هوية التشيع 149

ظلالة(1) . ومع غض النظر عن صحة وعدم صحة هذا الحديث ، نسأل هل مثل هذا الاجماع ممكن بحيث يضم كل مسلم في شرق الارض وغربها ، قد يكون الجواب ان المسلمين يمثلون في هذا الاجماع بأهل الحل والعقد ، وهنا نسأل : من هم وما عددهم ؟ وهل هم محصورون في مكان معين ؟ وما الدليل على ذلك ؟ ثم نسأل : هل المجموع الا ضم فرد الى فرد فاذا جاز الخطأ على الافراد جاز على المجموع المكون من الافراد ، ان الامام ابن تيمية يجيب على ذلك بأنه لا يلزم ان يخطأ المجموع اذا اخطأ الافراد لان للجمع خاصية لاتوجد في الافراد ، ومثلها مثل اللقمة الواحدة لا تشبع بينما مجموع اللقم يشبع ، والعصا الواحدة تكسر في حين مجموع العصي لا يكسر ، الى ان يقول قال رسول الله (ص) : الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد(2) وما أدري ما هو وجه الشبه بين كون اللقم تشبع بعكس اللقمة الواحدة ، وبين كون المجموع يعصم والافراد لا تعصم ، وذلك لان اللقمة تحمل قابلية الاشباع بنسبة معينة فاذا ضمت الى مثلها اجتمعت هذه الافراد من قابلية الاشباع فكونت اشباعا كاملا ، وكذلك العصا تحمل نسبة من القوة فاذا ضمت لمثلها كونت قوة كافية ، وأين هذا من الفرد المخطىء فانه لا يكون نسبة من الصحة اذا ضمت لغيرها كونت مجموعا صحيحا ، بل بالعكس فالفرد يمثل هنا نسبة من الخطأ اذا ضمت لمثلها تضاعف الخطأ وكون خطأ كبيرا ، ان هذا القياس مع الفارق ، هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى فان ابن تيمية لم ينف فكرة العصمة وانما نفى ان تكون لواحد ليس الا فكأن العقدة ان تكون لواحد أما لو نسبت لجماعة فلا اشكال ومن ناحية ثالثة انه انما اشترط العصمة للامة من اجل الثقة وضمان سلامة الاحكام وهو عين الهدف الذي تذهب اليه الشيعة وأنا انقل اليك رأيه مفصلا :

(1) المستصفى مبحث أركان الاجماع .
(2) نظرية الامامة 117 .
هوية التشيع 150

رأي أبن تيمية في العصمة

قال ابن تيمية عند رده على الشيعة عند قولهم : ان وجود الامام المعصوم لابد منه بعد موت النبي وذلك لان الاحكام تتجدد تبعا للموضوعات ، والاحوال تتغير وللقضاء على الاختلاف في تفاسير القران وفي فهم الاحاديث وغير ذلك . ولو كانت عصمة النبي (ص) كمال الدينكافيين لما حدث الاختلاف ، فثبت انه لابد من امام معصوم يبين لنا معاني القران ويعين لنا مقاصد الشرع كما هو مراده الى اخر ما ذكروه في المقام : فقال ابن تيمية : لايسلم اهل السنة ان يكون الامام حافظا للشرع بعد انقطاع الوحي لان ذلك حاصل للمجموع ، والشرع اذا نقله اهل التواتر كان ذلك خيرا من نقل الواحد ، فالقراء معصمون في حفظ القران وتبليغه ، والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغها ، والفقهاء معصمون في الكلام والاستدلال (1) .ويختلف هنا ابن تيمية عن الرازي فاذا كانت العصمة عند الرازي لمجموع الامة فهي عند ابن تيمية لجماعة من الناس كالقراء والفقهاء والمحدثين ، وهنا يشترط ابن تيمية العصمة لضمان حفظ مضمون الشريعة كما هو الحال عند الاخرين من الشيعة وغيرهم ، فما الذي اجازها لمجموعة ومنعها عن فرد ؟ ان عدد المعصومين عند الشيعة لايتجاوز الاربعة عشر وهم مجموعة منتخبة خصها الله تعالى بكثير من الفضائل باجماع فرق المسلمين فلماذا نستكثر عليهم العصمة ونجيزها لغيرهم مجرد سؤال ؟

رأي جمهور السنة في العصمة

يمكن القول ان جمهور السنة يصححون الحديث المروي عن النبي (ص) وهو قوله (ص) : « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » (1) ولازم هذا الحديث عصمة الصحابة كما سيرد به التصريح من بعضهم لان صحة الاقتداء

(1) نظرية الامامة 120 .
(2) طبقات الفقهاء للشيرازي ص3 .
هوية التشيع 151

بأي منهم ومتابعته في الظلم لو حصلت حال كونه مرتكبا للذنب وهو الحاصل من كونه غير معصوم فمعناه الامر من الله تعالى باتباع العاصي والظالم ولو لنفسه واذا لم يتابع ويعمل بما اراده النبي فان معناه ترك امر القران لانه قال : « ما اتاكم الرسول فخذوه » (1) والصحابي هنا ينقل امر الرسول ، فان قلت ان الله تعالى امرنا بان ناخذ الحديث من العادل الثقة لقوله تعالى : « ياايها الذين امنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة » الاية 6/ الحجرات ، التي دلت بمفهومها على حجية خبر العادل ، ونحن لا ناخذ الامر الا من العادل منهم ، قلت : ان ذلك يدل بالمفهوم على ان فيهم غير العادل حينئذ وهو المطلوب .
وعلى العموم ان لازم الحديث المذكور عصمة الصحابة ، وما سمعنا من ينكر على هؤلاء فلماذا اذا قال الشيعة بعصمة أئمتهم ينتقدون ؟

التفتازاني والعصمة

يقول التفتازاني وهو من اجلاء علماء السنة في كتابه شرح المقاصد : احتج أصحابنا على عدم وجود العصمة : بالاجماع على امامة ابي بكر وعمر وعثمان (رض) مع الاجماع على انهم لم تجب عصمتهم ، وان كانوا معصومين بمعنى انهم منذ امنوا كان لهم ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها(2) وفي هذا النص امور :
1-ان التفتازاني هنا يصرح بعصمة الخلفاء الثلاثة .
2- يقول ان عصمتهم غير واجبة بمعنى انهم لا يقسرون عليها والا فلا يتصور تعلق الاحكام بالامور التكوينية وانما مجال الاحكام السلوك الاختياري والاستعداد لقبول العصمة امر مخلوق فيهم .
3- مفاد كلامه ان العصمة ملكة تمنع صاحبها من مقارنة الذنب لا على

(1) الاية 7 من سورة الحشر . (2) شرح المقاصد بتوسط الغدير للاميني جـ9 ص375 .
هوية التشيع 152

نحو سلب الاختيار وهذا عين ما يقوله الشيعة في ائمتهم وليرجع من شاء الى بحث العصمة في كتب الكلام الشيعية ، وعلى هذا فلماذا هذه الجعجعة يا مسلمون ؟

شمس الدين الاصفهاني ونور محمد والعصمة

يده بالحافظ نور محمد وشمس الدين الاصفهاني الاول في تاريخ مزار شريف ، والثاني كما نقله عنه الغدير الى ان الخليفة عثمان معصوم(1) وقد نقله عن كتابه مطالع الانظار . والرجلان من علماء اهل السنة .

الايجي والعصمة

يذهب عبد الرحمن الايجي صاحب كتاب المواقف في نفس الكتاب الى عصمة الخلفاء وعلى نحو الذي قال به التفتازاني فيما ذكرناه عنه اي اتها ملكة فيهم لا توجب سلب الاختيار (2) وهو من علماء السنة وقد كشفت لنا هذه الجولة ان الشيعة لا ينفردون بالقول بالعصمة بل علماء السنة يذهبون لذلك ، اذا فما هو وجه نسبتها الى عبد الله بن سبأ وما هو وجه نقد الشيعة على القول بها ؟
أنا لا اريد ان أحشد للقارىء نقد كتب السنة ومؤلفيهم حول موضوع العصمة فان كتبهم طافحة بذلك ، ولكن سأستعرض لك رأي كاتب يعيش في القرن العشرين وفي عصر الذرة بالذات وهو وأيم الحق من اكثر اهل السنة الذين قرات لهم اعتدالا في الكتابة عن الشيعة ولكن مع ذلك كله تبقى الرواسب في النفوس تعمل عملها . اني اعتقد ان هذا الرجل قد بحث في كتب الشيعة وغيرهم قبل ان يكتب كتابه وذلك لما رأيت له من كثرة المصادر مع افتراض انه اطلع على اراء اهل السنة في هذه المواضيع فلماذا الانكار على الشيعة دون الاخرين واذا كان لم يطلع وهو ما استبعده ، فلماذا يكتب ؟

(1) الغدير نفس جـ 9 ص375 .
(2) الغدير للاميني جـ7 ص140 . والمواقف ص399 .
هوية التشيع 153

الفصل الرابع

مناقشة كتاب نشأة الآراء والمذاهب

يقول مؤلف الكتاب المذكور يحيى هاشم فرغل مستعرضاً فكرة عصمة الأئمة : إن عصمة الأئمة ظهرت عند غلاة الشيعة ، ذكر أن زيد بن علي كان يستنكرها ثم استنتج أن السنة إنما بحثوا عصمة الأنبياء لأن الشيعة بحثوا عصمة الأئمة ، وذكر أدلة الإمامية على العصمة ومنها حديث الثقلين وقد رواه هكذا :
إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي . كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، ثم ذكر صوراً أخرى للحديث ثم قال : إن هذا الحديث جعل العترة أهل البيت بمنزلة القرآن وعدلاً له ، كما جعل لهم جميع ما كان للنبي من المناصب إلا النبوة ليكون كأنه موجود بنفسه ليقوم على رعاية الشريعة ، وقد نزل الحديث العترة منزلة القرآن فلا بد من أن يكون عندهم كل ما فيه من العلوم ، فمن ثم يكون الإمام عالماً بجميع تفاصيل القرآن والسنة لتؤخذ عنه علومهما كاملة . ثم أورد روايات للشيعة حول علم الإمام ومنها ما ورد عن الإمام علي (ع) : ما انزلت آية من القرآن على رسول الله (ص) إلا وأقرأنيها وتلاها علي فكتبتها بيدي وعلمني تفسيرها وتأويلها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها ودعا الله تعالى أن يعطيني فهمها وحفظها ووضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمة ، ثم أورد روايات هي في الواقع تجسيد لمنطوق هذا الحديث وهذه الرواية : كوجود كتاب الجفر والجامعة ومصحف فاطمة

هوية التشيع 154

عند أهل البيت وشرح آراء الشيعة في معنى وجود هذه الكتب عند أهل البيت وذكر أن الشيعة قالوا إنها بإملاء النبي وخط علي وأنه ليس فيها من القرآن شيء وإنما هي شروح وأخبار بالملاحم ، ثم ذكر الروايات التي تدل على أن أهل البيت محدثون وأنهم يعضدون هذه الروايات بروايات سنية ومنها قول النبي (ص) الذي اتفق عليه أهل السنة «إن فيكم محدثين» وقول بعض الصحابة : كنت أحدث حتى اكتويت ، ثم انتقل بعد ذلك إلى الروايات التي تدل على وحدة السنخية بين النبي والأئمة كقول النبي (ص) : إن الله خلقني وخلق علياً والحسن والحسين من نور واحد ، وقال في نهاية هذا الفصل : وإذا فنحن في النهاية نصل إلى عقيدة فلسفية أو ميتافيزيقية في إلامام تجعل من الأئمة ومن الرسول جوهراً نورانياً واحداً سابقاً على الوجود الأرضي وهنا نصل إلى نقطة هامة نسأل فيها عن ماهية درجة الإمامة وهل هي بدرجة النبوة أم لا ، واستطراداً من هنا أقول : إن المرء أمام هذه الآراء لا يستغرب أن تنشأ في تربتها آراء الغلاة ودعاوى التنبؤ ويجد في هذه إظهاراً طبيعياً لمكونات تلك إنتهى كلام فرغل بتخليص وتصرف في لفظ العبارة (1) مع حفظ المضمون بمنتهى الضبط .
اتضح من هذا الفصل الذي لخصناه ان فرغل يستنكر عدة امور ويعتبرها نوعا من الغلو وهي العصمة ، ثم وحدة الاصل والسنخية بين النبي (ص) وأهله (ع) ثم استنكر ما ينسب لاهل البيت من علوم واستنكر رابعا ان تكون منزلة الائمة بعد النبي (ص) وخامسا نسب الشيعة للغلو .

تعقيب

وأنا اوجه للاستاذ فرغل سؤالا هو : لو ان هذه الامور التي استنكرها عند الشيعة وجدت عند السنة فهل ينتقد السنة ام لا ، وستعجب من هذا السؤال وتقول كيف لا ينتقدهم والموضوع واحد ولا فرق بين ان يقول به السنة او الشيعة

(1) نشأة الاراء والمذاهب والفرق الكلامية جـ1 ص1279 حتى 142 .
هوية التشيع 155

وانا اجيبك انه لا ينتقدهم اذا كانوا غير شيعة وهو ما وقع بالفعل لانهم قالوا بهذه الامور التي نقد بها الشيعة وسأوقفك على قولهم فيما يلي :
1-فالأمر الاول :


الذي نقد به الشيعة القول بالعصمة ولا احتاج ان اكرر ما سبق ان ذكرته ودللت عليه من قول كثير من السنة بالعصمة ان لم يكن كلهم ومع ذلك لم يعرض لهم يحيى فرغل بالنقد ، على ان يحيى فرغل أهون من غيره في هذا الباب ، ذلك ان غيره كان اكثر منه عنفا وتهجما خذ مثلا : الدكتور نبيه حجاب أستاذ الادب ـ لو كان هناك أدب ـ في دار العلوم بالقاهرة ، ان هذا الرجل يشتم الشيعة شتما عجيبا ويعتبر عقيدتهم بالعصمة مظهرا من مظاهر الشعوبية فاسمعه يقول :
ان هذه العقيدة تسربت للشيعة عن الفرس الذين نشأوا على تقديس الحاكم لهذا اطلق عليها العرب النزعة الكسروية ـ ولا أعرف أحدا من العرب قال ذلك في حدود اطلاعي ـ ولعل غالبية الشيعة كانت ترمي من وراء هذه الفكرة الى تنزيه علي (ع) عن الخطأ حتى يتضح للملأ عدوان بني امية في اغتصاب الخلافة هذا وفي اليهودية كثير من المذاهب التي تسربت الى الشيعة (1) أسمعت هذه الانشودة التي يتناقلها الخلف عن السلف بصورة بلهاء وقد فندنا لك هذا الزعم فيما مضى من مبحث فارسية التشيع . لكن الذي اريد السؤال عنه ما هو الخطأ في سلوك الامام علي (ع) في نظر نبيه حجاب هل هو الحروب التي قام بها من اجل مبادئ مما ادى الى عدم الاستقرار في الوقت الذي لم يستقر فيه وضع الامويين الا على الجماجم وعلى كل حال لايضر عليا ان يخطئه نبيه حجاب بعد ان قال فيه الرسول علي مع الحق والحق مع علي . ومن الطبيعي جدا ان يكون علي في جانب مع من هو من معدنه ونبيه حجاب ومن هم من معدنه في الجانب المقابل .

(1) مظاهر الشعوبية في الادب العربي ص492 .
هوية التشيع 156

2-الامر الثاني :


الذي استنكره فرغل هو كون النبي (ص) وأهل بيته من نور واحد ، ولا أدري ما هو وجه الاستغراب بعد أن أثبت الشيعة ذلك من مصادره الصحيحة هل لان ذلك لم يصادف هوى في نفوس من لايوالون أهل البيت أم ماذا ؟ ثم لماذا اذا وجد مثل هذه عند السنة لايكون داعيا للاستغراب : هذا الذهبي يروي في ميزان الاعتدال حديثا عن طريق أبي هريرة عن النبي (ص) انه قال : خلقني الله من نور وخلق أبا بكر من نوري وخلق عمر من نور أبي بكر وخلق عثمان من نور عمر وعمر من سراج أهل الجنة(1) ولا ادري لماذا جاء النور الى حد عثمان ولم يصل الى علي مع انه على الاقل خليفة رابع ، لك الله ياابن ابي طالب ، وما ادري ماذا يقول الاستاذ فرغل هل هذا غلو أم لا أفتونا يرحمكم الله ، هذا مع انه من الطبيعي وحدة السنخية بين الانسان وأهله ، وال محمد عدل الكتاب وعيبة علم النبي فلماذا يستكثر عليهم الاستاذ فرغل ما لا يستكثره على غيرهم .
3- الامر الثالث :


الذي استنكره الاستاذ فرغل هو علم أهل البيت بالشريعة والعلوم القرانية وعلوم السنة الشريفة وان يكونوا محدثين ، وهنا يقال ان علم اهل البيت اما ان يكون بالطرق العادية كالتلقي والمدارسة ، او يكون من قبيل الالهام وانهم محدثون ، أما الطريق الاول فهو محقق لاهل البيت لانهم نشأوا في بيت محمد (ص) وتربوا في حجره وأخذوا العلوم من هذه البيئةوهذا امر لا غبار عليه ، أما العلم بالطريقة الثانية وهو الالهام والتحديث كما تذهب اليه الروايات فالمسلمون كلهم يقرون بذلك وسأذكر جملة من نصوصهم في امكان مثل هذا العلم :
يقول الالوسي في تفسيره روح المعاني عند تفسير عند تفسير الاية 65 من سورة النحل : وهي قوله تعالى : « قل لايعلم من في السماوات والارض الغيب الا

(1) ميزان الاعتدال جـ 1 ص 166
هوية التشيع 157

الله »
عقب عليها فقال : لعل الحق ان يقال ان علم الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ماكان للشخص بذاته أي بلا واسطة في ثبوته له ، وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شيء وانما هو من الواجب عز وجل افاضة منه عليهم بوجه من الوجوه ، فلا يقال انهم علموا بالغيب بذلك المعنى فانه كفر بل يقال انهم اظهروا واطلعوا على الغيب(1) .
وما قاله الالوسي هو عين ما ورد عن ائمة اهل البيت : يقول الامام الرضا ثامن أئمة اهل البيت : « يبسط لنا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم » وهذا المعنى هو عين مفاد الاية : 27 من سورة الجن وهي قوله تعالى : « عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسوله » وفي شرح هذه الاية يقول الرضا لعمرو بن هداب وقد سأله عن علم الائمة قال : « ان رسول الله (ص) هو المرتضى عند الله ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على غيبه فعلمنا ما كان وما يكون الى يوم القيامة » (2) وفي هذا المعنى يقول النيسابوري المفسر : ان امتناع الكرامة عن الاولياء اما لان الله ليس اهلا لان يعطي المؤمن مايريد ، واما لان المؤمن ليس اهلا لذلك وكل منهما بعيد فان توفيق المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده فاذا لم يبخل الفياض بالاشرف فلأن لا يبخل بالادون اولى .
وقد ألقى الامام الصادق (ع) الضوء على بعض العلوم التي اخذوها من القران بالطرق الطبيعية وذلك عندما سأله بعض اصحابه ، فقال الصادق « اني اعلم ما في السماوات وما في الارض واعلم ما في الجنة والنار واعلم ماكان وما يكون » فلما رأى ان السائل استغرب كلامه قال الامام : « اني علمت ذلك من كتاب الله عز وجل الذي يقول : « ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين » الاية 89 / من سورة النحل » وقد روى ذلك عنه وعن

(1) روح المعاني جـ20 ص9 .
(2) البحار للمجلسي جـ12 ص22 .
هوية التشيع 158

نظرية تلقي أهل البيت للعلم المقرم في فصل كبير(1) .

السنة وعلم الغيب

وبعد أن اشرت الى ان الشيعة يرون ان الامام مستعد لان يفيض عليه الله عز وجل من نوره وعلمه لانه اذا وجد القابل فلا بخل ، في ساحة الله تعالى فعلم الغيب للذات عند الشيعة مختص بالله تعالى أما علم أهل البيت فأما افاضة مباشرة من الله عن طريق الالهام أو التحديث ، أو بتوسط النبي ، على انه لا ينكر أن هناك من يغلو في اهل البيت ونحن من هؤلاء براء وسيمر علينا ذلك الا ان الذي اريد قوله : ان اهل السنة يبثون علم الغيب لائمتهم على نحو ما يفعل الشيعة ويرون انهم محدثون : ومن ذلك ما رواه القرطبي في تفسيره للاية 52 /من سورة الحج وهي قوله تعالى :
« وما ارسلنا قبلك من رسول ولا نبي » الى اخر الاية ، فقال : جاء عن ابن عباس انه كان يقرأ الاية هكذا : وما ارسلنا قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث الخ ذكره مسلمة بن القاسم بن عبد الله ورواه سفيان عن عمر بن دينار عن ابن عباس قال مسلمة : فوجدنا المحدثين معتصمين بالنبوة لانهم تكلموا بامور عالية من انباء الغيب خطرات ، ونطقوا بالحكمة الباطنة فاصابوا فيما تكلموا وعصموا فيما نطقوا كعمر بن الخطاب في قصة سارية وما تكلم به من البراهين العالية هذا هو نص ما اورده القرطبي(2) وكذلك روي السيوطي قراءة الاية المذكورة وتكلم عن المحدثين في تفسيره الدر المنثور فراجعه (3) .
وقد روي البخاري في صحيحه باب مناقب عمر عن ابي هريرة قال قال النبي (ص) لقد كان فيما قبلكم من نبي اسرائيل رجال يكلمون من غير ان يكونوا

(1) مقتل الحسين للمقرم باب علم الامام ص24 فصاعدا .
(2) انظر القرطبي تفسير سورة الحج من تفسيره .
. (3) انظر الدر المنثور جـ 4 ص336 .
هوية التشيع 159

أنبياء فان يكن من امتي فيهم أحد فعمر ، كما اخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي (ص) قد كان في الاسلام قبلكم محدثون فان يكن في امتي منهم احد فعمر بن الخطاب منهم (1) .
ولم يقف الامر عند الخلفاء ولكنه وصل الى عمران بن الحصين ، فعن مطرف قال : قال لي عمران بن الحصين : احدثك حديثا عسى الله ان ينفعك به : ان رسول الله (ص) جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قران يحرمه ، واني كنت احدث حتى اكتويت فتركت ثم تركت الكي فعاد وقد روي ذلك كل من الدارمي ومسلم في صحيحهما(2) .
ولست ادري ما هي صلة الكي بهروب المحدث والعلم عند الحصين رحمه الله .
بل ان عمر بن عبد العزيز الخليفة الاموي كان الخضر يمشي معه ويحدثه كما روى ذلك ابن حجر في التهذيب(3) .
وبعد كل هذا الذي اوردناه فهل يشكل هذا مبررا لان يكون أهل البيت ممن يفاض عليهم العلم أم لا ؟ أغلب الظن أن الاشكال سيبقى قائما وسيبقى الشيعة غلاة أو مخرفين لانهم يقولون ان الائمة يعلمون الغيب بامر الله .
الامر الرابع :


الذي استنكره الاستاذ فرغل ان تاتي منزلة أئمة أهل البيت بعد منزلة النبي (ص) مباشرة عند الشيعة ، والمقصود الائمة الاثنا عشر فقط لا غيرهم ، والحقيقة ان الشيعة ليسوا هم الذين وضعوا الائمة بهذا الوضع بل السماء هي التي وضعتهم والشيعة تعبدوا بأمر السماء يقول الله تعالى : « انما وليكم الله ورسوله

(1) صحيح البخاري وصحيح مسلم باب فضائل عمر .
(2) الغدير للاميني جـ 6 ص186 .
(3) التهذيب لابن حجر جـ7 ص477 .
هوية التشيع 160

والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون »
56/المائدة . فقد تظافرت الروايات على نزولها في الامام علي(ع) وانها اشركته في الولاية العامة وقد روى ذلك كل من الفخر الرازي في تفسيره ، وابن جرير الطبري في تفسيره ، والبيضاوي في تفسيره ، وأبي حيان في تفسيره والزمخشري في تفسيره وابن كثير في تفسيره وغيرهم ثم من بعد القران الكريم أعطته السنة النبوية هذه المكانة فقال له النبي (ص) : أنت مني بمنزلهة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي ، والحديث من الاحاديث المتواترة وقد أخرجه أهل الصحاح ومنهم البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب فضائل علي من صحيح البخاري وكذلك من صحيح مسلم .
ويأتي أولاد علي (ع) من بعده وقد وضعهم النبي (ص) في هذه المكانة وليس أدل على ذلك من انه جعلهم عدل الكتاب فقال (ص) اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا . الى اخر الحديث(1) . والان لنرجع الى الفكر السني فسنجده يضع أئمته في نفس الموضع بدون نكير بل يرى أن النبي (ص) وهو المسدد بالوحي لا يستغني عن هؤلاء الائمة لحاجته اليهم : يقول الحاكم في المستدرك بسنده عن حذيفة بن اليمان : سمعت رسول الله (ص) يقول لقد هممت ان ابعث الى الافاق رجالا يعلمون الناس السنن والفرائض كما بعث عيسى بن مريم الحواريين ، قيل له : فأين أنت عن أبي بكر وعمر ؟ فقال (ص) : انه لاغنى بي عنهما انهما من الدين كالسمع والبصر(2) .بل اعطى السنة للصحابة منزلة تساوي منزلة النبي من ناحية حجية أقوالهم وأفعالهم وكونهم مصدرا للتشريع : يقول موسى جار الله في الوشيعة : « نحن فقهاء اهل السنة والجماعة نعتبر سيرة الشيخين الصديق والفاروق أصلا تعادل سنن الشارع في اثبات الاحكام الشرعية في حياة الامة وادارة الدولة وان الخلافة الراشدة معصومة عصمة الرسالة وانها ناصفتها في

(1) البيان والتعريف لابن حمزة الحنفي جـ2 ص136 .
(2) مستدرك الحاكم جـ3 ص745 .
هوية التشيع 161

تثبيت اركان دين الاسلام » (1) فالخلفاء كما ينص جار الله هنا سيرتهم تعادل سنة النبي ونص القران ، والخلفاء معصومون كالنبي (ص) وأنهم شاطروا النبي فلهم نصف تثبيت الاسلام وللنبي (ص) النصف الثاني ويقول الامام الغزالي : مذهب الصحابي حجة مطلقا(2) .
ويقول : ابن قيم الجوزية ان فتاوى الصحابة أولى أن يوخذ بها وان اختلفوا فان كان الخلفاء الاربعة في شق فلا شك انه الصواب وان كان اكثرهم في شق فالصواب الشق الاغلب وان كانوا اثنين واثنين فشق ابي بكر وعمر أقرب الى الصواب فان اختلف أبو بكر وعمر فالصواب مع ابي بكر وكلما كان العهد بالرسول اقرب كان الصواب أغلب(3) وما ادري ما يقصده ابن القيم من قرب العهد فاذا كان يريد القرب الزماني فكل الخلفاء كانوا مع النبي (ص) في زمان واحد وأن كان يريد القرب المكاني بالاضافة لذلك فعلي كان الزم للنبي (ص) من ظله فعلى تعليل ابن القيم يجب تقديم قوله اذا تعارض مع اقوال غيره .
ودعني أحدثك عن اروع من هذا كله وهو أن يكون قول بعض الائمة السنة هو المقياس لتصحيح القران واحاديث النبي (ص) اذا اختلف الكتاب والسنة مع قول ذلك الامام : يقول الكرخي من ائمة الاحناف :
الاصل وجوب العمل بقول ابي حنيفة ، فأن وافقه نص الكتاب والسنة فذاك . والا وجب تأويل الكتاب والسنةعلى وفق قول ابي حنيفة ، وقد ذكر ذلك الاستاذ رشيد رضا في تفسير المنار عند تفسير الاية : « ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا » الآية 165 / من سورة البقرة (4) . وياتي القوشجي دون الكرخي بمرقاة فاذا كان الكرخي جعل فقه الاحناف هو المقياس الذي يعرض عليه الكتاب والسنة ، فأن القوشجي جعل للخليفة عمر حقا في ان يجتهد مقابل

(1) نظرية الامامة ص61 .
(2) المستصفى ج1 ص260 .
(3) أعلام الموقعين جـ4 ص118 .
(4) تفسير المنار جـ2 ص83 .
هوية التشيع 162

الرسول فاسمعه في مبحث الامامة من كتابه شرح التجريد يقول : ان عمر قال وهو على المنبر : ايها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله (ص) وانا انهى عنهن واحرمهن واعاقب عليهن : متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحي على خير العمل ، ثم عقب القوشجي على ذلك بقوله : ان ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه فان مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهاد ليس ببدع (1) .
بعد ذلك نقول الاستاذ فرغل اننا نضع الامامة بعد النبوة ونتعبد بما أعطاه النبي (ص) للامام من صلاحيات ، ولكننا لانجعل الامام مقياسا يعرض عليه الكتاب والسنة بل العكس المقياس هو الكتاب والسنة ونرمي بما خالفها عرض الجدار ، كما اننا لا نجيز الاجتهاد مقابل النص كما اعتبر القوشجي النبي (ص) على انه مجتهد وقد خالف بذلك اطلاق قوله تعالى : « وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى » الايتان 3و4 / من سورة النجم ، ومع ذلك فان تقييم الامام عندنا موضع استغراب ، بينما يذهب غيرنا في ائمتهم الى ماذكرناه عنهم ومع ذلك لا تسمع من ينقدهم فلماذا هذا يااستاذ فرغل ؟ هل حاولت مرة انت او امثالك ان تسالوا انفسكم عن صحة عقائدكم أو تنقدوها كما تنقدون غيركم ام انكم شعب الله المختار يجوز لكم ما لا يجوز لغيركم ام ماذا ؟
5- الامر الخامس :


اعتبر الاستاذ فرغل روايات الشيعة بانها مناخ صالح للغلو ، واريد ان اشرح للاستاذ فرغل موقف الشيعة من الغلو والغلاة : فالغلو عرفه الطبرسي في تفسيره عند شرح الاية 77 من سورة المائدة : « قل يا اهل الكتاب لا تغلوافي دينكم غير الحق » بأنه ما يقابل التقصير وهو تجاوز الحد ، فقال : ان معنى الاية : لاتتجاوز الحد الذي حده الله ، لكم الى الازدياد ، وضده : التقصير وهو الخروج عن الحد الى النقصان ، والزيادة في الحد والنقصان عنه كلاهما فساد ، ودين الله الذي أمر به هو بين الغلو والتقصير وهو الاقتصاد ـ اي اعتدال ـ (2) .

(1) الغدير للاميني جـ 6 ص223 .
(2) مجمع البيان جـ2 ص320 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي