التقوى في القرآن 173

طريق الوصول الى الحب الالهي

ذكرنا في الابحاث السابقة ، ان الطريق يمر من خلال معرفة الله سبحانه ، وعندما ناتي الى القران الكريم ، نجد انه يشير الى نحوين من الطريق الى ذلك ، قال تعالى : «سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق» (1) ، وقال : «وفي الارض ايات للموقنين * وفي انفسكم افلا تبصرون» (2) .
وهذه هي المعروفة في كلمات العلماء ، بالمعرفة الافاقية والمعرفة الانفسية .
اما الاولى ، فالمراد بايات الافاق ، الايات الفلكية والكوكبية وايات الليل والنهار ، وايات الاضواء والظلمات ، وقد اكثر الله منها في القران الكريم . قال تعالى : «ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم
(1) فصلت : 53 .
(2) الذاريات : 21 .
التقوى في القرآن 174

ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار»
(1) . وقال تعالى : «الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون» (2) ، وقال : «وجعلنا الليل والنهار ايتين فمحونا اية الليل وجعلنا اية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا» (3).
واما الثانية : وهي الايات التي في النفوس :
  • «منها ما هي في تركب الابدان من اعضائها واعضاء اعضائها ، حتى ينتهي الى البسائط ، ومالها من عجائب الافعال والاثار المتحدة في عين تكثرها ، المدبرة جميعا لمدبر واحد ، وما يعرضها من مختلف الاحوال كلجنينية والطفولية والرهاق والشباب والشيب .
  • ومنها ما هي من حيث تعلق النفوس ، اعني الارواح بها (اي الابدان) كالحواس من البصر والسمع والذوق والشم والمس التي هي الطرق الاولية لاطلاع النفوس على الخارج ، لتميز بذلك الخير من الشر ، والنافع من الضار ، لتسعى الى ما فيه كمالها وتهرب مما لا يلائمها ، وفي كل منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره ، كالبصر لا خبر عنده عما يعمله السمع بنظامه الجاري فيه وهكذا ، والجميع مع هذا الانفصال والتقطع
    (1) ال عمران : 190ـ 191 .
    (2) البقرة : 22 .
    (3) الاسراء : 12 .
    التقوى في القرآن 175

    مؤتلفة تعمل تحت تدبير مدبر واحد ،هي النفس المدبرة والله من ورائهم محيط .
    ومن هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس والابدان ، كالقوة الغضبية والقوة الشهوية ومالها من اللواحق والفروع ، فانا على ما للواحد منها بالنسبة الى غيره من البينونة وانفصال النظام الجاري فيه عن غيره ، تحت تدبير مدبر واحد ، تتعاضد جميع شعبها وتاتلف لخدمته» (1) .

    انفعية المعرفة الانفسية


    عند الاحتكام الى المقارنة المضمونية بين هذين النحوين من المعرفة ، نجد ان الروايات المستفيضة عن الفريقين تركز على معرفة النفس الانسانية ، بل في بعضها ان «المعرفة بالنفس انفع المعرفتين» كما جاء عن علي امير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد ذكرت في كلمات الاعلام وجوها لانفعية المعرفة الانفسية على المعرفة الافاقية ، مع اشتراكهما جميعا في الهداية الى الايمان بالله تعالى ، والتمسك بالدين الحق والشريعة الالهية ؛ منها :
    الوجه الاول :



    ان كون معرفة الايات نافعة ، انما هو لان معرفة الايات بما هي ايات موصلة الى معرفة الله سبحانه واسمائه وصفاته وافعاله ، ككونه تعالى حيا لا يعرضه موت ، وقادرا لا يشوبه عجز ، وعالما لا يخالطه
    (1) الميزان في تفسير القران ، ج 18 ص 373 .
    التقوى في القرآن 176

    جهل ، وانه تعالى هو الخالق لكل شيء ، والمالك لكل شيء ، والرب القائم على كل نفس ما كسبت ، خلق الخلق لا لحاجة منه اليهم ، بل لينعم عليهم بما استحقوه ، ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ، ليجزي الذين اساءوا بما عملوا ويجزي الذي احسنوا بالحسنى .
    هذه وامثالها معارف حقة اذا تناولها الانسان واتقنها ، مثلت له حقيقة حياته ، وانها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة او شقوة لازمة ، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية . وهذا موقف علمي يهدي الانسان الى تكليف ووظائف بالنسبة الى ربه ، وبالنسبة الى ابناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الاخرة ، وهي التي نسميها بالدين .
    غير ان النظر الى ايات الانفس انفع ، فانه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وادواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من الاعتدال في امرها او طغيانها او خمودها ، والملكات الفاضلة او الرذيلة ، والاحوال الحسنة او السيئة التي تقارنها .
    واشتغال الانسان بمعرفة هذه الامور والاذعان بما يلزمها من امن او خطر ، وسعادة او شقاوة ، لا ينفك من ان يعرفه الداء والدواء من موقف قريب ، فيشتغل باصلاح الفاسد منها ، والالتزام بصحيحها ، بخلاف النظر في الايات الافاقية ، فانه وان دعا الى اصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الاخلاق ورذائلها ، وتحليتها بالفضائل الروحية ، لكنه ينادي لذلك من مكان بعيد ، وهو ظاهر .

    التقوى في القرآن 177

    الوجه الثاني :


    وهو معنى ادق مستخرج من نتائج الابحاث الحقيقية في علم النفس ، وهو ان النظر في الايات الافاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك ، نظر فكري وعلم حصولي بخلاف النظر في النفس وقواها واطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها ،فانه نظر شهودي وعلم حضوري ، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه الى نظم الاقيسة واستعمال البرهان ، وهو باق ما دام الانسان متوجها الى مقداماته ، غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها ، ولذلك يزول العلم بزوال الاشراف على دليله ، وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاختلاف .
    وهذا بخلاف العمل النفساني وقواها واطوار وجودها ، فانه من العيان ، فاذا اشتغل الانسان بالنظر الى ايات نفسه ، وشاهد فقرها الى ربها ، وحاجتها في جميع اطوار وجودها ، وجد امرا عجيبا ، وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء ، متصلة في وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وارادتها وحبها وسائر صفاتها وافعالها ، بما لا يتناهى بها وسناء وجمالا وجلالا وكمالا من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغيرها من كل كمال» (1) .
    وذلك لان البرهان العقلي قائم على ان المعلول وكل شان من شؤونه هو عين الفقر والحاجة الى علته ، فاذا وقف الانسان على هذه الحقيقة عيانا وشهودا ، فانه لا يمكنه الا ان يقف على خالقه وقيومه وهو الحق تعلى .
    (1) الميزان ، مصدر سابق ، ج 6 ص 170 .
    التقوى في القرآن 178

    وهذا ما صرح به القران الكريم في قوله تعالى : «يا ايها الناس انتهم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد» (1) ، لذا ورد في جملة من الروايات ، انه لا يمكن معرفة مخلوق الا بالله ، قال الصادق (عليه السلام) : «لا يدرك مخلوق شيئا الا بالله» (2) .
    وهذا هو معنى قول الحكماء الالهيين «ان ذوات الاسباب لا تعرف الا باسبابها» .
    من هنا نفهم لماذا ان الانسان اذا وقف على ملكوت الاشياء ، الذي هو وجود الاشياء من جهة انتسابها الى الله سبحانه وقيامها به ، وهو امر لا يقبل الشركة ويختص به تعالى وحده «فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون» (3) لا يمكن الا ان يحصل له اليقين بحسب الاصطلاح القراني ، وهو العلم الذي لايشوبه شك ، لذا رتب القران حصول اليقين لابراهيم الخليل (عليه السلام) على اراءته ملكوت السموات والارض ، قال تعالى : «وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين» (4) .
    (1) فاطر : 15 .
    (2) التوحيد ، الشيخ الصدوق ، ص 143 ، باب صفات الذات وصفات الافعال ، الحديث : 7 .
    (3) يس : 82 .
    (4) الانعام : 75 .
    التقوى في القرآن 179


    المقاربة الروائية



    اشار القران الى هذا المعنى بالنسبة الى النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) حيث قال : «سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من اياتنا» (1) وقال : «ما زاغ البصر وما طغى * لقد راى من ايات ربه الكبرى» (2).
    وهذا ما تؤيده الروايات الواردة في المقام .
  • عن ابي عبدالله الصادق (عليه السلام) في قوله :«و كذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين» قال : «كشط له عن الارض ومن عليها ، وعن السماء وما فيها ، والملك الذي يحملها ، والعرش ومن عليه ، وفعل ذلك برسول الله صلى الله عليه واله ، وامير المؤمنين عليه السلام» (3) .
  • عن ابن مسكان قال : قال ابو عبدالله الصادق (عليه السلام) : «و كذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين» قال : «كشط لابراهيم (عليه السلام) السموات السبع حتى نظر الى ما فوق العرش ، وكشط له الارض حتى راى ما في الهواء ، وفعل بمحمد (صلى الله عليه وآله) مثل ذلك ، واني لارى صاحبكم والائمة من بعده قد فعل بهم
    (1) الاسراء : 1
    (2) النجم : 18 .
    (3) بحار الانوار ، المجلسي ، ج 26 ص 114 ، الحديث : 13 .
    التقوى في القرآن 180

    مثل ذلك» (1) .
  • عن بريدة الاسلمي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «يا علي ان الله اشهدك معي سبعة مواطن ، حتى ذكر الموطن الثاني ، اتاني جيرائيل فاسرى بي الى السماء فقال : اين اخوك ؟ فقلت : ودعته خلفي ، قال : فقال : فادع الله ياتيك به : قال : فدعوت فاذا انت معي ، فكشط لي عن السموات السبع والارضين السبع ، حتى رايت سكانها وعمارها ، وموضع كل ملك منها ، فلم ار من ذلك شيئا الا وقد رايته كما رايته» (2) .
    وكيفما كان اذا وقف الانسان على حقيقة نفسه بهذا النحو اي عيانا وشهودا ، فقد انكشف له ملكوت نفسه ، عند ذلك تنصرف نفسه عن كل شيء سوى الله ، وتتوجه الى ربها ، وتنسى كل شيء وتذكر ربها ، حينئذ «يتبدل ادراك النفس وشعورها ، ويهاجر من موطن الشرك الى موقف العبودية ومقام التوحيد ، ولا يزال يعوض شركا من توحيد ، وتوهما من تحقق ، وبعدا من قرب ، واستكبارا شيطانيا من تواضع رحماني ، واستغناء وهميا من فقر عبودي ان اخذت بيدها العناية الالهية وساقها سائق التوفيق .
    ونحن وان كان لا يسعنا ان نفقه هذه المعاني حق الفقه لمكان اخلادنا
    (1) المصدر السابق : الحديث : 15 .
    (2) المصدر السابق : الحديث : 16 .
    التقوى في القرآن 181

    الى الارض ، واشتغالنا ـ عن الغوص في اغوار هذه الحقائق التي يكشف عنها الدين ويشير اليها الكتاب الالهي ـ بما لا يغنينا من فضولات هذه الحياة الفانية التي لا يعرفها الكلام الالهي في بيان الا بانها لعب ولهو ، كما قال تعالى : «وما الحياة الدنيا الا لعب ولهو» (1) ، وقال : «ذلك مبلغهم من العلم» (2) .
    الا ان الاعتبار الصحيح والبحث البالغ والتدبر الوافي ، يوصلنا الى التصديق بكلياتها اجمالا، وان قصرنا عن احصاء التفاصيل ، والله الهادي» (3) .

    معرفة الله بالله


    «وهذه المعرفة الاحرى بها ان تسمى بمعرفة الله بالله ، واما المعرفة الفكرية التي يفيدها النظر في الايات الافاقية ، سواء حصلت من قياس او حدس او غير ذلك ، فانما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية ، وجل الاله ان يحيط به ذهن ، او تساوي ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه ، ولا يحيطون به علما» (4) .
    (1) الانعام : 32
    (2) النجم : 30 .
    (3) الميزان في تفسير القران ، ج6 ص168 .
    (4) الميزان ، مصدر سابق ، ج6 ص172 .
    التقوى في القرآن 182


    قال الصادق (عليه السلام) : «من زعم انه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك ، ومن زعم انه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد اقر بالطعن ، لان الاسم محدث ، ومن زعم انه يعبد الاسم والمعنى ، فقد جعل مع الله شريكا ، ومن زعم انه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد احال عن غائب ، ومن زعم انه يضيف الموصوف الى الصفة فقد صغر بالكبير ، وما قدروا الله حق قدره .
    قيل له : فكيف سبيل التوحيد ؟
    قال (عليه السلام) : باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود ، ان معرفة عين الشاهد قبل صفته ، ومرفة صفة الغائب قبل عينه .
    قيل : وكيف يعرف عين الشاهد قبل صفته .
    قال (عليه السلام) : تعرفه وتعلم علمه ، وتعرف نفسك به ، ولا تعرف نفسك بفسك من نفسك ، وتعلم ان مافيه له وبه ، كما قالوا ليوسف : «قالوا ائنك لانت يؤسف قال انا يوسف وهذا اخي» (1) ، فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره ، ولا اثبتوه من انفسهم بتوهم القلوب» (2) .
    بين الامام (عليه السلام) ان المعرفة الحقيقية لله تعالى ، انما تكون بمعرفته اولا . ثم معرفة صفاته ثانيا ، ثم معرفة خلقه من خلال الصفات ثالثا . وهذا ما اكدته الروايات الكثيرة الواردة عن ائمة الهدى عليهم السلام .
    (1) يوسف : 90 .
    (2) تحف العقول عن ال الرسول : ابن شعبة الحراني ، ص 326 ، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين .
    التقوى في القرآن 183


  • عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام) : «يا من دل على ذاته بذاته» (1).
  • عن الامام الحسين بن علي (عليهما السلام) : «كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك ، ايكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك ، متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدل عليك ، ومتى بعدت حتى تكون الاثار هي التي توصل اليك ، عميت عين لا تراك عليها رقيبا» (2) .
  • عن الامام علي بن الحسين (عليهما السلام) : «بك عرفتك وانت دللتني عليك ودعوتني اليك ، ولولا انت لم ادر ما انت» (3) .
  • عن منصور بن حازم قال : قلت لابي عبد الله (عليه السلام) : ان الله اجل واكرم من ان يعرف بخلقه ، بل الخلق يعرفون بالله ، قال : صدقت (4) .
  • عن عبد الاعلى عن ابي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال : «اسم الله غير الله ، وكل شيء وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله ، فاما ما عبرت الالسن عنه او علمت الايدي فيه فهو مخلوق ، والله غاية من غاياه ، والمغيى غير الغاية ، والغاية موصوفة ، وكل موصوف مصنوع ، وصانع الاشياء غير موصوف بحد مسمى . لم يتكون فتعرف كينونته يصنع غيره ،
    (1) مفاتيح الجنان ، الشيخ عباس القمي : دعاء الصباح .
    (2) المصدر السابق ، دعاء عرفة .
    (3) المصدر السابق ، دعاء ابي حمزة الثمالي .
    (4) الاصول من الكافي ، ج1 ص 168 ، كتاب الحجة ، باب الاضطرار الى الحجة ، الحديث : 2 .
    التقوى في القرآن 184

    ولم يتناه الى غاية الا كانت غيره ، لا يذل من فهم هذا الحكم ابدا ، وهو التوحيد الخالص ، فاعتقدوه وصدقوه وتفهموه باذن الله عز وجل .
    ومن زعم انه يعرف الله بحجاب او بصورة او بمثال فهو مشرك ، لان الحجاب والمثال والصورة غيره ، وانما هو واحد موحد ، فكيف يوحد من زعم انه عرفه بغيره ، انما عرف الله من عرفه بالله ، فمن لم يعرفه به فيس يعرفه ، وانما يعرف غيره» (1) .

    رؤية تحليلية


    قال القاضي سعيد القمي في بيان بعض فقرات هذا الحديث : «لما ظهر من قوله : (لم يتكون فتعرف كينونته بصنع غيره ، لم يتناه الى غاية الا كانت غيره) انسداد باب معرفته سبحانه من معل «اي علة» فوقه ، اذ ليس عز شانه معلولا لشيء ، وكذا (معرفته) من صفة او اسم يحيط به فيتناهى هو جل مجده عندهما ، وبقي من طرق معرفة الشيء ثلاثة انحاء اخر ، نفاها الامام (عليه السلام) ايضا ، ليثبت انه لا يعرف الا به جل برهانه :
  • فالاول من هذه الثلاثة ، معرفة الشيء بالحجاب ، والمراد به ما يحجب الشيء عن غيره ، ويمنع اتصال شيء اليه ، وهو هنا عبارة عن الصفات الخصيصة به ، والامور التي يمتاز بها عن غيره» .
    (1) التوحيد ، الشيخ الصدوق ، ص 143 ، باب صفات الذات وصفات الافعال ، الحديث : 7 .
    التقوى في القرآن 185


  • والثاني من هذه الثلاثة ، معرفة الشيء بالصورة العارضة للشيء بسبب عروض اية مقولة كانت اياه .
  • والثالث منها ، معرفة الشيء بالمثال ، وهو عبارة عما يماثل الشيء في كلية معنى من المعاني ، سواء كانت امورا داخلة في الذات او خارجه عنها .
    واستدل على انه لا يمكن ان يعرف بها ـ وبالجملة يمتنع ان يعرف بغيره تعالى ـ ان هذه المعرفات لا محالة غيره وهو ظاهر ، فلو كان له مميز يحجبه ، او كفيه ذاته يتصور بها ، او مفهوم كلي يصدق عليه وعلى غيره ، حتى يماثله فرد اخر من هذا المفهوم ، لكانت هذه الامور معه تصحبه في ازليته ، والله سبحانه واحد ازلا ، موحد ابدا ، فمعرفته بغيره ينافي التوحيد ، فكيف يعتقد توحيده من زعم انه عرفه بغيره ، لان وجود الغير يناهي وحدته سبحانه . فلا يعرف الله احد سوى من عرفه به .
    ثم افاد (عليه السلام) ان معرفة الله بغيره انما هي معرفة الغير وليست من معرفة الله في شيء ، لان المغاير في التعريفات التي للاشياء الممكنة ، انما يناسبها من وجه ويغايرها من اخر ، وليس هذا الشان للامور المغايرة له سبحانه ، فانها مباينة له عز شانه من جميع الوجوه ، والا لزم التركيب المؤذن بالنفر ، فالزاعم انه عرف الله بغيره لم يعرف الله من وجه اصلا ، وهذا مما يقصده القول بان معرفة الشيء بالوجه انما هي معرفة الوجه لاشيء (1) .
    (1) شرح توحيد الصدوق ، للعارف الرباني سعيد القمي ج2 ص 485 راجعه نجفعلي حبيبي .
    التقوى في القرآن 186

    السبيل ممكن


    من هنا سال السائل في بعض الروايات السابقة «فكيف سبيل التوحيد» قال (عليه السلام) : «ان معرفة عين الشاهد قبل صفته ومعرفة صفة الغائب قبل عينه» . بيان ذلك :
    «ان حقيقة كل واحد من الاشياء كائنة ما كانت ، هي عينها الموجودة في الخارج ، فحقيقة زيد مثلا هي هذا الوجود الانساني المتحقق في الخارج ، وهو الذي يتميز بنفسه عن كل شيء ، ولا يختلط بغيره ، ولا يشتبه شيء من امره في الخارج مع من سواه . ثم انا ننتزع منه معاني ناقلين اياها الى اذهاننا ، نتعرف من خلالها حال الاشياء ونتفكر في امرها ، كمعاني الانسان وطويل القامة الشاب وابيض اللون وغير ذلك ، وهي معاني كلية اذا اجتمعت وانضمة ، افادت نوعا من التميز الذهني الذي نقنع به .
    وهذه المعاني التي ننالها وناخذها من العين الخارجية ، هي اثار الروابط التي بها ترتبط بنا تلك العين الخارجية نوعا من الارتباط والاتصال ، كما ان زيدا مثلا يرتبط ببصرنا بشكله ولونه ، ويرتبط بسمعنا بصوته وكلامه ، ويرتبط باكفنا ببشرته ، فنعقل منه طول القامة ، والتكلم ، ولين الجلد ونحو ذلك . فلزيد مثلا انواع من الظهور لنا تنتقل بنحو الينا ، وهي المسماة بالصفات ، واما عين زيد ووجود ذاته في الخارج ، فلا تنتقل الى افهامنا بوجه ، ولا تتجافى عن مكانها ، ولا طريق الى نيلها ، الا ان نشهد عينه الخارجية (عيانا وشهودا لا مفهوما وحصولا) ولا نعقل في اذهاننا الا

    التقوى في القرآن 187

    الاوصاف الكلية .
    ومن هذا البيان يظهر انا لو شاهدنا عين زيد مثلا في الخارج ، ووجدنا بعينه بوجه شهودا فهو المعروف الذي ميزناه حقيقة عن غيره من الاشياء ، ووحدناه واقعا من غير ان يشتبه بغيره ، ثم اذا عرفنا صفاته واحدة بعد اخرى ، استكملنا معرفته والعلم باحواله . واما اذا لم نجده عيانا وشهودا ، وتوسلنا الى معرفته بالصفات ، لم نعرف منه الا امورا كلية ، لا توجب له تميزا عن غيره ، كما لو لم نر زيدا بعينه وانما عرفناه بانه انسان ابيض اللون طويل القامة حسن المحاضرة ، بقي على الاشتراك مع غيره ، حتى نجده بعينه ثم نطبق عليه ما نعرفه من صفاته ، وهذا معنى قوله (عليه السلام) : «ان معرفة عين الشاهد قبل صفته ومعرفة صفة الغائب قبل عينه» .
    ومن هنا يتبين ايضا ان توحيد الله سبحانه حق توحيده ، ان يعرف بعينه اولا ، ثم تعرف صفاته لتكميل الايمان به ، لا ان يعرف بصفاته وافعاله ، فلا يستوفى حق توحيده . وهو تعالى الغني عن كل شيء ، القائم به كل شيء ، فصفاته قائمة به ، وجميع الاشياء من بركات صفاته ، من حياة وعلم وقدرة ومن خلق ورزق واحياء وتقدير وهداية وتوفيق ونحو ذلك ، فالجميع قائم به ، مملوك له ، محتاج اليه من كل جهة .
    فالسبيل الحق في المعرفة ان يعرف هو اولا ، ثم تعرف صفاته ، ثم يعرف بها ما يعرف من خلقه لا بالعكس ، ولو عرفناه بغيره ، فلم نعرفه بالحقيقة ، ولو عرفنا شيئا من خلقه لا به ، بل بغيره فلذلك المعروف الذي

    التقوى في القرآن 188

    عندنا ، يكون منفصلا عنه تعالى ، غير مرتبط به ، فيكون غير محتاج اليه في هذا المقدار من الوجود ، لذا ورد في بعض الروايات السابقة «لا يدرك مخلوق شيئا الا بالله» . وورد في هذه الرواية «وتعرف نفسك به ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك ، وتعلم ان ما فيه له وبه» اي تعرف نفسك بالله ، لانك آثرة من آثاره ، لا تستغني عنه في ذهن ولا خارج ، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك ، حتى تثبت نفسك مستغنيا عنه فتثبت الها آخر من دون الله من حيث لا تشعر ، وتعلم ان ما في نفسك لله وبالله سبحانه لا غنى عنه في حال» (1).
    ونعم ما قال الشيخ ابن سينا في هذا المجال ، «وانه لا حد له ، ولا برهان عليه ، بل هو البرهان على كل شيء» (2) .
    وبهذا يتضح سبب تاكيد الروايات على معرفة النفس ، وانه من عرف نفسه فقد عرف ربه ، وان اعرفكم بنفسه اعرفكم بربه «لان الانسان اذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها ، انقطع الى ربه من كل شيء ، وعقب ذلك معرفة ربه معرفة بلا توسيط وسط ، وعلما بلا تسبيب سبب ، اذ الانقطاع يرفع كل حجاب مضروب ، وعند ذلك يذهل الانسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه» (3). وهذا ما ورد في مناجاة امير المؤمنين (عليه السلام) والائمة من ولده (عليهم السلام) انهم كانوا
    (1) حاشية الطباطبائي على تحف العقول ، ص326.
    (2) الالهيات من الشفاء ، ابن سينا ، ص 354.
    (3) الميزان في تفسير القرآن ، ج6 ص175.
    التقوى في القرآن 189

    يدعون بهذا الدعاء : «الهي هب لي كمال الانقطاع اليك ، وانر ابصار قلوبنا بضياء نظرها اليك ، حتى تخرق ابصار القلوب حجب النور ، فتصل الى معدن العظمة ، وتصير ارواحنا معلقة بعز قدسك» (1) .
    «فتحصل ان النظر في آيات الانفس انفس واغلى قيمة ، وانه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب ، وعلى هذا فعده (عليه السلام) اياها انفع المعرفتين (بل هي انفع المعارف) لا معرفة متعينة ، انما هو لان العامة من الناس قاصرون عن نيلها ، وقد اطبق الكتاب والسنة وجرت السيرة الطاهرة النبوية وسيرة اهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقي ، وهو النظر الشائع بين المؤمنين ، فالطريقان نافعان جميعا ، لكن النفع في طريق النفس اتم واغزر» (2).

    دور الشرع


    نعم يبقى الكلام في كيفية السير في طريق آية النفس ، وهل بينت الشريعة السبل للوصول الى هذا المقام السامي ، ام اهملت ذلك ، واوكلت كيفيته الى السالكين انفسهم ؟
    «زعم بعض ان كيفية السير من هذا الطريق غير مبينة شرعا ، حتى ذكر بعض المصنفين ان هذا الطريق في الاسلام ، كطريق الرهبانية التي ابتدعتها النصارى من غير نزول حكم الهي به ، فقبل الله سبحانه ذلك منهم ، قال
    (1) مفاتيح الجنان ، القمي ، اعمال شهر شعبان العامة .
    (2) الميزان في تفسير القرآن ، ج6 ص172.

  • السابق السابق الفهرس التالي التالي