التقوى في القرآن 4

<التقوى في القران>التقوى في القران

دراسة في الاثار الاجتماعية والوجودية

السيد كمال الحيدري



التقوى في القران 5

بسم الله الرحمن الرحيم

«يا ايها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون»
آل عمران : 102

«ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون»
الاعراف : 201

«يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير»
الحجرات : 13


التقوى في القران 6



التقوى في القران 7

تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد واله الطاهرين .
من الحقائق التي عرض لها القران الكريم ان الانسان لم يخلق سدى لا هدف له ولا غاية .
قال تعالى : «افحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون» (1) .
وانما هناك غاية وهدف خلق الانسان من اجله ، هو لقاء الله والرجوع اليه .
قال تعالى : «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا» (2) .
وقال :«ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها
(1) المؤمنون : 115 .
(2) الكهف : 110 .
التقوى في القران 8

والذين هم عن اياتنا غافلون * اولئك ماواهم النار بما كانوا يكسبون»
(1) .وقال ايضا : «ان الى ربك الرجعى» (2) .


نشأة الابتلاء


تاسيساً على ذلك ، كيف يمكن للانسان ان يحقق هذا الهدف ، وما هو الطريق الموصل الى لقاء الله سبحانه وتعالى ؟
الجواب : ان الانسان خلق في نشاة الابتلاء والامتحان ، لم يستثن الله احدا من ذلك ، قال تعالى : «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملا » (3) . وقال :«انا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم ايهم احسن عملا» (4) . وقال ايضا : «انا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً» (5) .
فكل شيء في هذه النشاة لاجل امتحان الانسان . من هنا وضعه الله على مفترق الطريق ليختار لنفسه الاتجاه الذي يريد .
قال تعالى : «انا هديناه السبيل اما شاكراً واما كفوراً» (6) .
(1) يونس : 7ـ 8 .
(2) العلق : 2 .
(3) الملك : 2 .
(4) الكهف : 7 .
(5) الانسان : 2 .
(6) الانسان : 3 .
التقوى في القران 9


وقال : «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (1) .
فاذا استطاع الانسان ان يقف على الطريق الذي يوصله الى الهدف الذي خلق من اجله فهو المهتدي ، والا كان من الضالين ، قال تعالى : «يا ايها الذين امنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون» (2) .
قال الراغب في المفردات :
«الضلال : العدول عن الطريق المستقيم ، ويضاده الهداية ، قال تعالى : «فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها» ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج عمداً كان او سهواً ، يسيراً كان او كثيراً» (3) .
اذن «فالضلال والاهتداء ـ وهما معنيان متقابلان ـ انما يتحققان في سلوك الطريق لا غير ، فالملازم لمتن الطريق ينتهي الى ما ينتهي اليه الطريق ، وهو الغاية المطلوبة التي يقصدها الانسان السالك في سلوكه . اما اذا استهان بذلك وخرج عن مستوى الطريق ، فهو الضلال الذي تفوت به الغاية المقصودة . فالاية تقدر للانسان طريقاً يسلكه ومقصداً يقصدة ، غير انه ربما لزم الطريق فاهتدى اليه ، او فسق عنه فضل» (4) .
(1) الكهف : 29 .
(2) المائدة : 105 .
(3) المفردات في غريب القران ، الراغب الاصفهاني ، ص 297 ، مادة «ضل»
(4) الميزان في تفسير القران ، ج 6 ص 162 .
التقوى في القران 10


انطلاقا من هذه الحقيقة يدعو الانسان ربه مرات عديدة في صلواته اليومية «اهدنا الصراط المستقيم» (1) لان افضل الطرق واحسنها واقصرها للوصول الى الهدف هو الصراط المستقيم ، واذا لم يوفق الانسان لسلوك هذا الطريق فهو ضال لا محالة ، ولا تزيده سرعة المشي في غير الصراط المستقيم الا بعدا عن الهدف . الى هذا اشار الامام الصادق (عليه السلام) بقوله :
«العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة المشي الا بعدا» (2) .
واذا اهتدى الانسان هنا الى الصراط المستقيم ، فانه سيهتدي في الاخرة الى جنات النعيم ، قال تعالى : «ان الله يدخل الذين امنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار يحلون فيها من اساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وهدوا الى الطيب من القول وهدوا الى صراط الحميد» (3) . واذا ضل عن الصراط في هذه النشاة ، فانه سيضل عن الطريق الموصل الى رحمة الله ورضوانه في تلك النشاة . قال تعالى : «احشروا الذين ظلموا وازواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم الى صراط الجحيم» (4) .
(1) الفاتحة : 6 .
(2) الاصول من الكافي ، الكليني الرازي ، ج 1 ص 43 كتاب فضل العلم ، باب من عمل بغير علم ، الحديث : 1.
(3) الحج : 23 ـ 24 .
(4) الصافات : 22 ، 23 .
التقوى في القران 11


الصراط المستقيم


اذا كان الامر كذلك ، اذن ماهو الطريق المستقيم الذي ينبغي ان يسلكه السائر للوصول الى قرب الله ولقائه ؟
اشار القران الكريم الى ان الانبياء جميعا ، وعلى راسهم خاتم الانبياء والمرسلين (صلوات الله عليهم اجمعين) ، هم من الذين هداهم الله الى الصراط المستقيم ، قال تعالى : «كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وايوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين * واسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن ابائهم وذرياتهم واخوانهم واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون» (1) .
ثم امرنا باتباع الانبياء ، واتخاذهم قدوة . قال تعالى : «اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده» (2) .
بل نجد انه اكد على اتباع الرسول الخاتم (صلى الله عليه واله) بالخصوص واتخاذه اسوة وقدوة ، قال تعالى : «قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم» (3) . وقال : «لقد كان لكم في
(1) سورة الانعام : 84 ـ 88 .
(2) الانعام : 90 .
(3) ال عمران : 31 .
التقوى في القران 12

الله يغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم»
(1) . وقال : «لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا» (2) .
على هذا يكون الصراط المستقيم الموصل الى الله تعالى ، هو اتباع النبي الخاتم (صلى الله عليه واله) . ولا يتحقق هذا الاتباع الا بالاخذ بكل ما جاءنا عنه (صلى الله عليه واله) ، وقال تعالى : «وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» (3) ، وذلك لما جاء عن ابي حمزة الثمالي عن الامام الباقر (عليه السلام)
قال : خطب رسول الله (صلى الله عليه واله) في حجة الوداع فقال :
«ايها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار ، الا وقد امرتكم به . وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة ، الا وقد نهيتكم عنه» (4) .
ولما كان النبي (صلى الله عليه واله) لا ينطق عن الهوى ، كما قال تعالى : «وما ينطق عنه الهوى * ان هو الا وحى يوحى» (5) . اذن لا بد من اتباعه والاقتداء به (صلى الله عليه واله) للوصول الى مرضاة الله تعالى .
(1) ال عمران : 31 .
(2) الاحزاب : 21 .
(3) الحشر : 7 .
(4) الاصول من الكافي ، ج 2 ص 74 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الطاعة و التقوى .
(5) النجم : 3 .
التقوى في القران 13


« اني تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض ، وعترتي اهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (1) .
حيث بين (صلى الله عليه واله) ان المنجي من الضلالة هو التمسك بالقران والعترة الطاهرة (عليهم السلام) ، لذا نقرأ في الدعاء :
« اللهم عرفني نفسك فانك ان لم تعرفني نفسك لم اعرف رسولك ، اللهم عرفني رسولك فانك ان لم تعرفني رسولك لم اعرف حجتك ، اللهم
(1) سنن الترمذي ، ج 5 ص 664 ، الحديث : 3786 .
قال في «نفحات الازهار في خلاصة عبقات الانوار» ، ج 1 ص 185 : «ان هذا الحديث رواه عن النبي (صلى الله عليه واله) اكثر من ثلاثين صحابيا ، وما لا يقل عن ثلاثمائة عالم من كبار علماء اهل السنة في مختلف العلوم والفنون ، في جميع الاعصار والقرون ، بالفاظ مختلفة واسانيد متعددة ، وفيهم ارباب الصحاح والمسانيد وائمة الحديث والتفسير والتاريخ ، فهو حديث صحيح متواتر بين المسلمين» .
وقال بعض الاعلام المعاصرين : «هذا الحديث يكاد يكون متواترا ، بل هو متواتر فعلا ، اذا لوحظ مجموع رواته من الشيعة والسنة في مختلف الطبقات . واختلاف بعض الرواة في زيادة النقل ونقيصته ، تقتضيه طبيعة تعدد الواقعة التي صدر فيها ، ونقل بعضهم له بالمعنى ، وموضع الالتقاء بين الرواة متواتر قطعا .
وحسب الحديث لان يكون موضع اعتماد الباحثين ، ان يكون من رواته : كل من صحيح مسلم ، وسنن الدارمي ، خصائص النسائي ، وسنن ابي دواد ، وابن ماجة ، ومسند احمد ، ومستدرك الحاكم ، وذخائر الطبري ، وحيلة الاولياء ، وكنز العمال وغيرهم ، وان تعنى بروايته كتب المفسرين امثال : الرازي ، والثعلبي ، والنيسابوري ، والخازن ، وابن كثير وغيرهم ، بالاضافة الى كثير من كتب التاريخ واللغة والسير والتراجم .
وما اظن ان حديثا يملك من الشهرة ما يملكه هذا الحديث» الاصول العامة للفقه المقارن ، ص 164 .
التقوى في القران 14

عرفني حجتك فانك ان لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني» (1) .
مما تقدم يتبين ان الذي ينجي الانسان من الضلالة ويهديه الصراط المستقيم في الدنيا والاخرة هو معرفة الله ورسوله والحجة في كل زمان .

حبل الصعود


ثم ان القران بين لنا حقيقة اخرى فيما يرتبط بالانسان حيث قال الله تعالى : «لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم * ثم رددناه اسفل سافلين» (2) . فالانسان وهو في نشاة الدنيا يعيش في اسفل السافلين . فعليه بعد ان تبين له الهدف والطريق ان يصعد من الاسفل الى الاعلى ، قال تعالى : «اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه» (3) .
هذا الصعود ليس مكانيا بل هو معنوي ، ذلك ان الارتفاع والصعود الى الاعلى ، تارة يكون مكانيا كما لو صعد الانسان على مرتفع من الارض مثلا ، واخرى يكون معنويا كما في قوله تعالى في حق ادريس (عليه السلام) «ورفعناه مكانا عليا» (4) اذ ليس المراد هو الارتفاع المكاني ، بل ارتفاع مكانته عند الله تعالى .
ومن هنا نجد ان القران الكريم والروايات الواردة عن النبي الاكرم (صلى
(1) مفاتيح الجنان المعرب ، الشيخ عباس القمي ص 588 ، الدعاء زمن الغيبة .
(2) التين : 4 ـ 5 .
(3) فاطر : 10 .
(4) مريم : 57 .
التقوى في القران 15

الله عليه واله) ذكرت ان هذا الصعود اليه تعالى يحتاج الى حبل ؛ قال تعالى : «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا» . وللوقوف على هذا الحبل الذي امرنا القران بالاعتصام به ، نرجع مرة اخرى الى حديث الثقلين المتقدم ، لنقف على حقيقة هذا الحبل ، وما هو المقصود به ؟
قال رسول الله (صلى الله عليه واله) في خطبته المشهورة التي خطبها في المسجد الخيف في حجة الوداع : «اني مخلف فيكم الثقلين ، الثقل الاكبر القران ، والثقل الاصغر عترتي واهل بيتي ، هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عزوجل ، ما ان تمسكتم به لم تضلوا» (1) .
فقد عبر الرسول الاعظم (صلى الله عليه واله) عن القران والعترة ، بانهما حبل واحد لا حبلان ، وهذا معناه ان التمسك بالعترة ليس شيئا وراء التمسك بالقران الكريم ، بل هما حقيقة واحدة ، لكن الفرق بينهما ان العترة هم القران الناطق ، وان القران هو العترة الصامته ، لذا ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) في ظل قوله تعالى : «ان هذا القران يهدي للتي هي اقوم» (2) : «انه يهدي الى الامام» (3) .
ومنه يتضح معنى ما قاله امير المؤمنين (عليه السلام) :
«ذلك الكتاب الصامت ، وانا الكتاب الناطق» (4) .
(1) بحار الانوار ، العلامة المجلسي ، ج 92 ص 102 ، مؤسسة الوفاء ، بيروت ـ لبنان .
(2) الاسراء : 9 .
(3) الاصول من الكافي ، ج 1 ص 216 ، كتاب الحجة ، باب ان القران يهدي للامام ، ح : 2 .
(4) بحار الانوار ، ج 39 ، ص 272 .
التقوى في القران 16


فلا يعني بذلك انه هو الناطق باسم القران ، بل عنى انه هو القران المتجسد ، ولذا ورد عن الفريقين عن رسول الله (صلى الله عليه واله) :
«علي مع الحق , والحق مع علي ، يدور معه حيثما دار» (1) .
اي يدور الحق حيثما دار علي ، لانه هو القران الناطق ، اي هو التجسيد الحي لكتاب الله في واقع الناس وحياتهم .
على هذا الاساس نستطيع ان نفهم ما ورد في «تفسير العياشي» عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال : «الصراط المستقيم امير المؤمنين عليه السلام» .
وكذلك ما ورد في كتاب «المعاني» عن الامام الصادق (عليه السلام) قال : «هو الطريق الى معرفة الله ، وهما صراطان ، صراط في الدنيا وصراط في الاخرة ، فاما الصراط في الدنيا فهو الامام المفترض الطاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه ، مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الاخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا ، زلت قدمه في الاخرة ، فتردى في نار جهنم» (2) .
وبهذا يتبين لماذا يقول رسول الله (صلى الله عليه واله) :
«ما بال اقوام اذا ذكر ال ابراهيم وال عمران ، فرحوا واستبشروا ، واذا ذكر عندهم ال محمد ، اشمأزت قلوبهم ، والذي نفس محمد بيده ، لو ان عبدا جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبيا ، ما قبل ذلك منه ، حتى يلقى الله
(1) المصدر السابق ، ج 38 ، ص 188 .
(2) نقلا من «الميزان في تفسير القران» ج 1 ، ص 41 .
التقوى في القران 17

بولايتي وولاية اهل بيتي» (1) .
لذا قال الامام الباقر (عليه السلام) :
«انما يعبد الله من يعرف الله ، فاما من لا يعرف الله ، فانما يعبده هكذا ضلالا .
قال السائل : قلت : جعلت فداك فما معرفة الله ؟
قال (عليه السلام) : تصديق الله عز وجل وتصديق رسوله صلى الله عليه واله وموالاة علي عليه السلام والائتمام به وبأئمة الهدى عليهم السلام والبراءة الى الله عزوجل من عدوهم ، هكذا يعرف الله عزوجل» (2) .
وقال الامام الصادق (عليه السلام):
«جاء ابن الكواء الى امير المؤمنين (عليه السلام) فقال : يا امير المؤمنين ، «وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ؟»
فقال : نحن على الاعراف ، نعرف انصارنا بسيماهم ، ونحن الاعراف الذين لا يعرف الله عزوجل الا بسبيل معرفتنا ، ونحن الاعراف يعرفنا الله عزوجل يوم القيامة على الصراط ، فلا يدخل الجنة الا من عرفنا وعرفناه ، ولا يدخل النار الى من انكرنا وانكرناه . ان الله تبارك وتعالى لو شاء لعرف العباد نفسه ، ولكن جعلنا ابوابه وصراطه وسبيله ، والوجه الذي يؤتى منه ، فمن عدل عن ولايتنا او فضل علينا غيرنا ، فانهم عن الصراط لناكبون ،
(1) جامع احاديث الشيعة ! ، ج 1 ص 438 ، الحديث : 983 .
(2) الاصول من الكافي ، ج 1ص 180 ، كتاب الحجة ، باب معرفة الامام والرد اليه ، ح : 1 .
التقوى في القران 18

فلا سواء من اعتصم الناس به ، ولا سواء حيث ذهب الناس الى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض ، وذهب من ذهب الينا الى عيون صافية ، تجري بامر بها ، لا نفاد لها ولا انقطاع» (1) .
لذا ورد في ظل هذا الاية المباركة : «الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي اكلها كل حين باذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون» (2) ، ما عن عمرو بن حريث ، قال : سالت ابا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن قول الله «كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء» . قال :فقال :
رسول الله (صلى الله عليه واله) اصلها ، وامير المؤمنين فرعها ، والائمة من ذريتهما اغصانها ، وعلم الائمة ثمرتها ، وشيعتهم المؤمنون ورقها» (3) .

دور التقوى وموقعها


بعد ان تبين ان الانسان مسافر الى الله تعالى ، وكادح كدحا للوصول اليه ، والقرب منه واللقاء به ، وان ذلك لا يتحقق الا من خلال اتباع القران والعترة الطاهرة اللذين هما حبل الصعود اليه سبحانه ، اشار القران الى زاد هذا السفر الالهي حيث قال : «وتزودوا فان خير الزاد التقوى واتقوني يا اولي
(1) المصدر السابق ، ج 1 ص 184 ، الحديث : 9 .
(2) ابراهيم : 24 ـ 25 .
(3) الميزان في تفسير القران ، ج 12 ص 63 .
التقوى في القران 19

الالباب» . (1)
قال الفخر الرازي في ظل هذه الاية :
«ان المراد : تزودوا من التقوى ، والدليل عليه قوله بعد ذلك «وتزودوا فان خير الزاد التقوى» . وتحقيق الكلام فيه ان الانسان له سفران :
  • سفر في الدنيا .
  • وسفر من الدنيا .
    فالسفر في الدنيا لابد له من زاد ، وهو الطعام والشراب والمركب والمال . والسفر من الدنيا لابد فيه ايضا من زاد ، وهو معرفة الله ومحبته والاعراض عما سواه ، وهذا الزاد خير من الزاد الاول لوجوة :
    الاول : ان زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم ، وزاد الاخرة من عذاب متيقن .
    الثاني : ان زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع ، وزاد الاخرة من عذاب دائم .
    الثالث : ان زاد الدنيا يوصلك الى لذة ممزوجة بالالام والاسقام والبليات ، وزاد الاخرة يوصلك الى لذات باقية
    (1) البقرة : 197 .
    التقوى في القران 20

    خالصة عن شوائب المضرة ، امنة من الانقطاع والزوال .
    الرابع : ان زاد الدنيا وهي كل ساعة في الادبار والانقضاء ، وزاد الاخرة يوصلك الى الاخرة ، وهي كل ساعة في الاقبال والقرب والوصول .
    الخامس : ان زاد الدنيا يوصلك الى منصة الشهوة والنفس ، وزاد الاخرة يوصلك الى عتبة الجلال والقدس ، فثبت بمجموع ما ذكرنا ان خير الزاد التقوى.
    اذا عرفت هذا ، فلنرجع الى تفسير الاية : فكانه تعالى قال : لما ثبت ان خير الزاد التقوى ، فاشتغلوا بتقواي يا اولي الالباب ، يعني ان كنتم من ارباب الالباب الذين يعلمون حقائق الامور ، وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم ان تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد ، لما فيه من كثرة المنافع . وقال الاعشى في تقرير هذا المعنى :
    اذا انت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
    ندمت على ان لا تكون كـمثله وانك لم ترصد كما كان ارصدا» (1)
    (1) التفسير الكبير ، للامام الفخر الرازي ، ج 5 ص 168 .
    التقوى في القران 21


    وقد اشار القران الكريم الى ان خير مطيعة يمتطيها الانسان ، لكي يصل الى هدفه ، هو قيام الليل . فقال تعالى : «ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى ان يبعثك ربك مقاما محمودا» (1) .
    وقال تعالى : «قم الليل الا قليلا * نصفه او انقص منه قليلا * او زد عليه ورتل القران ترتيلا * انا سنلقي عليك قولا ثقيلا * ان ناشئة الليل هي اشد وطئا واقوم قيلا» (2) .
    قال الطباطبائي في ظل هذه الايات :
    «المراد بقيام الليل ، القيام فيه الى الصلاة . وقوله : «انا سنلقي عليه قولا ثقيلا» المراد بالقول الثقيل القران العظيم ، والاية في مقام التعليل للحكم المدلول عليه بقوله : «قم الليل» فتفيد بمقتضى السياق ، والخطاب خاص بالنبي (صلى الله عليه واله) ان امره بقيام الليل والتوجه فيه اليه تعالى بصلاة الليل ، تهيئة واعداد لكرامة القرب وشرف الحضور والقاء قول ثقيل فقيام الليل هي السبيل المؤدية الى هذا الموقف الكريم» (3) .
    لكن عندما اراد ان يوسع الخطاب ليشمل غير النبي من المؤمنين ، بعدما كان صدر السورة مختصا به (صلى الله عليه واله) قال : «ان هذه تذكره فمن
    (1) الاسراء : 79 .
    (2) المزمل : 2ـ 6 .
    (3) الميزان في تفسير القران ، ج 20 ص 62 .
    التقوى في القران 22

    شاء اتخذ الى ربه سبيلا»
    (1) . حيث انه من الممكن ان تكون هذه اشارة الى ما تقدم في اول السورة من الايات الحاثة الى قيام الليل والتهجد فيه ، لذا ورد عن الامام العسكري (عليه السلام):
    « ان الوصول الى الله عزوجل سفر لا يدرك الا بامتطاء الليل » (2) .
    فتحصل الى هنا ان افضل مركوب يمتطيه الانسان للسير الى الله تعالى واللقاء به هو قيام الليل ، وان افضل الزاد هو التقوى ، وان افضل طريق هو الصراط المستقيم . وبهذا يتضح دور التقوى في حياة الانسان ، واين موضعها في منظومة المعارف الدينية ، اذ كثيرا ما يقع الحث على التقوى من دون ان يتضح للسالك الى الله تعالى موقع ذلك وموضعه .

    ختامه مسك


    في ختام هذه المقدمة اود الاشارة الى بعض كلمات ائمة اهل البيت (عليهم السلام) ، بالاخص امام المتقين علي امير المؤمنين (عليه السلام) .
  • قال امير المؤمنين (عليه السلام):
    « اوصيكم عباد الله بتقوى الله ، التي هي الزاد وبها المعاذ ، زاد مبلغ ومعاذ منجح ، دعا اليها اسمع داع ، ووعاها خير واع ، فاسمع واعيها ، وفاز داعيها .
    (1) المزمل : 19 .
    (2) بحار الانوار ، ج 78 ص 83 .
    التقوى في القران 23


    عباد الله ان تقوى الله حمت اولياء الله محارمه ، والزمت قلوبهم مخافته ، حتى اسهرت لياليهم ، واظمات هواجرهم ، فاخذوا الراحة بالنصب ، والري بالظما ، واستقربوا الاجل ، فبادروا العمل وكذبوا الامل ، فلاحظوا الاجل » (1) .
  • « اعلموا عباد الله ان التقوى دار حصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل ، لا يمنع اهله ولا يحرز من لجا اليه ، الا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا ، وباليقين تدرك الغاية القصوى .
    عباد الله ، الله الله في اعز الانفس عليكم ، واحبها اليكم ، فان الله قد اوضح لكم سبيل الحق وانار طرقه ، فشقوة لازمة ، او سعادة دائمة ، فتزودوا في ايام الفناء لايام البقاء ، قد دللتم على الزاد ، وامرتم بالظعن ، وحثثتم على المسير ، فانما انتم كركب وقوف ، لا يدرون متى يؤمرون بالسير ، الا فما يصنع بالدنيا من خلق للاخرة ، وما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه ، وتبقى عليه تبعته وحسابه » (2) .
  • « واوصاكم بالتقوى ، وجعلها منتهى رضاه ، وحاجته من خلقه ، فاتقوا الله الذي انتم بعينه ، ونواصيكم بيده ، وتقلبكم في قبضته ، ان اسررتم علمه ، وان اعلنتم كتبه ، قد وكل بذلك حفظه كراما لا يسقطون حقا ، ولا يثبتون باطلا .
    (1) نهج البلاغة ، الخطبة : 114 .
    (2) نهج البلاغة ، الخطبة : 157 .
    التقوى في القران 24


    واعلموا انه من يتق الله يجعل له مخرجا من الفتن ونورا من الظلم , ويخلده فيما اشتهت نفسه وينزله منزل الكرامة عنده ، في دار اصطنعها لنفسه ، ظلها عرشه ، ونورها بهجته ، وزوارها ملائكته ، ورفقاؤها رسله ، فبادروا المعاد وسابقوا الاجال . فان الناس يوشك ان ينقطع بهم الامل ، ويرهقهم الاجل ، ويسد عنهم باب التوبة .
    فقد اصبحتم في مثل ما سال اليه الرجعة من كان قبلكم ، وانتم بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم . وقد اوذنتم منها بالارتحال ، وامرتم فيها بالزاد .
    واعلموا ان ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار ، فارحموا نفوسكم ، فانكم جربتموها في مصائب الدنيا . افرايتم جزع احدكم من الشوكة تصيبه ، والعثرة تدميه ، والرمضاء تحرقه ؟ فكيف اذا كان بين طابقين من نار ، ضجيع حجر وقرين شيطان ؟
    اعلمتم ان مالكا اذا غضب على النار ، حطم بعضها بعضا لغضبه ، واذا زجرها توثبت بين ابوابها جزعا من زجرته» (1) .
  • «معاشر الناس ، اتقوا الله ، فكم من مؤمل ما لا يبلغه ، وبان ما لا يسكنه ، وجامع ما سوف يتركه ، ولعله من باطل جمعه ، ومن حق منعه ، اصابه حراما ، واحتمل به اثاما ، فباء بوزره ، وقدم على ربه اسفا لاهفا ، قد خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين» (2) .
    (1) نهج البلاغة ، الخطبة : 183 .
    (2) نهج البلاغة ، قصار الحكم : رقم 344 .
    التقوى في القران 25


  • «تجهزوا رحمكم الله ! فقد نودي فيكم بالرحيل ، واقلوا العرجة على الدنيا ، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد ، فان امامكم عقبة كؤودا ، ومنازل مخوفة مهولة ، لا بد من الورود عليها ، والوقوف عندها ، واعلموا ان ملاحظ المنية نحوكم دانية ، وكانكم بمخالبها وقد نشبت فيكم ، وقد دهمتكم فيها مفظعات الامور ، ومعضلات المحذور ، فقطعوا علائق الدنيا ، واستظهروا بزاد التقوى» (1) .
  • عن مفضل بن عمر قال : كنت عند ابي عبد الله الصادق (عليه السلام) فذكرنا الاعمال . فقلت انا : ما اضعف عملي !
    فقال : مه ، استغفر الله .
    ثم قال لي : ان قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى . قلت : كيف يكون كثير بلا تقوى ؟ قال : نعم مثل الرجل يطعم طعامه ويرفق جيرانه ويوطئ رحله (2) فاذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه ، فهذا العمل بلا تقوى . ويكون الاخر ليس عنده ، فاذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه» (3) .
    ومن قصار الكلمات في هذا الباب ؛ قال امير المؤمنين (عليه السلام) :
  • « التقى رئيس الاخلاق» (4) .
    (1) نهج اللاغة ، الخطبة : 204 .
    (2) كناية عن كثرة الضيافة وقضاء حوائج المؤمنين ، بكثرة الواردين الى منزله .
    (3) الاصول من الكافي ، ج 2 ص 76 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الطاعة والتقوى ، ح : 7 .
    (4) نهج البلاغة ، قصار الحكم ، رقم 410 .
    التقوى في القران 26


  • «الا وان من صحة البدن تقوى القلب» (1) .
  • «ولا عز اعز من التقوى ، ولا معقل احسن من الورع» (2) .
  • «لا يقل عمل مع تقوى ، وكيف يقل ما يتقبل» (3) .
  • «وعن الامام الصادق (عليه السلام) : «ما نقل الله عزوجل عبدا من ذل المعاصي الى عز التقوى ، الا اغناه من غير مال ، واعزه من غير عشيرة ، وانسه من غير بشر» (4) .
    كمال الحيدري
    13 رجب 1421 هـ
    (1) نهج البلاغة ، قصار الحكم ، رقم 388 .
    (2) نهج البلاغة ، قصار الحكم ، رقم 371 .
    (3) الاصول من الكافي ، ج 2 ص 75 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الطاعة والتقوى ، ح : 5 .
    (4) الاصول من الكافي ، ج 2 ص 76 ، كتاب الايمان والكفر ، باب الطاعة والتقوى ، ح : 8 .

  • الفهرس التالي التالي