التقوى في القرآن 89


وقد اكدت جملة وافرة من الروايات هذه الحقيقة القرانية ، منها :
1ـ عن الامام الباقر (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «خمس ان ادركتموهن فتعوذوا منهن :
  • لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوها الا ظهر فيهم الطاعون ، والاوجاع التي لم تكن في اسلافهم الذين مضوا .
  • ولم ينقصوا المكيال والميزان الا اخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان .
  • ولم يمنعوا الزكاة الا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا .
  • ولم ينقضوا عهد الله ورسوله الا سلط الله عليهم عدوهم ، واخذوا بعض ما في ايديهم .
  • ولم يحكموا بغير ما انزل الله الا جعل الله عزوجل باسهم بينهم» ( 1 ) .
    «الفاحشة هي الزنا ، والسنة هي الجدب والقحط ، والمؤونة هي القوت ، وشدة المؤونة ضيقها وعسر تحصيلها» ( 2 ) .
    (1) الاصول من الكافي ، كتاب الكفر والايمان ، باب في عقوبات المعاصي العاجلة ، الحديث : 1.
    (2) مراة العقول في شرح اخبار ال الرسول ، العلامة المجلسي ، ج 11 ص 70 ، دار الكتب الاسلامية .
    التقوى في القرآن 90


    قال المازندراني في شرح اصول الكافي : «ان الاول لما كان فيه تضييع الة النسل ، ناسبه الطاعون الموجب لانقطاع النسل . والثاني لما كان فيه زيادة المعيشة ، ناسبه القحط وشدة المؤونة وجور السلطان باخذ المال وغيره ، والثالث لما كان فيه منع ما اعطاه الله بتوسط الماء ، ناسبه منع نزول المطر من السماء . والرابع لما كان فيه ترك العدل ، والحاكم العادل ، ناسبه تسلط العدو واخذ الاموال . والخامس لما كان فيه رفض الشريعة وترك القوانين العدلية ، ناسبه وقوع الظلم بينهم وغلبة بعضهم على بعض .
    وفيه تنبيه على ان لهذه الامور تاثيرا عظيما في نزول هذه البلايا ، وورود هذه المصائب ، لاستعداد اهلها بالانهماك فيها ، وعدم المبالاة بها ، لسخط الله وعقوبته .
    واشار بقوله : «ولولا البهائم لم يمطروا» الى ان وجود البهائم رحمة للناس ، وسبب لوصول فيض الحق اليهم ، وذلك لان بقاء البهائم ونشوءها بالماء والكلاء ، وهو متوقف على نزول المطر من السماء ، فاذا نزل المطر رعاية لحالها وحفظا لنظام احوالها ، انتفع به بنو ادم ايضا ، كما دلت عليه حكاية النملة واستسقائها وقولها «اللهم لا تؤاخذنا بذنوب بني ادم» . وكما ان عقوبة الله عزوجل قد تعم الابرار بشؤم الاشرار ، كذلك رحمة الله قد تعم الاشرار لرعاية الضعفاء والاخيار .
    ولعل المراد بعهد الله وعهد رسوله ، هو العهد بنصرة الامام الحق واتباعه في جميع الامور ، وظاهر ان ذلك موجب لظهور العدل بينهم

    التقوى في القرآن 91

    وحفظ اموالهم ودمائهم ، وقطع ايدي الاعداء عنهم . وان نقض ذلك العهد والهجران عن الامام ، موجب لتسلط سلطان الجور عليهم واخذ اموالهم وسفك دمائهم ، كما هو مشاهد الان في اقطار الارض . واما جعل باسهم بينهم وهو القوة والشدة والعذاب ، فكان المراد به غلبة بعضهم على بعض ، بالتعدي والطغيان ومعاونة بعضهم لبعض على الظلم والعدوان » ( 1 ).
    2ـ عن الامام الصادق (عليه السلام) قال :
  • « اذا فشت اربعة ، ظهرت اربعة : اذا فشا الزنا ظهرت الزلزلة ، واذا فشا الجور في الحكم احتبس القطر ، واذا خفرت الذمة ( 2 ) اديل ( 3 ) لاهل الشرك من اهل السلام ، واذا منعت الزكاة ظهرت الحاجة » ( 4 ) .
    3ـ عن الامام زين العابدين (عليه السلام) :
  • « الذنوب التي تغير النعم ، البغي على الناس ، والزوال عن العادة في الخير واسطناع المعروف ، وكفران النعم ، وترك الشكر ، قال الله عزوجل : «ان الله لا يغير ما بقوم حتى
    (1) شرح جامع الاصول الكافي ، المولى محمد صالح المازندراني ، ج1 ص 30 ، منشورات المكتبة الاسلامية .
    (2) اخفر الذمة : لم يف بها .
    (3) الادالة : الغلبة .
    (4) الاصول من الكافي ، ج2 ص 448 ، كتاب الكفر والايمان ، باب في تفسير الذنوب ،الحديث : 3 .
    التقوى في القرآن 92

    يغيروا ما بانفسهم»
    (1)
  • والذنوب التي تنزل النقم : عصيان العارف بالبغي ، والتطاول على الناس ، والاستهزاء بهم ، والسخرية منهم .
  • والذنوب التي تنزل البلاء : ترك اغاثة الملهوف ، ومعاونة المظلوم ، وتضييع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر .
  • والذنوب التي تديل الاعداء : المجاهرة بالظلم ، واعلان الفجور ، واباحة المحظور ، وعصيان الاخيار ، والاتباع للاشرار .
  • والذنوب التي تعجل الفناء : قطيعة الرحم ، واليمين الفاجرة ، والاقوال الكاذبة ، والزنا ، وسد طرق المسلمين ، وادعاء الامامة بغير حق .
  • والذنوب التي تحبس غيث السماء : جور الحكام في القضاء ، وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، ومنع الزكاة والقرض والماعون ، وقساوة القلوب على اهل الفقر والفاقة ، وظلم اليتيم والارملة ، وانتهار السائل ورده بالليل» (2) .
    ثم اشار الامام (عليه السلام) الى جملة من اثار الفردية للذنوب ،
    (1) سورة الرعد : 11.
    (2) معاني الاخبار ، ص 270 ، الحديث 2 نقلا من «البرهان في تفسير القران» ، ج 6 ، ص 162 .
    التقوى في القرآن 93

    حيث قال :
  • « والذنوب التي ترد الدعاء : سوء الامنية ، وخبث السريرة ، والنفاق مع الاخوان ، وترك التصديق بالاجابة ، وتاخير الصلوات المفروضات حتى تذهب اوقاتها ، وترك التقرب الى الله عزوجل بالبر والصدقة ، واستعمال البذاء والفحش في القول .
  • والذنوب التي تقطع الرجاء : الياس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والثقة بغير الله ، والتكذيب بوعد الله عزوجل .
  • والذنوب التي تكشف الغطاء : الاستدانة بغير نية الاداء ، والاسراف في النفقة على الباطل ، والبخل على الاهل والولد وذوي الارحام ، وسوء الخلق ، وقلة الصبر ، واستعمال الضجر والكسل ، والاستهانة باهل الدين .
  • والذنوب التي تورث الندم : قتل النفس التي حرم الله ، قال الله تعالى : «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله» ( 1 ) ، وقال عزوجل في قصة قابيل حين قتل هابيل فعجز عن دفنه : فاصبح «من النادمين» ( 2 ) ، وترك صلة القرابة حتى
    (1) الاسراء : 33 .
    (2) المائدة : 31 .
    التقوى في القرآن 94

    يستغنوا وترك الصلاة حتى يخرج وقتها ، وترك الوصية ورد المظالم ، ومنع الزكاة حتى يحضر الموت وينغلق اللسان .
  • والذنوب التي تدفع القسم (النصيب والحظ) اظهار الافتقار ، والنوم عن العتمة ، وعن صلاة الغداة ، واستحقار النعم ، وشكوى المعبود عزوجل .
  • والذنوب التي تهتك العصم : شرب الخمر ، واللعب بالقمار ، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاج ، وذكر عيوب الناس ، ومجالسة اهل الريب» (1) .
    (1) معاني الاخبار ، 270 ، ح : 2 ، نقلا من البرهان في تفسير القران ، ج 6 ص 162 .
    التقوى في القرآن 95

    الرابطة الوجودية
    بين اعمال الانسان والحوادث الكونية

    من الحقائق التي اكدها القران الكريم في ايات عديدة ، اشرنا الى بعضها اجمالا ، ان هناك نحوا من الارتباط الوجودي والتكويني بين اعمال الانسان ، اعم من ان تكون حسنات او سيئات ، وبين النظام الكوني ، بنحو لو جرى الفرد او المجتمع على ما تقتضيه الفطرة الالهية من الاعتقاد بالله تعالى ، والعمل الصالح ، لنزلت عليه الخيرات وفتحت عليه ابواب البركات ، والعكس وبالعكس .
    هنا قد يطرح تساول مهم ، مفاده ، ان الحوادث العامة والخاصة التي تصيب الانسان من خير او شر ، لها علل طبيعية وقوانين وسنن مادية تحكمها ، اذا تحققت تلك الاسباب والعلل ، تحققت معاليلها التي ترتبط بها ، سواء صلحت النفوس او طلحت ، وبتعبير قراني سواء استقامت على

    التقوى في القرآن 96

    الطريقة ام انحرفت عنها ، وعليه فلا مجال لربط هذه الحوادث بالاعمال الحسنة او السيئة للانسان .
    الجواب : ان هذا التساؤل ناشئ من عدم فهم السنن الالهية التي اودعها الله تعالى في هذا العالم . توضيح ذلك : ان العالم بما فيه من الاجزاء متصل بعضه ببعض ، اتصال اعضاء بدن واحد ، بنحو يؤثر صحة وسقم بعض اجزائه ، على صحة وسقم الاجزاء الاخر ، والجميع على ما يثبته القران الكريم سائر الى الله سبحانه ، سالك نحو الغاية التي قدرت له ، قال الله تعالى : « الذي اعطى كل شيء خلقه ثم هدى» (1) ، فكل شيء مهدي نحو كماله بما جهز به في وجوده من القوى والادوات التي يكمنه من خلالها الانتهاء الى الغاية التي خلق من اجلها . وقال تعالى :« والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم» ( 2 ) ، وقال تعالى : « ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا او كرها قالتا اتينا طائعين» (3) .
    والتعبير بلفظ الجمع ، دون ان تقولا «اتينا طائعتين» لعله للاشارة الى انهما ايضا غير متميزتين من سائر مخلوقاته تعالى ، المطيعة لامره ، السائرة في قافلة الوجود للرجوع اليه تعالى : « ان الى ربك الرجعى» (4).
    ربما كانت اوضح اية دلت على الترابط الوثيق بين اجزاء هذا العالم ،
    (1) طه : 50 .
    (2) يس : 38 .
    (3) السجدة : 11.
    (4) العلق : 8 .
    التقوى في القرآن 97

    هو قوله تعالى :«لو كان فيهما الهة الا الله لفسدتا» (1) وتقريب الاستدلال هو ان يقال : « ان قوام هذا العالم هو بارتباط اجزائه بعضها ببعض ، فان الاجزاء الحالية ترتبط بالاجزاء التي سوف تحدث من حيث انها تشكل موادها وتهئ الارضية لحدوثها ، كما انها حدثت من الاجزاء السابقة ، والاجزاء المتزامنة يرتبط بعضها ببعض بانواع من التاثير والتاثر والفعل والانفعال ، مما يؤدي الى نمو بعضها وذبول بعضها الاخر ، الى غير ذلك . فماء البحر يتسخن بضوء الشمس فيتبخر ويصعد الى الجو سحابا ، ثم يتبدل بتاثير العوامل الجوية الى المطر ، فينزل على سطح الارض فينمو به النبات ، فياكله الحيوان ، كما ان الانسان يتغذى به وبلحم الحيوان .
    فلكل جزء من اجزاء هذا العالم ارتباط عرض بالاجزاء المتزامنة، وارتباط طولي زمانا بالاجزاء السابقة واللاحقة ، مما يجعل الكل منتظما بنظام واحد شامل ، فيحتاج بعضها الى بعض في حدوثه وبقائه ونشوئه وتحوله . فلو فرضا وجود علل متعددة وارباب متفرقة لهذا العالم ، لزم انعزال اجزائة بعضها عن بعض ، لقيام كل جزء منه حينئذ بعلته بلا واسطة ، او بوساطة معلولاتها ، فينعزل عن غيرها وعن معلولات غيرها ، ويؤدي هذا الى فساد النظام الحاكم على العالم » (2) ، لذا قال تعالى :«ما من دابة الا هو اخذ بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم» (3) .
    ((1) الانبياء : 22 .
    (2) تعليقة على نهاية الحكمة : مصباح يزدي ، رقم : 422 .
    (3) هود : 56 .
    التقوى في القرآن 98


    ربما لهذا قالت الاية :«الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار» (1) ، حيث اشارت الى ما تقدم بـ «هذا» مع كونه جمعا ومؤنثا ، لتبين ان النظام الحاكم على هذا العالم واحد .
    والحاصل «ان الله سبحانه هو الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ، وهداه الى ما يسعده ، ولم يخلق العالم سدى ، ولا شيئا من اجزائه ومنها الانسان لعبا ، بل انما خلق ما خلق ليتقرب منه ويرجع اليه ، وهيا له منزل سعادة يندفع اليه بحسب فطرته باذن الله تعالى ، وجعل له سبيلا ينتهي الى سعادته ، فاذا سلك سبيله الفطري فهو ، والا فاذا اختل امر بعض اجزائه ، وخاصة الاجزاء الشريفة ، وضعف اثره وانحرف عن مستقيم صراطه ، بان اثر فساده في غيره ، وانعكس ذلك منه الى نفسه في الاثار التي يرسلها ذلك الغير اليه ، وهي اثار غير ملائمة لحال هذا الجزء المنحرف ، وهي المحنة والبلية التي يقاسيها هذا السبب من ناحية سائر الاسباب .
    فان استقام بنفسه او باعانة من غيره ، عاد اليه رفاه حاله السابق ، ولو استمر على انحرافه واعوجاجه ، وادام فساد حاله ، دامت له المحنة ، حتى اذا طغى وتجاوز حده انتهضت عليه سائر الاسباب ، وهاجت بقواها التي اودعها الله سبحانه فيها ، لحفظ وجوداتها ، فحطمته ودكته ومحته بغتة وهو لا يشعر .
    (1) ال عمران : 191 .
    التقوى في القرآن 99


    وهذه السنة التي هي من السنن الكونية التي اقرها الله سبحانه في الكون ، غير متخلفة عن الانسان ، ولا الانسان مستثنى منها ، فالامة من الامم اذا انحرفت عن سراط الفطرة انحرافا يصدها عن السعادة الانسانية التي قدرت غاية لمسيرتها في الحياة ، كان في ذلك اختلال حال غيرها ، مما يحيط بها من الاسباب الكونية المرتبطة بها . وينعكس اليها اثرها السيئ ، الذي لا مسبب لها الا انحرافها عن الصراط وتوجيهها اثارا سيئة من نفسها الى تلك الاسباب . وعند ذلك تظهر اختلالات في المجتمع ، ومحن عامة في العلاقات التي تحكمه ، كفساد الاخلاق وقسوة القلب وفقدان العواطف الرقيقة وهجوم النوائب ، وتراكم المصائب والبلايا الكونية ، كامتناع السماء من ان تمطر ، والارض من ان تنبت ، والبركات من ان تنزل ، ومفاجاة السيول والطوفانات والصواعق والزلازل وخسف البقاع وغير ذلك ، كل ذلك ايات الهية تنبه الانسان ، وتدعو الامة الى الرجوع الى ربها ، والعودة الى ما تركته من صراط الفطرة المستقيم ، وامتحان بالعسر بعدما امتحن باليسر .
    تامل في قوله تعالى : «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون» (1) تراه شاهدا ناطقا بذلك ، فالاية تذكر ان المظالم والذنوب التي تكسبها ايدي الناس توجب فسادا في البر والبحر ، مما يعود الى الانسان ، كوقوع الحروب وانقطاع
    (1) الروم : 41 .
    التقوى في القرآن 100

    الطرق وارتفاع الامن وغير ذلك ، او لا يعود اليه كاختلال الاوضاع الجوية والارضية التي يستضر بها الانسان في حياته ومعاشه » (1) .
    والمتامل في الحوادث التي تقع في العقود الاخير ، سواء على مستوى الحروب وزيادة الامراض ، خصوصا تلك التي لم يعهدها السابقون ، كما اشارت الى ذلك روايات سابقة ، ام على مستوى الكوارث الطبيعية ، يجد شاهد صدق على هذه الحقيقة القرانية .
    والدليل الذي اقامه القران لاثبات هذه الحقيقة « قوله تعالى : «وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما الا بالحق ولكن اكثرهم لا يعلمون» (2) ، وقوله تعالى : «وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا» (3) ، حيث دلتا ان صانعا من الصناع لو صنع شيئا لغاية معينة ، كان مراقبا لامره ، شاهدا على راسه ، بنحوا اذا عرضه عارض يعوقه ويمنعه عن الوصول الى الغاية التي صنعه لاجلها ، وركب اجزاءه للوصول اليها ، واصلح حاله وتعرض لشانه بزيادة او نقيصة ، او بابطاله من راس ، والعود الى صنعة جديدة .
    كذلك الحال في خلق السموات والارض وما بينهما ومن جملتها الانسان ، لم يخلق الله سبحانه ما خلقه عبثا ولم يوجده هباء ، بل للرجوع اليه كما قال تعالى :«افحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا
    (1) الميزان في تفسير القران ، ج 8 ص 196 ، بتصرف .
    (2) الدخان : 3 .
    (3) ص : 27 .
    التقوى في القرآن 101

    ترجعون»
    (1) ، « حيث دلت الاية انه لو لم يكن هناك رجوع اليه تعالى ، لكان خلقهم عبثا ولعبا ، وهو يقول :«وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين» . حينئذ من الضروري ان تتعلق العناية الربانية بايصال الانسان ، كسائر ما خلق من خلق الى الغاية التي من اجلها خلق ؛ بالدعوة والارشاد، ثم بالامتحان والابتلاء ، ثم باهلاك من يظل في حقه غاية الخلقة وسقطت عنه الهداية . فان في ذلك اتقانا لصنع في الفرد والنوع ، وختما للامر في امة وراحة لاخرين ، قال تعالى : «وربك الغني ذو الرحمة ان يشا يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما انشاكم من ذرية قوم اخرين» (2) . (تدبر في موضع قوله تعالى :«وربك الغنى ذو الرحمة» حيث جعلت ان الرحمة الالهية هي السبب في استبدال قوم باخرين) .
    وهذه السنة الربانية ، اعني سنة الابتلاء والانتقام هي التي اخبر الله عنها ، انها سنة غير مغلوبة ولا مقهورة ، بل غالبة منصورة ، قال تعالى : «وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفو عن كثير * وما انتم بمعجزين في الارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير» (3) ، وقال ايضا :«ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * انهم لهم المنصورون * وان جندنا لهم الغالبون» » (4)(الصافات :173) .
    (1) المؤمنون : 115 .
    (2) الانعام : 133 .
    (3) الشورى : 31 .
    (4) الميزان ، ج 2 ص 184 .
    التقوى في القرآن 102


    الخارج والمحتوى الداخلي


    تبين مما تقدم ان التدبير الالهي الحكيم يسوق الانسان وكل ما يحيط به وخلق لاجله «وسخر لكم ما في المسوات وما في الارض جميعا منه» (1) الى الغاية النهائية التي قدرت لها «الذي اعطى كل شيء خلقه ثم هدى» (2) فاذا عرض لهذا السير مانع يوجب الاعاقة عن الهدف «وان الى ربك المنتهى» (3) قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور ، اما باصلاحه ، او ازالة الجزء الفاسد منه ، نظير العاهة التي تعرض بعض اجزاء البدن ، فانه اما ان يصلح ان امكن او يقطع ويجتث بعملية جراحية .
    كذلك في النظام العام الذي يحكم عالم التكوين ، فان الامة ان رجعت الى صراط الفطرة والعبودية لله تعالى ، باصلاح نفسها ، فيغير الله حالها الى احسن الحال ، قال تعالى :«ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم» (4) .
    «حيث يمكن ان يستفاد من الاية العموم ، وهو ان بين حالات الانسان النفسية وبين الاوضاع الخارجية نوع تلازم ، سواء كان ذلك في جانب الخير او الشر . فلو كان
    (1) الجاثية : 13 .
    (2) طه : 50 .
    (3) النجم : 42 .
    (4) الرعد : 11 .
    التقوى في القرآن 103

    القوم على الايمان والطاعة وشكر النعمة ، عمهم الله بنعمه الظاهرة والباطنة ودام ذلك عليهم حتى يغيروا ، فيكفروا ويفسقوا ، فيغير الله نعمه نقما ، ودام ذلك عليهم حتى يغيروا ، فيؤمنوا ويطيعوا ويشكروا ، فيغير الله نقمه نعما ، وهكذا» (1).
    اما اذا اسمترت الامة على ضلالها وخبطها ، طبع الله على قلوبهم فاعتادوا ذلك ، واصبحوا يحسبون ان الحياة الانسانية ليست الا هذه الحياة المضطربة الشقية التي تزاحمها اجزاء العالم المادي ، وتضطهدها النوائب والرزايا ، ويحطمها قهر الطبيعة الكونية .
    من هنا حاول الانسان ان يتسلح بسلاح العلم ، ليدفع قهر الطبيعة وحوادثها ، بدل ان يرجع الى نفسه ، ليرى ما هي تلك الاسباب الحقيقية التي ادت بالطبيعة ان تنتفض عليه ، وتحول حياته الى شقاء مستمر واضطراب وقلق دائم ، فبدل ان يرجع الى استقامة الطريق «وان لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا» (2) وان تكون هذه المحن والمصائب والبلايا منبهات للرجوع اليه تعالى : «ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون» (3) تراه قد اخذه الخيلاء والتكبر «استكبارا في الارض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيء الا باهله فهل ينظرون الا سنة الاولين
    (1) الميزان ، مصدر سابق ، ج11 ، ص 311 .
    (2) الجن : 16 .
    (3) الروم : 41 .
    التقوى في القرآن 104

    فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا»
    (1) فظن ان التقدم العلمي في مجالات الحياة المختلفة ، يجعله قادرا في التغلب على السنن الالهية التي اودعها الله تعالى في النظام الكوني ، فتكون الطبيعة منقادة لاهوائه ، ونسي انه لو اتبعته لفسدت السموات والارض ، ولكان الانسان من اقدم اجزائها في الفساد واسرعها في الهلاك ، قال تعالى :«ولو اتبع الحق اهواءهم لفسدت السموات والارض ومن فيهن» (2) .
    قال الطباطبائي في ظل هذه الاية :
    « ان الانسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام ، وله في نوعيه غاية هي سعادته ، وقد خط له طريق الى سعادته وكماله ، يناله بطي الطريق المنصوب اليها ، نظير غيره من الانواع الموجودة ، وقد جهزه الكون العام وخلقته الخاصة به من القوى والالات بما يناسب سعادته والطريق المنصوب اليها ، وهي الاعتقاد والعمل اللذان ينتهيان به الى سعادته .
    فالطريق التي تنتهي بالانسان الى سعادته ، اعني الاعتقادات والاعمال الخاصة ، المتوسطة بينه وبين سعادته ، وهي التي تسمى (الدين) ، وسنة الحياة متعينة حسب اقتضاء النظام
    (1) فاطر : 43 .
    (2) المؤمنون : 71 .
    التقوى في القرآن 105

    العام الكوني ، والنظام الخاص الانساني الذي نسميه الفطرة ، وتابعة لذلك ، وهذا هو الذي يشير اليه تعالى بقوله : «فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم» (الروم : 30) .
    فسنة الحياة التي تنتهي بسالكها الى السعادة الانسانية ، طريقة متعينة ، يقتضيها النظام بالحق ، تكشف عنها تجهيزات وجوده بالحق ، وهذا الحق هو القوانين الثابتة غير المتغيرة التي تحكم النظام الكوني ، الذي احد اجزائه النظام الانساني ، وتدبره وتسوقه الى غاياته ، وهو الذي قضى به الله سبحانه ، فكان حتما مقضيا .
    فلو اتبع الحق اهواءهم ، فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به اهواؤهم ، لم يكن ذلك الا بتغير اجزاء الكون عما هي عليه ، وتبدل العلل والاسباب غيرها ، وتغير الروابط المنتظمة الى روابط جزافية مختلفة متدافعة ، توافق مقتضياتها مجازفات اهوائهم ، وفي ذلك فساد السموات والارض ومن فيهن في انفسها ، والتدبير الجاري فيها ، لان كينونتها ، وتدبيرها مختلطان غير متمايزين ، والخلق والامر متصلان غير منفصلين» (1) .
    (1) الميزان مصدر سابق ، ج 15 ص 46 .
    التقوى في القرآن 106


    فتحصل مما تقدم « ان الانسان كغيره من الانواع الكونية ، مرتبط الوجود بسائر اجزاء الكون المحيطة به ، ولاعماله في مسير حياته وسلوكه الى منزل السعادة ، ارتباط بغيره ،فان صلحت (اي الاعمال) للكون ، صلحت اجزاء الكون له وفتحت له بركات السماء ، وان فسدت افسدت الكون ، وقابله الكون بالفساد ، فان رجع الى الصلاح فبها ، والا جرى على فساده ، حتى اذا تعرق (تجذر) فيه ، انتهض عليه الكون واهلكه بهدم بنيانه واعفاء اثره ، وطهر الارض من رجسه» (1) .
    (1) الميزان ، مصدر سابق ، ج8 ص 198 .
    التقوى في القرآن 107

    دور العلل الطبيعية
    في وجود الحوادث الكونية

    هنا قد يقال : انه اذا كانت اعمال الانسان من خير وشر ، هي السبب في وجود البلايا والمصائب والمحن التي تصيب الانسان ، سواء منها ما كان يعود الى الانسان ، كوقوع الحروب وارتفاع الامن ، او لا يعود اليه ، كاختلال الاوضاع الجوية والارضية ، وما يصاحبها من الزلازل والامطار المخربة ونحوها ، فهذا معنا إبطال دور العوامل والاسباب الطبيعية في وجود تلك الحوادث ، وهذا ما لا يمكن قبوله لا عقلا ولا تجربة بل هو مخالف لظاهر جملة من الايات الواردة في المقام .
    الجواب عن ذلك : ان هذا الكلام ناشئ عن سوء فهم وعدم تدبر في الحقائق القرانية ، فان القائلين بان الاعمال حسنة كانت او سيئة هي التي تستتبع من الحوادث ما يناسبها ويسانخها خيرا او شرا ، لا يريدون بقولهم «ابطال العلل الطبيعية وانكار تاثيرها ، ولا تشريك الاعمال الانسانية مع

    التقوى في القرآن 108

    العوامل المادية (بنحو يكون لكل منهما جزء التاثير ) كما ان الالهيين لا يريدون باثبات ابطال قانون العلية والمعلولية العام ، واثبات الاتفاق والصدفة في الوجود ، او تشريك الصانع مع العلل الطبيعية ، واستناد بعض الامور اليه تعالى ، والبعض الاخر الى تلك العل .
    بل مرادهم اثبات علة في طول علة ، وعامل معنوي فوق العوامل المادية ، واسناد التاثير الى كلتا العلتين ، بالترتيب» (1) .
    وهذا من قبيل ما ذكره القران الكريم من اسناد التدبير الى الله تعالى تارة حيث قال :«يدبر الامر من السماء الى الارض» (2) ، واسناد التدبير الى الملائكة اخرى : «فالمدبرات امرا» (3) او نسب التوفي الى الله تعالى مرة «الله يتوفى الانفس حين موتها» (4) والى ملك الموت اخرى «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم» (5) ، والى الرسل وهم الملائكة ثالثة : «حتى اذا جاء احدكم توفته رسلنا وهم لا يفرطون» (6).
    فان مثل هذه الاسنادات المتعددة في الموضوع الواحد ـ وله نظائر كثيرة في القران ـ ليست عرضية ، وانما هي طويلة ، بمعنى ان السبب
    (1) الميزان ، مصدر سابق ، ج 2 ص 183 .
    (2) السجدة : 5 .
    (3) النازعات : 5 .
    (4) الزمر : 42 .
    (5) النحل : 70 .
    (6) الانعام : 61 .
    التقوى في القرآن 109

    القريب سبب للحادث ، والسبب البعيد سبب للسبب . ويمكن تقريب هذه الحقيقة ، اعني السببية الطولية من خلال مثال حسي ، « وهي الكتابة التي يكتبها الانسان بيده وبالقلم ، فللكتابة استناد الى القلم ، ثم الى اليد التي توصلت الى الكتابة بالقلم ، والى الانسان الذي توصل اليها باليد وبالقلم ، والسبب بحقيقة معناه هو الانسان المستقل بالسببية ، من غير ان ينافي بسببيته استناد الكتابة بوجه الى اليد والقلم» (1) .
    والا فان القران كما يثبت استناد الحوادث الى اسبابها المادية والطبيعية ، كذلك يصدق استنادها الى الملائكة ، ومن الواضح انه ليس لشيء من هذه الاسباب الطولية استقلال قباله تعالى ، بنحو اذا استند الى غيره سبحانه ، يكون مانعا من الاستناد الى السبب الحقيقي الذي من ورائها «والله من ورائهم محيط» (2) ، «على ما يقول به الوثنية من توفيضه تعالى تدبير الامر الى الملائكة المقربين ، فالتوحيد القراني ينفي الاستقلال عن كل شيء من كل جهة «لا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعنا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا» (3)» (4) .
    كذلك في المقام ، فان استناد الحوادث الى عللها الطبيعية ، لا يمنع من استنادها الى اسباب معنوية مرتبطة بافعال الانسان ، في طول هذه العلل ،
    (1) الميزان ، مصدر سابق ، ج 20 ص 184 .
    (2) البروج : 20 .
    (3) الفرقان : 3 .
    (4) الميزان ، مصدر سابق ، ج 20 ، ص 184 .
    التقوى في القرآن 110

    ولا ينافي توسط هذه الاسباب الطولية في ايجاد تلك الحوادث ، من ان تستند اليه تعالى ، لانه السبب الوحيد لها جميعا ، على ما يقتضيه توحيد الربوبية .

    تساؤل مهم


    في ختام هذا البحث لابد من الوقوف على تساؤل ، قد يرد في المقام هو : لو كان الامر كما امر ، من ان السنن الالهية تقتضي نحوا من التبعية بين اعمال الانسان خيرا وشرا وبين النظام الكوني ، بنحو لو جرى المجتمع الانساني على ما تقتضيه الفطرة من الاعتقاد والعمل الصالح لنزلت عليه الخيرات والبركات ، ولو افسدوا افسد عليهم ذلك ، فلماذا لا ينطبق ذلك على بعض الامم التي انحرفت على صراط الفطرة ، بل بالعكس فهي منعمة بالنعم المادية ، وتعيش الرفاه والامن والاستقرار ؟
    الجواب عن ذلك هو :
    اولا : ان القران الكريم بين ان الله تعالى لا يؤاخذ الناس بجميع ما كسبوا ، بل يذيقهم بعض الذي عملوا ، قال تعالى : «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون» (1) .
    (1) الروم : 41 .
    التقوى في القرآن 111


    « اي ظهر ما ظهر لاجل ان يذيقهم الله وبال بعض اعمالهم السيئة ، بل ليذيقهم نفس ماعملوا ، وقد ظهر في صورة الوبال ، وقوله لعلهم يرجعون اي يذيقهم ما يذيقهم رجاء ان يرجعوا من شركهم ومعاصيهم الى التوحيد والطاعة» (1) .
    وانما كان بعض ما عملوا لا جميعه ، لان الله (سبحانه) برحمته يعفو عن كثير . قال تعالى : «وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفو عن كثير» (2) ، وقال تعالى :«او يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير» (3) .
    والسبب في ان الله تعالى يعفو عن كثير مما كسبوا ، ولا يؤاخذ بها جميعا ، هو انه لو فعل ذلك لما ترك عليها من دابة ، قال تعالى :«ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم الى اجل مسمى فاذا جاء اجلهم فان الله كان بعباده بصيرا» (4).
    والمراد من قوله «بما كسبوا» المعاصي التي ارتكبوها ؛ بقرينه المؤاخذة التي هي العذاب ، وهذا ما اشارت اليه الاية الكريمة «ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة» (5) .
    «ولا يبعد ان يدعى ان السياق يدل على كون المراد بالدابة ، الانسان
    (1) الميزان في تفسير القران ، ج 16 ص 196 .
    (2) الشورى : 30 .
    (3) الشورى : 34 .
    (4) فاطر : 45 .
    (5) النحل : 61 .
    التقوى في القرآن 112

    فقط من جهة كونه يدب ويتحرك ، والمعنى : ولو اخذ الله الناس بظلمهم مستمرا على المؤاخذة ما ترك على الارض من انسان يدب ويتحرك . اما جل الناس فانهم يهلكون بظلمهم ، واما الاقل النادر وهم الانبياء والائمة المعصومون من الظلم ، فهم لا يوجدون ؛ لهلاك ابائهم وامهاتهم من قبل» (1) .
    ثانيا : ان من السنن التي اشار اليها القران الكريم بالنسبة الى الامم التي خرجت عن صراط العبودية لله تعالى ، هي سنة الاستدراج والاملاء . قال تعالى :«وما ارسلنا في قرية من نبي الا اخذنا اهلها بالباساء والضراء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس اباءنا الضراء والسراء فاخذناهم بغتة وهم لا يشعرون * ولو ان اهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فاخذناهم بما كانوا يكسبون» (2).
    هذه الاية الكريمة تلخص سنن الله تعالى في الامم الغابرة «فتذكر ان اكثرهم كانوا فاسقين خارجين عن زي العبودية لله تعالى ، ولم يفوا بالعهد والميثاق الذي اخذ منهم لاول يوم ، وتبين ان ذلك كان هو السبب في وقوعهم في مجرى سنن خاصة الهية يتبع بعضها بعضا ، وهي :
  • ان الله سبحانه كان كلما ارسل اليهم نبيا من انبيائه ، يمتحنهم
    (1) الميزان ، مصدر سابق ، ج 12 ص 280 .
    (2) الاعراف : 94 ـ 96 .

  • السابق السابق الفهرس التالي التالي