التقوى في القرآن 113

ويختبرهم بالباساء والضراء ، فكانوا يعرضون عن ايات الله التي كانت تدعوهم الى الرجوع الى الله والتضرع والانابة اليه ، ولا ينتبهون بهاتيك المنبهات . وهذه سنة .
  • واذا لم ينفع ذلك بدلت هذه السنة بسنة اخرى ، وهي الطبع على قلوبهم بتقسيتها وصرفها عن الحق ، وجعلها متعلقة بالشهوات المادية ، وزينة الحياة الدنيا وبزخرفها ، وهذه سنة المكر.
  • ثم تتبعها سنة ثالثة ، وهي الاستدراج ، وهي بتبديل السيئة حسنة ، والنقمة نعمة ، والباساء والضراء سراء ، وفي ذلك تقريبهم يوما فيوما وساعة فساعة الى العذاب الالهي ، حتى ياخذهم بغتة وهم لايشعرون به ، لانهم كانوا يرون انفسهم في مهد الامن والسلام ، فرحين بما عندهم من العلم ، وما هو تحت اختيارهم من الوسائل الكافية ـ على زعمهم ـ في دفع ما يهددهم بهلاك او يؤذنهم بالزوال» (1).
    اما السنة الاولى فقد اشار اليها قوله تعالى : «وما ارسلنا في قرية من نبي الا اخذنا اهلها بالباساء والضراء لعلهم يضرعون » (2) حيث دلت هذه الاية «ان السنة الالهية جرت على انه كلما ارسل نبيا من الانبياء الى قرية من القرى ـ وما يرسلهم اليهم الا ليهديهم سبيل الرشاد ـ ابتلاهم بشي من الشدائد في النفوس والاموال رجاء ان يبعثهم ذلك الى التضرع اليه
    (1) الميزان ، مصدر سابق ، ج 8 ص 195 .
    (2) الاعراف : 94 .
    التقوى في القرآن 114

    سبحانه ، ليتم بذلك امر دعوتهم الى الايمان بالله والعمل الصالح .
    فالابتلاءات والمحن نعم العون لدعوة الانبياء ، فان الانسان مادام على النعمة ، شغله ذلك عن التوجه الى من انعمها عليه واستغنى بها ، واذا سلب النعمة احس بالحاجة ، ونزلت عليه الذلة والمسكنة ، وعلاه الجزع ، فيبعثه ذلك بحسب الفطرة الى الالتجاء والتضرع الى من بيده سد خلته وحاجته ، ودفع ذلته ، وهو الله سبحانه ، وان كان لا يشعر به ، واذا نبه عليه كان من المرجو اهتداؤه الى الحق ، قال تعالى : «واذا انعمنا على الانسان اعرض وناى بجنابه واذا مسه الشر فذو دعاء عريض» (1).
    واما السنة الثانية فقد اشار اليها قوله تعالى : «ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس اباءنا الضراء والسراء فاخذناهم بغتة وهم لا يشعرون» (2).
    تبديل الشيء شيئا ، وضع الشيء الثاني مكان الشيء الاول ، السيئة والحسنة معناهما ظاهر ، والمراد بهما ما هما كالشدة والرخاء ، والخوف والامن ، والضراء والسراء (اي مطلق ما يسوء الانسان من الشدائد وما يسره) . وقوله «حتى عفوا» لا يبعد ان يكون من العفو بمعنى امحاء الاثر ، فيكون المراد انهم محوا بالحسنة التي اوتوها اثار السيئة السابقة .
    والمعنى المتحصل من الاية ، اننا اتيناهم النعم مكان النقم ، فاستغرقوا
    (1) حم السجدة : 51 .
    (2) الاعراف : 59 .
    التقوى في القرآن 115

    فيها الى ان نسوا ما كانوا عليه حال الشدة ، وقالوا : ان هذه الحسنات وتلك السيئات من عادة الدهر فانتهى بهم ارسال الشدة ثم الرخاء الى هذه الغاية ، وكان ينبغي لهم ان يتذكروا عند ذلك ويهتدوا الى مزيد الشكر بعد التضرع لكنهم غيروا الامر فوضعوا هذه الغاية مكان تلك التي رضيها لهم ربهم ، فطبع الله بذلك على قلوبهم فلا يسمعون كلمة الحق .
    وقوله تعالى :«فاخذناهم بغته وهم لا يشعرون» تلويح الى جهل الانسان بجريان الامر الالهي (والسنة الالهية) ولذا كان الاخذ بغتة وفجاة من غير ان يشعروا به ، وهم يظنون انهم عالمون بمجاري الامور ، وخصوصيات الاسباب ، وباستطاعتهم ان يتقوا ما يهددهم من اسباب الهلاك بوسائل دافعة يهديهم اليها العلم ، قال تعالى : «فلما جائتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم» (المؤمن : 83) (1) . واما السنة الثالثة فقد اشار اليها قوله تعالى : «والذين كذبوا باياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون» (2) .
    قال الراغب في المفردات :
    سنستدرجهم معناه ياخذهم درجة فدرجة وذلك ادناؤهم من الشيء شيئا فشيئا كالمراقي والمنازل في ارتقائها ونزولها» (3).
    فيكون المراد هنا «الاستدناء من الهلاك ، وتقييد الاستدراج بكونه من
    (1) الميزان ، مصدر سابق ، ج 8 ص 199 .
    (2) الاعراف : 182 .
    (3) المفردات في غريب القران ، ص 167 ، مادة « درج » .
    التقوى في القرآن 116

    حيث لا يعلمون للدلالة على ان هذا التقريب خفي غير ظاهر عليهم ، بل مستبطن فيما يتلهون فيه من مظاهر الحياة المادية ، فلا يزالون يقتربون من الهلاك باشتداد مظالمهم ، فهو تجديد نعمة بعد نعمة حتى ليصرفهم التلذذ بها عن التامل في وبال امرهم ، كما مر في قوله تعالى :«ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا» (1) .
    وببيان اخر ، لما انقطع هؤلاء عن ذكر ربهم ، وكذبوا باياته ، سلبوا اطمئنان القلوب وامنها ، فتشبثوا بذيل الاسباب التي من دون الله ، وعذبوا باضطراب النفوس وقلق القلوب ، وقصور الاسباب وتراكم النوائب ، وهم يظنون ان ذلك هي طبيعة الحياة الدنيا ، ناسين معنى وتراكم النوائب ، وهم يظنون ان ذلك هي طبيعة الحياة الدنيا ، ناسين معنى حقيقة الحياة السعيدة ، فلا يزالون يستزيدون من مهلكات زخارف الدنيا ، وهو امر وادهى ، فهم يستدرجون في العذاب من لدن تكذيبهم بايات ربهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون» (2) .
    قال تعالى : «الا بذكر الله تطمئن القلوب» (3) وقال : «ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا» (4) . وقال «ولا يحسبن الذين كفروا ان ما نملي
    (1) الاعراف : 95 .
    (2) الميزان في تفسير القران ، ج 8 ص 346 .
    (3) الرعد : 28 .
    (4) طه : 124 .
    التقوى في القرآن 117

    لهم خير لانفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين»
    (1) ، وقال : «فلا تعجبك اموالهم ولا اولادهم انما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق انفسهم وهم كافرون» (2) .
    «حيث نهى الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله) عن الاعجاب باموال المنافقين واولادهم ، اي بكثرتها على ما يعطيه السياق ، وعلل ذلك بان هذه الاموال والاولاد ، وهي شاغلة للانسان لا محال ، ليست من النعمة التي تهتف لهم بالسعادة ، بل من النقمة التي تجرهم الى الشقاء ، فان الله وهو الذي خولهم اياها ، انما اراد بها تعذيبهم في الحياة الدنيا ، وتوفيهم وهم كافرون .
    الحياة التي يعدها الموجود الحي سعادة لنفسه وراحة لذاته ، انما تكون سعادة فيها الراحة والبهجة اذا جرت على حقيقة مجراها ، وهو ان يلتبس الانسان بواقع اثارها من العلم النافع والعمل الصالح ، من غير ان يشتغل بغير ما فيه خيره ونفعه ، فهذه هي الحياة التي لا موت فيها ، والراحة التي لا تعب معها ، واللذة التي لا الم دونها ، وهي الحياة في ولاية الله ، قال تعالى :«الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (3) .
    واما من اشتغل بالدنيا وجذبته زينتها من مال وبنين الى نفسها ، وغرته الامال والاماني الكاذبة التي تتراءى له منها ، واستهوته الشياطين ، فقد وقع
    (1) ال عمران : 178 .
    (2) التوبة : 55 .
    (3) يونس : 62 .
    التقوى في القرآن 118

    في تناقضات القوى البدنية ، وتزاحمات اللذائذ المادية ، وعذب اشد العذاب بنفس ما يرى فيه سعادته ولذته ، فمن المشاهد المعاين ان الدنيا كلما زادت اقبالا على الانسان ، ومتعته بكثرة الاموال والاولاد ، ابعدته عن موقف العبودية ، وقربته الى الهلاك وعذاب الروح ، فلا يزال يتقلب بين هذه الاسباب الموافقة والمخالفة ، والاوضاع والاحوال الملائمة والمزاحمة ، فالذي يسميه هولاء الغافلون سعة العيش ، هو بالحقيقة ضنك وضيق كما قال تعالى : «ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى * قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك اتتك اياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى» (1).
    فغاية اعراض الانسان عن ذكر ربه ، وانكبابه على الدنيا ، ينبغي به سعادة الحياة وراحة النفس ولذة الروح ، ان يعذب بين اطباق هذه الفتن التي يراها نعما ، ويكفر بربه بالخروج عن زي العبودية ، كما قالت الاية : «انما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق انفسهم وهم كافرون» (2) .
    وهو الاملاء والاستدراج اللذان ذكرهما الله في «قوله سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * واملي لهم ان كيدي متين» (الاعراف : 182 ـ 183) » . (3) وقد اشارت ايات سورة «فاطر» الى جملة هذه السنن الالهية ، الحاكمة
    (1) طه : 124 ـ 126 .
    (2) التوبة : 55 .
    (3) الميزان ، مصدر سابق ، ج 9 ص 308 .
    التقوى في القرآن 119

    في المجتمعات الانسانية ، قال تعالى : «واقسموا بالله جهد ايمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن اهدى من احدى الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم الا نفورا * استكبارا في الارض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ الا باهله فهل ينظرون الا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا * اولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قلبهم وكانوا اشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الارض انه كان عليما قديرا» (1) .
    (1) فاطر : 42 ـ 44 .
    التقوى في القرآن 120


    آثار التقوى في النشاة الاخرى


    اشار القران الكريم في ايات كثيرة الى الاثار المترتبة على التقوى في النشاة الاخرى . ولما كان منهج هذه الدراسة قائما على الاختصار ، نحاول الوقوف على فهرست لعناوين الابحاث التي اشار اليها القران في هذا المجال :
  • قال تعالى : «ان المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر» (1).
    قال الرازي «قوله «في مقعد صدق» يدل على لبث لا يدل عليه المجلس ، وذلك لان «قعد وجليس» ليسا على ما يظن انهما بمعنى واحد لا فرق بينهما ، بل بينهما فرق ، ولكن لا يظهر الا للبارع والفرق هو ان القعود جلوس فيه مكث حقيقة واقتضاء» (2).
    (1) القمر : 54 ـ 55 .
    (2) التفسير الكبير ، ج 29 ص 80 .
    التقوى في القرآن 121


    وقال الطباطبائي : «المراد بالصدق ، صدق المتقين في ايمانهم وعملهم ، اضيف اليه المقعد لملابسة ما ، ويمكن ان يراد به كون مقامهم ومالهم فيه صدقا لا يشوبه كذب ، فلهم حضور لا غيبة معه ، وقرب لا بعد معه ، ونعمة لا نقمة معها ، وسرور لا غم معه ، وبقاء لا فناء معه» (1).
    واما قوله :«عند مليك مقتدر» ، المليك ضيغة مبالغة للملك ، والمقتدر القادر العظيم القدرة وهو الله سبحانه . وانما قال«عند مليك مقتدر» لان القربة من الملوك لذيذة ؛ كلما كان الملك اشد اقتدارا كان المتقرب منه اشد التذاذا ، وفيه اشارة الى مخالفة معنى القرب منه من معنى القرب من الملوك ، فان الملوك يقربون من يكون ممن يحبونه وممن يرهبونه ، ومخافة ان يعصوا عليه وينحازوا الى عدوه فيغلبونه ، والله تعالى مقتدر لا يقرب احدا الا بفضله» (2) فلا يصل الى هذا المقام الا من احبه الله وارتضاه علما وعملا .
    وفي «مصباح الشريعة» : قال الصادق (عليه السلام) بعد ان ذكر التقوى : « وفيه جماع كل عبادة صالحة ، وبه وصل من وصل الى الدرجات العلى ، وبه عاش من عاش بالحياة الطيبة والانس والدائم ، قال تعالى : «ان المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر» (3) .
    وفي «تاويل الايات الظاهرة» : «ان جابر بن عبد الله قال : كنا عند رسول
    (1) الميزان في تفسير القران ج 19 ص 89 .
    (2) التفسير الكبير ، ج 29 ص 81 .
    (3) مصباح الشريعة ، ص 163 ، نقلا من تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب ، العلامة المفسر الشيخ محمد بن محمد رضا القمي المشهدي ، ج 12 ص 552 .
    التقوى في القرآن 122

    الله (صلى الله عليه وآله) في المسجد ، فذكر بعض اصحابه الجنة ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : ان اول اهل الجنة دخولا اليها على بن ابي طالب ، فقال ابو دجانة الانصاري : يا رسول الله اخبرتنا ان الجنه محرمة على الانبياء حتى تدخلها ، وعلى الامم حتى تدخلها امتك ؟
    فقال (صلى الله عليه وآله) : بلى يا ابا دجانة ، اما علمت ان لله لواء من نور وعمودا من نور ، خلقهما الله قبل ان يخلق السموات والارض بالفي عام ، مكتوب على ذلك اللوء ، لا اله الا الله ، محمد رسول الله ، خير البرية ال محمد ، صاحب اللواء علي وهو امام القوم .
    فقال علي (عليه السلام) : الحمد لله الذي هدانا بك يا رسول الله وشرفنا .
    فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : ابشر يا علي ما من عبد ينتحل مودتك الا بعثه الله معنا يوم القيامة .
    وجاء في رواية اخرى : يا علي اما علمت انه من احبنا وانتحل مودتنا اسكنه الله معنا ؟ وتلا هذه الاية :«ان المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر» (1) .
    (1) تاويل الايات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة ، السيد شرف الدين علي الحسيني الاشهر ابادي الغروي ، ص 609 ، مؤسسة النشر الاسلامي .
    التقوى في القرآن 123


    دوام الخلة


  • قال تعالى : «الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين» (1) .
    «الاخلاء : جمع خليل وهو الصديق ، حيث يرفع خلة صديقه وحاجته ، والظاهر ان المراد بالاخلاء المطلق الشامل للمخالة والتحاب في الله ، كما في مخالة المتقين اهل الاخرة ، والمخالة في غيرة كما في مخالة اهل الدنيا ، فاستثناء المتقين متصل .
    والوجه في عداوة الاخلاء غير المتقين ، ان من لوازم المخالة اعانة احد الخليلين الاخر في مهام اموره ، فاذا كانت لغير وجه الله ، كان فيها الاعانة على الشقوة الدائمة والعذاب الخالد ، كما قال تعالى حاكيا عن الظاليمن يوم القيامة : «يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلانا خليلا * لقد اضلني عن الذكر بعد اذ جاءني» (2) ، واما الاخلاء من المتقين فان مخالتهم تتاكد وتنفعهم يومئذ» (3).
    عن سعد بن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : «اذا كان يوم القيامة ، انقطعت الارحام ، وقلت الانساب ، وذهبت الاخوة ، الا الاخوة في الله ، وذلك قوله :«الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين» » (4)
    (1) الزخرف : 67 .
    (2) الفرقان : 29 .
    (3) الميزان في تفسير القران ، ج 18 ص 120 .
    (4) الدر المنثور في التفسير الماثور ، السيوطي ، ج 7 ص 388 ، دار الفكر .
    التقوى في القرآن 124


    عن الحارث عن الامام علي امير المؤمنين (عليه السلام) في خليلين مؤمنين وخليلين كافرين : «فاما الخليلان المؤمنان فتخالا حياتهما في طاعة الله تبارك وتعالى ، وتبادلا عليها وتوادا عليها ، فمات احدهما قبل صاحبه ، فاراه الله منزله في الجنة ، يشفع لصاحبه . فقال : يارب خليلي فلان . كان يامرني بطاعتك ، ويعينني عليها ، وينهاني عن معصيتك ، فثبته على ما ثبتني عليه من الهدى ، حتى تريه ما اريتني ، فيستجيب الله له حتى يلتقيان عند الله عزوجل ، فيقول كل واحد لصاحبه ، جزاك الله من خليل خيرا ، كنت تامرني بطاعة الله ، وتنهاني عن معصيته . br> واما الكافران ، فتخالا بمعصية الله وتبادلا عليها ، وتوادا عليها ، فمات احدهما قبل صاحبه ، فاراه الله تعالى منزله في النار . فقال : يارب خليلي فلان ، كان يامرني بمعصيتك ، وينهاني عن طاعتك ، فثبته عل ما ثبتني عليه من المعاصي ، حتى تريه ما اريتني من العذاب ، فيلتقيان عند الله يوم القيامة ، يقول كل واحد منهما لصاحبه : جزاك عني من خليل شرا ، كنت تامرني بمعصية الله ، وتنهاني عن طاعته ، قال : ثم قرا : «الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين»» (1) .
  • قال تعالى : «يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا» (2) .
    قال الراغب في المفردات : «يقال وفد القوم يفد وفادة وهم وفد
    (1) البرهان في تفسير القران ، العلامة المحدث السيد هاشم البحراني ، ج 7 ص 146 ، منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات .
    (2) مريم : 85 .
    التقوى في القرآن 125

    ووفود ، وهم الذين يقدمون على الملوك مستنجزين الحوائج ، ومنه الوافد من الابل وهو السابق لغيره» (1) . وهذا المعنى الذي ذكره هو المشهور ، ومن هنا قيل : «ان لفظة الوفد مشعرة بالاكرام والتبجيل حيث اذنت بتشبيه حالة المتقين بحالت وفود الملوك ، وليس المراد حقيقة الوفادة من سائر الحيثيات ، لانها تتضمن الانصراف من الموفود عليه ، والمتقون مقيمون ابدا في ثواب ربهم عزوجل ، والكلام على تقدير مضاف ، اي الى كرامة الرحمن او ثوابه وهو الجنة او الى دار كرامته او نحو ذلك . وفي اختيار «الرحمن» في هذه الاية شان ، ولعله ان مساق الكلام فيها لتعداد النعم الجسام وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها ، فكانه قيل : هنا يوم نحشر المتقين الى ربهم الذي غمرهم من قبل برحمته وشملهم برافته ، وحاصله يوم نحشرهم الى من عودهم الرحمة ، وفي ذلك من عظيم البشارة ما فيه» (2) .
    عن ابي جعفر الباقر (عليه السلام) قال : ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) سئل عن قول الله تعالى : «يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا» .
    فقال : يا علي ان الوفد لا يكون الا ركبانا ، اولئك رجال اتقوا الله فاحبهم الله عز ذكره ، واختصهم ورضي اعمالهم فسماهم المتقين .
    ثم قال له : يا علي ، اما والذي فلق الحبة وبرا النسمة ، انهم ليخرجون
    (1) المفردات في غريب القران ، مصدر سابق ، ص 528 .
    (2) روح المعاني في تفسير القران العظيم والسبع المثاني ، العلامة الالوسي البغدادي ، ج 16 ص 136 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت .
    التقوى في القرآن 126

    من قبورهم ، وان الملائكة لتستقبلهم بنوق من نوق العز ، عليها رحائل الذهب مكللة بالدر والياقوت ، وجلالها الاستبرق والسندس ، وخطمها جدل الارجوان ، تطير بهم الى المحشر ، مع كل رجل منهم الف ملك من قدامة ، وعن يمينه وعن شماله ، يزفونهم زفا حتى ينتهوا بهم الى باب الجنة الاعظم . وعلى باب الجنه شجرة ، ان الورقة منها ليستظل تحتها الف رجل من الناس ، وعن يمين الشجرة عين مطهرة مزكية .
    قال : فيسقون منها شربة ، فيطهر الله بها قلوبهم من الحسد ، ويسقط من ابشارهم الشعر ، وذلك قول الله عزوجل : «وسقاهم ربهم شرابا طهورا» (1) من تلك العين المطهرة .
    قال : ثم يصرفون الى عين اخرى عن يسار الشجرة ، فيغتسلون فيها وهي عين الحياة ، فلا يموتون ابدا .
    قال : ثم يوقف بهم قدام العرش ، وقد سلموا من الافات والاسقام والحر والبرد ابدا . قال : فيقول الجبار جل ذكره للملائكة الذين معهم : احشروا اوليائي الى الجنة ، ولا توقفوهم مع الخلائق ، فقد سبع رضاي عنهم ، ووجبت رحمتي لهم ، وكيف اريد ان اوقفهم مع اصحاب الحسنات والسيئات ؟
    وقال : فتسوقهم الملائكة الى الجنة ، فاذا انتهوا بهم الى باب الجنة الاعظم ، ضرب الملائكة الحلقة ضربة ، فتصر صريرا ، فيبلغ صوت
    (1) الانسان : 21 .
    التقوى في القرآن 127

    صريرها كل حوراء اعدها الله عزوجل لاوليائه في الجنان ، فيتباشرن بهم اذا سمعن صرير الحلقة ، فيقول بعضهم لبعض : قد جاءنا اولياء الله ، فيفتح لهم الباب ، فيدخلون الجنة ، وتشرف عليهم ازواجهم من الحور العين والادميين .
    فيقلن مرحبا بكم ، فما كان اشد شوقنا اليكم ، ويقول لهن اولياء الله مثل ذلك » (1).
  • قال تعالى : «ان المتقين في مقام امين * في جنات وعيون * يلبسون من سندس واستبرق متقابلين * كذلك زوجناهم بحور عين * يدعون فيها بكل فاكهة امنين * لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الاولى ووقاهم عذاب الجحيم * فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم» (2) .
  • قال تعالى : «وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا حتى اذا جاءوها وفتحت ابوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين * وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده واورثنا الارض نتبوا من الجنة حيث نشاء فنعم اجر العاملين» (3) .
  • قال تعالى : «وقيل للذين اتقوا ماذا انزل ربكم قالوا خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار المتقين *
    (1) البرهان في تفسير القران ، البحراني ، ج 5 ص 141 .
    (2) الدخان : 51 ـ 57 .
    (3) الزمر : 73 ـ 74 .
    التقوى في القرآن 128

    جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الانهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين * الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون» (1).
    عن ابي اسحاق الهمداني عن امير المؤمنين (عليه السلام) فيما كتب لمحمد بن ابي بكر ، ولاهل مصر حين ولاه في حديث طويل ، قال (علي السلام) : « يا عباد الله ، ان اقرب ما يكون العبد من المغفرة والرحمة حين يعمل لله بطاعته وينصحه في توبته ، عليكم بتقوى الله ، فانها تجمع الخير ، ولا خير غيرها ، ويدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها ، من خير الدنيا وخير الاخرة ، قال : «وقيل للذين اتقوا ماذا انزل ربكم قالوا خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار المتقين »» (2) .
    (1) 30ـ 32 .
    (2) البرهان في تفسير القران ، ج 4 ص 444 .
    التقوى في القرآن 129


    طرق تحصيل التقوى


    اشار القران الكريم والروايات الواردة عن العترة المطهرين ، الى طريقين اساسيين لتحصيل التقوى :
    الاول : الغايات الاخروية .
    الثاني : الحب الالهي .
    الطريق الاول : الغايات الاخروية



    ان التدبر في الايات القرانية ينتهي بنا الى ان من اهم المسؤوليات التي القيت على عاتق الانبياء جميعا ، هي انذار اممهم من عذاب النار ، فيما لو خرجوا عن زي العبودية لله تعالى ، وتبشيرهم بالجنة ونعيمها الدائم ، فيما لو اطاعوا الله ورسله . والايات في بيان هذه الحقيقة كثيرة جدا . قال تعالى : «كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين» (1) ، وقال :
    (1) البقرة : 213 .
    التقوى في القرآن 130

    «رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما» (1) .
    وقال : «وما نرسل المرسلين الا مبشرين ومنذرين فمن امن واصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (2) .
    هكذا بالنسبة الى خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) حيث قال : «انا ارسلناك بالحق بشيرا ونذيرا» (3) ، وقال : «وما ارسلناك الا مبشرا ونديرا» (4) ، وقال : «وما ارسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيرا» (5).
    قال الراغب الاصفهاني في المفردات :
    «وابشرت الرجل وبشرته وبشرته ، اخبرته بسار بسط بشرة وجهه ، وذلك ان النفس اذا بشرت انتشر الدم فيها انتشار الماء في الشجر» . وقال : «والانذار : اخبار فيه تخويف ، كما ان البشير اخبار فيه سرور» (6) .
    لذا نجد القران الكريم عندما يصف المؤمنين يقول عنهم : «تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم
    (1) النساء : 165 .
    (2) الانعام : 48 .
    (3) البقرة : 119 .
    (4) الفرقان : 56 .
    (5) سبا : 28 .
    (6) المفردات ، مادة «بشر» و «نذر» .
    التقوى في القرآن 131

    ينفقون»
    (1) «والمراد اشتغالهم بدعاء ربهم في جوف الليل حتى تنام العيون وتسكن الانفاس ، ولا خوفا من سخطه تعالى فقط حتى يغشيهم الياس من رحمة الله ، ولا طمع في ثوابه فقط حتى يامنوا غضبه ومكره ، بل يدعونه خوفا وطمعا» (2) .
    وهذا الطريق هو الماثور عن الانبياء السابقين فيما ينقل الينا من الكتب السماوية ، ولم يتجاوز القران الكريم هذا المسلك ، بل اعتبره طريقا جيدا لاصلاح النفس من خلال الترهيب والتحذير من النار والترغيب في الجنة .
    قال تعالى : «اما الذين امنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات الماوى نزلا بما كانوا يعملون * واما الذين فسقوا فماواهم النار كلما ارادوا ان يخرجوا منها اعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون» (3) . وقال : «ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة» (4) والباء في «بان» للمقابلة ، لذا ورد عن الامام علي (عليه السلام) : «انه ليس لانفسكم ثمن الا الجنة فلا تبيعوها الا بها» لا بدراهم معدودة او رئاسة اوجاه محدود وما الى ذلك من العناوين الاعتبارية التي نتقاتل عليها كل صباح ومساء .
    (1) السجدة : 16 .
    (2) الميزان في تفسير القران ، ج 16 ص 263 .
    (3) السجدة : 19 ـ 20 .
    (4) التوبة : 111 .
    التقوى في القرآن 132


    وقال : «ان الذين كفورا بايات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام» (1) .
    ومن كلمات امام المتقين علي (عليه السلام) في هذا المجال :
  • «الا واني لم ار كالجنة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها» (2) .
  • «فكفى بالجنة ثوابا ونوالا ، وكفى بالنار عقابا ووبالا» (3) .
  • «فالجنة غاية السابقين ، والنار غاية المفرطين» (4) .
    روايات الجنة


    من هنا نجد ان تلامذة الائمة (عليهم السلام) كانوا يطلبون منهم ان يرغبوهم في الجنة ويشوقوهم اليها ، او يخرفوهم من النار ويحذروهم منها .
    فعن ابي بصير قال : قلت لابي عبدالله الصادق (عليه السلام) : جعلت فداك يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) شوقني الى الجنة .
    فقال (عليه السلام) : «يا ابا محمد ان من ادنى نعيم الجنة يوجد ريحها من مسيرة الف عام من مسافة الدنيا ، وان ادنى اهل الجنة منزلا لو
    (1) ال عمران : 4.
    (2) نهج البلاغة ، الخطبة : 28 .
    (3) نهج البلاغة ، الخطبة : 83 .
    (4) نهج البلاغة ، الخطبة : 157 .
    التقوى في القرآن 133

    نزل به اهل الثقلين الجن والانس لوسعهم طعاما وشرابا ولا ينقص مما عنده شيء .
    ثم اضاف الامام (عليه السلام) : وان ايسر اهل الجنة منزلة من يدخل الجنة فيرفع له ثلاث حدائق ، فاذا دخل ادناهن راى فيها من الازواج والخدم والانهار والاثمار ما شاء الله ، مما يملا عينه قرة وقلبه مسره ، فاذا شكر الله وحمده ، قيل له : ارفع راسك الى الحديقة الثانية» وهذا معناه ان الشكر سبب لمزيد العطاء الالهي حتى في الاخرة (لئن شكرتم لازيدنكم) (1) .
    ثم اضاف (عليه السلام) : فيقول اعطني هذه ، فيقول الله تبارك وتعالى ، ان اعطيتك اياها ، سالتني غيرها ؟ فيقول : ربي هذه هذه ...» اذ لا حد لطمع الانسان ، باعتبار حبه للكمال المطلق ، فكلما يعطى يريد المزيد .
    ثم قال (عليه السلام) : فاذا هو دخلها شكر الله وحمده ايضا ، فاذا شكر الله وحمده ، قال : فيقال : افتحوا له باب الجنة ، ويقال له : ارفع راسك ، هذه الحديقة الثالثة ، فاذا فتح له باب من الخلد ويرى اضعاف ما كان فيه ، قيل : فيقول عند تضاعف مسراته : ربي لك الحمد الذي لا يحصى ، اذ مننت علي بالجنان ونجيتني من النيران».
    قال ابو بصير : فبكيت ، ثم قلت : جعلت فداك زدني .
    قال : «يا ابا محمد ان في الجنة نهرا في حافته جوار نابتات اذا مر
    (1) ابراهيم : 7 .

  • السابق السابق الفهرس التالي التالي