ثمرات الاعواد /ج1 27


اهمية التقوى في القران الكريم

قبل الدخول في الايات القرانية التي ركزت على اهمية التقوى ، لاباس بالاشارة الى المراد من التقوى لغة .

التقوى لغة


قال الراغب الاصفهاني في المفردات : «وقى : الوقاية : حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره . يقال : وقيت الشيء اقيه وقاية ووقاءً . قال : (فوقاهم الله ، ووقاهم عذاب السعير ، ومالهم من الله واق ، مالك من الله من ولي ولا واق ، قوا انفسكم واهليكم نارا) .
والتقوى : جعل النفس في وقاية مما يخاف ، هذا تحقيقه . وصار التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم ، وذلك بترك المحظور ، ويتم ذلك بترك بعض المباحات ، لما روي : الحلال بين والحرام بين ، ومن رتع حول الحمى فحقيق ان يقع فيه» (1) .
(1) المفردات في غريب القران ، الراغب الاصفهاني ، ص 530 ، مادة «وقى» .
التقوى في القرآن 28


وقال السيد حيدر الاملي في تقسيره (المحيط الاعظم):
« اعلم ان للتقوى مراتب ومدارج ، وفيها اقوال بحسب الظاهر والباطن .
اما قول اهل الظاهر فالتقوى عندهم : عبارة عن الاجتناب عن محارم الله تعالى ، والقيام بما اوجبه عليهم من التكاليف الشرعية ، والمتقي هو الذي يتقي بصالح عمله عذاب الله ، وهو ماخوذ من اتقاء المكروه بما يجعله حاجزا بينه وبينه ، كما يقال : اتقى السهم بالترس ، اي جعله حاجزا بينه وبين السهم .
واما قول اهل الباطن ، فالتقوى عندهم : عبارة عن الاجتناب المذكور مع ما احل الله تعالى عليهم من طيبات الدنيا ولذاتها ، على حسب طبقاتها ومراتبها الا بقدر الضرورة فضلا عن الاجتناب عن محارمه» (1) .
الا ان البحث القراني ، يثبت لنا ان المؤمن اذا اتقى الله في كبائر الذنوب ، فان الله تعالى يغفر له الصغائر ، قال تعالى : «ومن يتق الله يكفرعنه سيئاته ويعظم له اجرا» (2) ، وقال : «ولو ان اهل الكتاب امنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولادخلناهم جنات النعيم» (3) .
(1) تفسير المحيط الاعظم ، السيد حيدر الاملي ، ج 1 ص 278 .
(2) الطلاق : 5 .
(3) المائدة : 65 .
التقوى في القرآن 29


«والمراد بالتقوى بعد الايمان ، التورع عن محارم الله واتقاء الذنوب التي تحتم السخط الالهي وعذاب النار ، وهي الشرك بالله وسائر الكبائر الموبقة التي اوعد الله عليها النار ، فيكون المراد بالسيئات التي وعد الله سبحانه تكفيرها الصغائر من الذنوب ، وينطبق على قوله سبحانه :
«ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما» (1) ، فيظهر من الايتين ان المراد بالمحارم في قوله (عليه السلام) في تعريف التقوى : (انها الورع عن محارم الله) المعاصي الكبيرة» (2) .
بعد ان اتضح المراد من التقوى لغة واصطلاحا ، نحاول الوقوف على بعض الحقائق القرانية التي بينت اهمية هذا الامر ، وقبل الدخول في ذلك لا بد من الاشارة الى مقدمة.

دور التوحيد


من الامور الواضحة ، ان المجتمعات الانسانية لا يمكن لها تحصيل السعادة ، الا من خلال القانون ، ولا يمكن للقانون ان يسود الا اذا كان متكئا على ايمان بالله الواحد الاحد ، ولا يمكن لهذا الايمان ان يترسخ الا من خلال الاخلاق الكريمة . فالتوحيد هو الاصل الذي تنمو عليه شجرة
(1) النساء : 31 .
(2) الميزان في تفسير القران ، ج 6 ص 37 ، ج 19 ص 317 .
التقوى في القرآن 30

السعادة الانسانية ، وتتفرع منها الاخلاق الكريمة ، وهذه الفروع هي التي تثمر ثمراتها الطيبة في المجتمع الاسلامي . قال تعالى : «الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي اكلها كل حين باذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار» (1) حيث جعلت الايمان بالله تعالى كشجرة لها اصل ثابت وهو التوحيد بلاريب ، واكل تؤتيه كل حين باذن ربها وهو العمل الصالح ، وفرع وهو الخلق الكريم كالعفة والشجاعة والعدالة والرحمة ونظائرها .
بيان هذه الحقيقة «ان الانسان لا يتم كماله الذي من اجله خلق ، ولا يسعد في حياته الا بالاجتماع مع افراد اخرين يتعاونون على اعمال الحياة ، على ما فيها من الكثرة والتنوع ، وليس يقوى الانسان بمفرده على الاتيان بها جميعا .
وهذا ما احوج الانسان الاجتماعي الى ان يضع السنن والقوانين ، لكي يحفظ بها حقوق الافراد من الضياع والفساد . ومن المسلم ان هذه السنن والقوانين لا يمكن ان تؤثر الا بواسطة مجموعة من القوانين الجزائية التي تترتب على المتخلفين والمتعدين على حقوق الاخرين ، وتخوفهم السيئة قبال السيئة ، وباخرى تشوقهم وترغبهم في عمل الخيرات . ولا يمكن ان يتحقق ذلك الا من خلال قوة حاكمة تحكم في المجتمع بالعدل والصدق .
(1) الايات 24 ـ الى 26 من سورة ابراهيم .
التقوى في القرآن 31


وانما تتحقق هذه الامنية اذا كانت القوة المنفذة للقانون :
اولا : عالمة بالجرم .
ثانيا : قادرة على معاقبة المجرم .
اما اذا جهلت ووقع الاجرام على جهل منها او غفلة ـ وكم له من وجود ـ فلا مانع من تحقق الجرم ، والقوانين بنفسها لا ايدي لها تبطش بها . وكذا اذا ضعفت الحكومة يفقد القوة اللازمة ، او تساهلت في الأمر ، فظهر عليها المجرم ، او كان اشد قوة ، عند ذلك تضيع القوانين وتفشو التخلفات والتعديات على حقوق الناس .
وتشتد البلوى اذا تمركزت هذه القوة في ايدي الجهاز الحاكم ومن يتولى ازمة جميع الامور ، عند ذلك تستضعف الناس وتسلب منهم القدرة على ردها الى العدل وتقويمها بالحق . والتاريخ مملوء من قصص الجبابرة والطواغيت وتحكماتهم الجائرة على الناس . وهو ذا نصب اعيننا في اكثر اقطار الارض .
اذن فالقوانين والسنن وان كانت عادلة في حدود مفاهيمها ، واحكام الجزاء وان كانت بالغة في شدتها ، فانها لا تجري على رسلها في المجتمع ، ولا تسد طريق التخلف عنها . من هنا ياتي دور الاخلاق الفاضلة الانسانية لتقطع دابر الظلم والفساد ، كملكة اتباع الحق واحترام الانسانية والعدالة والكرامة والحياة ونشر الرحمة ونظائرها . وهذا معناه ان السنن والقوانين الاجتماعية لا تامن التخلف والضياع الا اذا تاسست وقامت على اخلاق كريمة انسانية ، واستظهرت بها .

التقوى في القرآن 32


لكن الاخلاق بمفردها لا تفي باسعاد المجتمع ، ولا تسوق الانسان الى صلاح العمل ، الا اذا اعتمدت على التوحيد ، وهو الايمان بان للعالم ومنه الانسان إلها واحدا سرمديا ، لا يعزب عن علمه شيء ، ولا يغلب في قدرته عن احد ، خلق الاشياء على اكمل نظام لا لحاجة منه اليها ، وسيعيدهم اليه فيحاسبهم ، فيجزي المحسن باحسانه ، ويعاقب المسيء باساءته ، ثم يخلدون منعمين او معذبين .
ومن المعلوم ان الاخلاق اذا اعتمدت على هذه العقيدة ، لم يبق للانسان هم الا مراقبة رضاه تعالى في اعماله ، وكانت التقوى رادعا داخليا عن ارتكاب الجرم ، ولولا ارتضاع الاخلاق من ثدي هذه العقيدة ، عقيدة التوحيد لم يبق للانسان غاية في اعماله الحيوية الا التمتع بمتاع الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية» (1) .

التقوى غاية العبادة


ان الله سبحانه خلق الانسان لاجل عبادته ، قال تعالى : «وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون» (2) ، لذا اكد القران ان من اهم اهداف بعثة الانبياء والمرسلين ، الدعوة الى عبادة الواحد الاحد قال تعالى «لقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت» (3) ، وقال : «ان الله ربي
(1) الميزان في تفسير القران ، ج 11 ص 155 بتصرف .
(2) الذاريات : 56 .
(3) النحل : 36 .
التقوى في القرآن 33

وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم»
(1) .
من الواضح ان هذه العبادة ليست هي الا لاستكمال الانسان بها ، والا فانه سبحانه لا نقص فيه ولا حاجة ، حتى يستكمل بعبادة احد وترتفع بها حاجته . وببيان اخر : ان العبادة كمال للفعل الذي هو الانسان ، لا كمال للفاعل الذي هو الحق سبحانه . قال تعالى : «ان تكفروا انتم ومن في الارض جميعا فان الله لغني حميد» (2) .
لكن من جهة اخرى نجد ان القران لا يجعل العبادة هي الغاية النهائية لخلق الانسان ، بل يجعلها غاية متوسطة ، ويرتب عليها غايات اخرى ، من قبيل ما ورد في قوله تعالى : «يا ايها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون» (3) ، حيث جعلت التقوى هي الغاية والهدف من العبادة التي خلق الانسان لاجلها ، وهذا معناه ان التقوى هي الكمال المطلوب للانسان ، والعبادة هي التي تهيئ الارضية للوصول الى هذا الكمال .
قال الرازي في ظل هذه الاية :
«العبادة فعل يحصل به التقوى ، لان الاتقاء هو الاحتراز عن المضار ، والعبادة فعل المامور به ، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز عن المضار ، بل يوجب الاحتراز ، فكانه
(1) مريم : 36 .
(2) ابراهيم : 8 .
(3) البقرة : 21 .
التقوى في القرآن 34

تعالى قال : اعبدوا ربكم لتحترزوا به عن عقابه . واذا قيل في نفس الفعل انه اتقاء ، فذلك مجاز ، لان الاتقاء غير ما يحصل به الاتقاء ، لكن لاتصال احد الامرين بالاخر اجرى اسمه عليه» (1) .
لكن مع هذا لا يمكن ان تكون التقوى هي الهدف النهائي والغاية القصوى من خلق الانسان ؛ لما تقدم بيانه ان التقوى انما هي زاد المسير الى لقاء الله تعالى والقرب منه ، ولا يمكن لما هو زاد السفر ان يكون هو الهدف . ان الهدف النهائي والغاية الاخيرة من العبادة والتقوى ، هو الوصول الى لقاء الله تعالى : «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا» (2) .
لذا نجد القران الكريم يعبر عن اولئك الذين كفروا بلقاء ربهم انهم الاخسرون اعمالا ؛ قال تعالى : «قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا * اولئك الذين كفروا بايات ربهم ولقائه فحبطت اعمالهم فلا نقيم لهم يوم القامة وزنا» (3) .
فاذا استطاع الانسان ان يصل الى مقام لقاء الله تعالى ، ولا يتحقق ذلك الا من خلال العبادة والتقوى ، فقد انتهى الى الفلاح الحقيقي «واتقوا الله
(1) التفسير الكبير ، ج 2 ص 101 .
(2) الكهف : 110 .
(3) الكهف : 103 ـ 105 .
التقوى في القرآن 35

لعلكم تفلحون»
(1) حيث جعل الغاية من التقوى ، الوصول الى الفلاح «قد افلح من زكاها * وقد خاب من دساها» (2) ، وعرف المفلحين في ايات عديدة ، بان لهم الخيرات ، وانهم ثقلت موازينهم ونحو ذلك . قال تعالى : «والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فاؤلئك هم المفلحون» (3) .
من هنا نقف على السبب الحقيقي وراء جعل التقوى هي الملاك في الكرامة الحقيقية عند الله ؛ قال تعالى : «يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم» (4) لان التقوى هي التي تؤدي بالانسان الى سعادته الحقيقية وحياته الطيبة الابدية في جوار رب العزة : «ان المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر» (5) ، وهي الوسيلة الوحيدة الى سعادة الدار الاخرة «وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض اعدت للمتقين» (6) ، «ان المتقين في ظلال وعيون * وفواكه مما يشتهون * كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون * انا كذلك نجزي المحسنين» (7) ، «ان
(1) ال عمران : 200 .
(2) الشمس : 9ـ 10 .
(3) الاعراف : 8 .
(4) الحجرات : 13 .
(5) القمر : 54 ـ 55 .
(6) ال عمران : 133 .
(7) المرسلات : 41 ـ 44 .
التقوى في القرآن 36

للمتقين مفازا * حدائق واعنابا * وكواعب اترابا * وكاسا دهقا * لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا * جزاء من ربك عطاء حسابا»
(1) ، بل هي الوسيلة لوصول الانسان الى بركات السماء والارض : «ولو ان اهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فاخذناهم بما كانوا يكسبون» (2) .

«والله ولي الصابرين» (3) .



ذكر القران في مواضع عديدة ، ان الله يحب العدل والاحسان والصبر والثبات والتوكل والتوبة والتطهر ونحوها .
قال تعالى : «ان الله يحب المحسنين» (4) .
وقال : «والله يحب الصابرين» (5) .
وقال : «ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كانهم بنيان مرصوص» (6) .
وقال : «ان الله يحب المتوكلين» (7) .
(1) النبا: 31 ـ 36 .
(2) الاعراف : 96 .
(3) الجاثية : 19 .
(4) البقرة : 195 .
(5) ال عمران : 146 .
(6) الصف : 4 .
(7) ال عمران : 159 .
التقوى في القرآن 37


وقال : «ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» (1) .
من الامور المحبوبة له ايضا التقوى ، قال تعالى : «بلى من اوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين» (2) .
ومعنى محبة الله تعالى لعبده ، كما ذكره بعض العارفين هو
«كشف الحجاب عن قلب العبد وتمكينه من ان يطا على بساط قربه ، فان ما يوصف به سبحانه انما يؤخذ باعتبار الغايات لا باعتبار المبادىء ، وعلامة حبه سبحانه للعبد ، توفيقه للتجافي عن دار الغرور ، والترقي الى عالم النور ، والانس بالله ، والوحشة مما سواه ، وصيرورة جميع الهموم هما واحدا» (3) .
واذا احب الله عبدا تولى امره ، قال تعالى : «وان الظالمين بعضهم اولياء بعض والله ولي المتقين» (4) . عند ذلك تظهر على العبد اثار الولاية الالهية . قال تعالى : «الا ان اولياء الله لا خوف عليم ولا هم يحزنون * الذين امنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم» (5) .
(1) البقرة : 222.
(2) ال عمران:76 .
(3) شرح جامع اصول الكافي والروضة ، محمد صالح المازندراني ، ج 9 ص 399 ، من منشورات المكتبة الاسلامية ، طهران
. (4) الجاثية : 19 .
(5) يونس : 62 ـ 64 .
التقوى في القرآن 38


افتتحت هذه الايات الثلاث بلفظة «الا» التنبيهية ، للاشارة الى اهمية ما تريد بيانه ، حيث ذكرت اولياء الله ووصفت اثار ولا يتهم ، وما يختصون به عند الله تعالى .
«والولاية وان ذكر لها معان كثيرة ، لكن الاصل في معناها : ارتفاع الواسطة الحائلة بين الشيئين ، بحيث لا يكون بينهما ما ليس منهما ، ثم استعيرت لقرب الشيء من الشيء بوجه من وجوه القرب ، كالقرب نسبا او مكانا او منزله او بصداقة او غير ذلك ، ولذلك يطلق الولي على كل من طرفي الولاية ، وخاصة بالنظر الى ان كلا منهما يلي من الاخر ما لايليه غيره ، فالله سبحانه ولي عبده ، لانه يلي امره ويدبر شانه ، فيهديه الى صراطه المستقيم ، ويامره وينهاه فيما ينبغي له او لا ينبغي ، وينصره في الحياة الدنيا والاخرة «انا لننصر رسلنا والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد» (1) .
والمؤمن حقا ولي ربه ، لانه يلي منه اطاعته في امره ونهيه ، ويلي منه عامة البركات المعنوية من هداية وتوفيق وتاييد وتسديد وما يعقبها من الاكرام بالجنة والرضوان ، فاولياء الله ـ على اي حال ـ هم المؤمنون ، فان الله يعد نفسه وليا لهم في حياتهم المعنوية حيث يقول : «والله ولي المؤمنين» (2).
(1) غافر : 52 .
(2) ال عمران : 68 .
التقوى في القرآن 39


غير ان الاية التالية لهذه الاية المفسرة للكلمة ، تابى ان تكون الولاية شاملة لجميع المؤمنين ، وفيهم امثال الذين يقول الله سبحانه فيهم «وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون» (1) . فان قوله في الاية التالية : «الذين امنوا و كانوا يتقون» (2) يعرفهم بالايمان والتقوى ، مع الدلالة على كونهم على تقوى مستمرة سابق على ايمانهم من حيث الزمان ، حيث قيل «امنوا» ثم عطف عليه «كانوا يتقون» فدل على انهم كانوا يستمرون على التقوى قبل تحقق هذا الايمان منهم ، ومن المعلوم ان الايمان الابتدائي غي مسبوق بالتقوى ، بل هما متقاربان او هو قبل التقوى وخاصة التقوى المستمرة .
والحاصل ان المراد من الايمان في قوله :«الذين امنوا وكانوا يتقون» ليس هو مطلق درجاته ، بل تلك المرتبة منه التي يسلم فيها العبد لربه حقيقة معنى الوهيته ، وينقطع عنه السخط والاعتراض ، فلا يسخط لشيء من امرة من قضاء وقدر وحكم ، ولا يعترض على شيء من ارادته ، وهذا هو الايمان الكامل الذي تتم به للعبد عبوديته ، قال تعالى : «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما» (3).
على ان توصيفه تعالى هؤلاء بانهم «لا خوف عليهم ولا هم
(1) يرصف 106 .
(2) يونس : 63 .
(3) النساء : 65 .
التقوى في القرآن 40

يحزنون»
(1) يدل على ان المراد منه الدرجة العالية من الايمان الذي يتم معه معنى العبودية والمملوكية المحضة للعبد الذي يرى معه ان الملك لله وحده لا شريك له ، وان ليس اليه من الامر شيء حتى يخاف فوته او يحزن لفقده .
وذلك ان الخوف انما يعرض للنفس عن توقع ضرر يعود اليها ، والحزن انما يطرا عليها لفقد ما تحبه او تحقق ما تكرهه مما يعود اليها نفعه او ضرره ، ولا يستقيم تحقق ذلك الا فيما يرى لنفسه ملكا او حقا متعلقا بما يخاف عليه او يحزن لفقده ، من ولد او مال اوجاه او غير ذلك ، واما ما لا علقة للانسان به بوجه من الوجوه اصلا ، فلا يخاف الانسان عليه ولا يحزن لفقده .
والذي يرى كل شيء ملكا طلقا لله سبحانه ، لا يشاركه في ملكه احد ، لا يرى لنفسه ملكا او حقا بالنسبة الى شيء ، حتى يخاف في امره او يحزن ، وهذا هو الذي يصفه الله من اوليائه يقول : «الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (2) فهؤلاء لا يخافون شيئا ولا يحزنون لشيء لا في الدنيا ولا في الاخرة ، الا ان يشاء الله ، وقد شاء ان يخافوا من ربهم وان يحزنوا لما فاتهم من كرامته ان فاتهم ، وهذا كله من التسليم لله فافهم ذلك . قال تعالى :«الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدا الا الله وكفى بالله حسيبا» (3) .
(1) يونس : 63 .
(2) يونس : 63 .
(3) الاحزاب : 39 .
التقوى في القرآن 41


وقال :«الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل» (1) . وقال ايضا :«ولا على الذين اذا ما اتوك لتحملهم قلت لا اجد ما احملكم عليه تولوا واعينهم تفيض من الدمع حزنا الا يجدوا ما ينفقون» (2) .
فاطلاق الاية يفيد اتصافهم بهذين الوصفين ، عدم الخوف وعدم الحزن في النشاتين الدنيا والاخرة ، فتكون نظير قوله تعالى : «ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن اولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الاخرة» (3) .
وليس معنى ارتفاع الخوف من غير الله والحزن عن الاولياء ان الخير والشر والنفع والضرر والنجاة والهلاك والراحة والعناء واللذة والالم والنعمة والبلاء ، متساوية عندهم ومتشابهة في اداركهم ، فان العقل الانساني بل الشعور العام الحيواني لا يقبل ذلك .
بل معناه انهم لا يرون لغيره تعالى اسقلالا في التاثير اصلا ، ويقصرون الملك والحكم فيه تعالى ، فلا يخافون الا اياه او ما يحب الله ويريد ان يحذروا منه او يحزنوا عليه» (4) .
(1) ال عمران : 173 .
(2) التوبة : 92 .
(3) فصلت : 30 ـ 31 .
(4) الميزان في تفسير القران ، ج 10 ص 88 .
التقوى في القرآن 42


لذا نجد القران يشير الى ان هؤلاء على حذر في موارد عديدة . قال تعالى : «امن هو قانت اناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون انما يتذكر اولوا الالباب» (1) .
وقال :«واعلموا ان الله يعلم ما في انفسكم فاحذروه» (2) .

بعض الاثار


واذا تولى الله عبده ، يخرجه من الظلمات الى النور «الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات الى النور» (3) . عند ذلك لا يستوي حال هذا العبد مع حال غيره من الناس الذين لم يرزقوا ذلك النور ، قال تعالى :«او كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور» (4) . اما هذا العبد المؤمن الذي شملته الولاية الالهية ، فان له نورا يمشي به في الناس ، قال تعالى : «اومن كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها» (5) .
(1) الزمر : 9 .
(2) البقرة : 235 .
(3) البقرة : 257 .
(4) النور : 40 .
(5) الانعام : 122 .
التقوى في القرآن 43


فاذا وصل العبد الى هذا المقام ، يكون نظره بنور الله «فيرى ما لا يراه الناس ، ويسمع ما لا يسمعونه ، ويعقل ما لا يعقلونه ، ويريد ما لا يريدونه ، وان كانت ظواهر اعماله وصور حركاته وسكناته تحاكي اعمال غيره وحركاتهم وسكناتهم وتشابهها ، فله شعور وارادة فوق ما لغيره من الشعور والارادة ، فعنده من الحياة التي هي منشا الشعور والارادة ، ماليس عند غيره من الناس ، فللمؤمن (المتقي حقيقة) مرتبة من الحياة ليست عند غيره .
فكما ان عموم الناس يشاركون سائر الحيوان في الشعور بواجبات الحياة والحركة الارادية ، ويشاركها الحيوان ، لكن مع ذلك لا نشك ان الانسان نوع ارقى من سائر الانواع الحيوانية ، وله حياة فوق الحياة التي فيها ، لما نرى في الانسان اثاره العجيبة المترشحة من افكاره الكلية وتعقلاته المختصة به ، ولذلك نحكم في الحيوان اذا قسناه الى النبات ، وفي النبات اذا قسناه الى ما قبله من مراتب الوجود ، ان لكل منها درجة اعلى وحياة هي ارقى من حياة ما قبله .
كذلك الانسان الذي اوتي العلم والايمان واستقر في دار الايقان ، واشتغل بربه ، وفرغ واستراح من غيره ، وهو يشعر بما ليس في وسع غيره ، ويريد ما لا يناله سواه ، ان له حياة فوق حياة غيره ، ونورا يستمد به في شعوره ، وارادة لا توجد الا معه وفي ظرف حياته» (1) .
(1) الميزان ، مصدر سابق ، ج 7 ص 337 .
التقوى في القرآن 44


لذا نجد ان القران عندما ياتي الى اولئك الذين تولاهم الشيطان ، فاخرجهم من النور الى الظلمات «والذين كفروا اولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات» (1) ، يقول عنهم :«لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم اذان لا يسمعون بها اولئك كالانعام بل هم اضل اولئك هم الغافلون» (2) . فيثبت لهم امثال القلوب والاعين والاذان التي في المؤمنين ، لكنه ينفي كمال اثارها التي في المؤمنين .
ولعل هذا هو مراد الحديث القدسي الوارد عن النبي (صلى الله عليه وآله) من طرق الفريقين حيث قال : «وانه (العبد) ليتقرب الي بالنافلة حتى احبه ، فاذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها . ان دعاني اجبته وان سالني اعطيته» (3) .
وقيل في معناه :
«انه لايسمع الا بحق والى حق ، ولا ينظر الا بحق والى حق ، ولايبطش الا باذن الحق ، ولا يمشي الا الى ما يرضى به الحق ، وهو المؤمن حقا ، الذي راح عنه كل باطل ، وصار واقفا مع الحق» (4) .
(1) البقرة : 257 .
(2) الاعراف : 179 .
(3) الاصول من الكافي ، ج 2 ص 352 ، كتاب الايمان والكفر ، باب من اذى المسلمين واحتقرهم ، الحديث : 7 .
(4) شرح جامع لاصول الكافي والروضة ، مصدر سابق ، ج 9 ص 401 .
التقوى في القرآن 45


فتحصل الى هنا ان الانسان يصل بالتقوى الى مقام يكون محبوبا لله تعالى ، واذا احب الله عبدا تولاه ، واذا تولاه كان امنا من الخوف والحزن والفزع ، وان مثل هذا العبد ـ كما تقول الروايات ـ يكون في حصن الله .
عن الامام الرضا عن ابائه (عليهم السلام) عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال :
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : سمعت جبرئيل يقول : سمعت الله عز وجل يقول :
لا اله الا الله حصني فمن دخل حصني امن من عذابي » (1) .
من الواضح ان ذلك لا يتحقق الا بشروطها ، وهي كما ورد في جملة من الروايات : الايمان بالامامة الخاصة لائمة اهل البيت (عليهم السلام) والطاعة والتسليم لهم ، لذا ورد في ظل الرواية :
«فلما مرت الراحلة ، نادانا : بشروطها ، وانا من شروطها» .
وعن الامام الصادق (عليه السلام) قال :
«من قال : لا اله الا الله مخلصا دخل الجنة ، واخلاصا ان تحجزه لا اله الا الله عما حرم الله عزوجل» (2) .
وكيفما كان فاذا صار العبد في حصن الله تعالى ، فسيكون في مامن من
(1) التوحيد : الشيخ الصدوق ؛ ص 25 ، باب ثواب الموحدين ، الحديث : 23 .
(2) المصدر السابق ، ص 27 ، الحديث : 26 .
التقوى في القرآن 46

سهام ابليس واغوائه ، قال تعالى :«ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون» (1) والطائف من الشيطان هو الذي يطوف حول القلب ليلقي اليه الوسوسه.
والاية بمنزلة التعليل للامر بالاستعاذة الواردة في الاية السابقة :«واما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله انه سميع عليم» (2) .
والنزغ كما قال الراغب في المفردات : «دخول في امر لاجل افساده ، قال تعالى :«من بعد ان نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي»، وقيل : هو من الشيطان ادنى الوسوسة .
وعلى هذا يكون معنى الاية : «استعذ بالله عند نزغه الشيطان ، فان هذا هو طريق المتقين ، فهم اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ان الله هو ربهم الذي يملكهم ويربيهم ويرجع اليه امرهم ، فارجعوا اليه الامر ، فكفاهم مؤنته ، ودفع عنهم كيده ، ورفع عنهم حجاب الغفلة ، فاذا هم مبصرون غير مضروب على ابصارهم بحجاب الغفلة» (3) .
فتكون هذه الاية نظير قوله تعلى : «ان عبادي ليس لك عليهم سلطان
(1) الاعراف : 201 .
(2) الاعراف : 200 .
(3) الميزان في تفسير القران ، ج ص 381 .
التقوى في القرآن 47

الا من اتبعك من الغاوين»
(1).
بهذا يتضح معنى الرحمة الخاصة التي وعدها الله المتقين من عباده «ورحمتي وسعت كل شيء فساكتبها للذين يتقون» (2) ، فان هناك «رحمة الهية عامة يتنعم بها المؤمن والكافر والبر والفاجر وذو الشعور وغير ذي الشعور ، فيوجدون بها ويرزقون بها في اول وجودهم ، ثم في مسيرة الوجود ما داموا سالكين سبيل البقاء . ورحمة الهية خاصة وهي العطية الهنيئة التي يجود بها الله سبحانه في مقابل الايمان والعبودية ، وتختص لا محالة بالمؤمنين الصالحين من عباده ، من حياة طيبة نورانية في الدنيا ، وجنة ورضوان في الاخرة ، ولا نصيب فيها للكافرين والمجرمين .
ويقابل الرحمة الخاصة عذاب وهو الذي يصيب الكافرين والمجرمين من جهة كفرهم وجرمهم في الدنيا ، كعذاب الاستئصال والمعيشة الضنك ، وفي الاخرة من النار والامها ، ولا يقابل الرحمة العامة شيء من العذاب ، اذ كل ما يصدق عليه اسم شيء ، فهو من مصاديق الرحمة العامة لنفسه او لغيره وكونه رحمة هي المقصودة في الخلقة ، وليس وراء الشيء شيء» (3) .
بهذا يتضح لماذا كان الانبياء جميعا يحثون اممهم على التقوى .
*«اذ قال لهم اخوهم نوح الا تتقون» (4) .
(1) الحجر : 42 .
(2) الاعراف : 156 .
(3) الميزان ، مصدر سابق ، ج 8 ص 274 .
(4) الشعراء : 106 .
التقوى في القرآن 48


*«اذ قال لهم اخوهم هود الا تتقون» (1).
*«اذ قال لهم اخوهم صالح الا تتقون» (2).
*«اذ قال لهم اخوهم لوط الا تتقون» (3) .
*«اذ قال لهم شعيب الا تتقون» (4) .
*«وان الياس لمن المرسلين * اذ قال لقومه الا تتقون» (5).
(1) الشعراء : 124 .
(2) الشعراء : 143 .
(3) الشعراء : 161 .
(4) الشعراء : 177 .
(5) الصافات : 124 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي