التقوى في القرآن 49

مراتب التقوى


من الحقائق التي اشار اليها القران الكريم ، ان التقوى لها مراتب متعددة ، قال تعالى : «اتقوا الله حق تقاته» (1) .
وذلك معناه ان للتقوى مرتبة هي حق التقوى ، وان هناك مراتب دون هذه المرتبة ، قال في الميزان : « اذا اخذ التقوى حق التقوى ، كان محض العبودية التي لا تشوبها انية وغفلة ، وهي الطاعة من غير معصية ، والشكر من غير كفر ، والذكر من غير نسيان . وهذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالى : «فاتقوا الله ما استطعتم» (2) .
فان هذه الاية تعني ان لا تذروا التقوى في شيء مما تستطيعونه . غير ان الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الاشخاص وافهامهم وهممهم . ولا ريب ان حق التقوى بالمعنى الذي ذكرناه ، ليس في وسع كثير من الناس ،
(1) ال عمران : 102 .
(2) التغابن : 16 .
التقوى في القرآن 50

فان في هذا المسير الباطني مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها الا العالمون ، ودقائق ولطائف لا يتنبه لها الا المخلصون . فرب مرحلة من مراحل التقوى لا يصدق الفهم العامي بكونها مما تستطيعه النفس الانسانية ، فيجزم بكونها غير مستطاعة ، وان كان اهل التقوى الحقة خلفوها وراء ظهورهم ، واقبلوا بهممهم على ما هو اشق واصعب .
فمحصل الايتين «اتقوا الله حق تقاته» و«فاتقوا الله ما استطعتم» ان يندب جميع الناس ويدعوا الى حق التقوى ، ثم يؤمروا بالسير الى هذا المقصد ما قدروا واستطاعوا . وينتج ذلك ان يقع الجميع في صراط التقوى الا انهم في مراحل مختلفة ، وعلى درجات متفاوته ، على طبق ما عندهم من الافهام والهمم ، وعلى ما يفاض عليهم من توفيق الله وتاييده وتسديده ، فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الايتين ، حيث تدعو الاولى الى المقصد والثانية تبين كيفية السلوك » (1).
مما تقدم يتضح ان التقوى ليست مقاما دينيا خاصا ، بل هي حالة روحية تجامع جميع المقامات المعنوية ، اي ان لكل مقام معنوي تقوى خاصة تختص به . وقد اشار القران الكريم الى بعض مراتب عبادة ، وذكر لكل مرتبة نوعا من العلم والمعرفة والعمل ، لا يوجد في المرتبة الاخرى . فمثلا ذكر الموقنين وخص بهم مشاهدة ملكوت السموات والارض ، حيث قال :«وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من
(1) الميزان في تفسير القران ، ج 3 ص 367 . بتصرف .
التقوى في القرآن 51

الموقنين»
(1).
وذكر المنيبين وخص بهم التذكر ، قال تعالى : «وما يتذكر الا من ينيب» (2) .
وذكر العالمين ، وخص بهم انهم يعقلون الامثال القرانية ، قال تعالى :«وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون» (3) وكانهم هم اولو الالباب والمتدبرون ، لقوله تعالى :«افلا يتدبرون القران ام على قلوب اقفالها» (4).
وأشار الى المطهرين ، وخص بهم العلم بتاويل القران وباطنه ، قال تعالى :«انه لقران كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه الا المطهرون» (5) .
وذكر الاولياء وهم اهل الوله والمحبة لله ، وخص بهم انهم لا يلتفتون الى شيء الا الله سبحانه ، ولذلك لا يخافون شيئا ولا يحزنون لشيء ، قال تعالى : «الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (6) .
وهكذا بالنسبة الى المقربين والمخبتين والصديقين والصالحين والمؤمنين ، حيث اشار الى خواصهم ومراتبهم .
لذا قال امام المتقين علي امير المؤمنين (عليه السلام) بعد ان ذكر «ان
(1) الانعام : 75 .
(2) غافر : 13 .
(3) العنكبوت : 43 .
(4) محمد : 4 .
(5) الواقعة : 79 .
(6) يونس : 62 .
التقوى في القرآن 52

لكل ماموم اماما يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، الا وان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه» قال : «الا وانكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن اعينوني بورع واجتهاد ، وعفة وسداد» (1) .
وقد اشار بعض اهل المعرفة الى ان للتقوى عشر مراتب :
الاولى : الاجتناب عن محارم الله تعالى ، والقيام بما اوجبه عليهم من التكاليف الشرعية .
الثانية : الاجتناب المذكور مضافا الى المحللات الشرعية الا بقدر الضرورة . وهذا ما اشار اليه سيد العارفين علي امير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال : «ولو شئت لا هتديت الطريق الى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات ان يغلبني هواي ، ويقودني جشعي الى تخير الاطعمة ، ولعل بالحجاز او اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ، او ابيت مبطانا وحولي بطون غرثى ، واكباد حرى ، او اكون كما قال القائل :
وحسبك داء ان تبيت ببطنة وحولك اكباد تحن الى القد

ااقنع من نفسي بان يقال امير المؤمنين، ولا اشاركهم في مكاره الدهر ، او اكون اسوة لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني اكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها ...» (2).
(1) نهج البلاغة ، الكتاب رقم : 45 .
(2) المصدر السابق .
التقوى في القرآن 53


الثالثة : عن الرياء مع الاخلاص .
الرابعة: عن الكثرة مع الوحدة .
الخامسة : عن التفرقة مع الجمعة .
السادسة : عن الشك مع اليقين .
السابعة : عن الشرك مع التوحيد .
الثامنة : عن الوقوف مع ظواهر القران دون بواطنه .
التاسعة : عن رؤية النفس مع مشاهدة الرب .
العاشرة : عن مشاهدات الوجودات المقيدة مع الوجود المطلق ، اعني عن مشاهدة وجود الخلق مع وجود الحق» (1) .
هذه المراتب العشر ، ترتبط بمقامات السلوك العشرة التي هي : البدايات ، والابواب ، والمعاملات ، والاخلاق ، والاصول ، والاودية ، والاحوال ، والولايات ، والحقائق ، والنهايات. وتفصيل الحديث عن هذه المراتب وتلك المقامات موكول الى دراسة اخرى اعمق واكثر تفصيلا ، ان شاء الله تعالى .

طبقات الناس


لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله ، فاننا اذا نظرنا نظر التدبر الى خصوصيات الشريعة الاسلامية ، بل جميع الملل الالهية ، وجدنا ان
(1) تفسير المحيط الاعظم والبحر الخضم : السيد حيدر الاملي ، ج1 ص 283 ، حققه وقدم له وعلق عليه : السيد محسن الموسوي التبريزي .
التقوى في القرآن 54

المقصود فيها ، هو صرف وجه الانسان الى ما وراء هذه النشاة الطبيعية والمادية . والناس من حيث درجات الانقطاع الى الله سبحانه وتعالى ، والاعراض عن هذه النشاة الدنيوية ، على ثلاث طبقات :
«الطبقة الاولى : انسان تام الاستعداد ، يمكنه الانقطاع قلبا عن هذه النشاة ، مع تمام الايقان باللازم من المعارف الالهية ، والتخلص الى الحق سبحانه وهذا هو الذي يمكنه شهود ما وراء هذه النشاة المادية ، والاشراف على الانواع الالهية ، كالانبياء عليهم السلام» (1).
وهؤلاء هم الذين عبر عنهم القران الكريم بقوله تعالى :
«كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عن اليقين» (2) . والظاهر ان المراد رؤيتها قبل يوم القيامة ، رؤية البصيرة ، وهي رؤية القلب ، على ما يشير اليه قوله تعالى :«وكذلك نري ابرهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين» (3) . وهذه هي طبقة المقربين .
« الطبقة الثانية : انسان تام الايقان ،غير تام الانقطاع من جهة ورود هيئات نفسانية واذعانات قاصرة ، تؤيسه ان يذعن بامكان التخلص الى ما وراء هذه النشاة المادية ، وهو فيها . فهذه طبقة تعبد الله كانها تراه ، فهي تعبد عن صدق من غير لعب ، لكن من وراء حجاب ايمان بالغيب ، وهم
(1) رسالة الولاية ، العلامة الطباطبائي ، ص 17 .
(2) التكاثر : 5ـ 7 .
(3) الانعام : 75 .
التقوى في القرآن 55

المحسنون في عملهم . وقد سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الاحسان ، فقال : «ان تعبد الله كانك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك» (1) .
والفرق بين هذه الطبقة وسابقتها ، فرق ما بين «ان» و «كان» . وهذا مقام الخلص من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) . عن اسحاق بن عمار ، قال : سمعت ابا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول : ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلى بالناس الصبح ، فنظر الى شاب في المسجد وهو يخفق براسه (2) مصفرا لونه ، قد نحف جسمه وغارت عيناه في راسه .
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : كيف اصبحت يا فلان ؟
قال : اصبحت يا رسول الله مؤمنا موقنا .
فعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قوله (فقد اخبر بشيء نادر الوقوع) وقال : ان لكل يقين حقيقة فما هي حقيقة يقينك ؟
فقال : ان يقيني يا رسول الله هو الذي احزنني واسهر ليلي واظما هواجري ، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها ، حتى كاني انظر الى عرش ربي وقد نصب للحساب ، وحشر الخلائق لذلك ، وانا فيهم ، وكاني انظر الى اهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون ، وعلى الارائك متكئون ، وكاني انظر الى اهل النار ، وهم فيها معذبون مصطرخون ، وكاني الان اسمع زفير النار ، يدور في مسامعي .
(1) رسالة الولاية ، ص 18 .
(2) يقال خفق راسه اذا اخذته سنة من النعاس ، فمال راسه دون سائر جسده .
التقوى في القرآن 56


فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لاصحابه ، هذا عبد نور الله قلبه بالايمان ، ثم قال له : الزم ما انت عليه .
فقال الشاب : ادع الله لي يا رسول الله ان ارزق الشهادة معك . فدعا له رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يلبث ان خرج في بعض غزوات النبي (صلى الله عليه وآله) فاستشهد بعد تسعة نفر ، وكان هو العاشر» (1) .
وهذه الطبقة هم الذي وصفهم امير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته المعروفة بخطبه همام ، حيث قال : «فالمتقون فيها هم اهل الفضائل ، منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع ، غضوا ابصارهم عما حرم الله عليهم ، ووقفوا اسماعهم على العلم النافع لهم ، نزلت انفسهم منهم في البلاء ، كالتي نزلت في الرخاء . ولولا الاجل الذي كتب الله عليهم ، لم تستقر ارواحهم في اجسادهم طرفة عين ، شوقا الى الثواب وخوفا من العقاب . عظم الخالق في انفسهم فصغر ما دونه في اعينهم ، فهم والجنة كمن قد راها فهم فيها منعمون ، وهم والنار كمن قد راها ، فهم فيها معذبون .
قلوبهم محزونة ، وشرورهم مامونة ، واجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة ، وانفسهم عفيفة . صبروا اياما قصيرة ، اعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة ، يسرها لهم ربهم ، ارادتهم الدنيا فلم يريدوها ، واسرتهم ففدوا انفسهم منها .
(1) الاصول من الكافي : كتاب الايمان والكفر ، ج 2 ص 53 ، ح2 .
التقوى في القرآن 57


اما الليل فصافون اقدامهم ، تالين لاجزاء القران يرتلونها ترتيلا ، يحزنون به انفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم» (1) .
« الطبقة الثالثة :غير اهل الطبقتين الاوليين من سائر الناس وعامتهم . وهذه الطائفة باستثناء المعاند والمكابر والجاحد ، طائفة يمكنها الاعتقاد بالعقائد الحقة الراجعة الى المبدا والمعاد ، والجريان عملا على طبقها في الجملة لا بالجملة . وذلك من جهة الاخلاد الى الارض واتباع الهوى وحب الدنيا ، فان حب الدنيا وزخارفها يوجب الاشتغال بها ، وكونها هي المقصودة من حركات الانسان وسكناته . وذلك يوجب انصراف النفس اليها ، وقصر الهمة عليها ، والغفلة عما وراءها ، وعما توجبه الاعتقادات الحقة من الاحوال والاعمال ، وذلك يوجب ركودها ووقوفها ـ اعني الاعتقادات الحقة ـ على حالها ، من غير تاثير لها وفعلية للوازمها ، وجمود الاعمال والمجاهدات البدنية على ظاهر نفسها واجسادها ، من غير سريان احوالها واحكامها الى القلب ، وفعلية لوازمها ، وهذا من الوضوح بمكان .
مثال ذلك : اننا لو حضرنا عند ملك من الملوك ، وجدنا من تغير حالنا وسراية ذلك الى اعمالنا البدنية ، من حضور القلب والخشوع والخضوع ما لا نجده في الصلاة البتة ، وقد حضرنا فيها عند رب العالمين . ولو اشرف على شخصنا ملك من الملوك ، وجدنا ما لا نجده في انفسنا ، ونحن نعتقد ان الله سبحانه يرى ويسمع ، وانه اقر الينا من حبل الوريد ، ونعتمد على
(1) نهج البلاغة ، الخطبة : 193 .
التقوى في القرآن 58

الاسباب العادية التي تخطئ وتصيب ، اعتمادا لا نجد شيئا منه في انفسنا ، ونحن نعتقد ان الامر بيد الله سبحانه ، يفعل ما يشاء ويحكم مايريد . ونركن الى وعد انسان او عمل سبب ، ما لا نركن جزئا من الف جزء منه الى مواعيد الله سبحانه ، فيما بعد الموت والحشر والنشر ، وامثال هذه التناقضات لا تحصى في اعتقاداتنا واعمالنا ، وكل ذلك من جهة الركون الى الدنيا .
وهذه الطائفة لا يمكنها الانقطاع الى الله سبحانه ، ازيد من الاعتقادات الحقة الاجمالية ، ونفس اجساد الاعمال البدنية التي توجب توجها ما وقصدا ما في الجملة الى المبدا سبحانه في العبادات .
ومن هنا يتبين ان تربية الطبقات الثلاثة ، ليس على حد سواء ، بل هناك امور مشتركة ومختصة ، فالمشتركة هي الاحكام النظرية والعملية العامة ، التي لا يمكن اهمالها بالنسبة الى طبقة من الطبقات ، من الواجبات والمحرمات . اما المختصة ، فهي التي توجد في الاولى مثلا ، ولا توجد في الثالثة ، فرب مباح او مستحب او مكروه بالنسبة الى الثالثة ، هو واجب او محرم بالنسبة الى الاولى ، فحسنات الابرار سيئات المقربين . من هنا فان هذه الطبقة تختص بامور واحكام غير موجودة في الثانية والثالثة ، ولا غير هذه الطبقة تكاد تفهم شيئا من تلك المختصات ولا تهتدي الى طريق تعليمها . وذلك كله لمكان ميز طبقتهم واساسها المحبة الالهية دون محبةالنفس ، فالفرق بينها وبين الاخرين في نحو العلم والادراك ، دون قوته وضعفه وتاثيره وعدمه» (1) .
(1) رسالة الولاية ، ص 18 .
التقوى في القرآن 59

اثار التقوى في الدنيا


يعتقد بعض الناس ان اثر التقوى انما يظهر في الحياة الاخرة فحسب ، ولا يشمل الحياة الدنيا ، فمن اطاع الله سبحانه وانتهى عن معاصيه ، فسوف يثاب في الاخرة ، جنات تجري من تحتها الانهار ، ومن لم يتق الله ، وتجاوز حدوده في هذه النشاة ، فانه سيعاقب في النشاة الاخرى ، بنار احاط بهم سرادقها ، والا فلا فرق في هذا النشاة بين المتقين والفجار .
لكن هذه النظرة للتقوى تخالف بوضوح ما يطرحه القران الكريم ؛ ذلك ان القران لم يخصص اثر التقوى على الانسان في النشاة الاخرة ، ومن حيث الثواب والعقاب الاخروي فقط بل عمم اثرها لكلتا النشاتين، وفي الذكر الحكيم ايات كثيرة تشير الى ان المتقين والفجار ليسوا سواء ، كقوله تعالى :«ام نجعل الذين امنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض ام نجعل المتقين كالفجار» (1) . وقوله تعالى :«ام حسب الذين اجترحوا
(1) ص : 28 .
التقوى في القرآن 60

السيئات ان نجعلهم كالذين امنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون»
(1) ، حيث نجد ان الاية تستنكر حسبان وظن الذين يكتسبون السيئات ، ان يكونوا مثل الذي امنوا وعملوا الصالحات ، سواء في محياهم ومماتهم ، اي تكون حياة هؤلاء كحياة اولئك ، وموتهم كموتهم ، فيكون الايمان والعمل الصالح لغوا لا اثر له في حياة ولا موت ، ويستوي وجوده وعدمه ، لذا قالت الاية «ساء ما يحكمون» ردا لحسبانهم المذكور وحكمهم بالمماثلة بين مجترحي السيئات ، والذين امنوا وعملوا الصالحات . فالفريقان لا يتساويان في الحياة ولا في الممات .
اما انهما لا يتساويان في الحياة ، فلان الذين امنوا وعملوا الصالحات ، في سلوكهم مسلك الحياة ، على بصيرة من امرهم ، وهدى ورحمة من ربهم ، كما ذكره الله سبحانه في قوله تعالى : «هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون» (2) ، والمسيء صفر الكف من ذلك ، حيث قال تعالى :«ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا» (3) .
واما انهما لا يتساويان في الممات ، فلان الموت ، كما تنطق به البراهين الساطعة ليس انعداما للشيء ، وبطلانا للنفس الانسانية ، كما يحسبه المبطلون، بل هو رجوع الى الله سبحانه ، وانتقال من نشاة الدنيا الى نشاة الاخرة ، التي هي دار البقاء وعالم الخلود ، يعيش فيها المؤمن الصالح في
(1) الجاثية : 21 .
(2) الجاثية : 20 .
(3) طه : 124 .
التقوى في القرآن 61

سعادة ونعمة ، وغيره في شقاء وعذاب .
وقد اشار القران الكريم الى جملة من الاثار الاساسية التي تترتب على التقوى في الحياة الدنيا ، نقف على بعضها اجمالا :

الحياة الطيبة


قال تعالى :«من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون» (1) . فحياة المؤمن ليست حياة طيبة في الدار الاخرة فحسب ، بل هي كذلك في هذه النشاة ايضا . قال الطباطبائي في ظل هذه الاية : «الاحياء : القاء الحياة في الشيء وافاضتها عليه ، فالجملة بلفظها دالة على ان الله سبحانه يكرم المؤمن الذي يعمل صالحا بحياة جديدة ، غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة ، فالاية نظيرة قوله :«اومن كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس» (2) ، فان المراد بهذا النور ، العلم الذي يهتدي به الانسان الى الحق في الاعقتاد والعمل .
وكما ان له من العلم والادراك ما ليس لغيره ، كذلك له من موهبة القدرة على احياء الحق واماطة الباطل ما ليس لغيره ، وقد قال سبحانه :«وكان حقا علينا نصر المؤمنين» (3) .
(1) النحل : 97 .
(2) الانعام : 122 .
(3) الروم : 47 .
التقوى في القرآن 62


وهذا العلم والقدرة الحاصلان له بالتقوى ، يمهدان له ان يرى الاشياء على ماهي عليها ، فيقسمها الى قسمين : حق باق وباطل فان ، فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذي هو الحياة الدنيا ، بزخارفها الغارة الفتانة ، ويعتز بعزة الله ، فلا يستذله الشيطان بوساوسه ، ولا النفس باهوائها وهوساتها ، ولا الدنيا بزهرتها ، لما يشاهد من بطلان امتعتها وفناء نعمتها .
ويتعلق قلبه بربه الذي هو يحق كل حق بكلماته ، فلا يريد الا وجهه ، ولا يحب الا قربه ، ولا يخاف الاسخطه وبعده ، يرى لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلدة ، لا يدبر امرها الا ربه الغفور الودود ، ولا يواجهها في طول مسيرها الا الحسن الجميل ، فقد احسن كل شيء خلقه ، ولا قبيح الا ما قبحه الله من معصيته .
فهذه اثار حيوية لا تترتب الا على حياة حقيقية غير مجازية ، وقد رتبها الله سبحانه على هذه الحياة التي يذكرها ويخصها بالذين امنوا وعملوا الصالحات ، فهي حياة حقيقية جديدة ، يفيضها الله سبحانه عليهم . وليست هذه الحقيق الجديدة المختصة ، بمنفصلة عن الحياة القديمة المشتركة ، وان كانت غيرها ، فانما الاختلاف بالمراتب لا بالعدد ، فلا يتعدد بها الانسان ، كما ان الروح القدسية التي يذكرها الله سبحانه للانبياء ، لا توجب لهم الا ارتفاع الدرجة ، دون تعدد الشخصية» (1) .
وهذه هي الروح التي اشارة اليها اية سورة المجادلة حيث قال
(1) الميزان في تفسير القران ، ج 12 ص 341 .
التقوى في القرآن 63

تعالى :«اولئك كتب في قولبهم الايمان وايدهم بروح منه» (1) ، ومن الواضح ان ظاهر هذه الاية يفيد ان للمؤمنين وراء الروح البشرية التي يشترك فيها المؤمن والكافر ، روحا اخرى تفيض عليهم حياة اخرى ، تصاحبها قدرة وعلم ، لا يوجدان عند غير المؤمن .
هذه الحقيقة اكدتها جملة من الروايات الواردة عن ائمة اهل البيت (عليهم السلام) . عن ابي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال : في الانبياء والاوصياء خمسة ارواح : روح البدن ، وروح القدس ، وروح القوة ، وروح الشهوة ، وروح الايمان . وفي المؤمنين اربعة ؛ افقدها روح القدس : روح البدن، وروح القوة ، وروح الشهوة ، وروح الايمان . وفي الكفار ثلاثة ارواح : روح البدن ، وروح القوة ، وروح الشهوة .
ثم قال (عليه السلام) : روح الايمان يلازم الجسد ، ما لم يعمل بكبيرة ، فاذا عمل بكبيرة فارقه الروح ، وروح القدس من سكن فيه ، فانه لا يعمل بكبيرة ابدا (2) .
وفي رواية اخرى عن الامام ابي الحسن الرضا (عليه السلام) قال : « ان الله تبارك وتعالى ايد المؤمن بروح منه ، تحضره في كل وقت يحسن فيه ويتقي ، وتغيب عنه في كل وقت يذنب فيه ويعتدي ، فهي معه تهتز سرورا عند احسانه ، وتسيخ في الثرى عند اساءته ، فتعاهدوا عباد الله نعمه
(1) المجادلة : 22 .
(2) بحار الانوار ، ج 25 ص 53 ، الحديث : 14 .
التقوى في القرآن 64


باصلاحكم انفسكم ، تزدادوا يقينا وتربحوا نفيسا ثمينا ، رحم الله امرءا هم بخير فعمله ، او هم بشر فارتدع عنه» (1).
وقد بينت الروايات دور كل واحدة من هذه الارواح ، حيث ورد عن المفضل بن عمر ، عن ابي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال : سالته عن علم الامام بما فيه اقطار الارض ، وهو في بيته مرخى عليه ستره .
فقال (عليه السلام) : يا مفضل ان الله تبارك وتعالى ، جعل في النبي (صلى الله عليه وآله) خمسة ارواح ، روح الحياة ، فبه دب ودرج ، وروح القوة ، فبه نهض وجاهد ، وروح الشهوة ، فبه اكل وشرب واتى النساء من الحلال ، وروح الايمان ، فبه امن وعدل ، وروح القدس ، فبه حمل النبوة ، فاذا قبض النبي (صلى الله عليه وآله) انتقل روح القدس فصار الى الامام ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو ، والاربعة الارواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو ، وروح القدس كان يرى به (2) .
وهذه الروح التي يؤيد بها المؤمن ، لها عينان واذنان ، كما نسب الى النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) : «ما من قلب الا وله عينان واذنان ، فاذا اراد الله بعبد خيرا فتح عينيه اللتين للقلب ليشاهد بهما الملكوت» (3) .
(1) الاصول من الكافي ، ج 2 ص 268 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الروح الذي ايد به المؤمن ، الحديث : 1.
(2) الاصول من الكافي ، ج 1 ص 272 ، كتاب الحجة ، باب فيه ذكر الارواح التي في الائمة (عليهم السلام) الحديث : 3 .
(3) تفسير المحيط الاعظم والبحر الخضم ، السيد حيدر الاملي ، ج1 ص 272 .
التقوى في القرآن 65


وورد عنه ايضا : «لولا ان الشياطين يحومون على قلوب بني ادم لنظروا الى الملكوت» (1).
وهذا المعنى هو الذي ورد في مسند احمد بن حنبل ، باسناده عن ابي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ليلة اسري بي .. فلما نزلت الى السماء الدنيا ، نظرت اسفل مني ، فاذا انا برهج ودخان واصوات .
فقلت : ما هذا يا جبرائيل ؟
قال : هذه الشياطين يحومون على اعين بني ادم ، ان لا يتفكروا في ملكوت السموات والارض ، ولولا ذلك لراوا العجائب (2) .

