الذنوب الكبيرة - 2 137


استعلى ، وقد جاء في القرآن المجيد « وأن لا تَعلَوا على اللهِ » (1) فيجب النظر الى عظمة الله بنحو ينسى الإنسان معها عظمته .

أحوال رسول الله (ص) مظهر التواضع:

وقد ذكر للتواضع عدة حالات كانت متجلية في سيد الكونين محمد بن عبدالله «صلى الله عليه واله»
(كان لا يغضب لنفسه)
(كان يجلس على الأرض ويأكل على الأرض).
(كانت الأمَةُ من إماء المدينة تأخذ بيد رسول الله «صلى الله عليه واله» فتذهب به حيث شاءت).
(كان «صلى الله عليه واله» اذا دخل بيته عمل في مهنة أهله) (2).

يجب اقتلاع منشأ الكبر:

ومن صور العلاج للكبر التفكر والتدبر في إشتباه الإنسان حين يغتر بما يوجب الكبر والغرور كالعلم، وألعمل،والنسب، والمال والجاه ، والمنصب ، والاتباع ، والقوة ، والجمال ، وغيره فبعد التدقيق يعلم ان الكبر والغرور بأي واحد منها هو على خلاف العقل.
* * *
اما العلم : فإن كان علما دنيويا فهو ينتهي بالموت ، بل قبل الموت نتيجة ترك الممارسة ، أو نتيجة النسيان ، حيث ان نفعه انما هو لأيام معدودة اذن فلا يجدر الاغترار به ، خصوصا مع قياس ما يعرف الى ما لا يعرف، وهي نسبة المحدود الى اللامحدود.

(1) الدخان /19.
(2) هذه النصوص موجودة في بحار الانوار ـ المجلد 6 ـ 202
الذنوب الكبيرة - 2 138


وان كان علما أخرويا دينيا فما يرجع منه الى المعارف الإلهية فان اثره هو التواضع والخشوع وليس الكبر والغرور حيث يقول تعالى « إنما يَخشى اللَه من عِبادِهِ العُلماءُ » (1) اما ان كان حاله غير ذلك فيعلم انه لم ينتفع بنور العلم وحقيقته إنما عرف المصطلحات فقط وهى ليست امرا يستدعى الإفتخار.
واما العلم باحكام الدين (اي الفقه ) فهو نافع حيث يعمل على طبقه ، اما من يعلم الفقه ولا يعمل به فهو كمن يعرف الطب ولا يعمل به ، وهو حسب تعبير القرآن المجيد «كَمَثلِ الحِمار يَحمِلُ أسْفاراً» (2) وقد شبه القرآن المجيد بلعم بن باعور الذي كان عالما غير عامل بالكلب.
ولو ان العالم التفت الى ان حجة الله قد تمت عليه ، وتحمل على عاتقه مسؤولية كبرى لدرجة انه يغفر للجاهل سبعون ذنبا ولا يغفر للعالم ذنب واحد، فلا شك انه سيزداد تواضعا وخشوعا لا تكبرا. * * * وأما العمل : فيجب ان يعلم أن عمل الخير ان كان مع الخضوع والخشوع والفقر والفاقة (وذلك روح العبودية) فهو عبادة ، وله قيمة ، اما اذا كان مع التكبر والمنّة فانه سيبقي شكلا بلا روح وهو مما لا قيمة له.
ويجب ان يعلم ان عمل الخير إنما يكون نافعا عندما يكون مقبولا عند الله تعالى وذلك أمر خفي، ولا احد يعلم هل أن عمله الخير مقبول ام مردود نتيجة فقدان الصدق والإخلاص والتقوى ؟
بناءا على ذلك فعمل الخير كالعلم موجب للتواضع والإفتقار لا الغرور والكبر كما قال تعالى في صفات المؤمنين « والذين يُؤتونَ ما آتَوا وقُلوبُهُمُ وَجِلَةُ أنّهُم إلى رَبِهِم راجِعُون » «السورة 23/60».

(1) (فاطر 28).
(2) (الجمعة 5).
الذنوب الكبيرة - 2 139


اي انهم يخافون من عدم قبول اعمالهم عند ربهم ، وذلك ان الله تعالى يعلم ما اخفاه عليهم.
* * *
واما الشرف: فشرف النسب لا ينبغي ان يكون داعيا للكبر، ذلك انه اذا كان شرفا دنيويا ظاهريا ظاهر ـ مثل ان يكون أبوه من الحكام والأشراف ـ فما هي قيمة اصل الدنيا حتى تكون للامور الإعتبارية فيها قيمة ، سوى زبارج تدوم ايام معدودة ثم تفنى ، والإغترار بها والتكبر فيها دليل على منتهى السفاهة والحماقة ، ثم ما اكثر الذين افتخروا بها وهم الآن في عالم البرزخ في اصعب الحالات ، واسفل الاماكن ، حيث يعلو صراخهم وحسراتهم، ومع ذلك يفتخر هذا الاحمق بها ويتكبر . اما اذا كان الشرف شرفا حقيقيا معنويا مثل كونه من ذرية السادات الجليلة فيجب ان يعلم ان شرف اجدادهم الطاهرين انما هو بقربهم من الله ، واشتمالهم على جميع الفضائل النفسية والتي من جملتها منتهى التواضع مع ألله ومع الناس ومن يرى نفسه منتسبا لهم أجدر من غيره بالتواضع مع ألله ومع الناس ـ واجدر من غيره بالطهارة من صفات الرذيلة التي هى صفات اعدائهم.
وهكذا المنتسب للعلماء فيجب ان يعلم انه اذا كان ـ هو شخصيا ـ عالما وكان متكبرا فانه بالحقيقة محروم من فضيلة العلم كما ذكرنا سابقا فكيف حال من يريد ان يتفاخر ويتكبر لمجرد انتسابه الى عالم؟
* * *
واما المال: فان من الحماقة بمكان ان يتكبر على الفقراء والمحتاجين بما لديه من الثروة ، فلا يعود الفقير اذا مرض ، حتى لو كان جاره او رحما له، أو لا يستمع للفقير اذا تكلم معه ، او لا يرد سلامه جيدا اذا سلم عليه ، او يتكلم معه بكلام خشن او ما شاكل ذلك.
يجب ان يعلم أن المال خارج عن ذات الإنسان ، ولا دخل لزيادته ونقصانه في

الذنوب الكبيرة - 2 140


كمال الإنسان فيمكن ان يكون اغنى الناس هو اسفلهم من جهة الكمالات المعنوية مضافا الى ان المال ينتقل للآخرين بمجرد وفاة الشخص ، بل يمكن ان يخرج من يده في كل لحظة لحادث، فما اكثر الأثرياء المتكبرين المغرورين الذين اصبحوا فقراء معوزين في لحظة من الزمن .
اما الغني المؤمن الفاهم فيلزم ان يرى ماله فتنة وبلاءً وامتحانا له (1)، ويعرف انه امام مسؤولية شاقة يصعب الخروج منها ، ولازم هذا الفهم التواضع للفقراء لا الغرور والتكبر عليهم.
اما اذا كان الغني جاهلا ومعتقدا ان ماله هو نعمة الله عليه، وانه يستحقه فيجب ان يتذكر هذه الآية الشريفة « أَيَحسَبُونَ أنَما نَمُدَّهُم بِهِ من مالٍ وبَنينَ، نُسارِعُ لَهُم في الخَيراتِ بَلْ لا يَشْعُرونَ »«السورة23/55 ـ56».
لان اعطاء المال والأولاد حينما لايكون سببا في كسب السعادة ، فهو من قبيل الاستدراج والغضب ، ومن مصاديق المكر، وليس لطفا ورحمة.
ومن اجل معرفة ان هذا المال رحمة وخيرا ام بلاءا وغضبا إليهاً، توجد علامتان ذكرت في الروايات:
احداهما التواضع والأخرى التوفيق للانفاق ـ اذن فالغني الذي يزداد كبره وبخله كلما ازدادت امواله فتلك الأموال وبال عليه وسبب لشقائه وتعاسته.
* * *

واما الجاه والمنصب : فهي امور اعتبارية ، يجري فيها ما قلناه في الأموال من انها زائلة لاقيمة ولا اعتبار لها، وقد تكون خيرا ونعمة ، كما قد تكون شرا ونقمة ، بل ان التكليف هنا اصعب ، والخطر اكبر خصوصا اذا اجتمعت هذه الأمور مع الغنى والقدرة ، فهو في كل لحظة معرض لخطر عظيم، هل يؤدي الوظيفة الالهية التي على

(1) « وأعلَموا أنّما أموالُكُم وأولادُكُم فِتْنَةٌ» السورة/28.
الذنوب الكبيرة - 2 141


عاتقه ام لا؟
بل ان الوزر هنا اكبر، بل احيانا يستحق انواعا من العقوبة والعذاب بسبب عدم إغاثة المظلوم ، او التكبر على مؤمن واهانته (خصوصا اذا كان سيدا وعالما او شيخا كبيرا).
بناءا على ذلك فان الجاه والمنصب والاتباع كالمال في معرض الزوال ، مضافا الى انها امور خارجة عن ذات الإنسان، بل هى امور اعتبارية لا يخدع العاقل بها يوماً ما حتى يتكبر.
والشواهد على ذلك زوال المال والجاه والمقام وعدم قيمته كثيرة في تاريخ الماضين من جملة ذلك ما نقل في كتاب (حبيب السير):
ان عمرو بن ليث خرج مع ثمانين الف مقاتل مجهزا لقتال الأمير اسماعيل الساماني الذي كان معه عشرة آلاف مقاتل خيالة ، ولكن لما دقت طبول الحرب، وارتفع صوت النفير، أصابت فرس عمرو بن ليث وحشة فتقدم به فجآة وبلا اختيار الى صفوف الأعداء فاستطاع الأمير اسماعيل بدون خوض أية معركة ان يتغلب عليه ويحبسه في خيمتة.
وينقل ان عمرو نظر ذلك اليوم الى احد الخدم فدعاه وشكا له الجوع فأحضر له في الحال قطعة من اللحم وحيث لم يكن يوجد قدر وضعها في سطل الفرس واشعل النار وانصرف الى عمله، وصدفة جاء كلب ومد رأسه في السطل فاحترق لسانه بحرارة الحساء (الشوربا) ، ولما أراد ان يخرج رأسه سريعا علقت عروة السطل في عنقه فذهب به راكضا ، ولما رأى عمرو هذا المنظر ضحك فسأله احد الحراس عن سبب ضحكه فقال :
اليوم يشتكي طباخي اذ ان ثلاثمائة واسطة نقل تنقل ادوات طبخنا بمشقة وها انا الآن ارى كلبا قد نقلها بسهولة.
ونظير هذه القصة قصة مروان الحمار الذي كان آخر سلاطين بني أمية سنة 132

الذنوب الكبيرة - 2 142


للهجرة إلتقي على نهر الزاب بجيش السفاح العباسي ، وعند تسوية صفوفه نزل من فرسه للتبول، فمضى الفرس الى وسط عسكره فظن العسكر ان مروان قد قتل وقد هرب فرسه فداخلهم الرعب والخوف وتفرقوا .. الى آخر القصة التي انتهت بهلاكه فقال (ذهبت الدولة ببولة ).
وهكذا قصة استجداء الخليفة العباسي في صفوف المصلين في المسجد الجامع ببغداد حيث كان يطوف وهو أعمى ـ يقول (ارحموا أميركم بالأمس وسائلكم اليوم).
* * *

واما القوة البدنية فيجب ان يعلم انه في كل لحظة معرض للإبتلاء بمرض يصبح به اعجز العاجزين، ويجب ان يتذكر ايضا حالات سكرات الموت ، ويتذكر القبر.
اما الكبر بالمظاهر الجميلة فيجب ان يلتفت الى ان الجمال الحقيقي للإنسان اتصافه بصفات الكمال التي منها التواضع ، وليس للجمال الظاهري وحده قيمة اذا انه عارية قد تزول بحادثة بسيطة ، فيجب ان يتذكر حالات بدنه في القبر وما ينصب على هذا الجمال ، ويتذكر انه فعلا يحمل في جوفه الأقذار ، ويختفي تحت جلده القيح والدم والقذارة ، فماذا يبقي له حتى يتكبر على الاخرين.
(2) العلاج العملي:


كل صفة في النفس الإنسانية يعرض الانسان عن ممارستها في عمله بل يعمل بضدها، فانها سوف تزول تدريجا، وحيث ان التواضع هو ضد الكبر ، اذن فالطريق العملي الوحيد لعلاج مرض الكبر هو التوضع في الاقوال والافعال ، وبناءا على ذلك يلزمنا الاشارة مختصرا الى اهمية التواضع وحقيقته واقسامه.

فضل التواضع:

الآيات والروايات في موضوع التواضع عديدة ، لا يسمح مستوى الكتاب نقلها،

الذنوب الكبيرة - 2 143


ويكفي لبيان اهمية ان رب العالمين امر بالتواضع حبيبه وهو اشرف المخلوقات وعلة ايجاد الكائنات حيث قال تعالى « وإخْفِضْ جَناحَكَ للمُؤمِنين » «15 ـ 88» ووصف عباده المقربين بهذه الصفة حيث قال « وعِبادُ الرَحمنِ الذينَ يَمْشونَ على الأرْضِ هَونا »«السورة 25 ـ63» .
وورد في روايات الشيعة في صفات الإمام (وأن يكون اشد الناس تواضعا لله تعالى) «بحار ألأنوار».
وقال أمير المؤمنين «عليه السلام»(فلو رخص ألله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة انبيائه ولكنه سبحانه كرّه إليهم التكبر، ورضي لهم التواضع، فالصقوا بالارض صدورهم، وعفروا في التراب وجوههم، وخفضوا اجنحتهم للمؤمنين) وقال الرسول الأكرم »صلى الله عليه واله » : (ان احبّكم واقربكم مني يوم القيامة مجلسا احسنكم خلقا واشدكم تواضعا وإن ابعدكم يوم القيامة مني الثرثارون وهم المتكبرون) «بحار الأنوار».
وقال الإمام الصادق «عليه السلام» :
(ان في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع رفعاه ومن تكبر وضعاه)«الكافي».
وقال الإمام امير المؤمين «عليه السلام»:
)وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلاة والزكاة ومجاهدة الصيام في الايام المفروضات تسكينا لاطرافهم وتخشيعا لابصارهم وتذليلا لنفوسهم ، وتخفيفا لقلوبهم وإذهابا للخيلاء عنهم، ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا ، ولحوق البطون بالمتون من الصيام تذللا)«نهج البلاغة ـ خطبة القاصعة».

العبادة تذهب الكبر:

من هنا يعلم ان اهم سبب لوجوب العبادات هو ازالة مرض الكبر ، والإتصاف

الذنوب الكبيرة - 2 144


بفضيلة التواضع ، وبناءا على ذلك فان اهم المعالجات العملية من اجل ازالة الكبر السعي في الإتيان بالعبادات مع مراعاة شروط الصحة والقبول ولا تقبل عبادة مع كبر اذ العبادة معناها العبودية وليست السيادة.

معنى التواضع وأقسامه :

التواضع حالة في النفس تتجسد بالخضوع والإنكسار النفسي و احتقار الذات كما هو في واقع الإمر كذلك ، اذ ان الإنسان في ذاته لا يملك شيئا.
والتواضع حسب موارده على ثلاثة اقسام:
التواضع مع الله تعالى .
والتواضع مع الرسول والإمام «عليه السلام».
والتواضع مع الناس.
(1) ـ التواضع مع الله:


متى تيقن الإنسان وعرف ان اصل وجوده وجميع ما يتعلق به هو من عند الله تعالى ، وبدون استحقاق او طلب منه وهبه تعالى نعما لا تعد ولا تحصى، حينئذ تحدث في النفس حالة يعبر عنها بالشعور بالذلة والإنكسار امام الحق تعالى . وهذه الحالة لها لوازم عديدة من جملتها الطاعة والإنقياد له تعالى ، وامتثال اوامره بإخلاص ، وطلب مرضاته دائما ، والشعور بالتقصير في اداء وظائف العبودية اذا انه لم يعبده كما هو أهله ، وكذلك ان لا يرى نفسه صاحب أي حق على الله.
ومن جملة لوازم تلك الحالة تجديد الشكر عند النعم الجديدة التي تصل اليه ، ويستحب له في هذا الحال بل في كل حال يتذكر فيه نعمة ماضية ان يسجد سجدة الشكر.

التواضع لنعم الله:

كما يلزمه ان يعظم النعم الإلهية ويعتز بها لأنها من جهة محبوبه والمنعم الحقيقي

الذنوب الكبيرة - 2 145


عليه ، خصوصا انواع الأطعمة والأشربة ، فقد روي انه اذا اكل طعاما فإعتلّ منه فلا ينبغي ان يقول ان الطعام ليس بجيد وقد امرضني ، بل يقول لم يكن مزاجي مساعدا عليه ومتلائما معه، وقد أكلته في غير محله.
وينبغي ان يجلس عند تناول الطعام جلسة العبيد ، ويأكل أكل العبيد ،فقد كان جلوس رسول الله «صلى ألله عليه وآله»على المائدة كجلوسه عند التشهد في الصلاة (متوركا) .
ومن آداب التواضع في تناول الطعام ان لا ياكل من مائدة مرتفعة وانما يخلع نعله ويجلس على الأرض مع كامل الادب، وبالخصوص عليه احترام الخبز في السفرة حيث ورت في ذلك اخبار عديدة ويدعو للمائدة كل من في البيت من الزوجة وألاولاد والخادم والخادمة ويجتمعون في سفرة واحدة لا ان يمنع بعضهم ويعين لهم طعاما منفصلا.
واداب الأكل كثيرة اهمها حضور القلب ، والتوجه الى المنعم الحقيقي ، والإبتداء باسمه تعالى ، والإختتام بشكره.
ومن التواضع امام الله تعالى حفظ حرمة الشعائر والحرمات الإلهية كما ذكر، وهكذا حترام القرآن المجيد واسماء الله الشريفة ، وعدم مسّها من دون طهارة وخصوصا باليد، وينبغي ان لا يمد رجليه نحوها ، وبشكل عام عليه احترام وتعظيم كل ماهو منسوب الى الله تعالى كالمساجد كما يقول تعالى:
« وأنّ المَساجِدَ لِلهِ » (1) وبناءا على ذلك لا ينبغي البصاق في المسجد ، ولا ينبغي دخوله برائحة كريهة ، او بصوت مرتفع ، او التحدث فيه باحاديث الدنيا ، فكل ذلك خلاف التواضع.

(1) (الجن 18).
الذنوب الكبيرة - 2 146

(2) التواضع مع الرسول (ص) والإمام (ع):


ومن اعلى مراتب التواضع مع الله التواضع مع الرسول «صلى الله عيه واله» والإمام «عليه السلام» اذ انهم عليهم السلام آيات الله الكبرى ، وخلفاؤه ، والتواضع لهم تواضع لله، فعليه ان يتصاغر لهم مهما استطاع ، ومن التواضع لهم عدم مس اسمائهم بدون طهارة، وان لا يتقدم على قبورهم في صلاته، واذا ذكرهم بتجليل واحترام ، وان يبعث لهم السلام والتحية، حتى ان بعض الأعاظم لم يكن يذكر اسماءهم على لسانه اذا كان بلا وضوء.
وقد روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» انه اذا ذكر رسول الله« صلى ألله عليه واله» ينحني حتى يصل وجهه المبارك قرب ركبتيه.
ومن التواضع للرسول والإمام التواضع للعلماء العاملين، وسلالة السادات الجليلة كما اشير الى ذلك قبلا.
(3) التواضع مع الناس:


كل الناس ـ بالعنوان الأولي ـ متساوون بعضهم مع بعض آخر ، وكلهم مخلوقون ومقهورون وتحت تربية رب العالمين ، وكما انه لا يحق عقلا وشرعا ـ لأي واحد منهم وفي أي مقام كان أن يتكبر على الآخرين ، حالهم حال غلمان السلطان بعضهم مع بعض حيث لا يحق لأحدهم التكبر على الآخر، كما لا يستحق احدهم التواضع من الاخر، فكلهم متشابهون ومتساوون وكما ان احد هؤلاء الغلمان لو تكبر على غيره كان مذموما عند العقلاء فكذلك لو توقع التواضع والخضوع له من الغير، فان العقلاء يذمونه ايضا ويلومونه وذلك انهم جميعا بمستوى واحد. هذا بحسب العنوان الاولي ، لكن بحسب عناوين ثانوية قد يكون لبعض افراد البشر عناوين خاصة يستحقون على اساسها ـ عقلا وشرعا ـ التعظيم والاحترام ، ففي هذه الصورة يلزم الآخرين التواضع لهم، وذلك مثل عنوان الأبوة والامومة حيث يجدر بالابناء ـ عقلا وشرعا ـ التواضع لهما، وفي الحقيقة ان التواضع للوالدين هو تواضع لله تعالى ، حيث

الذنوب الكبيرة - 2 147


انهما واسطة ربوبية الله تعالى ومورد امره بالتواضع لهما. وهكذاعنوان الايمان والتقوى حيث يجب التواضع لكل مؤمن متقي اذا ان المؤمن منتسب الى الله تعالى، ومورد اكرامه وعنايته.
عن الامام الباقر «عليه السلام». اقبل الى الكعبة وقال (والله لَحرمة المؤمن اعظم مِنكِ ) «مستدرك الوسائل».
وفي الحقيقة أن الخضوع للمؤمن لأجل إيمانه هو خضوعا لله تعالى، مثله في ذلك مثل الغلام الذي يختاره السلطان وينتخبه من مجموع غلمانه ويكون مورد عنايته، وتحصل بينهما رابطة وعلاقة، فإن إكرامه في هذه الصورة إكرام للسلطان وإهانته إهانة للسلطان ، وهكذا عنوان العالم والمعلم حيث يلزم على الجميع احترام العالم للخصوصية التي فيه ، او مثل عنوان شيخ القوم وكبيرهم وضيفهم وغيره من العناوين التي ورد ألأمر بالتواضع لأصحابها.

التواضع للكافر والفاسق غلط:

وفي مقابل ذلك هناك عناوين لاينبغي التواضع لا صحابها، بل يجب الترفع عليهم مثل عنوان الكفر ، فلا يجوز التواضع مطلقا لكافر، لانه مورد بغض الله تعالى ، قد اخرجه الله من درجة الإنسانية ، وجعله اسفل السافلين ، بل يوم القيامة « يَقولُ الكافِرُ يا لَيتني كُنْتُ تُرابا» (1).
فكما يجب التواضع للمؤمن والتذلل له كذلك يجب الترفع على الكافر والتعزز عليه، واذا تواضع المؤمن للكافر فهو بالحقيقة قد احتقر الإيمان بالله ، واعز الكفر به ، على عكس ماهو الواقع اذ « للِه العِزّةُ ولِرَسُولِهِ وللمُؤمنين» (2) وهكذا لا ينبغي التواضع للظالم والجائر الذي اتخذ الظلم مهنة له او المتجاهر بالفسق الذي لا يستحي ولا

(1) النبأ / 40).
(2) المنافقون ـ 8.
الذنوب الكبيرة - 2 148


يتورع عن هتك حرمات الله علنا، بل يجب الغضب عليهم لأجل الله، ومواجهتهم بوجه مكفهر كما أميرالمؤمنين «عليه السلام» (امرنا رسول الله «صلى اليه عليه واله» ان نلقي اهل المعاصي بوجوه مكفهرة) «وسائل الشيعة».

التواضع للمتكبر غلط أيضا:

كما لا ينبغي للأحمق الذي يتكبر على الآخرين ويستصغرهم ويحتقرهم، ذلك ان التواضع للمتكبر اولا: هو نوع من الذل لا يليق به عقلا وشرعا ، ثانيا: يدعو المتكبر للجرأة اكثر والاستمرار في عمله غير المناسب ، كما انه اذا لم يتواضع له فمن الممكن ان ينتبه ويترك تكبره ، اذن فاللازم ان لا يتواضع له نهيا عن التكبر.قال الرسول الأكرم «صلى الله عليه واله»:
(اذا رأيتم المتواضعين من امتي فتواضعوا لهم ، واذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم فان ذلك لهم مذلة وصغار)«جامع السعادات».

عدم التواضع يختلف عن التكبر:

ما تقدم من انه لاينبغي التواضع للكافر والفاسق والمتكبر ، وانما يجب مواجهتهم بحالة الغضب لان الله تعالى غاضب عليهم، ليس معناه ان يرى نفسه ذاتا أشرف منهم وهم أحقر منه ويتوقع أن يتواضعوا له، بل يجب أن يرى نفسه عاجزا مثلهم إنما بتوفيق الله اصبح من أهل النجاة ، وبخذلان الله يهلك من يهلك ، ومن الممكن ان يوفق ذلك الكافر او الفاسق للتوبة ويُرزق حسن العاقبة ، نعم نعاملهم بخشونة وغلظة تبعا لأمر لله تعالى بذلك ، لا ان نبيع عليهم الكبرياء لا سمح الله .
وبالجملة ، لا ينبغي ملاحظة الذات اطلاقا ، وانما اللازم فقط العمل طبق الوظائف الإسلامية، فنعادي من عاداه الله ، ولا نخضع له.
ولأجل توضيح هذه المطلب وان الغضب لله لا يتنافي مع عدم التكبر نضرب مثالا: اذا أمرالسلطان خادمه ان يؤدب ابنه ـ ابن السلطان ـ ويضربه اذا أساء الأدب،

الذنوب الكبيرة - 2 149


فان اللازم على هذا الخادم ان يفعل ذلك اذا صدر من ابن السلطان خطأ وإساءة أدب، دون ان يكون في ذلك متكبرا على ابن السلطان او يرى نفسه ارفع منه.
ولو إجتمع الغضب والتكبر في مورد فليعلم بان ذلك الغضب ليس غضبا لله ، بل هو للهوى والنفس.

التكبر لا يجتمع مع العبودية لله:

حيث ان التكبرهو عبارة عن الطغيان وغرور النفس والغفلة عن عظمة الله ، ونسيان حقارة ذات الإنسان وذلته ، فالمتكبر يرى نفسه ذا شأن ومقام والآخرين عنده حقراء فقراء ، ويعيش حالة عبادة الذات في مقابل عبادة الله ، ومن هنا كانت هذه الحالة مذمومة على الاطلاق ولم تكن ابدا موردا للمدح الإلهي. اذن فالمراد بالكبر امام الكافر والفاسق والثري المتكبر هو الاعتزاز بالله واظهار عظمته فلا يخضع للكافر أصلا، ويظهر عزة الايمان بالله. وهو اكبر نعمة عليه ويضعها نصب عينيه ، ويظهر عزة التقوى: التي هي مقياس الكرامة عند ألله ـ أمام أهل المعصية ، ويظهر للغني حقارة ملكه الذي دعاه للكبر امام عظمة ملك الله وخزائنه ، ولا يتواضع للغنى من اجل غناه بأي الاحوال ، ويوضح للمتكبر حماقته وجهله ويعرفه بان الكبرياء لله وحده وكل من يتكبر سوى الله فهو أحمق.
وهنا يلاحظ ان من يلتزم بهذا ألأمر فإنه ليس فيه جوانب ذاتية وأنانية بل كان ذلك ألإغترار إظهارا لعظمة ألله تعالى وليس غرورا ولا طغيانا .
لكن يجب أن يكون حريصا جدا على ان لا يكون في عمله هذا اشتباه كما يحصل احيانا ان الانسان يريد ان ينهي عن منكر رآه فيدخل في البين هوى النفس، ويبتلى بالمعصية، فينهى عن المنكر بالمنكر ، ويدفع الفاسد بالأفسد.
وما اكثر الفرق بين العمل لله وبين العمل بدافع الهوى وان كان العمل متحدا في المظهر، فان العمل اذا كان لله كان عبادة يوجب القرب من الله والتغلب على الشيطان ، وان كان من هوى النفس كان معصية وموجبا للبعد عن الله، ويكون الانسان بذلك

الذنوب الكبيرة - 2 150


مغلوبا من قبل الشيطان.

التواضع للغني لأجل غناه مُهلك:

اذا كان التواضع للغني من أجل غناه وطمعا بماله فان ذلك منهي عنه جدا في القرآن المجيد والروايات . يقول تعالى « ولا تَمُدَّنَّ عَينيكَ إلى ما مَتَّعنا بِهِ أزواجاً مِنهُم زَهرةَ الحياةِ الدُنيا لِنَفتِنَهُم فيهِ » (1).
ويقول امير المؤمنين «عليه السلام» : ( من أتى غنيا فتواضع لغناه ذهب الله بثلثي دينه) «بحار الأنوار».
وورد عن رسول الله «صلى الله عليه واله» مثل ذلك، ولعل السبب في ذهاب ثلثي إيمانه هو ان الإيمان عبارة عن أمور ثلاثة إعتقاد بالقلب، وقرار باللسان، وعمل بالأركان، كما ان التواضع للغني طمعا في ماله احيانا يكون بالقلب فقط ، وأحيانا يكون بالقلب واللسان وأحيانا يكون شديدا بحيث يسري الى الأعضاء ، وحيث ان الطمّاعين يتواضعون للأغنياء بقلبهم، ويتملقون بلسانهم في الغالب فمن هنا يذهب ثلثا دينهم ، ولو خضعوا مع ذلك باعضائهم بان يقبلوا يد الغني وقدمه مثلا وقد يتخضعون له ببدنهم فيما شابه ذلك فإنهم يفقدون بذلك كل دينهم ، حيث صرفوا كل ما لديهم الى مخلوق ولم يبقوا للخالق شيئا.

تواضع الغني وتكبر الفقير لأجل رضى الله:

يقول امير المؤمنين «عليه السلام» (ما احسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند الله واحسن منه تيه الفقراء على الاغنياء اتكالاً على الله) «نهج البلاغة /جـ 3».
وذلك بان لا يتملق الفقير للغني ولا يخضع طبا لأمواله ، وليس معناه ان يرى نفسه اشرف منه واعلى . فاذا كان الغني يتباهى ويعتمد على ثروته فان الفقير يجب ان

(1) (طه131).
الذنوب الكبيرة - 2 151


يعتمد على الله الذي بيده خزائن السماوات والأرض ويرى نفسه غنيا بذلك (1).
وهنا يجب الإلتفات الى ان النهي عن التواضع للغني انما هو التواضع له من اجل ماله ، واما اذا كان التواضع له بعنوان آخر كالإيمان والتقوى فانه واجب ولا مانع منه اطلاقا ، بل هو مأمور به ، غاية ما في الامر يجب الانتباه الى ان لا ينجر الامر الى التواضع من اجل المال ، والعلامة في ذلك هو ان يكون تواضعه للفقير المؤمن والمتقي مثل تواضعه للغني المؤمن والمتقي.

التواضع يختلف باختلاف الأشخاص:

للتواضع حد محدود اذا تعداه كان ذلا وهتكا لحرمة الشخص ، ولا ينبغي للمؤمن ان يعمل عملا فيه هتكه، وبناءا على ذلك يجب الاعتدال في التواضع وكيفيته . فمثلا يجب ان يكون التواضع للوالدين والارحام اكثر من التواضع للغرياء ، ويكون التواضع للعلماء العاملين ، وللسادات اكثر من غيرهم ، والتواضع لكبير القوم اكثر من التواضع لمن هو دونه ، وذلك انه إذا كان التواضع المناسب بمقام الوالدين والعلماء والسادات بتقبيل يدهم مثلا فان مثل ذلك للآخرين غيرهم قد يوجب ذلة الشخص وهتكه، وبناءا على ذلك فيجب في التواضع ملاحظة مقام الاشخاص وحالاتهم.
ورد في سفينة البحار ـ حـ 2 ـ انه ورد على امير المؤمنين «عليه السلام» أخوان مؤمنان اب وابن فقام اليهما واكرمهما واجلسهما في صدر مجلسه وجلس بين يديهما ثم امر بطعام فأحضر فاكلا منه ثم جاء قنبر بطست وابريق خشب ومنديل فأخذ

(1) روي عن الإمام الصادق (ع) قال: رجل موسر الى رسول الله(ص) نقى الثوب ، فجلس الى رسول الله (ص) فجاء رجل معسر درن الثوب فجلس الى جنب الموسر فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه ،فقال له رسول الله (ص) :أخفت ان يمسك من فقره شيء؟ قال: لا، قال : فخفت ان يصيبه من غناك شيء ؟ قال : لا، قال فخفت ان يوسخ ثيابك ؟ قال لا، قال : فما حملك على ما صنعت ، فقال: يا رسول الله ان لي قرينا يزين لي كل قبيح ويقبح لي كل حسن وقد جعلت له نصف مالي، فقال رسول الله (ص) للمعسر ؟ أتقبل؟ قال : لا، فقال له الرجل: ولم ؟ قال أخاف ان يدخلني ما دخلك «اصول الكافي».

السابق السابق الفهرس التالي التالي