الزيارة 201

9 ـ وقف محمد بن الحنفية على قبر الحسن بن علي «الامام» رضي الله عنهما فخنقته العبرة، ثمَّ نطق فقال: رحمك الله أبامحمد، فلئن عزّت حياتك فلقد هدّت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمّه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمّه كفنك، وكيف لايكون كذلك وأنت بقية ولد الانبياء، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، غذّتك أكفّ الحقّ، ورُبيت في حجر الاسلام، فطبت حيّاً وطبت ميتاً، وإنْ كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك ولاشاكّة في الخيار لك».
العقد الفريد 2: 8.
10 ـ وقف عليّ بن أبي طالب«أميرالمؤمنين»على قبرخبّاب فقال: «رحم الله خبّاباً، لقد أسلم راغباً، وجاهد طائعاً، وعاش مجاهداً، وابتلي في جسمه أحوالاً، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً».
العقد الفريد 2: 7.
11 ـ قامت عائشة على قبر أبيها أبي بكر الصديق فقالت: نضّر الله وجهك، وشكر صالح سعيك، فقد كنت للدنيا مذلاً بإدبارك عنها، وللاخرة معزّاً بإقبالك عليها، ولئن كان رزؤك أعظم المصائب بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأكبر الاحداث بعده، فإنّ كتاب الله تعالى قد وعدنا بالثواب على الصبر في المصيبة، وأنا تابعة له في الصبر فأقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ومستعيضة بأكثر الاستغفار لك، فسلام الله عليك توديع غير قالية لحياتك، ولا

الزيارة 202

رازئة على القضاء فيك».
المستطرف 2: 338.
12 ـ كان الحسن البصري إذا دخل المقبرة قال: اللّهمَّ ربّ هذه الاجساد البالية، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أدخل عليها روحاً منك وسلاماً منّا.
العقد الفريد 2: 6.
13 ـ قام ابن السمّاك على قبر أبي سليمان داود بن نصير الطائي المتوفّى 165هـ فقال: ياداود! كنت تسهر ليلك إذا الناس نائمون، وكنت تسلم إذا الناس يخوضون، وكنت تربح إذ الناس يخسرون، حتى عدّ فضائله كلها.
صفة الصفوة 3: 82.
هناك ألفاظ كثيرة في زيارة القبور لدة ماذكر، نقلت عن الائمة وأعلام المذاهب الاربعة، تنبأنا عن أنّ الزائر في وسعه أنْ يزور الميت ويدعو له بأي لفظ شاء وأراد، وله سرد ما يروقه من مناقبه وفضائله، وذكر ما يوجه إليه عطف المولى سبحانه ويستوجب له رحمته، والالفاظ المذكورة في زيارة النبيّ الاقدس (صلى الله عليه وآله وسلم)وزيارة الشيخين تثبت ما نرتأيه.

كلمات حول زيارة القبور

لاعلام العامة فيها فوائد جمة
1 ـ قال ابن الحاج أبو عبد الله العبدري المالكي المتوفّى 738هـ

الزيارة 203

في «المدخل: ج1، ص254»: وصفة السلام على الاموات أنْ يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، رحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية، ثمَّ يقول: اللّهمَّ اغفر لنا ولهم.
وما زدت أو نقصت فواسع، والمقصود الاجتهاد لهم في الدعاء، فانهم أحوج الناس لذلك لانقطاع أعمالهم، ثمَّ يجلس في قبلة الميت ويستقبله بوجهه، وهو مخّير في أنْ يجلس في ناحية رجليه إلى رأسه أو قبال وجهه، ثمَّ يثني على الله تعالى بما حضره من الثناء، ثمَّ يصلي على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)الصّلاة المشروعة، ثمَّ يدعو للميت بما أمكنه، وكذلك يدعو عند هذه القبور عند نازلة نزلت به أو بالمسلمين، ويتضرّع إلى الله تعالى في زوالها وكشفها عنه وعنهم.
وهذه صفة زيارة القبور عموماً، فإن كان الميت المزار ممّن ترجى بركته فيتوسّل إلى الله تعالى به، وكذلك يتوسّل الزائر بمن يراه الميت ممن ترجى بركته إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل يبدأ بالتوسّل إلى الله تعالى بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ هو العمدة في التوسّل، والاصل في هذا كله، والمشرّع له، فيتوسّل به (صلى الله عليه وآله وسلم) وبمن تبعه باحسان إلى يوم الدين.
وقد روى البخاري عن أنس (رضي الله عنه): أنّ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)كان إذا قحطوا استسقى بالعباس فقال: اللّهمَّ كنا نتوسّل اليك بنبيك (صلى الله عليه وآله وسلم)فتسقينا، وإنّا نتوسّل اليك بعم نبيك فاسقنا، فيسقون.

الزيارة 204

ثم يتوسّل بأهل تلك المقابر، أعني بالصالحين منهم، في قضاء حوائجه ومغفرة ذنوبه، ثمَّ يدعو لنفسه ولوالديه ولمشايخه ولاقاربه ولاهل تلك المقابر ولاموات المسلمين ولاحيائهم وذريتهم إلى يوم الدين، ولمن غاب عنه من اخوانه، ويجار إلى الله تعالى بالدعاء عندهم، ويكثر التوسّل بهم إلى الله تعالى لانه سبحانه وتعالى اجتباهم وشرفهم وكرمهم، فكما نفع بهم في الدنيا ففي الاخرة أكثر.
فمن أراد حاجة فليذهب اليهم ويتوسّل بهم، فانهم الواسطة بين الله تعالى وخلقه، وقد تقرر في الشرع وعلم مالله تعالى بهم من الاعتناء وذلك كثير مشهور، ومازال الناس من العلماء والاكابر، كابراً عن كابر مشرقاً مغرباً يتبركون بزيارة قبورهم ويجدون بركة ذلك حسّاً ومعنىً، وقد ذكر الشيخ الامام أبو عبد الله بن نعمان رحمه الله في كتابه المسمى بسفينة النجاة لاهل الالتجاء في كرامات الشيخ أبي النجاء في أثناء كلامه على ذلك ماهذا لفظه:
تحقّق لذوي البصائر والاعتبار إنَّ زيارة قبور الصالحين محبوبة لاجل مع الاعتبار، فإنّ بركة الصالحين جارية بعد مماتهم كما كانت في حياتهم، والدعاء عند قبور الصالحين والتشفع بهم معمول به عند علمائنا المحققين من أئمة الدين.
ولا يعترض على ماذكر من أنْ من كانت له حاجة فليذهب اليهم وليتوسّل بهم بقوله عليه الصّلاة والسلام: «لاتُشد الرحال

الزيارة 205

إلاّ لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، والمسجد الاقصى»(1) وقد قال الامام الجليل أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب آداب السفر من كتاب الاحياء له ما هذا نصه: القسم الثاني وهو أنْ يسافر لاجل العبادة، أمّا لجهاد أو حج.
إلى أنْ قال: ويدخل في جملته زيارة قبور الانبياء وقبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والاولياء، وكلّ من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض.
ولايمنع من هذا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لاتُشد الرحال إلاّ لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، والمسجد الاقصى» لانّ ذلك في المساجد لانها متماثلة بعد هذه المساجد، و إلاّ فلا فرق بين زيارة الانبياء والاولياء والعلماء في أصل الفضل وان كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله عز وجل، والله تعالى أعلم.
2 ـ قال عز الدين الشيخ يوسف الاردبيلي الشافعي المتوفّى 776هـ في «الانوار لاعمال الابرار» في الفقه الشافعي، ج1، ص124: ويستحب للرجال زيارة القبور، وتكره للنساء. والسنة أنْ يقول: سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إنْ شاء الله عن قريب

(1) صحيح البخاري 2:76، صحيح مسلم 2:1014ـ1397، سنن النسائي 2:73، مسند أحمد 2:234، المعجم الكبير للطبراني 2:310.
الزيارة 206

بكم لاحقون، اللّهمَّ لاتحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم. وأن يدنو من القبر كما كان يدنو من صاحبه حيّاً، وأن يقف متوجهاً إلى القبر، وأن يقرأ ويدعو، فإنّ الميت كالحاضر يُرجى له الرحمة والبركة، والدعاء عقيب القراءة أقرب إلى الاجابة.
3 ـ قال الشيخ زين الدين الشهير بابن نجيم المصري الحنفي969 ـ 70هـ في البحر الرائق شرح كنز الدقائق ـ للامام النسفي ـ 2: 195: قال في البدايع:
ولابأس بزيارة القبور والدعاء للاموات إنْ كانوا مؤمنين، من غير وطء القبور; لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها»، ولعمل الامة من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)إلى يومنا هذا.
وصرح في «المجتني» بأنها مندوبة، وقيل: تحرم على النساء، والاصحّ أنّ الرخصة ثابتة لهما، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم)يعلّم السلام على الموتى: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين. ذكره إلى آخره، ثمَّ ذكر قراءة القرآن عند القبور شيئاً من أدب الزيارة.
4 ـ أجاب بن حجر المكي الهيثمي المتوفّى 973هـ في الفتاوى الكبرى الفقهية 2: 24 لمّا سُئل (رضي الله عنه) عن زيارة قبور الاولياء في زمن معين مع الرحلة اليها، هل يجوز مع أنه يجتمع عند تلك القبور مفاسد كثيرة، كاختلاط النساء بالرجال، واسراج السرج الكثيرة، وغير ذلك؟ بقوله:

الزيارة 207

زيارة قبور الاولياء قربة مستحبة وكذا الرحلة اليها، وقول الشيخ أبي محمد: لاتستحب الرحلة إلاّ لزيارته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ردّه الغزالي بأنّه قاس ذلك على منع الرحلة لغير المساجد الثلاثة مع وضوح الفرق، فإنّ ما عدا تلك المساجد الثلاثة مستوية في الفضل، فلا فائدة في الرحلة اليها.
وأمّا الاولياء فانهم متفاوتون في القرب من الله تعالى ونفع الزائرين بحسب معارفهم وأسرارهم، فكان للرحلة اليهم فائدة أيّ فائدة، فمن ثمَّ سنّت الرحلة اليهم للرجال فقط بقصد ذلك وانعقد نذرها، كما بسطت الكلام على ذلك في «شرح العباب» بما لامزيد على حسنه وتحريره.
وما أشار إليه السائل من تلك البدع أو المحرمات، فالقربات لاتترك لمثل ذلك، بل على الانسان فعلها وإنكار البدع، بل وإزالتها إنْ أمكنه، وقد ذكر الفقهاء في الطواف المندوب فضلا عن الواجب أنه يُفعل ولو مع وجود النساء، وكذا الرمي، لكن أمروه بالبعد عنهنّ، وكذا الزيارة يفعلها لكن يبعد عنهنّ وينهي عما يراه محرماً، بل ويُزيله إنْ قدر كما مر.
هذا إنْ لم تتيسر له الزيارة إلاّ مع وجود تلك المفاسد، فإنّ تيسرت مع عدم المفاسد، فتارة يقدر على ازالة كلها أو بعضها فيتأكد له الزيارة مع وجود تلك المفاسد ليزيل منها ماقدر عليه، وتارة لا يقدر على ازالة شيء منها فالاولى له الزيارة في غير زمن

