التقوى في القرآن 152

سلمة اكثر من ان تحصى ، وهي مخصصة لعموم اهل البيت باي معنى كان البيت ، فالمراد بهم من شمله الكساء ولا يدخل فيهم ازواجه» (1).
وقال الرازي في ظل قوله تعالى : «قل لا اسالكم عليه اجرا الا المودة في القربى» (2) . «وانا اقول : ال محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين يؤول امرهم اليه ، فكل من كان امرهم اليه اشد واكمل ، كانوا هم الال ، ولا شك ان فاطمة وعليا والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اشد التعلقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب ان يكونوا هم الال» (3).
ولا يفهم من هذا ان مسلك الحب الالهي محال على الاخرين ، بل بامكان الانسان المؤمن ان يروض نفسه من اجل الارتقاء الى بعض درجاته ، فلا يقرا دعاء مثلا ولا يصلي صلاة ولا يفعل فعلا ما ، ونظرة المباشر الى ثواب تلك الاعمال التي يقوم بها ، وانما ينظر الى العمل بذاته والى محتواه ، وان ما يقوم به هو عبادة لله سبحانه وتعالى قبل كل شيء ، وهكذا وبتكرار العمل يحصل على الملكات التي تؤهله لان يرتقي الى ما يصبو اليه .
نعم ، مقام العصمة والطهارة التي ثبتت لاصحاب الكساء ، مما لا يمكن
(1) روح المعاني في تفسير القران العظيم والسبع المثاني ، العلامة الالوسي البغدادي ، ج 22 ص 14 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت .
(2) الشورى : 23 .
(3) التفسير الكبير ، للامام الفخر الرازي ، ج27 ، ص 166 .
التقوى في القرآن 153

نيله لاحد غيرهم (عليهم السلام) . قال اميرا المؤمنين (عليه السلام) :
«لا يقاس بال محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه الامة احد ، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه ابدا» (1).

صحة الطرق


ثم انه لابد ان يعلم ان هذه الطرق لتحصيل التقوى ، تشترك جميعا في انها تحقق العبادة الصحيحة ، حيث جاء في بعض نصوص الروايات السابقة ، ان عبادة الاحرار هي «افضل العبادة» . ولا يخفى ان صيغة التفضيل هذه دالة على ان كلا من الوجهين السابقين لهما فضل في الجملة ايضا ، وهذا ما صرح به بعض المتكلين الفقهاء على حد سواء ، قال المجلسي في «مراة العقول» في ظل هذا الرواية : «وحاصل المعنى ان العبادة الصحيحة المترتبة عليها الثواب والكرامة في الجملة ثلاثة اقسام ، واما غيرها كعبادة المرائين ونحوها ، فليست بعبادة ولا داخلة في المقسم» (2).
وقال السيد اليزدي في العروة الوثقى : «ولغايات الامتثال درجات :
احدها : وهو اعلاها ، ان يقصد امتثال امر الله ، لانه تعالى اهل للعبادة والطاعة ، وهذا ما اشار اليه امير المؤمنين (عليه السلام) بقوله : الهي ما
(1) نهج البلاغة ، الخطبة : 2.
(2) مراة العقول في شرح اخبار ال الرسول ، العلامة المجلسي ، ج 8 ص 86 دار الكتب الاسلامية ، ومثله المولى المازندراني في شرحه الجامع لاصول الكافي والروضة ج8 ص 251 ، منشورات المكتبة الاسلامية .
التقوى في القرآن 154

عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنتك ، بل وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك» .
الثاني : ان يقصد شكر نعمه التي لا تحصى .
الثالث : ان يقصد به تحصيل رضاه والفرار من سخطه .
الرابع : ان يقصد به حصول القربة اليه .
الخامس : ان يقصد به الثواب ورفع العقاب ، بان يكون الداعي الى امتثال امره ، رجاء ثوابه وتخليصه من النار» (1).
نعم اذا نسبت هذه الطرق بعضها الى بعض ، فانه ينطبق عليها القاعدة المعروفة «حسنات الابرار سيئات المقربين» لان اهل طريق الحب والشكر يرون ان الطريقين ـ اعني : طريق العبادة خوفا وطريق العبادة طمعا ـ لا يخلوان من شرك (خفي) فان الذي يعبده تعالى خوفا من عذابه ، يتوسل به تعالى (اي يجعله وسيلة) الى دفع العذاب عن نفسه ، كما ان من يعبده طمعا في ثوابه ، يتوسل به تعالى الى الفوز بالنعمة والكرامة ، ولو امكنه الوصول الى ما يبتغيه من غير ان يعبده ، لم يعبده ولا حام حول معرفته ، وقد تقدمت الرواية عن الامام الصادق (عليه السلام) «هل الدين الا الحب» وقوله (عليه السلام) في حديث : «واني اعبده حبا له ، وهذا مقام مكنون لا يمسه الا المطهرون» وانما كان اهل الحب مطهرين لتنزههم عن الاهواء النفسانية والالوان المادية ، فلا يتم الاخلاص في العبادة الا من
(1) العروة الوثقى ، السيد اليزدي ، كتاب الصلاة ، فصل في النية .
التقوى في القرآن 155

طريق الحب» (1) .
وهذا ما اشار اليه القران في قوله تعالى : «وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون» (2) ، حيث دلت على ان اكثر اهل الايمان هم متلبسون بنحو من انحاء الشرك .
لكن قد يقال : كيف يمكن ان يتلبس انسان بالشرك والايمان معا ، مع كونها صفتين متقابلتين لا تجتمعان في محل واحد ؟
والجواب : ان حقيقة الايمان بالله والشرك به «هو تعلق القلب بالله بالخضوع للحقيقة الواجبية ، وتعلق القلب بغيره تعالى مما لا يملك شيئا الا باذنه تعالى ، فان من الجائز ان يتعلق الانسان مثلا بالحياة الدنيا الفانية وزينتها الباطلة ، وينسى مع ذلك كل حق وحقيقة ، ومن الجائز ان ينقطع عن كل ما يصد النفس ويشغلها عن الله سبحانه ، ويتوجه بكله اليه ، ويذكره ولايغفل عنه ، فلا يركن في ذاته وصفاته الا اليه ، ولا يريد الا ما يريده، كالمخلصين من اوليائه تعالى .
وبين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من احد الجانبين والبعد منه ، وهي التي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع ، والدليل على ذلك الاخلاق والصفات المتمكنة في النفوس التي تخالف مقتضى ما تعتقده من حق او باطل ، والاعمال الصادرة منها كذلك ، ترى من يدعي الايمان بالله
(1) الميزان في تفسير القران ، ج11 ص 159 .
(2) يوسف : 106 .
التقوى في القرآن 156

يخاف وترتعد فرائصه من اي نائبة او مصيبة تهدده ، وهو يذكر ان لا قوة الا بالله ، ويلتمس العزة والجاه من غيره وهو يتلو قوله تعالى : «ان العزة لله جميعا» (1) ، ويقرع كل باب يبتغي الرزق ، وقد ضمنه الله ، ويعصي الله ولا يستحي ، وهو يرى ان ربه عليم بما في نفسه ، سميع لما يقول ، بصير بما يعمل ، ولا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء ، وعلى هذا القياس .
فالمراد من الشرك في بعض مراتبه ، الذي يجامع بعض مراتب الايمان ، وهو المسمى باصطلاح فن الاخلاق بالشرك الخفي» (2) .
فاذا ضممنا الى هذه الاية ، قوله تعالى : «انما المشركون نجس» (3) ينتج ان الشرك نحو من النجاسة ، ولاشك ان القدر المتيقن منها هي النجاسة المعنوية الباطنية ، المعبر عنها بالخبث وسوء السريرة ، اما استفادة النجاسة الظاهرية التي هي قذارة حسية قائمة بالجسم ، فهي محل تامل عند جملة من الاعلام المحققين كسيدنا الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) ، حيث صرح بعدم امكان ارادة هذا المعنى من الاية في بحوثه الفقهية (4) . وهذا ما اشار اليه الراغب في المفردات ، قال : «النجاسة : القذارة وذلك ضربان : ضرب يدرك بالحاسة ، وضرب يدرك بالبصيرة ، والثاني وصف
(1) يونس : 65 .
(2) الميزان في تفسير القران ، ج11 ص 276 .
(3) التوبة : 28 .
(4) بحوث في شرح العروة الوثقى ، محمد باقر الصدر ، ج3 ص 461 ، مطبعة الاداب في النجف الاشرف .
التقوى في القرآن 157

الله تعالى به المشركين ، فقال : «انما المشركون نجس» (1).
فاذا كان الشرك نحوا من النجاسة المعنوية الملوثة للباطن والقلب ، اذن فهي محتاجة الى مطهر يسانخها ، وهذا ما جاء في ظل قوله تعالى : «وسقاهم ربهم شرابا طهورا» عن الصادق (عليه السلام) حيث قال : «يطهرهم عن كل شيء سوى الله» كما تقدمت الاشارة اليه .

الدفع والرفع


والحاصل ان مسلك الحب الالهي «ربما يدل الانسان المحب على امور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك الاخلاق الاجتماعية ، او الفهم العام العادي الذي هو اساس التكاليف العامة الدينية ، فللعقل احكام وللحب احكام» (2) لذا قال امير المؤمنين (عليه السلام) في وصف المتقين : «ينظر اليهم الناظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول : لقد خولطوا ولقد خالطهم امر عظيم» (3) .
وهذا ما عرضنا لبيانه في مبحث مراتب التقوى من هذه الدراسة ، حيث قلنا : ان الطبقة الاولى تختص بامور غير موجودة في الطبقتين الاخريين ، ذلك لان ميز طبقتهم واساسها المبحة الالهية دون محبة النفس .
(1) المفردات في غريب القران ، مادة «نجس» .
(2) الميزان في تفسير القران ، ج1 ص 360 .
(3) نهج البلاغة ، الخطبة : 193 .
التقوى في القرآن 158


والسبب في ذلك كله ان هذا الطريق يقوم على اساس «تريبة الانسان وصفا وعلما باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل ، وبعبارة اخرى ازالة الاوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع» (1) .
توضيحة : ان طريق تحصيل التقوى وتهذيب النفس ، تارة يتم من خلال ابداء المانع مع وجود المقتضي ، واخرى من خلال رفع المقتضي ، والاول هو الدفع والثاني هو الرفع .
فمثلا قد يريد الانسان جاها او عزا او مسلكا او سمعة حسنة في هذه الدنيا ، فيتصور ان بامكان الله سبحانه اعطاء هذه الامور له ، كما ان بامكان غير الله تبارك وتعالى ذلك . فيميل حسب طبعه الى ما في ايدي الناس ، فياتيه التحذير بانك سوف تخسر وتعذب يوم القيامة ، فيكون العذاب مانعا عن توجه النفس الى ما في ايدي الناس ، او ياتيه الترغيب ، بان هذا الذي ترجوه محدود ومنقطع وزائل ، وعليك ان تستبدله باخر افضل منه ، وهو اجر الاخرة الباقي الدائم الذي عند الله تبارك وتعالى : «ما عندكم ينفد وما عند الله باق» (2) .
وهذا معناه ان المقتضي لتوجه القلب الى غير الله موجود ، لكن هناك مانع من الترهيب والترغيب يمنعان المقتضي عن التاثير ، فيكون من قبيل الورقة المبتلة بالماء التي لا تحترق بالنار ، لا لعدم وجود المقتضي ،
(1) الميزان في تفسير القران ، ج1 ص 358 .
(2) النحل : 96 .
التقوى في القرآن 159

فاقتضاء الاحراق موجود في النار ، بل لوجود المانع وهو البلل .
وهذه هي اهم خصوصية في مسلك التهذيب من خلال الغايات الاخروية ، وهذا بخلافه في مسلك الحب الالهي ، فانه يقوم على اساس اقتلاع اصل وجود المقتضي في الانسان السالك لتوجه القلب وتعلقه بغيره تعالى ، لا ان يزاحم المقتضي الموجود بالمانع المخوف او المرغب .
وهذا المعنى انما يحصل من خلال العلم والمعرفة بالله تعالى ، لذا قلنا في بحث سابق : ان اهل هذا الطريق يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم «وان هذا العلم يخالف سائر العلوم في ان اثره العملي ، وهو صرف الانسان عما لا ينبغي الى ما ينبغي قطعي غير متخلف دائما ، بخلاف سائر العلوم ، فان الصرف فيها اكثري غير دائم ، قال تعالى : «وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم» (1) . وقال : «افرايت من اتخذ الهه هواه واضله الله على علم» (2) ، وقال : «فما اختلفوا الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم» (3) .
ويدل على ذلك ايضا قوله تعالى : «سبحان الله عما يصفون * الا عباد الله المخلصين» (4) ، وذلك ان هؤلاء المخلصين من الانبياء والائمة (عليهم السلام) قد بينوا لنا جمل المعارف المتعلقة باسمائه وصفاته من طريق السمع ، وقد حصلنا العلم بها من طريق البرهان ايضا ، والاية مع ذلك تنزهه
(1) النمل : 14 .
(2) الجاثية : 23 .
(3) الجاثية : 17 .
(4) الصافات : 159 ـ 160 .
التقوى في القرآن 160

عما نصفه به ، دون ما يصفه به اولئك المخلصون ، فليس الا ان العلم الذي يملكونه غير العلم الموجود عند الاخرين ، وان كان متعلق العلمين واحدا من وجه (بالحمل الاولي) . هذا اولا.
وثانيا : ان هذا العلم لا يغير الطبيعة الانسانية المختارة في افعالها الارادية ، ولا يخرجها الى ساحة الاجبار والاضطرار ، كيف والعلم من مبادئ الاختيار ، ومجرد قوة العلم لا يوجب الا قوة الارادة ؟ كطالب السلامة اذا ايقن بكون مائع ما سما قاتلا من حينه ، فانه يمتنع باختياره من شربه قطعا ، ويشهد على ذلك قوله تعالى : «واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعلمون» (1) .
تفيد الاية انهم (عليهم السلام) في امكانهم ان يشركوا بالله ، وان كان الاجتباء والهدى الالهي مانعا عن ذلك ، وقوله : «بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته» (2) ، الى غير ذلك من الايات .
فالانسان المعصوم انما ينصرف عن المعصية بنفسه وعن اختياره وارادته ، ونسبة الصرف الى عصمته تعالى ، كنسبه انصراف غير المعصوم عن المعصية الى توفيقه تعالى .
ولا ينافي ذلك ايضا ما يشير اليه كلامه تعالى ، وتصرح به الاخبار ، ان
(1) الانعام : 88 .
(2) المائدة : 67 .
التقوى في القرآن 161

ذلك من النبياء والائمة (عليم السلام) بتسديد من روح القدس ، فان النسبة الى روح القدس كنسبه تسديد المؤمن الى روح الايمان «اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه» (1) ونسبة الضلال والغواية الى الشيطان وتسويله ، فان شيئا من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلا صادرا عن فاعله مستندا الى اختياره» (2) .

بين العصمة والعدالة


وبهذا تمتاز العصمة عن العدالة ، فانهما معا وان كانا يمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة ، والسبب في ذلك يرجع الى سنخ العلم والمعرفة التي يملكها المعصوم ، فهو يختلف عن سائر العلوم والادراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب والتعلم . من هنا قلنا في بحث سابق : ان الفرق بين الطبقة الاولى وبين الطبقتين الاخريين ، في نحو العلم والادراك ، دون قوته وضعفه وتاثيره وعدمه .
بيانه : «ان القوى الشعورية المختلفة في الانسان ، يوجب بعضها ذهوله عن حكم البعض الاخر ، وضعف التفاته اليه ، كما ان صاحب ملكة التقوى ما دام شاعرا بفضيلة تقواه ، لا يميل الى اتباع الشهوة غير المرضية ، ويجري على مقتضى تقواه ، غير ان اشتعال نار الشهوة وانجذاب نفسه الى هذا
(1) المجادلة : 22 . (2) الميزان في تفسير القران ، ج 11 ص 164 .
التقوى في القرآن 162

النحو من الشعور ، ربما حجبه عن تذكر فضيلة التقوى او ضعف شعور التقوى ، فلا يلبث دون ان يرتكب ما لا يرتضيه التقوى ، ويختار سفاسف الشره ، وعلى هذا السبيل سائر الاسباب الشعورية في الانسان ، والا فالانسان لا يحيد عن حكم سبب من هذه الاسباب ما دام السبب قائما على ساق ، ولا مانع من تاثيره ، فجميع هذه التخلفات تستند الى مغالبة التقوى والاسباب ، وتغلب بعضها على بعض .
الا ان الموهبة التي نسميها قوة العصمة ، هي نوع من العلم والشعور يغاير سائر انواع العلوم في انه غير مغلوب الشيء من القوى الشعورية البتة ، بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة اياها ، وكذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقا» (1) .
ربما كان هذا العلم الذي يورث الانسان هذه المناعة امام اي خروج عن زي العبودية لله تعالى ، هو الذي عبر عنه الاصطلاح القراني باليقين ، قال تعالى : «وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين» (2) . حيث ذكر القران ان من خواص هذا العلم انكشاف ما وراء ستر الحس من حقائق الكون ، قال تعالى : «كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم» (3) . وقد اوضحنا هذه الحقيقة في كتابي «العصمة» (4)
(1) الميزان ، مصدر سابق ، ج 5 ص 78 ، ص 80 .
(2) الانعام : 75 .
(3) التكاثر : 6 .
(4) العصمة : بحث تحليلي في ضوء المنهج القراني ، ص 133 ، بقلم : محمد القاضي .
التقوى في القرآن 163

و«بحث حول الامامة» (1) .
مما تقدم اتضح عدم تمامية ما ذكرته بعض الكتابات المعاصرة ، حيث ذهب الى «ان التقوى والعدالة هما مرتبتان من مراتب العصمة ، والعصمة المطلقة هي عبادرة عن شدة ملكه التقوى والعدالة هذه» (2) .

مسارات تطبيقية


وقد اشار الشيخ الرئيس ابن سينا في الاشارات الى بعض هذه الطرق للوصول الى الله تعالى بقوله : «المستحل توسيط الحق مرحوم من وجه (اي جعل الحق واسطة ووسيلة للوصول الى لذة الجنة ونعيمها) فانه لم يطعم لذة البهجه به فيستطعمها ، انما معارفته مع اللذات المخدجة ، فهو حنون اليها غافل عما وراءها ، وما مثله بالقياس الى العارفين الا مثل الصبيان بالقياس الى المحنكين ، فانهم لما غفلوا عن طيبات يحرص عليها البالغون ، واقتصرت بهم المباشرة على طيبات اللعب ، صاروا يتعجبون من اهل الجد اذا ازوروا عنها ، عائفين لها ، عاكفين على غيرها .
كذلك من غض النقص بصره عن مطالعه بهجة الحق ، اعلق كتفيه بما يليه من اللذات ، لذات الزور ، فتركها في دنياه عن كره ، وما تركها الا
(1) بحث حول الامامة ؛ نص الحوار مع السيد كمال الحيدري ، ص 167 ، حاوره : جواد علي كسار . (2) فلسفة الوحي والنبوة ، محمد الري شهري ، ص 238 ، تعريب خالد توفيق .
التقوى في القرآن 164

ليستاجل اضعافها ، وانما يعبد الله ويطيعه ليخوله في الاخرة شبعه منها ، فيبعث الى مطعم شهي ومشرب هني ومنكح بهي ، اذا بعثر عنه فلا مطمح لبصره في اولاه واخراه الا الى لذات قبقبه وذبذبه ، والمستبصر بهداية القدس في شجون الايثار قد عرف اللذة الحق ، وولى وجهه سمتها ، مسترحما على هذا الماخوذ عن رشده الى ضده ، وان كان ما يتوخاه بكده مبذولا له بحسب وعده» .
قال المحقق الطوسي في ذيل هذه العبارة :
المخدج : الناقص ، يقال : اخدجت الناقة : اذا جاءت بولدها ناقص الخلقة ، والولد مخدج .
والحنون : المشتاق .
وحنكته السن واحنكته : اي احكمته التجارب .
وازور عنه : اي عدل عنه . وعاف الطعام والشراب : اي كرهه فلم يتناوله .
وعكف على الشيء : اي اقبل عليه مواظبا .
وخوله الله الشيء : اي ملكه اياه . وبعثر عنه : اي كشف عنه .
وطمح بصره الى الشيء : اي ارتفع .
والقبقب : البطن . والذبذب : الذكر . وقد لاحظ الشيخ فيهما اقوال النبي

التقوى في القرآن 165

(صلى الله عليه واله) : من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي . واللقلق : اللسان .
والشجون : جمع شجن ، وهو طريق الوادي .
والكد : الشدة في العمل وطلب الكسب .
والغرض في هذا الفصل تمهيد العذر لمن يجوز ان يجعل الحق (تعالى) واسطة في تحصيل شيء اخر غيره ، وهو ممن يتزهد في الدنيا ويعبد الحق رغبة في الثواب او رهبة من العقاب ، ووجه العذر بيان نقصه في ذاته .
وفي عبادرات الشيخ لطائف كثيرة ، يتبين للمتامل فيها :
  • منها : وصف اللذات الحسية بنقصان الخلقة ، وهو نقصان لا يمكن ان يزول .
  • ومنها : تشبيه من لم يقدر على مطالعة البهجة الحقيقية بالاعمى الذي يطلب شيئا ، فانه يعلق يده بما يليه ، سواء كان ما اعلق به يده مطلوبا او لم يكن .
  • ومنها : التنبيه على ان زهد غير العارف زهد عن كره ، مع كونه في صورة الزهاد احرص الخلق بالطبع على اللذات الحسية ، فان التارك شيئا استاجل اضعافه اقرب الى الطمع منه الى القناعة .
  • ومنها : نسبة همته الى الدناءه والضعة ، فان قوله : «لا مطمح لبصره»

    التقوى في القرآن 166

    مشعر بانه ادنى منزلة من ان يستحق تلك اللذات الخسيسة .
  • ومنها : التعبير البالغ في تخصيص لذة البطن والفرج بالذكر .
    وقد ذكر في اخر الفصل ان هذا الناقص المرحوم ، ينال ما يرجوه ويطلبه بكده من اللذات الحسية ، حسبما وعده الانبياء عليهم السلام» (1) .
    من هنا ذكر الشيخ في موضع اخر ، ان غرض العارف وغير العارف من الزهد والعبادة متمايزان مختلفان ، قال «الزهد عند غير العارف معاملة ما ، كان يشتري بمتاع الدنيا متاع الاخرة وعند العارف تنزه عما يشغل سره عن الحق ، وتكبر على كل شيء غير الحق .
    والعبادة عند غير العارف معاملة ما ، كانه يعمل في الدنيا لاجرة ياخذها في الاخرة هي الاجر والثواب ، وعند العارف رياضة ما لهممة وقوى نفسه المتوهمة والمتخيلة ، ليجرها بالتعويد عن جناب الغرور الى جناب الحق ، فتصير مسالمة للسر الباطن حينما يستجلي الحق لا ينازعه فيخلص السر الى الشروق الساطع ، ويصير ذلك ملكة مستقرة ، كلما شاء السر اطلع الى نور الحق ، غير مزاحم من الهمم ، بل مع تشييع منها له ، فيكون بكليته منخرطا في تلك القدس» .
    قال الطوسي في المقام : «الزهد والعبادة من غير العارف معاملتان ، فان الزاهد غير العارف يجري مجرى تاجر يشتري متاعا بمتاع ، العابد غير العارف يجري مجرى اجير يعمل عملا لاخذ اجرة ، فالفعلان مختلفان ،
    (1) الاشارات والتنبيهات ، ابن سينا ، ج 3 ص 377 ، مع الشرح للمحقق الطوسي .
    التقوى في القرآن 167

    ولكن الغرض واحد .
    واما العارف فزهده في الحالة التي يكون فيها متوجها الى الحق ، معرضا عما سواه ، تنزه عما يشغله عن الحق ايثارا لما قصده ، وفي الحالة التي يكون فيها ملتفتا من الحق الى سواه ، تكبر على كل شيء غير الحق استحقارا لما دونه .
    واما عبادته ، فارتياض لهممه التي هي مباديء ارادته وعزماته الشهوانية والغضبية وغيرهما ، ولقوى نفسه الخيالية والوهمية ، وليجرها جميعا عن الميل الى العالم الجسماني والاشتغال به الى العالم العقلي ، مشيعة اياه عند توجهه الى ذلك العالم ، وتصير تلك القوى معودة لذلك التشييع ، فلا تنازع العقل ولا تزاحم السر حالة المشاهدة ، فيخلص العقل الى ذلك العالم ، ويكون جميع ما تحته من الفروع والقوى منخرطة معه في سلك التوجه الى ذلك الجانب» (1) .

    الفرق بين الزاهد والعابد والعارف


    لكن من هو الزاهد والعابد والعارف ؟ قال الشيخ في بيان ذلك : «المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد ، والمواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوها يخص باسم العابد ، والمنصرف بفكره الى قدس الجبروت ، مستديما لشروق نور الحق في سره ، يخص
    (1) المصدر السابق ، ج 3 ص 370 .
    التقوى في القرآن 168

    باسم العارف ، وقد يتركب بعض هذه مع بعض» (1).
    الا ان العارف ايضا له درجات ومقامات ، كما ان العابد والزاهد كذلك ، لذا قال : «من اثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ، ومن وجد العرفان كانه لا يجده ، بل يجد المعروف به فقد خاض الوصول ، وهناك درجات ليست اقل من درجات ما قلبه ، اثرنا فيها الاختصار ، فانها لا يفهمها الحديث ، ولا تشرحها العبارة ، ولا يكشف المقال عنها غير الخيال . ومن احب ان يتعرفها فليتدرج الى ان يصير من اهل المشاهدة دون المشافهة ، ومن الواصلين الى العين دون السامعين للاثر» .
    واوضح الطوسي هذا المقطع بقوله : «العرفان حالة للعارف بالقياس الى معروف ، فهي لا محالة غير المعروف ، فمن كان غرضه من العرفان نفس العرفان ، فهو ليس من الموحدين ، لانه يريد من الحق شيئا غيره ، وهذه حالة المتبجح بزينة ذاته وان كان بالحق .
    اما من عرف الحق وغاب عن ذاته ، فهو غائب لا محالة عن العرفان الذي هو لذاته ، فهو قد وجد العرفان كانه لا يجده بل يجد المعروف فقط ، وهو الخائض لجة الوصول اي معظمة .
    وهناك درجات هي درجات التحلية بالامور الوجودية التي هي النعوت الالهية ، وهي ليست باقل من درجات ماقلبه ، اعني درجات التزكية من الامور الخلقية التي تعود الى الاوصاف العدمية . وذلك لان الالهيات
    (1) المصدر السابق ، ج3 ص 369 .
    التقوى في القرآن 169

    محيطة غير متناهية ، والخلقيات محاط بها متناهية ، والى هذا اشير في قوله عز من قائل : «قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ...» فالارتقاء في تلك الدرجات سلوك الى الله ، وفي هذه سلوك في الله ، وينتهي السلوك بالفناء في التوحيد .
    واعلم ان العبارة عن هذه الدرجات غير ممكن ، لان العبارة موضوعة للمعاني التي يتصورها اهل اللغات ، ثم يحفطونها ثم يتذكرونها ثم يتفاهمون بها تعليما وتعلما . اما التي لا يصل اليها الا غائب عن ذاته فضلا عن قوى بدنه ، فليس يمكن ان يوضع لها الفاظ فضلا عن ان يعبر عنها بعبارة ، وكما ان المعقولات لا تدرك بالاوهام ، والموهومات لا تدرك بالخيالات ، والمتخيلات لا تدرك بالحواس ، وكذلك ما من شانه ان يعاين بعين اليقين فلا يمكن ان يدرك بعلم اليقين ، فالواجب على من يريد ذلك ان يجتهد في الوصول اليه بالعيان ، دون ان يطلبه بالبرهان .
    فهذا بيان ما ذكره الشيخ ، واستثنى الخيال في قوله : (ولا يكشف عنها المقال غير الخيال) لما سيبين في النمط العاشر ، وهو ان العارفين اذا اشتغلت ذواتهم بمشاهدة عالم القدس فقد يتراءى في خيالاتهم امور تحاكي ما يشاهدونه محاكاه بعيده جدا» (1) .
    وهذا هو معنى قول العرفاء : «ان المكاشفة طور وراء طور العقل» (2) .
    (1) المصدر السابق ، ج3 ص 390 .
    (2) شرح القيصري على فصوص الحكم ، الفص الابراهيمي ، ص 179 ، الفصل العزيزي ، ص 304 الطبعة الحجرية .
    التقوى في القرآن 170


    يقول صدر المتالهين : «لا يجوز في طور الولاية ما يقضي العقل باستحالته ، نعم ، يجوز ان يظهر في طور الولاية ما يقصر العقل عنه ، بمعنى انه لا يدرك بمجرد العقل ، ومن لم يفرق بين ما يحيله العقل وبين ما لا يناله ، فهو اخس من ان يخاطب فليترك وجهله» (1) .
    وقال ايضا : «ثم ان بعض اسرار الدين واطوار الشرع المبين ، بلغ الى حد ما هو خارج عن طور العقل الفكري ، وانما يعرف بطور الولاية والنبوة ، ونسبة طور العقل ونوره الى طور الولاية ونورها ، كنسبه نور الحس الى نور الفكر ، فليس لميزان الفكر كثير فائدة وتصرف هناك» (2) .
    لذا قال الطباطبائي ان : «الذين يحاولون بيان المعاني الشهودية من خلال القوالب اللفظية والعبارات اللغوية ، فهم كالذين يريدون بيان الالوان المختلفة للذي ولد من بطن امه اعمى ، فيحاول ان يدرك المعاني المرتبطة بالباصرة من خلال القوة السامعة» (3) .

    نصوص ودلالات


    اختم هذا البحث ببعض كلمات ائمة اهل البيت (عليهم السلام) التي بينت بعض مقامات العارفين المحبين :
    (1) الرسائل ، صدر الدين الشيرازي ، ص 283 ، مكتبة المصطفوي قم . ايران .
    (2) شرح اصول الكافي في اخر كتاب مفاتيح الغيب ، صدر الدين الشيرازي ، ص 461 منشورات مكتبة المحمودي بطهران ، الطبعة الحجرية .
    (3) مجموعة مقالات ، الطباطبائي ، ج1 ص 39 .
    التقوى في القرآن 171


  • ما رواه المسعودي في اثبات الوصية عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال في خطبة له : «فسبحانك ملات كل شيء ، وباينت كل شيء ، فانت لا يفقدك شيء ، وانت الفعال لما تشاء ، تباركت يا من كل مدرك من خلقه وكل محدود من صنعه ،... سبحانك اي عين تقوم نصب بهاء نورك ، وترقي الى نور ضياء قدرتك ، واي فهم يفهم ما دون ذلك الا ابصار كشفت عنها الاخطية ، وهتكت عنها الحجب العمية ، فرقت ارواحها على اطراف اجنحة الارواح ، فناجوك في اركانك ، وولجوا بين انوار بهائك ، ونظروا من مرتقى التربة الى مستوى كبريائك ، فسماهم اهل الملكوت زوارا ، ودعاهم اهل الجبروت عمارا» (1) .
  • وفي البحار عن ارشاد الديلمي ـ وذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث ـ وفيه : «فمن عمل برضائي الزمه ثلاث خصال : اعرفه شكرا لا يخالطه الجهل ، وذكرا لا يخالطه النسيان ، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين ، فاذا احبني احببته ، وافتح عين قلبه الى جلالي ، ولا اخفي عليه خاصة خلقي ، واناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم ، واسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، واعرفه السر الذي سترته عن خلقي ، والبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم ويمشي على الارض مغفورا له ، واجعل قلبه واعيا وبصيرا ، ولا اخفي عليه شيئا من جنة ولا نار ، واعرفه ما يمر على الناس فيه
    (1) نقلا من «الميزان في تفسير القران» ج6 ص 175 .
    التقوى في القرآن 172

    القيامة من الهول والشدة ، وما احاسب به الاغنياء والفقراء والجهال والعلماء ، وانومه في قبره وانزل عليه منكرا ونكيرا حتى يسالاه ، ولا يرى غم الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطلع ، ثم انصب له ميزانه وانشر ديوانه ، ثم اضع كتابه عن يمينه فيقرؤه منشورا ، ثم لا اجعل بيني وبينه ترجمانا ، فهذه صفات المحبين» (1) .
    (1) المصدر نفسه .

  • السابق السابق الفهرس التالي التالي