ويقرب منه ماجاء عن سلام بن المستنير قال : كنت عند ابي جعفر الباقر (عليه السلام) فدخل عليه حمران بن اعين ، وسالة عن اشياء ، فلما هم حمران بالقيام ، قال لابي جعفر (عليه السلام) : اخبرك اطال الله بقاءك وامتعنا بك ، انا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا وتسلوا انفسنا عن الدنيا ، ويهون علينا ما في ايدي الناس من هذه الاموال . ثم نخرج من عندك فاذا صرنا مع الناس والتجار ، احببنا الدنيا .
قال : فقال ابو جعفر (عليه السلام) : انما هي القلوب ، مرة تصعب ومرة تسهل .
(1) احياء علوم الدين ، الغزالي ، ج 1 ص 232 ، كتاب اسرار الصوم ؛ بحار الانوار ، المجلسي ، ج 70 ص 59 .
(2) تفسير المحيط الاعظم والبحر الخضم ، ج1 ص 272 .
التقوى في القرآن 66


ثم قال ابو جعفر (عليه السلام) : اما ان اصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) قالوا : يا رسول الله نخاف علينا النفاق ؟
قال : فقال : ولم تخافون ذلك ؟
قالوا : اذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا ، وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأنا نعاين الاخرة والجنة ونحن عندك ، فاذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت ، وشممنا الاولاد ، وراينا العيال والاهل ، يكاد ان نحول عن الحال التي كنا عليها عندك ، وحتى كانا لم نكن على شيء ، افتخاف علينا ان يكون ذلك نفاقا ؟
فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «كلا ، ان هذه خطوات الشيطان ، فيرغبكم في الدنيا ، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم انفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء (1) .

وهذه العين هي التي يعبر عنها القران بالبصيرة في قوله تعالى :«قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني» (2) ، في قبال العين التي عبر عنها القران بالبصر ، وهي لمشاهدة عالم الشهادة والملك : «والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون» (3) .
(1) الاصول من الكافي ، ج1 ص 423 ، كتاب الايمان والكفر ، باب في تنقل احوال القلب ، الحديث : 1 .
(2) يوسف : 108 .
(3) النحل : 78 .
التقوى في القرآن 67


وعين البصيرة هي التي يصيبها العمى من خلال المعصية ، قال تعالى :«كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون» (1) .
وقال ايضا :«فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور» (2).
فتحصل مما تقدم ان من شملته العناية الالهية وايدته بروح منه ، وجعلت له نورا يمشي به في الناس ، فانه يرى ما لا يراه الناس ، ويسمع ما لا يسمعونه ، ويعقل ما لا يعقلونه ويريد ما لا يريدونه. قال امام المتقين وسيد العارفين علي امير المؤمنين (عليه السلام) عند تلاوته لقوله تعالى : «يسبح له فيها بالغدو والاصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله» (3) : «ان الله عزوجل جعل الذكر جلاء للقلوب ، تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد العشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح لله ـ عزت الاؤه ـ في البرهة بعد البرهة ، وفي ازمان الفترات ، عباد ناجاهم في فكرهم ، وكلمهم في ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يقظة في الابصار والاسماع والافئدة ، يذكرون بايام الله ، ويخوفون مقامة ، بمنزلة الادلة في الفلوات ، من اخذ القصد حمدوا اليه طريقه، وبشروه بالنجاة ، ومن اخذ يمينا وشمالا ذموا اليه الطريق ، وحذروه من الهلكة ، وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وادلة تلك الشبهات .
(1) المطففين : 14 .
(2) الحج : 46 .
(3) النور : 36 ، 37 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي