات.
وان اعظم حربة لهم في ذلك هى حربة الإتهام، فيتهمونهم احيانا بأنهم لا معرفة لهم بأوضاع العالم وتمدنه، وانهم منعوا الناس فترة طويلة عن التقدم، واحيانا يتهمونهم بانهم يطلبون الدنيا والرئاسة وحيث ان التمدن الإجتماعى يمنع عن رئاستهم لذا فهم يعارضونه، وغير ذلك من الإتهامات، وغير خفي على كل مسلم فاهم ان جميع ذلك اتهام عار عن الحقيقة والواقع.

الذنوب الكبيرة - 2 364


البدعة والتجسس:

من الفتن الدينية البدعة في الدين، فان اولئك الذين يبتدعون طرقا جديدة في الاسلام، ويفرقون بها المسلمين، ويسببون حدوث الاف الفتن والمفاسد في العالم الاسلامي هم أسوا الفتانين.
ومن جملة الفتن الدينية التجسس للكفار في الأمور التي يجب ان تبقى سرا بين المسلمين، كما يقول تعالى في سورة النساء حول المنافقين « وإذا جائَهُم أمرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخوفِ أذاعوا بِه » (1).
وقد نقل المجلسي عن البيضاوي في معنى هذه الآية أنها نزلت في عدة من المسلمين الضعفاء كانت طريقتهم على نقل ما يصلهم من أخبار رسول الله «صلى الله عليه واله» إذا أراد شن هجوما عسكريا ، او ما يخبر به رسول الله «صلى الله عليه واله» عن طريق الوحي من إنتصار المسلمين او إنكسارهم، فكانوا يفشون هذه الأخبار الامر الذي يبعث على القلق والفساد وهذه الآية نزلت في ذم افشاء الامور التي يترتب على افشائها مفسدة.

إفشاء أسرار الشيعة والأحاديث المشكلة:

ومثل ذلك نقل اسرار الشيعة التي وصلتهم عن أئمتهم للمخالفين، الأمر الذي يسبب الإيذاء والضرر للمؤمنين، وخلاصة القول عدم التقية فيما تجب فيه التقية.
يقول العلامة المجلسي ـ في شرح حديث إياكم والإذاعة ـ (ويمكن شموله لإفشاء بعض غوامض العلوم التي لا تدركها عقول عامة الخلق) (2).
وعن الامام الصادق«عليه السلام» (من أذاع علينا حديثنا سلبه الله الإيمان) «اصول الكافي».

(1) النساء 83.
(2) مرآة العقول ـ باب الإذاعة.
الذنوب الكبيرة - 2 365


وايضا قال «في تفسير قوله تعالى «ويَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ بِغيرِ حَق» (1)قال «عليه السلام»: (اما والله ما قتلوهم بأسيافهم ولكن أذاعوا سرهم وأفشوا عليهم فقتلوا) «أصول الكافي».
وقال «عليه السلام» (ما قتلنا من أذاع حديثنا خطأ ولكن قتلنا قتل عمد) «أصول الكافي» .

إيجاد الفرقة:

من جملة الفتن الدينية إيجاد الفرقة والتشتت بين الجماعة المتحدة بقلبها والمتوجهة الى ربها والذاكرة لنبيها وإمامها، وذلك اما بالقوة القاهرة او بإلقاء الشبهة وسوء الظن بين المأمومين وامام الجماعة او بين المأمومين بعضهم مع البعض الاخر، والخلاصة تبديل اتحاد القلوب ـ الذى هو هدف مقدس للشارع وموجب لكل خير ـ بالتباغض والفرقة الموجبة لكل شر، والذي هو أمر مبغوض للشارع المقدس.

إثم الفتنة أكبر من القتل:

كما سبقت الإشارة إليه ان الفتنة اكبر من القتل بنص القرآن المجيد وذلك ان قتل النفس هو مجود إتلاف حياة مؤقتة وعارية دنيوية وفي الحقيقة انقاذها من شرور هذا العالم وآفاته واما الفتنة في الدين فهي سبب لخسران الحياة الأبدية، والحرمان من النعم الخالدة. وبمقدار ما تكبر الحياة الآخرة على الدنيا فان الفتنة في الدين هى اكبر وأخطر من قتل النفس.

الفتنة الدنيوية أسوأ من القتل:

اولا: لأن من يشعل نار الفتنة ويحرق بها جماعة يسلب راحتهم ويدعهم في عذاب هو في كل يوم لهم بمثابة القتل، ولو أنه قتلهم دفعة واحدة لكان أروح لهم.
ثانيا: لان اغلب الفتن تنجر الى القتل وملحقاته من الجرح ونقصان الأعضاء.

(1) آل عمران 112.
الذنوب الكبيرة - 2 366


يقول الشهيد الثاني وهو يعد الكبائر (والقتل بغير حق وتدخل فيه جناية الطرف) «القواعد».

تفسير الفتنة بالكفر والشرك:

ولا يبقى خفيا ان اكثر المفسرين فسروا الفتنة في الآيات المذكورة بالكفر والشرك، وفي رواية عن الامام الباقر «عليه السلام» في تفسير آية « حتى لا تكون فتنة» (1) انه فسر الفتنة بالشرك، هذا المعنى لا منافات بينه وبين ما هو الظاهر من معنى الفتنة كما تقدم ، وذلك أن الظاهر ان المراد في الروايات وكلمات المفسرين بيان سبب الفتنة إذ أن المؤمن الحقيقي لا تصدر منه فتنة دينية او دنيوية كما قال امير المؤمنين «عليه السلام» في صفات المتقين (الخير منه مأمول، والشر منه مأمون) «نهج البلاغة».
ومعناه ان من دخل في قلبه نور الإيمان أمن جميع الناس من شره، إذن فالفتّان هو أما كافر او مشرك باطني وظاهري او إذا كان مسلما فهو ما زال لم يخلص من ظلمات الكفر ومراتب الشرك، ولم يزل قلبه غير منوّر بنور الايمان.

التجسس للظالم:

من الفتن المسلمة التجسس للحكام والظلمة وخطر ذلك وعظيم مفسدته وكونه اكبر من القتل ظاهر جدا، اذ قد يكون جاسوس واحد سببا في قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، بل سببا في فجائع كربلاء وما بعدها.

(1) البقرة 193.
الذنوب الكبيرة - 2 367


بيع الأسلحة للكفار

الذنوب التي ثبت بالفحوى والأولوية القطعية انها من الكبائر مثل النهي عن المعروف والأمر بالمنكر اي منع الآخرين عن إتيان ما امر الله به أو حثهم على إرتكاب ما نهى عنه، فمن حيث ان ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكبائر ـ كما تقدم في الباب الاول ـ فيثبت بحكم العقل القطعي ان النهي عن المعروف هو كبيرة حتما.
ومثل التجسس للكفار بما يكون فيه غلبتهم ومثل بيع ألأسلحة الحربية للكفار في زمن حربهم للمسلمين.
ويتضح أن هذين ألأمرين من الكبائر من حيث أن الفرار من ميدان الحرب رغم ان ضرره على الاسلام والمسلمين إحتمالي إلا انه أعتبر من الكبائر فيثبت بالأولوية ان التجسس للكفار وبيع الأسلحة لهم هو اكبر إثما من الفرار لأن ضرره على المسلمين قطعي.
عن الامام الباقر «عليه السلام»:

الذنوب الكبيرة - 2 368


(من حمل الى عدونا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك) «المكاسب».
وفي وصية النبي «صلى الله عليه واله» لعلي «عليه السلام»:

(ياعلي كفر بالله العظيم من هذه الأُمة عشرة أصناف، وعد منها بائع السلاح من أهل الحرب) «وسائل الشيعة».
ولا يفوتنا القول ان بيع الأسلحة لقطاع الطريق وأولئك الذين يخلون بالأمن العام للمسلمين هو بحكم بيع الأسلحة للكفار.

الذنوب الكبيرة - 2 369


3
البهتان

من جملة الذنوب الكبيرة التي ثبتت بطريق الأولوية القطعية هو (البهتان) هو نسبة العيب الى شخص ليس فيه ذلك العيب، وذلك لأن الغيبةـ التي هي ذكر الآخر بعيب موجود فيه ـ من الذنوب الكبائر فالبهتان بطريق أولى وبحكم العقل القطعي كبيرة ايضا، بل البهتان يشتمل على كبيرتين الغيبة والكذب.
وحيث ان البهتان مورد إبتلاء عموم الناس، ومفاسده كثيرة وقد نهي عنه في القرآن المجيد والروايات بشدة، وجاء الوعيد عليه بعقوبات شديدة ، كان من الجدير الإشارة الى بعض الآيات والروايات في هذا المقام.

آيات الأفك في سورة النور:

في سورة النور سبع عشرة آية حول موضوع الإفك ورغم ان مورد هذه الآيات وشأن نزولها هو خصوص البهتان بالزنا إلا ان فيها تهديدا شديدا لعموم البهتان كما سنذكر ذلك «ان شاء الله».
وخلاصة ما ذكره المفسرون في شأن نزول آية الإفك هو أنها نزلت في عدد من

الذنوب الكبيرة - 2 370


المنافقين اتهموا عائشة زوجة الرسول «صلى الله عليه واله».
وتفصيل ذلك أن رسول ألله «صلى الله عليه وآله» إصطحب معه عائشة في غزوة بني المصطلق، وأركبها هودجاً مستورا.
تقول عائشة (1) كان رسول الله «صلى الله عليه واله» اذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها فأقرع بيننا في غزوة غزاها ـ وروي انها كانت غزوة بني المصطلق فخرج فيها سهمي وذلك بعدما أنزل الحجاب فخرجت مع رسول الله «صلى الله عليه واله» حتى فرغ من غزوه وقفل.
قالت: ودنونا من المدينة فقمت حين أذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت الى الرحل فلمست صدري فاذا عقد من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فإلتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه واقبل الرهط الذي كانوا يرحلونني فحملوا هودجي على بعيري الذي كنت اركب وهم يحسبوني أني فيه ـ وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلهن اللحم ـ إنما يأكلن العلقة من الطعام فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي وجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فسموت منزلي الذي كنت فيه وظننت ان القوم سيفقدوني فيرجعون الي، فبينا أنا جالسة اذ غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي قد عرس من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما كلمني بكلمة حتى أناخ راحلته فركبتها فانطلق يقود الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في حر الظهيرة.
تقول عائشة: فهلك من هلك في ـ تعني قذفها وإتهمها ـ وكان الذي تولى كبره منهم عبدالله بن أُبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت ـ مرضت ـ حين قدمتها شهرا والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا اشعر بشيء من ذلك غير اني لا أعرف من رسول الله

(1) نقلنا هذه الرواية كما جاء في تفسير مجمع البيان.
الذنوب الكبيرة - 2 371


«صلى الله عليه واله»اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي... ودعا رسول الله «صلى الله عليه واله» بريرة فقال يا بريرة هل رأيت شيئا يريبك من عائشة ؟ قالت بريرة : والذي بعثك بالحق ان رأيت عليها أمرا قط أغمضه عليها اكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، قالت: وانا والله أعلم انى بريئة وما كنت اظن ان ينزل في شأني وحي يتلى ولكني كنت ارجو ان يرى رسول الله رؤيا يبرئني الله بها فأنزل الله تعالى على نبيه... «إن الذينَ جاءوا بالإفكِ عُصْبَةٌ مِنكُم لا تَحْسَبوهُ شَراً لَكُم بَلْ هوَ خَيرٌ لَكُم لِكُلِ إمرئ ٍمِنْهُم ما إكتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والذي تَولّى كِبَرَه ُمِنْهُم لَهُ عَذابٌ عَظيم» « لولا إذ سَمِعتُموهُ ظنَّ المُؤمِنُونَ والمُؤمِناتِ بأنْفُسِهِم خَيراً وقالوا هذا إفكٌ مُبينٌ» « لولا جاءوا عَليهِ بأربَعةِ شُهَداء فإذْ لَمْ يأتوا بالشُهَداءِ فأُولئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الكاذِبُون» « ولولا فَضْلُ اللهِ عَليكُم ورَحْمَتُهُ في الدُنيا والآخِرَةِ لَمَسَّكُم فيما أَفَضْتُم فيهِ عَذابٌ عَظيم» « إذ تَلقَونَهُ بألْسِنَتِكُم وتَقولونَ بأفْواهِكُم ما لَيسَ لَكُم بِهِ عِلمٌ وتحْسَبونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظيم» «سورة النور ـ 11»
وحاصل الآيات الشريفة أنكم ارتكبتم ثلاثة ذنوب الأول: الإفاضة والتحدث بالكذب والإفك وإشاعته، والثاني: القول بغير علم، وبيان ما لم تتأكدوا منه، والثالث: إستصغار هذا العمل والإستهانة به( وفي آخر الباب الاول ذكرنا ان الإستخفاف بالذنب يجعله كبيرة من الكبائر).
هذه الآيات وآيات أخرى ـ لم نذكر طلبا للإختصار ـ يتضح جيدا ان البهتان من كبائر الذنوب بل اكبر من بعض الكبائر.

البهتان وأخبار أهل البيت(ع):

قال الرسول الأكرم «صلى الله عليه واله»:
(من بهت مؤمنا او مؤمنة او قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى يوم القيامة على تل من نار حتى يخرج مما قاله) «بحار الأنور».
وعن الامام الصادق«عليه السلام» انه قال (من بهت مؤمنا او مؤمنة بما ليس فيه بعثه

الذنوب الكبيرة - 2 372


الله في طينة خبال حتى يخرج مما قال . قلت : وما طينة خبال؟ قال : صديد يخرج من فروج المومسات) « أصول الكافي».
قال «عليه السلام»:
(إذا إتهم المؤمن أخاه إنماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء) «الكافي».

أنواع البهتان

البهتان على الله:

ان اشد البهتان هو البهتان على الخالق ـ تعالى ـ كما قال تعالى في سورة الصف « ومَنْ أظلَمُ مِمَنْ إفْتَرى على اللهِ الكَذِبَ » (1) مثل من ينكر عدالة ألله او حكمته ـ كمنكري نبوة الانبياء ومنكري المعاد فهم في الحقيقة إنما ينكرون حكمة الله ـ وأيضا مثل أولئك الذين يتخذون لله شريكا وهكذا القائلين بمختلف صنوف الشرك فجميع ذلك إفتراء محض وقول بدون علم.
وقد جاء في الآيات القرآنية المجيدة تهديد شديد ووعيد بالنار لأولئك، بل ان البهتان على الله من لوازم الكفر.
قال تعالى في سورة النحل « إنما يَفتَري الكَذِبَ الذينَ لا يؤمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وأُولئِكَ هُم الكاذِبُون. » (2).

البهتان على الرسول (ص) والإمام (ع):

وفي حكم البهتان على الله البهتان على النبي والإمام «عليه السلام» كمن يتهمهم بالسحر والجنون والشعر والكذب والذاتية، وتفصيل اتهامات البشر لسلسة الأنبياء الجليلة وأئمة الهدى صلوات الله عليهم اجمعين يحتاج الى كتاب مستقل لا يسعه

(1) الصف 7.
(2) النحل 105.
الذنوب الكبيرة - 2 373


هذا المختصر.

البهتان على الناس:

اتهام الناس على قسمين:
احيانا يكون قولا بدون علم، بأن ينسب عيباً لشخص دون ان يثبت ذلك العيب، ولا يقين له به ، بل ينسبه اليه لمجرد سوء الظن.
واحيانا يكون إفتراءاً بأن يعلم ان ذلك العيب غير موجود في الشخص المتهم، والعمل الذي يتهمه به لم يصدر منه، ولكن ينسبه اليه عنادا، والأقبح من ذلك ان يكون ذلك العيب موجودا في المتهِم ـ بالكسر ـ ولكنه دفعا للشبهة عن نفسه ـ يتهم غيره به ويرمي بقذارته على شخص طاهر منها.
وظاهر جدا ان هذا القسم من أسوأ أنواع البهتان على عباد الله، كما قال تعالى في سورة النساء « ومَن يَكْسِبْ خَطيئَةً أوإثماً ثُمَّ يَرْم بِهِ بَريئاً فَقَدْ إحتَمَلَ بُهْتاناً وإثْماً مُبيناً » «السورة 4/الآية 112».

البهتان على الكافر حرام أيضا:

جاء في تفسير (منهج الصادقين) ان طعمة بن بيرق كان له ثلاثة أولاد بشر ومبشر وبشير، وكان بشر من هؤلاء الثلاثة رجلا منافقا، دخل ليلا على دار قتادة بن النعمان وكان فيها دقيق مخزون في وعاء من جلد الخروف فسرقه ومضى به الى دار زيد بن السهين وكان يهوديا فأودعه عنده، فلما عرف قتادة بالخبر جاء الى دار ذلك اليهودى فانكر اليهودي،فجاء قتادة الى رسول الله «صلى الله عليه واله» وشكى له الحال ، وجاء بنو بيرق يكلمون رسول الله ان يجادل عنهم ، فهم رسول الله «صلى الله عليه واله» ان يعاقب اليهودي فنزل قوله تعالى « إنا أنْزَلْنا إليكَ الكِتابَ بالحَقِ لِتَحْكُمَ بينَ الناسِ بِما أراكَ اللهُ ولا تَكُنْ لِلخائِنِينَ خَصّيماً » «106 /النساء».

الذنوب الكبيرة - 2 374


عاقبة الخائن:

ونقل في تفسير الميزان ان عاقبة بشر كانت هي امتناعه عن التوبة التي عرضها الله عليه ، وذهب الى مشركي مكة ، وهناك ذهب لسرقة دار محترقة.

العلاج ينحصر بتحصيل الإيمان:

والحقيقة انه لا يوجد لهذا النوع من البهتان سبب إلاعدم الإيمان، والشقاء والرذالة، وعدم العفة والحياء، كما ان علاجه ينحصر بتحصيل الإيمان وتقويته والتفكر في آثار الخيانة الوخيمة في الدنيا، وعقوباتها المترتبة عليها في الآخرة.

سوء الظن:

والقسم الآخر من البهتان ان ينسب أمرا بدون علم الى غيره ، وسببه في الغالب سوء الظن بأن يحمل ما رآه أو سمعه على الفساد ثم يسير تبعا لظنه ذلك، ولا يعتني بأحتمال الصحة والصلاح فيه .
لذا جاء النهي الشديد في القرآن المجيد وألأخبار الكثيرة عن سوء الظن بالآخرين وورد ألأمر بضرورة حمل عمل المسلم على الصحة ، ولأجل مزيد الاطلاع نشير الى بعض الآيات والروايات الواردة في المقام.


بعض الظن إثم:

قال تعالى في سورة الحجرات « يا أيُها الذينَ آمَنُوا إجْتَنِوا كَثيراً مِنَ الظَنِّ إنَّ بَعْضَ الظَنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا » (1).
وخلاصة مفاد هذه الآية الشريفة النهي عن إتباع ظن السوء في حق الأخ المؤمن.
وفي سورة الإسراء يقول تعالى « ولا تَقْفُ ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤولا » (1).

(1) الحجرات 12.
الذنوب الكبيرة - 2 375


يجب الحمل على الأفضل:

قال امير المؤمنين « عليه السلام» :
ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا) «كشف الريبة».
وقد ذكر العلامة المجلسي عليه الرحمة في شرح هذا الحديث انه يعني إحمل العمل او القول الذي يصدر من أخيك على الوجه الحسن حتى وان لم يكن بظاهره حسنا، ولا تحقق عنه فتحصل على دليل قطعي يمنع التاويل، فما أكثر ما يكون الظن خطأ، كما ان البحث والتدقيق حرام أيضا لقوله تعالى « ولا تَجَسَسُوا ».
وحاصل المعنى انه متى ما صدر من مؤمن كلام له معنيان فاللازم عليك ان تفسره بالمعنى الحسن وان كان ذلك المعنى مجازا أو كناية وتورية، ولم يكن في كلام عليه قرينة، خصوصا إذا إدعى المتكلم بأنه قصد هذا المعنى.
ذكر الجلبي في (حاشية المطول) ان (القبعثرى) وهو شاعر أديب كان في جمع من الأدباء والشعراء، وكان الوقت وقت حصاد التمر من النخيل، فذكر عندهم الحجاج فقال القبعثرى: اللهم سود وجهه واقطع عنقه واسقني من دمه ، فوصل كلامه الى الحجاج فأحضره وسأله عن مقالته فقال: اردت بذلك الحصرم، إلا ان الحجاج لم يقبل ذلك منه وقال له: لأحملنك على الأدهم ـ والأدهم في العربية تعني القيود والسلاسل وتستعمل في معنى آخر هو الفرس الاسود ـ فقال القبعثرى: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. فقال الحجاج: اردت الحديد فقال القبعثرى : لئن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا» انتهى.
ويلاحظ في هذه الحكاية ان القبعثرى حمل كلام الحجاج ووعيده وتهديده على معنى الوعد واللطف والإحسان، ومثل هذا الصنع يجب ان يراعى في جميع أقوال وأفعال المسلمين، فطالما أمكن حمل الكلام على معنى سليم صحيح وجب حمله عليه ولم يجز على المعنى السيء الفاسد.

الذنوب الكبيرة - 2 376


سوء الظن بالمؤمن حرام:

قال الشهيد الثاني في كشف الريبة:
(وإعلم انه كما يحرم على الإنسان سوء القول في المؤمن وان يحدث غيره بلسانه بمساوئ الغير، كذلك يحرم عليه سوء الظن وان يحدث بنفسه بذلك).
والمراد من سوء الظن المحرم عقد القلب وحكمه عليه بالسوء من غير يقين به، وأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه كما ان الشك أيضا معفو عنه، قال الله تعالى « إجتَنِبوا كَثيراً مِنَ الظَنِّ إنَّ بَعْضَ الظَنَّ إثم » (1) فليس لك ان تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا إنكشف لك بعيان لا يحتمل التأويل، وما لم تعلمه ثم وقع في قلبك فالشيطان يلقيه إليك فينبغي ان تكذبه فانه افسق الفساق وقد قال تعالى « يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَنوا أنْ تُصِيبوا قَوماً بِجَهالَةٍ » (2) فلا يجوز تصديق إبليس.
ومن هنا جاء في الشرع ان من عملت في فيه رائحة الخمر لا يجوز ان يحكم عليه بشربها ولا يحد لإمكان ان يكون تمضمض به ومجّه او حُمل عليه قهرا وذلك امر ممكن فلا يجوز إساءة الظن بالمسلم، وقد قال النبي «صلى الله عليه واله» ان الله تعالى حرم من المسلم دمه وماله وان يظن به ظن السوء.
الى ان قال:
وطريق معرفة ما يخطر في القلب من ذلك هل هو ظن سوء او إختلاج وشك، ان تختبر نفسك فان كانت قد تغيرت ونفر قلبك عنه نفورا واستثقله وفترت عن مراعاته وتفقده وإكرامه وألإهتمام بحاله وألإغتمام بسببه غير ما كان أولا فهو إمارة عقد الظن وقد قال «صلى الله عليه واله» (ثلاثة في المؤمن وله منها مخرج ، فمخرجه من سوء الظن ألا يحققه) أي لا يحققه في نفسه بعقد ولافعل لافي القلب ولافي الجوارح...

(1) الحجرات 12
(2) الحجرات 6.
الذنوب الكبيرة - 2 377


والذي ينبغي فعله عند خطور خاطر سوء على مؤمن ان يزيد في مراعاته ويدعو له بالخير فان ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقي إليك بعد ذلك خاطر سوء خيفة من إشتغالك بالدعاء «انتهى».

الذنوب الكبيرة - 2 378




السابق السابق الفهرس التالي التالي