التقوى في القرآن 68


وان للذكر لاهلا اخذوه من الدنيا بدلا ، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه ، يقطعون به ايام الحياة ، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في اسماع الغافلين ، ويامرون بالقسط ، وياتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكانما قطعوا الدنيا الى الاخرة وهم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكانما اطلعوا غيوب اهل البرزخ في طول الاقامة فيه ، وحققت القيامة عليهم عداتها ، فكشفوا غطاء ذلك لاهل الدنيا ، حتى كانهم يرون ما لا يرى الناس ، ويسمعون ما لا يسمعون» (1) .
هذه هي الخصوصية الاولى لاهل التقوى في الدنيا ، وهناك ايات كثيرة في القران نطقت بهذه الحقيقة ، يمكن الرجوع اليها في مظانها .

الفرقان بين الحق والباطل


قال تعالى :«يا ايها الذين امنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا» (2) .قال الراغب في المفردات : «فرقت بين الشيئين فصلت بينهما ، سواء كان ذلك بفصل يدركه البصر ، او بفصل تدركه البصيرة . والفرقان ابلغ من الفرق ، لانه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل» (3).
«وهو في الاية بقرينة السياق وتفريعه على التقوى : الفرقان بين الحق والباطل ، سواء كان ذلك في الاعتقاد (بالتفرقة بين الايمان والكفر ، وكل
(1) نهج البلاغة ، الخطبة : 222 .
(2) الانفال : 29 .
(3) المفردات في غريب القران ، الراغب الاصفهاني : مادة « فرق » .
التقوى في القرآن 69

هدى وضلال) ، او في العمل (بالتمييز بين الطاعة والمعصية ، وكل ما يرضي الله او يسخطه) ، اوفي الراي والنظر (بالفصل بين بالصواب والخطا) ، فان جميع ذلك كله مما تثمره شجرة التقو ى . وقد اطلق الفرقان في الاية ولم يقيده» (1).
نظير هذه الاية قوله تعالى :«والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين» (2) . قال الراغب في المفردات : «الجهد والجهد : الطاقة والمشقة ، والمجاهدة : استفراغ الوسع في مدافعة العدو ، والجهاد ثلاثة اضرب : مجاهدة العدو الظاهر ، ومجاهدة الشيطان ، ومجاهدة النفس» (3) .
«وقوله «جاهدوا فينا» اي استقر جهادهم فلينا ، وهو استعارة كنائية عن كون جهده مبذولا فيما يتعلق به تعالى من اعتقاد وعمل ، فلا ينصرف عن الايمان به ، والائتمار باوامره والانتهاء عن نواهيه بصارف يصرفه .
وقوله «لنهدينهم سبلنا» اثبت لنفسه سبلا وهي ايا ما كانت تنتهي اليه تعالى ، فانما السبيل سبيل لتاديته الى ذي السبيل ، وهو غايتها . فسبله هي الطرق المقربة منه والهادية اليه تعالى . ومما تقدم يظهر ان لا حاجة في قوله «فينا» الى تقدير مضاف كشان ، والتقدير : في شاننا» (4) .
هذا معناه «انه بقدر ما تتطهر القلوب من الاخلاق المذمومة التي هي
(1) الميزان في تفسير القران ، ج 9 ص 56 .
(2) العنكبوت : 69 .
(3) المفردات في غريب القران ، مادة « جهد » .
(4) الميزان في تفسير القران ، ج 16 ص 151 .
التقوى في القرآن 70

الحجب المانعة عن المعارف الالهية والنفحات القدسية ، تتحاذى شطر الحق الاول ، وتتلالا فيها حقائقه ، كما اشار اليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «ان لربكم في ايام دهركم نفحات ، الا فتعرضوا لها» فان التعرض لها ، انما هو بتطهير القلوب عن الكدورات الحاصلة عن الاخلاق الردية ، فكل اقبال على طاعة ، واعراض عن سيئة ، يوجب جلاء ونورا للقلب ، يستعد به لافاضة علم يقيني .
وقال النبي ايضا : « من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم » .
فالرحمة الالهية بحكم العناية الازلية ، مبذولة على الكل ، غير مظنون بها على احد «كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا» (1) ، لكن حصولها موقوف على تصقيل مراة القلب وتصفيتها عن الخبائث الطبيعية . ومع تراكم صدئها الحاصل منها ، لا يمكن ان يتجلى فيها شيء من الحقائق . فلا تحجب الانوار العلمية ، والاسرار الربوبية عن قلب من القلوب لبخل من جهة المنعم تعالى شانه عن ذلك ، بل الاحتجاب انما هو من جهة القلب لكدورته وخبثه واشتغاله بما يضاد ذلك .
ثم ما يظهر للقلب من العلوم لطهارته وصفاء جوهره ، هو العلم الحقيقي النوراني الذي لايقبل الشك ، وله غاية الظهور والانجلاء ، لاستفادته من الانوار الالهية والالهامات الحقة الربانية ، وهو المراد بقوله (عليه السلام) : « انما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء » .
(1) الاسراء : 20 .
التقوى في القرآن 71


وبما ذكر ظهر ان العلم الذي يحصل من طرق المجادلات الكلامية والاستدلالات الفكرية ، من دون تصقيل لجوهر النفس ، لا يخلو عن الكدرة والظلمة ، ولا يستحق اسم اليقين الحقيقي ، الذي يحصل للنفوس الصافية . فما يظنه كثير من اهل التعلق بقاذورات الدنيا انهم على حقيقة اليقين في معرفة الله سبحانه ، خلاف الواقع . وانما هو اما تصديق مشوب بالشبهة ، او اعتقاد جازم لم تحصل له نورانية وجلاء وظهور وضياء ، لكدرة قلوبهم الحاصلة من خبائث الصفات » . (1)
وقد اشار الامام امير المؤمنين (عليه السلام) الى هذه الحقائق في كلماته ، حيث قال : «قد احيى عقله ، وامات نفسه ، حتى دق جليله ، ولطف غليظه ، وبرق له لامع كثير البرق ، فابان له الطريق ، وسلك به السبيل ، وتدافعته الابواب الى باب السلامة ، ودار الاقامة ، وثبتت رجلاه بطمانينة بدنه في قرار الامن والراحة ، بما استعمل قلبه وارضى ربه » (2).


«ومن يتق الله يجعل له مخرجاُ»



قال تعالى : «ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ امره قد جعل الله لكل شيء قدرا» (3) .
(1) جامع السعادات ، محمد مهدي النراقي ، ج1 ص 43 ، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات .
(2) نهج البلاغة ، من كلام له عليه السلام في وصف سالك الطريق الى الله سبحانه : رقم 220 .
(3) الطلاق : 2، 3 .
التقوى في القرآن 72

ذكرنا في ابحاث سابقة ان اهل التقوى لهم مراتب ، وانهم يختلفون في درجاتهم من حيث المعرفة والعمل الصالح ، وهذا معناه ان ولاية الله لهم ، تلائم حالهم في اخلاص الايمان والعمل ، لان الله تعالى يقول :«والله ولي المؤمنين» (1) ، ويقول :«والله ولي المتقين» (2) . وعلى هذا الاساس ، فنصيب المخلصين من اولياء الله من هذه الاية شيء ، ونصيب من هو دونهم من المؤمنين المتوسطين شيء اخر .
اما نصيب المخلصين فهو «ان من اتقى الله بحقيقة معنى تقواه «اتقوا الله حق تقاته» (3) ولا يتم ذلك الا بمعرفته تعالى باسمائه وصفاته ، ثم تورعه واتقائه بالاجتناب عن المحرمات وتحرز ترك الواجبات خالصا لوجهه الكريم «مخلصين له الدين» (4) ولازمه ان لا يريد الا ما يريده الله من فعل او ترك ، ولازمه ان يستهلك ارادته في ارادة الله ، فلا يصدر عنه فعل الا عن ارادة من الله .
ولازم ذلك ان يرى نفسه وما يترتب عليها من سمة او فعل ، ملكا طلقا لله سبحانه ، يتصرف فيها ما يشاء ، وهو ولاية الله ، يتولى امر عبده ، فلا يبقى له من الملك بحقيقة معناه شيء الا ملكه الله سبحانه ، وهو المالك لما ملكه ، والملك لله عز اسمه . وعند ذلك ينجيه الله من مضيق الوهم وسجن الشرك
(1) ال عمران : 68 .
(2) الجاثية : 19 .
(3) ال عمران : 102 .
(4) الاعراف : 29 .
التقوى في القرآن 73

بالتعلق بالاسباب الظاهرية «يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب» (1) .
اما الرزق المادي ، فانه كان يرى ذلك من عطايا سعيه ، والاسباب الظاهرية التي كان يطمئن اليها ، وماكان يعلم من الاسباب الا قليلا من كثير ، كقبس من نار ، يضيء للانسان في الليلة الظلماء موضع قدمه ، وهو غافل عما وراءه ، لكن الله سبحانه محيط بالاسباب ، وهو الناظم لها ينظمها كيف يشاء ، وياذن في تاثير ما لا علم له به من خباياها . واما الرزق المعنوي الذي هو حقيقة الرزق الذي تعيش به النفس الانسانية وتبقى ، فهو مما لم يمكن يحتسبه ، ولا يحتسب طريق وروده عليه .
وبالجملة هو سبحانه يتولى امره ، ويخرجه من مهبط الهلاك ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ولا يفقد من كماله والنعم التي كان يرجو نيلها بسعيه شيئا ، لانه توكل على الله ، وفوض الى ربه ما كان لنفسه . «ومن يتوكل على الله فهو حسبه» دون سائر الاسباب الظاهرية التي تخطئ تارة وتصيب اخرى .«ان الله بالغ امره» لان الامور محدودة محاطة له تعالى و«قد جعل الله لكل شيء قدرا» (2) فهو غير خارج عن قدره الذي قدره به .
واما نصيب من هو دونهم من المؤمنين فهو ان من يتق الله ويتورع عن محارمه ، ولم يتعد حدوده ، واحترم شريعته ، فعمل بها «يجعل له مخرجا»
(1) الطلاق : 2.
(2) الطلاق : 4 .
التقوى في القرآن 74

من مضائق مشكلات الحياة ، فان شريعته فطرية ، يهدي بها الله الانسان الى ما تستدعيه فطرته ، وتقضي به حاجته ، وتضمن سعادته في الدنيا والاخرة «ويرزقه» من الزوج والمال ، وكل ما يفتقر اليه من طيب عيشه ، وزكاة حياته «من حيث لا يحتسب» ولا يتوقع ، فلا يخف المؤمن انه اذا اتقى الله ، واحترم حدوده ، حرم طيب الحياة ، وابتلي بضنك المعيشة ، فان الرزق مضمون ، والله على ما ضمنه قادر .
«ومن يتوكل على الله» فاعتزاله عن نفسه فيما تهواه وتامر به ، وايثاره ارادة الله سبحانه على ارادة نفسه ، والعمل الذي يريده الله ، على العمل الذي تهواه وتريده نفسه ، وبعبارة اخرى تدين بدين الله وتعمل باحكامه (فهو حسبه) اي كافيه فيما يريده من طيب العيش ، ويتمنا من السعادة بفطرته ، لا بواهمته الكاذبة .
وذلك انه تعالى هو السبب الاعلى الذي تنتهي اليه الاسباب ، فاذا اراد شيئا فعله وبلغ ما اراده من غير ان تتغير ارادته ، فهو القائل : «ما يبدل القول لدي» (1) او يحول بينه وبين ما اراده مانع ، لانه القائل : «والله يحكم لا معقب لحكمه» (2).
واما الاسباب الاخر التي تشبث بها الانسان في رفع حوائجه ، فانما تملك من السببية ما ملكها الله سبحانه ، وهو المالك لما ملكها ، والقادر على
(1) ق : 29 .
(2) الرعد : 41 .
التقوى في القرآن 75

ما عليه اقدرها ، ولها من الفعل مقدار ما اذن الله فيه ، فالله كاف لمن توكل عليه لا غيره «ان الله بالغ امره» يبلغ حيث اراد ، وهو القائل «انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون» (1)، «قد جعل الله لكل شيء قدرا» فما من شيء الا له قدر مقدور ، وحد محدود، والله سبحانه لا يحده حد ولا يحيط به شيء ، وهو المحيط بكل شيء » (2) .
اذن عندما يدعو الانسان ربه ان يكون مدخله مدخل صدق ، ومخرجه مخرج صدق ، ويريد اليسر والتيسير في حياته، فالطريق الى ذلك يمر من خلال التقوى . قال تعالى :«وقل رب ادخلني مدخل صدق واخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا» (3) . وقال تعالى :«ومن يتق الله يجعل له من امره يسرا» (4) . وقال ايضا :«فاما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى» (5) . وقال : «فاما من اعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى» (6) .
اي «لا يضل في طريقه ولا يشقى في غايته التي هي عاقبة امره ، واطلاق الضلال والشقاء يقضي بنفي الضلال والشقاء عنه في الدنيا والاخرة جميعا ، وهو كذلك ، فان الهدى الالهي هو الدين الفطري الذي دعا
(1) يس : 82 .
(2) الميزان في تفسير القران ، ج 19 ص 313 .
(3) الاسراء : 80
(4) الطلاق : 4 .
(5) طه : 123 .
(6) الليل : 5 ـ 7 .
التقوى في القرآن 76

اليه بلسان انبيائه ، ودين الفطرة هو مجموع الاعتقادات والاعمال التي تدعو اليها فطرة الانسان وخلقته ، بحسب ما جهز من الجهازات » (1).
قال الامام امير المؤمنين (عليه السلام) : «ولو ان السموات والارضين كانتا على عبد رتقا (2) ، ثم اتقى الله ، لجعل الله له منهما مخرجا» (3) .
وقال ايضا : «واعلموا انه من يتق الله يجعل له مخرجا من الفتن ، ونورا من الظلم»
(4) .
وقال ايضا :«فان تقوى الله مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كل ملكة ، ونجاة من كل هلكة ، بها ينجح الطالب وينجو الهارب وتنال الرغائب» (5) .


اثر التقوى على ذرية الانسان



اشار القران الى اثار التقوى بالنسبة الى ذرية الانسان ايضا ، حيث نجد في قصة ذلك العبد الصالح مع النبي موسى (عليه السلام) ان القران يحدثنا بقوله تعالى :«فانطلقا حتى اذا اتيا اهل قرية استطعما اهلها فابوا ان
(1) الميزان ، مصدر سابق ، ج 14 ، ص 224 .
(2) الرتق : الضم والالتحام خلقة كان ام صنعة ، قال تعالى : (كانتا رتقا ففتقناهما) اي منضمتين . المفردات في غريب القران ، مادة « رتق » .
(3) نهج البلاغة ، من كلام له عليه السلام ، رقم : 130 .
(4) نهج البلاغة ، الخطبة : 183.
(5) نهج البلاغة ، الخطبة : 230 .
التقوى في القرآن 77

«يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد ان ينقض فاقامه قال لو شئت لاتخذت عليه اجرا» (1) .
فكان الجواب من العبد الصالح «واما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان ابوهما صالحا فاراد ربك ان يبلغا اشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن امري ذلك تاويل ما لم تستطع عليه صبرا» (2) . ففي الاية الكريمة دلالة واضحة على ان صلاح الاباء له اثار طيبة على سعادة الابناء .
عن اسحاق بن عمار ، قال : سمعت ابا عبدالله الصادق (عليه السلام) يقول : «ان الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده ، ويحفظه في دويرته ودويرات حوله ، فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله» ثم ذكر الغلامين ، فقال :(«وكان ابوهما صالحا» الم تر ان الله شكر صلاح ابويهما لهما) (3) .
وكذلك عن زرارة وحمران ، عن ابي جعفر الباقر وابي عبدالله الصادق (عليهما السلام) قال : «يحفظ الاطفال باعمال ابائهم ، كما حفظ الله الغلامين بصلاح ابيهما» (4).
(1) الكهف : 77 .
(2) الكهف : 82 .
(3) تفسير العياشي ، ج 2 ص 363 ، ح 63 ، نقلا عن البرهان في تفسير القران ، العلامة المحدث السيد هاشم البحراني ، ج 5 ص 60 منشورات مؤسسة الاعلمي ، بيروت ـ لبنان .
(4) المصدر السابق .
التقوى في القرآن 78


نظير هذه الاية قوله تعالى : «وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا» (1) حيث لم «تؤمر الناس بالترحم والترؤف ونحو ذلك ، بل بالخشية واتقاء الله ، وليس الا انه تهديد بحلول ما احلوا بايتام الناس ، من ابطال حقوقهم واكل مالهم ظلما ، بايتام انفسهم بعدهم ، وارتداد المصائب التي اوردوها عليهم الى ذريتهم بعدهم» (2) .
لا يقتصر الامر على الاثار الفردية للتقوى في الدنيا ، بل اشار القران الكريم الى الاثار الاجتماعية المترتبة على التقوى في هذه النشاة ، قال تعالى : «ولو ان اهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض» (3) ، اي ان اهل القرى لو امنوا واتقوا لفتح الله سبحانه بركات السماء من الامطار والثلوج والحر والبرد وغير ذلك ، كل في موقعه وبالمقدار النافع منه ، وبركات الارض من النبات والفواكه والامن وغيرها ، وهذا خير دليل على ان افتتاح ابواب البركات مسبب لايمان اهل القرى جميعا وتقواهم ، اي ان ذلك من اثار ايمان النوع الانساني وتقواه» (4) .
نظير هذه الاية قوله تعالى :«وان لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا» (5) ، «والمراد بالطريقة : طريقة الاسلام ، والاستقامة عليها : لزومها
(1) النساء : 9 .
(2) الميزان في تفسير القران ، ج 4 ص 251 .
(3) الاعراف : 96 .
(4) الميزان في تفسير القران ، ج 8 ص 201 .
(5) الجن : 16 .
التقوى في القرآن 79

والثبات عليها ، على ما تقتضيه من الايمان بالله واياته . والماء الغدق : الكثير منه .
ولا يبعد ان يستفاد من السياق ان قوله «لاسقيناهم ماء غدقا» مثل اريد به التوسعة في الرزق ، ويؤيده قوله تعالى بعد هذه الاية :«لنفتنهم فيه» (1) . فيكون معنى الاية «وانه لو استقاموا» اي الجن والانس على طريقة الاسلام لله ، لرزقناهم رزقا كثيرا لنمتعهم في رزقهم» (2).
اجل ، يبقى الكلام في معرفة كيف ان الاستقامة على طريقة الاسلام وهداه ، تكون سببا لفتح بركات السماء والارض على الانسان ، وما هي العلاقة القائمة بين الايمان والتقوى وبين الرزق الكثير الوافر ، وهذا ما نحاول الوقوف عليه ، عند عرض الاثار السلبية للفجور في هذه النشاة ، حيث سيتبين ان من الحقائق الناصعة التي اكدها القران الكريم ، ان اساس نزول النعم والنقم على الانسان ، انما تدور مدار تقواه وفجوره .
(1) طه: 131 .
(2) الميزان ، مصدر سابق ، ج 20 ص 46 .
التقوى في القرآن 80



التقوى في القرآن 81

التبعات السلبية للفجور في الدنيا


عندما ننتقل الى البعد الاخر ، نجد القران الكريم يؤكد بوضوح ايضا الاثار الدنيوية المترتبة على الفجور والانحراف عن الصراط المستقيم ، قال تعالى :«واما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى» (1) ، حيث دلت الاية ان المكذب وغير المتقي ، يجد صعوبة وضنكا وعدم تيسير في حياته ، ولكنه لا يعرف سبب ذلك .
من هنا قالت الايات الكريمة : «ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى * قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك اتتك اياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نجزي من اسرف ولم يؤمن بايات ربه ولعذاب الاخرة اشد وابقى» (2) .
قال الراغب في المفردات : «العيش : الحياة المختصة بالحيوان ، وهو
(1) الليل : 8 ـ 10 .
(2) طه : 124 ـ 127 .
التقوى في القرآن 82

اخص من الحياة ، لان الحياة تقال في الحيوان وفي الباري وفي الملك ويشتق منه المعيشة لما يتعيش منه ، قال تعالى : «نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا » (1)«وجعلنا لكم فيها معايش» (2) وقال في اهل الجنة :«فهو في عيشة راضية» (3) وقال (عليه السلام) : «لا عيش الا عيش الاخرة» (4) .
«والضنك هو الضيق من كل شيء ، ويستوي فيه المذكر والمؤنث ، يقال : مكان ضنك ، ومعيشة ضنك ، وهو في الاصل مصدر ، ضنك يضنك من باب شرف يشرف ، اي ضاق .
وقوله تعالى :«ومن اعرض عن ذكري» (5) يقابل قوله في الاية السابقة «فمن اتبع هداي» (6) وكان مقتضى المقابلة ان يقال «ومن لم يتبع هداي» وانما عدل عنه الى ذكر الاعراض عن الذكر ، ليشير به الى علة الحكم ، لان نسيانه تعالى والاعراض عن ذكره ، هو السبب لضنك العيش والعمى يوم القيامة ، وليكون توطئة وتمهيدا لما سيذكر من نسيانه تعالى يوم القيامة من نسيه في الدنيا . والمراد بذكره (تعالى) : الدعوة الحقة . وتسميتها ذكرا ، لان لازم اتباعها والاخذ بها ذكره تعالى .
(1) الزخرف : 32 .
(2) الاعراف : 10 .
(3) الحاقة : 12 .
(4) المفردات ، مادة « عيش »
. (5) طه : 124 .
(6) طه : 123 .
التقوى في القرآن 83


«وقوله فان له معيشة ضنكا» اي ضيقة ، وذلك ان من نسى ربه ، وانقطع عن ذكره ، لم يبق له الا ان يتعلق بالدنيا ، ويجعلها مطلوبة الوحيد الذي يسعى له ويهتم باصلاح معيشته والتوسع فيها والتمتع بها ، والمعيشة التي اوتيها في الدنيا ، لا تسعه سواء كانت قليلة او كثيرة ، لانه كلما حصل منها واقتفاها ، لم ترض نفسه بها ونزعت الى ما هو ازيد واوسع من غير ان تقف منها على حد ، فهو دائما في ضيق صدر وحنق مما وجد ، متعلق القلب بما وراءه مع ما يهجم عليه من الهم والغم والحزن والقلق والاضطراب ، والخوف بنزول النوازل وعروض العوارض من موت ومرض وعاهة وحسد حاسد وكيد كائد وخيبة سعي وفراق حبيب .
ولو انه عرف مقام ربه ، ذاكرا غير ناس ، ايقن ان له حياة عند ربه ، لا يخالطها موت ، وملكا لا يعتريه زوال ، وعزة لا يشوبها ذله ، وفرحا وسرورا ورفعة وكرامة لا تقدر بقدر ولا تنتهي الى امد ، وان الدنيا دار مجاز ، وما حياتها في الاخرة الا متاع «وما الحياة الدنيا في الاخرة الا متاع» (1) ، فلو عرف ذلك قنعت نفسه بما قدر له من الدنيا ، ووسعه ما اوتيه من المعيشة من غير ضيق وضنك» (2) ، قال تعالى : «الذين امنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب» (3) ، حيث نبهت الاية المباركة ان الانسان لا مفر له الا بالتوجه اليه تعالى ، لان ذكره هو الذي يريح
(1) الرعد : 26 .
(2) الميزان في تفسير القران ، ج 14 ص 224 .
(3) الرعد : 28 .
التقوى في القرآن 84

القلب ، وينجيه من القلق والاضطراب ، لان الانسان لا هم له في حياته الدنيا الا الفوز بالسعادة والنعمة ، ولا خوف له الا ان تحيط به النقمة والشقاء .
«والله سبحانه هو السبب الوحيد الذي بيده زمام الخير واليه يرجع الامر كله ، وهو القاهر فوق عبادة ، والفعال لما يريد ، وهو ولي عباده المؤمنين به ، اللاجئين اليه ، فذكره للنفس الاسيرة بيد الحوادث ، الطالبة لركن شديد يضمن له السعادة ، المتحيرة في امرها وهي لا تعلم اين تريد ولا انى يراد بها .
فكل قلب ـ على ما يفيده الجمع المحلى باللام من العموم ـ يظمئن بذكر الله ، ويسكن به ما فيه من القلق والاضطراب ، نعم انما ذلك في القلب الذي يستحق ان يسمى قلبا ، وهو القلب الباقي على بصيرته ورشده ، واما المنحرف عن اصله ، الذي لا يبصر ولا يفقه ، فهو مصروف عن الذكر ، محروم عن الطمانينة والسكون ، قال تعالى : «فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور» (1).
وقال : «لهم قلوب لا يفقهون بها» (2)، وقال : «نسوا الله فنسيهم» (3) .
وفي لفظ الاية ما يدل على الحصر ، حيث قدم متعلق الفعل ، اعني قوله :«بذكر الله» على الفعل ، فيفيد ان القلوب لا تطمئن بشيء غير ذكر الله
(1) الحج : 46 .
(2) الاعراف : 179 .
(3) التوبة : 67 .
التقوى في القرآن 85

سبحانه ، لانه تعالى هو الغالب غير المغلوب الغني ذو الرحمة ، فبذكره سبحانه وحده تطمئن القلوب» (1) .

التبعات الوجودية


ولا تقتصر الايات القرانية على بيان التبعات السلبية للفجور في الحياة الفردية للانسان ، بل تتجاوزها الى ماهو اعمق غورا واوسع اثرا ، حيث تثبت ان هناك رابطة مباشرة بين فجور الانسان وافساده في الارض ، وبين ظهور الكوارث والامراض ونحوهما .
ومعنى ذلك : «ان الحوادث الكونية تتبع الاعمال الانسانية بعض التبعية ، فاذا جرى النوع الانساني على طاعة الله سبحانه وسلك الطريق الذي يرتضيه ، فانه يستتبع نزول الخيرات وانفتاح ابواب البركات ، اما اذا انحرف عن صراط العبودية ، وتمادى في الغي والضلال ، وفساد النيات ، وشناعة الاعمال ، فان ذلك يوجب ظهور الفساد في البر والبحر ، وهلاك الامم بانتشار الظلم وارتفاع الامن وبروز الحروب وسائر الشرور الراجعة الى الانسان واعماله ، وكذا تظهر المصائب والحوادث الكونية المبيدة ، كالسيل والزلزلة والصاعقة والطوفان وغير ذلك ، وقد عد الله سبحانه سيل العرم وطوفان نوح وصاعقة ثمود وصرصر عاد من هذا القبيل» (2) .
(1) الميزان ، مصدر سابق ، ج 11 ص 355 .
(2) الميزان في تفسير القران ، ج 2 ص 181 بتصرف .
التقوى في القرآن 86

قال تعالى :«لقد كان لسبأ في مسكنهم اية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فاعرضوا فارسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي اكل خمط واثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي الا الكفور» (1) .
وقال في قوم نوح (عليه السلام) : «مما خطيئاتهم اغرقوا فادخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله انصارا» (2) .
وقال تعالى :«واما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فاخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون» (3) . وموارد اخرى اشار اليها القران الكريم .
ربما كانت اشمل اية دلت على هذه الحقيقة القرانية ، هي قوله تعالى :«ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس» (4) «وهي بظاهر لفظها عامة ، ولا تختص بزمان دون زمان ، او بمكان او بواقعة خاصة ، فالمراد بالبر والبحر معناهما المعروف ، ويستوعبان سطح الكرة الارضية ، والمراد بالفساد الظاهر : المصائب والبلايا الظاهرة فيهما ، الشاملة لمنطقة من مناطق الارض ، من الزلازل وقطع الامطار والسنين والامراض السارية
(1) سبا : 15 ـ 17 .
(2) نوح : 25 .
(3) فصلت : 17 .
(4) الروم : 41 .
التقوى في القرآن 87

والحروب والغارات وارتفاع الامن ، وبالجملة كل ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الارضي ، سواء كان مستندا الى اختيار بعض الناس ، او غير مستند اليه ، فكل ذلك فساد ظاهر في البر او البحر مخل بطيب العيش الانساني . وقوله :«بما كسبت ايدي الناس» اي بسبب اعمالهم التي يعملونها من شرك او معصية» (1) .
وهذا المعنى اشير اليه في اية اخرى ، قال تعالى : «وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايدكم ويعفو عن كثير» (2) ، «والخطاب في الاية اجتماعي موجة الى المجتمع ، غير منحل الى خطابات جزيئة ، ولازمة كون المراد بالمصيبة التي تصيبهم ، المصائب العامة الشاملة كالقحط والغلاء والوباء والزلازل وغير ذلك ، فيكون المراد ان المصائب والنوائب التي تصيب مجتمعكم ، انما تصيبكم بسبب معاصيكم .
والحاصل ان الخطاب في الاية لعامة الناس من المؤمن والكافر ، وهو الذي يفيده السياق وتؤيده الاية التالية ، هذا اولا . والمراد بما كسبته الايدي : المعاصي والسيئات دون مطلق الاعمال ، وهذا ثانيا . والمصائب التي تصيب انما هي اثار الاعمال في الدنيا ؛ لما بين الاعمال ، وبينها من الارتباط والتداعي ، دون جزاء الاعمال (الاخروي) وهذا ثالثا» (3) .
فاذا انغمر المجتمع في الرذائل والسيئات ، وخرج عن الطريق الذي
(1) الميزان ، مصدر سابق ، ج 16 ص 195 .
(2) الشورى : 30 .
(3) الميزان ، مصدر سابق ، ج 18 ص 59 .
التقوى في القرآن 88

اودعه الله في فطرته «فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخق الله» (1) اذاقه الله وبل امره ، وادى ذلك الى اهلاكه وابادته ، قال تعالى :«اولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم اشد منهم قوة واثارا في الارض فاخذهم الله بذنوبهم وما كان له من الله من واق» (2) .
وقال تعالى :«واذا اردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا» (3) . وقال ايضا : «ثم ارسلنا رسلنا تترى كلما جاء امة رسولها كذبوه فاتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم احاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون» (4).
وهذه من السنن الالهية التي اكدها القران في مواضع كثيرة ، وبين انها لا تقبل التبديل والتحويل ، قال تعالى :«واقسموا بالله جهد ايمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن اهدى من احدى الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم الا نفورا * استكبارا في الارض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ الا باهله فهل ينظرون الا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا» (5) .
(1) الروم : 30 .
(2) المؤمن : 21 .
(3) الاسراء : 16 .
(4) المؤمنون : 44 .
(5) فاطر : 42 ـ 43 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي