|
طريق الوصول الى الحب الالهي
|
|
|
ذكرنا في الابحاث السابقة ، ان الطريق يمر من خلال معرفة الله سبحانه ، وعندما ناتي الى القران الكريم ، نجد انه يشير الى نحوين من الطريق الى ذلك ، قال تعالى : «سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق» (1) ، وقال : «وفي الارض ايات للموقنين * وفي انفسكم افلا تبصرون» (2) .
وهذه هي المعروفة في كلمات العلماء ، بالمعرفة الافاقية والمعرفة الانفسية .
اما الاولى ، فالمراد بايات الافاق ، الايات الفلكية والكوكبية وايات الليل والنهار ، وايات الاضواء والظلمات ، وقد اكثر الله منها في القران الكريم . قال تعالى : «ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم
|
(1) فصلت : 53 .
(2) الذاريات : 21 .
|
ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار» (1) . وقال تعالى : «الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون» (2) ، وقال : «وجعلنا الليل والنهار ايتين فمحونا اية الليل وجعلنا اية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا» (3).
واما الثانية : وهي الايات التي في النفوس :
«منها ما هي في تركب الابدان من اعضائها واعضاء اعضائها ، حتى ينتهي الى البسائط ، ومالها من عجائب الافعال والاثار المتحدة في عين تكثرها ، المدبرة جميعا لمدبر واحد ، وما يعرضها من مختلف الاحوال كلجنينية والطفولية والرهاق والشباب والشيب .
ومنها ما هي من حيث تعلق النفوس ، اعني الارواح بها (اي الابدان) كالحواس من البصر والسمع والذوق والشم والمس التي هي الطرق الاولية لاطلاع النفوس على الخارج ، لتميز بذلك الخير من الشر ، والنافع من الضار ، لتسعى الى ما فيه كمالها وتهرب مما لا يلائمها ، وفي كل منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره ، كالبصر لا خبر عنده عما يعمله السمع بنظامه الجاري فيه وهكذا ، والجميع مع هذا الانفصال والتقطع
|
(1) ال عمران : 190ـ 191 .
(2) البقرة : 22 .
(3) الاسراء : 12 .
|
مؤتلفة تعمل تحت تدبير مدبر واحد ،هي النفس المدبرة والله من ورائهم محيط .
ومن هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس والابدان ، كالقوة الغضبية والقوة الشهوية ومالها من اللواحق والفروع ، فانا على ما للواحد منها بالنسبة الى غيره من البينونة وانفصال النظام الجاري فيه عن غيره ، تحت تدبير مدبر واحد ، تتعاضد جميع شعبها وتاتلف لخدمته» (1) .
عند الاحتكام الى المقارنة المضمونية بين هذين النحوين من المعرفة ، نجد ان الروايات المستفيضة عن الفريقين تركز على معرفة النفس الانسانية ، بل في بعضها ان «المعرفة بالنفس انفع المعرفتين» كما جاء عن علي امير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد ذكرت في كلمات الاعلام وجوها لانفعية المعرفة الانفسية على المعرفة الافاقية ، مع اشتراكهما جميعا في الهداية الى الايمان بالله تعالى ، والتمسك بالدين الحق والشريعة الالهية ؛ منها :
ان كون معرفة الايات نافعة ، انما هو لان معرفة الايات بما هي ايات موصلة الى معرفة الله سبحانه واسمائه وصفاته وافعاله ، ككونه تعالى حيا لا يعرضه موت ، وقادرا لا يشوبه عجز ، وعالما لا يخالطه
|
(1) الميزان في تفسير القران ، ج 18 ص 373 .
|
جهل ، وانه تعالى هو الخالق لكل شيء ، والمالك لكل شيء ، والرب القائم على كل نفس ما كسبت ، خلق الخلق لا لحاجة منه اليهم ، بل لينعم عليهم بما استحقوه ، ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ، ليجزي الذين اساءوا بما عملوا ويجزي الذي احسنوا بالحسنى .
هذه وامثالها معارف حقة اذا تناولها الانسان واتقنها ، مثلت له حقيقة حياته ، وانها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة او شقوة لازمة ، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية . وهذا موقف علمي يهدي الانسان الى تكليف ووظائف بالنسبة الى ربه ، وبالنسبة الى ابناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الاخرة ، وهي التي نسميها بالدين .
غير ان النظر الى ايات الانفس انفع ، فانه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وادواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من الاعتدال في امرها او طغيانها او خمودها ، والملكات الفاضلة او الرذيلة ، والاحوال الحسنة او السيئة التي تقارنها .
واشتغال الانسان بمعرفة هذه الامور والاذعان بما يلزمها من امن او خطر ، وسعادة او شقاوة ، لا ينفك من ان يعرفه الداء والدواء من موقف قريب ، فيشتغل باصلاح الفاسد منها ، والالتزام بصحيحها ، بخلاف النظر في الايات الافاقية ، فانه وان دعا الى اصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الاخلاق ورذائلها ، وتحليتها بالفضائل الروحية ، لكنه ينادي لذلك من مكان بعيد ، وهو ظاهر .
وهو معنى ادق مستخرج من نتائج الابحاث الحقيقية في علم النفس ، وهو ان النظر في الايات الافاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك ، نظر فكري وعلم حصولي بخلاف النظر في النفس وقواها واطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها ،فانه نظر شهودي وعلم حضوري ، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه الى نظم الاقيسة واستعمال البرهان ، وهو باق ما دام الانسان متوجها الى مقداماته ، غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها ، ولذلك يزول العلم بزوال الاشراف على دليله ، وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاختلاف .
وهذا بخلاف العمل النفساني وقواها واطوار وجودها ، فانه من العيان ، فاذا اشتغل الانسان بالنظر الى ايات نفسه ، وشاهد فقرها الى ربها ، وحاجتها في جميع اطوار وجودها ، وجد امرا عجيبا ، وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء ، متصلة في وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وارادتها وحبها وسائر صفاتها وافعالها ، بما لا يتناهى بها وسناء وجمالا وجلالا وكمالا من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغيرها من كل كمال» (1) .
وذلك لان البرهان العقلي قائم على ان المعلول وكل شان من شؤونه هو عين الفقر والحاجة الى علته ، فاذا وقف الانسان على هذه الحقيقة عيانا وشهودا ، فانه لا يمكنه الا ان يقف على خالقه وقيومه وهو الحق تعلى .
|
(1) الميزان ، مصدر سابق ، ج 6 ص 170 .
|
وهذا ما صرح به القران الكريم في قوله تعالى : «يا ايها الناس انتهم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد» (1) ، لذا ورد في جملة من الروايات ، انه لا يمكن معرفة مخلوق الا بالله ، قال الصادق (عليه السلام) : «لا يدرك مخلوق شيئا الا بالله» (2) .
وهذا هو معنى قول الحكماء الالهيين «ان ذوات الاسباب لا تعرف الا باسبابها» .
من هنا نفهم لماذا ان الانسان اذا وقف على ملكوت الاشياء ، الذي هو وجود الاشياء من جهة انتسابها الى الله سبحانه وقيامها به ، وهو امر لا يقبل الشركة ويختص به تعالى وحده «فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون» (3) لا يمكن الا ان يحصل له اليقين بحسب الاصطلاح القراني ، وهو العلم الذي لايشوبه شك ، لذا رتب القران حصول اليقين لابراهيم الخليل (عليه السلام) على اراءته ملكوت السموات والارض ، قال تعالى : «وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين» (4) .
|
(1) فاطر : 15 .
(2) التوحيد ، الشيخ الصدوق ، ص 143 ، باب صفات الذات وصفات الافعال ، الحديث : 7 .
(3) يس : 82 .
(4) الانعام : 75 .
|
اشار القران الى هذا المعنى بالنسبة الى النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) حيث قال : «سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من اياتنا» (1) وقال : «ما زاغ البصر وما طغى * لقد راى من ايات ربه الكبرى» (2).
وهذا ما تؤيده الروايات الواردة في المقام .
عن ابي عبدالله الصادق (عليه السلام) في قوله :«و كذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين» قال : «كشط له عن الارض ومن عليها ، وعن السماء وما فيها ، والملك الذي يحملها ، والعرش ومن عليه ، وفعل ذلك برسول الله صلى الله عليه واله ، وامير المؤمنين عليه السلام» (3) .
عن ابن مسكان قال : قال ابو عبدالله الصادق (عليه السلام) : «و كذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين» قال : «كشط لابراهيم (عليه السلام) السموات السبع حتى نظر الى ما فوق العرش ، وكشط له الارض حتى راى ما في الهواء ، وفعل بمحمد (صلى الله عليه وآله) مثل ذلك ، واني لارى صاحبكم والائمة من بعده قد فعل بهم
|
(1) الاسراء : 1
(2) النجم : 18 .
(3) بحار الانوار ، المجلسي ، ج 26 ص 114 ، الحديث : 13 .
|
مثل ذلك» (1) .
عن بريدة الاسلمي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «يا علي ان الله اشهدك معي سبعة مواطن ، حتى ذكر الموطن الثاني ، اتاني جيرائيل فاسرى بي الى السماء فقال : اين اخوك ؟ فقلت : ودعته خلفي ، قال : فقال : فادع الله ياتيك به : قال : فدعوت فاذا انت معي ، فكشط لي عن السموات السبع والارضين السبع ، حتى رايت سكانها وعمارها ، وموضع كل ملك منها ، فلم ار من ذلك شيئا الا وقد رايته كما رايته» (2) .
وكيفما كان اذا وقف الانسان على حقيقة نفسه بهذا النحو اي عيانا وشهودا ، فقد انكشف له ملكوت نفسه ، عند ذلك تنصرف نفسه عن كل شيء سوى الله ، وتتوجه الى ربها ، وتنسى كل شيء وتذكر ربها ، حينئذ «يتبدل ادراك النفس وشعورها ، ويهاجر من موطن الشرك الى موقف العبودية ومقام التوحيد ، ولا يزال يعوض شركا من توحيد ، وتوهما من تحقق ، وبعدا من قرب ، واستكبارا شيطانيا من تواضع رحماني ، واستغناء وهميا من فقر عبودي ان اخذت بيدها العناية الالهية وساقها سائق التوفيق .
ونحن وان كان لا يسعنا ان نفقه هذه المعاني حق الفقه لمكان اخلادنا
|
(1) المصدر السابق : الحديث : 15 .
(2) المصدر السابق : الحديث : 16 .
|
الى الارض ، واشتغالنا ـ عن الغوص في اغوار هذه الحقائق التي يكشف عنها الدين ويشير اليها الكتاب الالهي ـ بما لا يغنينا من فضولات هذه الحياة الفانية التي لا يعرفها الكلام الالهي في بيان الا بانها لعب ولهو ، كما قال تعالى : «وما الحياة الدنيا الا لعب ولهو» (1) ، وقال : «ذلك مبلغهم من العلم» (2) .
الا ان الاعتبار الصحيح والبحث البالغ والتدبر الوافي ، يوصلنا الى التصديق بكلياتها اجمالا، وان قصرنا عن احصاء التفاصيل ، والله الهادي» (3) .
«وهذه المعرفة الاحرى بها ان تسمى بمعرفة الله بالله ، واما المعرفة الفكرية التي يفيدها النظر في الايات الافاقية ، سواء حصلت من قياس او حدس او غير ذلك ، فانما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية ، وجل الاله ان يحيط به ذهن ، او تساوي ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه ، ولا يحيطون به علما» (4) .
|
(1) الانعام : 32
(2) النجم : 30 .
(3) الميزان في تفسير القران ، ج6 ص168 .
(4) الميزان ، مصدر سابق ، ج6 ص172 .
|
قال الصادق (عليه السلام) : «من زعم انه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك ، ومن زعم انه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد اقر بالطعن ، لان الاسم محدث ، ومن زعم انه يعبد الاسم والمعنى ، فقد جعل مع الله شريكا ، ومن زعم انه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد احال عن غائب ، ومن زعم انه يضيف الموصوف الى الصفة فقد صغر بالكبير ، وما قدروا الله حق قدره .
قيل له : فكيف سبيل التوحيد ؟
قال (عليه السلام) : باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود ، ان معرفة عين الشاهد قبل صفته ، ومرفة صفة الغائب قبل عينه .
قيل : وكيف يعرف عين الشاهد قبل صفته .
قال (عليه السلام) : تعرفه وتعلم علمه ، وتعرف نفسك به ، ولا تعرف نفسك بفسك من نفسك ، وتعلم ان مافيه له وبه ، كما قالوا ليوسف : «قالوا ائنك لانت يؤسف قال انا يوسف وهذا اخي» (1) ، فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره ، ولا اثبتوه من انفسهم بتوهم القلوب» (2) .
بين الامام (عليه السلام) ان المعرفة الحقيقية لله تعالى ، انما تكون بمعرفته اولا . ثم معرفة صفاته ثانيا ، ثم معرفة خلقه من خلال الصفات ثالثا . وهذا ما اكدته الروايات الكثيرة الواردة عن ائمة الهدى عليهم السلام .
|
(1) يوسف : 90 .
(2) تحف العقول عن ال الرسول : ابن شعبة الحراني ، ص 326 ، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين .
|
عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام) : «يا من دل على ذاته بذاته» (1).
عن الامام الحسين بن علي (عليهما السلام) : «كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك ، ايكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك ، متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدل عليك ، ومتى بعدت حتى تكون الاثار هي التي توصل اليك ، عميت عين لا تراك عليها رقيبا» (2) .
عن الامام علي بن الحسين (عليهما السلام) : «بك عرفتك وانت دللتني عليك ودعوتني اليك ، ولولا انت لم ادر ما انت» (3) .
عن منصور بن حازم قال : قلت لابي عبد الله (عليه السلام) : ان الله اجل واكرم من ان يعرف بخلقه ، بل الخلق يعرفون بالله ، قال : صدقت (4) .
عن عبد الاعلى عن ابي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال : «اسم الله غير الله ، وكل شيء وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله ، فاما ما عبرت الالسن عنه او علمت الايدي فيه فهو مخلوق ، والله غاية من غاياه ، والمغيى غير الغاية ، والغاية موصوفة ، وكل موصوف مصنوع ، وصانع الاشياء غير موصوف بحد مسمى . لم يتكون فتعرف كينونته يصنع غيره ،
|
(1) مفاتيح الجنان ، الشيخ عباس القمي : دعاء الصباح .
(2) المصدر السابق ، دعاء عرفة .
(3) المصدر السابق ، دعاء ابي حمزة الثمالي .
(4) الاصول من الكافي ، ج1 ص 168 ، كتاب الحجة ، باب الاضطرار الى الحجة ، الحديث : 2 .
|
ولم يتناه الى غاية الا كانت غيره ، لا يذل من فهم هذا الحكم ابدا ، وهو التوحيد الخالص ، فاعتقدوه وصدقوه وتفهموه باذن الله عز وجل .
ومن زعم انه يعرف الله بحجاب او بصورة او بمثال فهو مشرك ، لان الحجاب والمثال والصورة غيره ، وانما هو واحد موحد ، فكيف يوحد من زعم انه عرفه بغيره ، انما عرف الله من عرفه بالله ، فمن لم يعرفه به فيس يعرفه ، وانما يعرف غيره» (1) .
قال القاضي سعيد القمي في بيان بعض فقرات هذا الحديث : «لما ظهر من قوله : (لم يتكون فتعرف كينونته بصنع غيره ، لم يتناه الى غاية الا كانت غيره) انسداد باب معرفته سبحانه من معل «اي علة» فوقه ، اذ ليس عز شانه معلولا لشيء ، وكذا (معرفته) من صفة او اسم يحيط به فيتناهى هو جل مجده عندهما ، وبقي من طرق معرفة الشيء ثلاثة انحاء اخر ، نفاها الامام (عليه السلام) ايضا ، ليثبت انه لا يعرف الا به جل برهانه :
فالاول من هذه الثلاثة ، معرفة الشيء بالحجاب ، والمراد به ما يحجب الشيء عن غيره ، ويمنع اتصال شيء اليه ، وهو هنا عبارة عن الصفات الخصيصة به ، والامور التي يمتاز بها عن غيره» .
|
(1) التوحيد ، الشيخ الصدوق ، ص 143 ، باب صفات الذات وصفات الافعال ، الحديث : 7 .
|
والثاني من هذه الثلاثة ، معرفة الشيء بالصورة العارضة للشيء بسبب عروض اية مقولة كانت اياه .
والثالث منها ، معرفة الشيء بالمثال ، وهو عبارة عما يماثل الشيء في كلية معنى من المعاني ، سواء كانت امورا داخلة في الذات او خارجه عنها .
واستدل على انه لا يمكن ان يعرف بها ـ وبالجملة يمتنع ان يعرف بغيره تعالى ـ ان هذه المعرفات لا محالة غيره وهو ظاهر ، فلو كان له مميز يحجبه ، او كفيه ذاته يتصور بها ، او مفهوم كلي يصدق عليه وعلى غيره ، حتى يماثله فرد اخر من هذا المفهوم ، لكانت هذه الامور معه تصحبه في ازليته ، والله سبحانه واحد ازلا ، موحد ابدا ، فمعرفته بغيره ينافي التوحيد ، فكيف يعتقد توحيده من زعم انه عرفه بغيره ، لان وجود الغير يناهي وحدته سبحانه . فلا يعرف الله احد سوى من عرفه به .
ثم افاد (عليه السلام) ان معرفة الله بغيره انما هي معرفة الغير وليست من معرفة الله في شيء ، لان المغاير في التعريفات التي للاشياء الممكنة ، انما يناسبها من وجه ويغايرها من اخر ، وليس هذا الشان للامور المغايرة له سبحانه ، فانها مباينة له عز شانه من جميع الوجوه ، والا لزم التركيب المؤذن بالنفر ، فالزاعم انه عرف الله بغيره لم يعرف الله من وجه اصلا ، وهذا مما يقصده القول بان معرفة الشيء بالوجه انما هي معرفة الوجه لاشيء (1) .
|
(1) شرح توحيد الصدوق ، للعارف الرباني سعيد القمي ج2 ص 485 راجعه نجفعلي حبيبي .
|
من هنا سال السائل في بعض الروايات السابقة «فكيف سبيل التوحيد» قال (عليه السلام) : «ان معرفة عين الشاهد قبل صفته ومعرفة صفة الغائب قبل عينه» . بيان ذلك :
«ان حقيقة كل واحد من الاشياء كائنة ما كانت ، هي عينها الموجودة في الخارج ، فحقيقة زيد مثلا هي هذا الوجود الانساني المتحقق في الخارج ، وهو الذي يتميز بنفسه عن كل شيء ، ولا يختلط بغيره ، ولا يشتبه شيء من امره في الخارج مع من سواه . ثم انا ننتزع منه معاني ناقلين اياها الى اذهاننا ، نتعرف من خلالها حال الاشياء ونتفكر في امرها ، كمعاني الانسان وطويل القامة الشاب وابيض اللون وغير ذلك ، وهي معاني كلية اذا اجتمعت وانضمة ، افادت نوعا من التميز الذهني الذي نقنع به .
وهذه المعاني التي ننالها وناخذها من العين الخارجية ، هي اثار الروابط التي بها ترتبط بنا تلك العين الخارجية نوعا من الارتباط والاتصال ، كما ان زيدا مثلا يرتبط ببصرنا بشكله ولونه ، ويرتبط بسمعنا بصوته وكلامه ، ويرتبط باكفنا ببشرته ، فنعقل منه طول القامة ، والتكلم ، ولين الجلد ونحو ذلك . فلزيد مثلا انواع من الظهور لنا تنتقل بنحو الينا ، وهي المسماة بالصفات ، واما عين زيد ووجود ذاته في الخارج ، فلا تنتقل الى افهامنا بوجه ، ولا تتجافى عن مكانها ، ولا طريق الى نيلها ، الا ان نشهد عينه الخارجية (عيانا وشهودا لا مفهوما وحصولا) ولا نعقل في اذهاننا الا
الاوصاف الكلية .
ومن هذا البيان يظهر انا لو شاهدنا عين زيد مثلا في الخارج ، ووجدنا بعينه بوجه شهودا فهو المعروف الذي ميزناه حقيقة عن غيره من الاشياء ، ووحدناه واقعا من غير ان يشتبه بغيره ، ثم اذا عرفنا صفاته واحدة بعد اخرى ، استكملنا معرفته والعلم باحواله . واما اذا لم نجده عيانا وشهودا ، وتوسلنا الى معرفته بالصفات ، لم نعرف منه الا امورا كلية ، لا توجب له تميزا عن غيره ، كما لو لم نر زيدا بعينه وانما عرفناه بانه انسان ابيض اللون طويل القامة حسن المحاضرة ، بقي على الاشتراك مع غيره ، حتى نجده بعينه ثم نطبق عليه ما نعرفه من صفاته ، وهذا معنى قوله (عليه السلام) : «ان معرفة عين الشاهد قبل صفته ومعرفة صفة الغائب قبل عينه» .
ومن هنا يتبين ايضا ان توحيد الله سبحانه حق توحيده ، ان يعرف بعينه اولا ، ثم تعرف صفاته لتكميل الايمان به ، لا ان يعرف بصفاته وافعاله ، فلا يستوفى حق توحيده . وهو تعالى الغني عن كل شيء ، القائم به كل شيء ، فصفاته قائمة به ، وجميع الاشياء من بركات صفاته ، من حياة وعلم وقدرة ومن خلق ورزق واحياء وتقدير وهداية وتوفيق ونحو ذلك ، فالجميع قائم به ، مملوك له ، محتاج اليه من كل جهة .
فالسبيل الحق في المعرفة ان يعرف هو اولا ، ثم تعرف صفاته ، ثم يعرف بها ما يعرف من خلقه لا بالعكس ، ولو عرفناه بغيره ، فلم نعرفه بالحقيقة ، ولو عرفنا شيئا من خلقه لا به ، بل بغيره فلذلك المعروف الذي
عندنا ، يكون منفصلا عنه تعالى ، غير مرتبط به ، فيكون غير محتاج اليه في هذا المقدار من الوجود ، لذا ورد في بعض الروايات السابقة «لا يدرك مخلوق شيئا الا بالله» . وورد في هذه الرواية «وتعرف نفسك به ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك ، وتعلم ان ما فيه له وبه» اي تعرف نفسك بالله ، لانك آثرة من آثاره ، لا تستغني عنه في ذهن ولا خارج ، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك ، حتى تثبت نفسك مستغنيا عنه فتثبت الها آخر من دون الله من حيث لا تشعر ، وتعلم ان ما في نفسك لله وبالله سبحانه لا غنى عنه في حال» (1).
ونعم ما قال الشيخ ابن سينا في هذا المجال ، «وانه لا حد له ، ولا برهان عليه ، بل هو البرهان على كل شيء» (2) .
وبهذا يتضح سبب تاكيد الروايات على معرفة النفس ، وانه من عرف نفسه فقد عرف ربه ، وان اعرفكم بنفسه اعرفكم بربه «لان الانسان اذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها ، انقطع الى ربه من كل شيء ، وعقب ذلك معرفة ربه معرفة بلا توسيط وسط ، وعلما بلا تسبيب سبب ، اذ الانقطاع يرفع كل حجاب مضروب ، وعند ذلك يذهل الانسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه» (3). وهذا ما ورد في مناجاة امير المؤمنين (عليه السلام) والائمة من ولده (عليهم السلام) انهم كانوا
|
(1) حاشية الطباطبائي على تحف العقول ، ص326.
(2) الالهيات من الشفاء ، ابن سينا ، ص 354.
(3) الميزان في تفسير القرآن ، ج6 ص175.
|
يدعون بهذا الدعاء : «الهي هب لي كمال الانقطاع اليك ، وانر ابصار قلوبنا بضياء نظرها اليك ، حتى تخرق ابصار القلوب حجب النور ، فتصل الى معدن العظمة ، وتصير ارواحنا معلقة بعز قدسك» (1) .
«فتحصل ان النظر في آيات الانفس انفس واغلى قيمة ، وانه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب ، وعلى هذا فعده (عليه السلام) اياها انفع المعرفتين (بل هي انفع المعارف) لا معرفة متعينة ، انما هو لان العامة من الناس قاصرون عن نيلها ، وقد اطبق الكتاب والسنة وجرت السيرة الطاهرة النبوية وسيرة اهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقي ، وهو النظر الشائع بين المؤمنين ، فالطريقان نافعان جميعا ، لكن النفع في طريق النفس اتم واغزر» (2).
نعم يبقى الكلام في كيفية السير في طريق آية النفس ، وهل بينت الشريعة السبل للوصول الى هذا المقام السامي ، ام اهملت ذلك ، واوكلت كيفيته الى السالكين انفسهم ؟
«زعم بعض ان كيفية السير من هذا الطريق غير مبينة شرعا ، حتى ذكر بعض المصنفين ان هذا الطريق في الاسلام ، كطريق الرهبانية التي ابتدعتها النصارى من غير نزول حكم الهي به ، فقبل الله سبحانه ذلك منهم ، قال
|
(1) مفاتيح الجنان ، القمي ، اعمال شهر شعبان العامة .
(2) الميزان في تفسير القرآن ، ج6 ص172.
|
|
|