الزيارة 208

تلك المفاسد، يلزمه اطلاق منع نحو الطواف والرمي، بل والوقوف بعرفة أو مزدلفة والرمي إذا خشي الاختلاط أونحوه، فلمّا لم يمنع الائمة شيئاً من ذلك مع أنَّ فيه اختلاطاً أيّ اختلاط، وانمّا منعوا نفس الاختلاط لا غير فكذلك هنا.
ولاتغتّر بخلاف من أنكر الزيارة خشية الاختلاط، فانّه يتعين حمل كلامه على مافصلناه وقررناه، و إلاّ لم يكن له وجه، وزعم إنَّ زيارة الاولياء بدعة لم تكن في زمن السلف ممنوع، وبتقدير تسليمه فليس كلّ بدعة يُنهى عنها، بل قد تكون البدعة واجبة فضلاً عن كونها مندوبة، كما صرحوا به.
5 ـ قال الشيخ محمد الخطيب الشربيني المتوفّى 977هـ في «المغني 1: 357»: يسّن الوضوء لزيارة القبور كما قاله القاضي حسين في شرح الفروع، ويسلّم الزائر للقبور من المسلمين مستقبلاً وجهه، ويقرأ عنده من القرآن ما تيسر، ويدعو له عقب القراءة رجاء الاجابة لانّ الدّعاء ينفع الميت وهو عقب القراءة أقرب إلى الاجابة، وعند الدّعاء يستقبل القبلة، وإنْ قال الخراسانيون باستحباب استقبال وجه الميت.
قال المصنّف: ويستحب الاكثار من الزيارة، وأنْ يكثر الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل، انتهى ملخّصاً.
6 ـ قال الملا علي الهروي القاري الحنفي المتوفّى 1014هـ في «المرقاة شرح المشكاة 2: 404»، في زيارة القبور: الامر فيها

الزيارة 209

للرخصة أو الاستحباب، وعليه الجمهور، بل ادّعى بعضهم الاجماع، بل حكى ابن عبد البّر عن بعضهم وجوبها.
7 ـ قال الشيخ أبو البركات حسن بن عمار بن علي، المكنّى بابن الاخلاص الوفائي الشرنبلالي الحنفي المتوفّى 1069هـ في حاشية(1) غرر الاحكام المطبوعة بهامش درر الاحكام 1: 168: زيارة القبور مندوبة للرجال، وقيل: تحرم على النساء، والاصحّ أنّ الرخصة ثابتة لهما، ويستحب قراءة يس، لما ورد: «من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفّف الله عنهم يومئذ، وكان له بعدد مافيها حسنات»(2) .
وقال في «مراقي الفلاح»: فصل في زيارة القبور: ندب زيارتها من غير أنْ يطأ القبور للرجال والنساء فتندب لهن أيضاً على الاصحّ، والسنّة زيارتها قائماً والدعاء عندها قائماً، كما كان يفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في الخروج إلى البقيع ويقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لي ولكم العافية.
ويستحب للزائر قراءة سورة يس، لما ورد عن أنس (رضي الله عنه)أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من دخل المقابر فقرأ سوة يس (يعني وأهدى ثوابها للاموات) خفّف الله عنهم يومئذ العذاب،

(1) تُسمى غنية ذوي الاحكام في بغية الاحكام.
(2) انظر كنز العمال 15: 650 ـ 42577.
الزيارة 210

ورفعه»(1) . وكذا يوم الجمعة يرفع فيه العذاب عن أهل البرزخ، ثمَّ لا يعود على المسلمين وكان له (أي للقارئ) بعدد مافيها (رواية الزيلعي: من فيها من الاموات) حسنات.
وعن أنس أنّه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يارسول الله إنّا نتصدق عن موتانا ونحجّ عنهم وندعوا لهم، فهل يصل ذلك اليهم؟ فقال: «نعم ليصل ذلك اليهم ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أُهدي إليه»، رواه أبو حفص السكيري.
إلى أنْ قال: وعن علي (رضي الله عنه): «أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من مرّ على المقابر فقرأ قل هو الله أحد احدى عشر مرة، ثمَّ وهب أجرها للاموات، أُعطي من الاجر بعدد الاموات»(2). رواه الدارقطني.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنّه قال: «من دخل المقابر فقال: اللّهمَّ رب هذه الاجساد البالية والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة ادخل بها روحاً من عندك وسلاماً مني. استغفر له كلّ مؤمن مات منذ خلق الله آدم».
وأخرج ابن أبي الدنيا بلفظ: «كتب له بعدد من مات من ولد آدم إلى أن تقوم الساعة حسنات».
8 ـ قال الشيخ محمد أمين الشهير بابن عابدين المتوفّى 1253هـ في «ردّ المحتار على الدر المختار» في الفقه الحنفي 1: 630 بعد بيان

(1) انظر كنز العمال 15: 650 ـ 42577.
(2) كنز العمال 15: 655 ـ 42596.
الزيارة 211

استحباب زيارة القبور: وتُزار في كل اسبوع كما في «مختارات النوازل»، فقد قال محمد بن واسع: الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة يوماً قبله ويوماً بعده، فتحصّل أنّ يوم الجمعة أفضل.انتهى.
وفيه: يستحب أنْ يزور شهداء جبل أحد، لما روي ابن أبي شيبة: أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأتي قبور الشهداء بأحد على رأس كلّ حول، فيقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار»، والافضل أنْ يكون ذلك يوم الخميس متطهراً مبكراً، لئلا تفوته الظهر بالمسجد النبوي.انتهى.
قلت: استفيد منه ندب الزيارة وإنْ بعد محلها، وهل تندب الرحلة لهاكما أعتيد من الرحلة إلى زيارة خليل الرحمن وأهله وأولاده وزيارة السيد البدوي وغيره من الاكابر الكرام؟! لم أَرَ من صرّح به من أئمتنا، ومنع منه بعض الشافعية إلاّ لزيارته (صلى الله عليه وآله وسلم)قياساً على منع الرحلة لغير المساجد الثلاثة، وردّه الغزالي بوضوح الفرق.
ثمّ ذكر محصّل قول الغزالي فقال: قال ابن حجر في فتاواه: ولا تُترك لما يحصل عندها من منكرات ومفاسد، كاختلاط الرجال بالنساء وغير ذلك; لانّ القربات لاتُترك لمثل ذلك، بل على الانسان فعلها وانكار البدع، بل وازالتها إنْ أمكن. انتهى.
قلت: ويؤيده ما مرّ من عدم ترك اتباع الجنازة وإن كان معها

الزيارة 212

نساء ونائحات، إلى أنْ قال:
قال في الفتح: والسنّة زيارتها قائماً، والدعاء عندها قائماً، كما كان يفعله (صلى الله عليه وآله وسلم)في الخروج إلى البقيع، ويقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون.
وفي شرح «اللباب» للملا علي القاري: ثمَّ من آداب الزيارة ماقالوا من أنّه يأتي الزائر من قبل رجلي المتوفّى لا من قبل رأسه; لانّه أتعب لبصر الميت، بخلاف الاوّل; لانّه يكون مقابل بصره. لكن هذا إذا أمكنه، وإلاّ فقد ثبت أنّه عليه السلام قرأ أول سورة البقرة عند رأس ميت وآخرها عند رجليه.
9 ـ قال الشيخ ابراهيم الباجوري المتوفّى 1277هـ في حاشيته على شرح ابن الغزّي 1: 277: تندب زيارة القبور للرجال لتذكّر الاخرة، وتكره من النساء لجزعهنّ وقلة صبرهنّ، ومحل الكراهة فقط إنْ لم يشتمل اجتماعهنّ على محرم و إلاّ حرم، ويُستثنى من ذلك قبر نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) فتندب لهنّ زيارته وينبغي كما قال ابن الرفعة: إنَّ قبور الانبياء والاولياء كذلك.
ويندب أنْ يقول الزائر: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون، ونسأل الله لنا ولكم العافية، اللّهمَّ لاتحرمنا أجرهم، ولاتفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم. وأن يقرأ ما تيسر من القرآن كسورة يس، ويدعو لهم ويهدي ثواب ذلك لهم، وأن يتصدق عليهم، وينفعهم ذلك فيصل ثوابه لهم، ويسّن أنْ يقرب

الزيارة 213

من المزور كقربه منه حياً. وأن يسلّم عليه من قبل رأسه، ويكره تقبيل القبر، إلى آخر مامرّ ص154.
10 ـ قال الشيخ عبد الباسط ابن الشيخ علي الفاخوري المفتي ببيروت في كتابه (الكفاية لذوي العناية) 80: يسّن زيارة القبور للرجال، وتكره للنساء إلاّ القبر الشريف، وكذا قبور بقية الانبياء والصالحين. و يُسنّ أنْ يقول الزائر: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون، وأن يقرأ ماتيسر من القرآن كسورة يس، وأن يدعو للميت بعد القراءة. وأن يقول: اللّهمَّ أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، وأن يقرب من القبر كقربه منه لو كان حياً.
11 ـ قال الشيخ عبد المعطي السقا في «الارشادات السنية:111»: زيارة قبور المسلمين مندوبة للرجال لخبر مسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فإنّها تذكّركم الاخرة»(1) ، أمّا زيارة النساء فمكروهة إنْ كانت لقبر غير نبيّ وعالم وصالح وقريب، أمّا زيارة قبر النبيّ ومن ذكر معه فمندوبة لهنّ بدون محرم إنْ كانت القبور داخل البلد، ومع محرم إنْ كانت خارجه، ومحل ندب زيارتهنّ أو كراهتها إذا أذن لهنّ الحليل أو الولي وأمنت الفتنة ولم يترتب على اجتماعهنّ مفسدة كما هو الغالب، بل المتحقق في هذا الزمان، و إلاّ فلا ريبة في تحريمها.

(1) تقدمت مصادره في الصفحة:
الزيارة 214

ويستحب الاكثار من الزيارة، لتحصيل الاعتبار والعظة وتذكر الاخرة، وتتأكّد الزيارة عشّية يوم الخميس ويوم الجمعة بتمامه، ويكره يوم السبت.
وينبغي للزائر أنْ يقصد بزيارته وجه الله واصلاح فساد قلبه، وأن يكون على طهارة، رجاء قبول دعائه لنفسه وللميت، وأن يسلّم على من بالمقبرة بقوله: السلام عليكم دار قوم مؤمنين «وذكره إلى آخره» ثمَّ إذا وصل إلى قبر ميّته قرب منه ووقف مستقبلاً وجهه خاشعاً قائلاً: السلام عليك. ثمَّ يقرأ عنده ماتيسر من القرآن كسورة الفاتحة وسورة يس وسورة تبارك وسورة الاخلاص والمعوذتين.
والافضل أنْ يكون وقت القراءة جالساً مستقبل القبلة، قاصداً نفع الميت بمايتلوه، وأن يكثر من التصدق، وأن يرّش القبر بالماء الطاهر، وأن يضع عليه جريداً أخضر ونحوه كالريحان والبريسم، وتتأكّد زيارة الاقارب والدعاء لهم سيّما الوالدين، فقد ورد في الحث على زيارتهما والدعاء لهما أخبار كثيرة صحيحة.
12 ـ قال منصور علي ناصف في «التاج الجامع للاصول في أحاديث الرسول 1: 418»: الامر«في زيارة القبور» للندب عند الجمهور، وللوجوب عند ابن حزم ولو مرّة واحدة في العمر.
وقال في 419: زيارة النساء للقبور جائزة بشرط الصبر وعدم الجزع وعدم التبرّج، وأن يكون معها زوج أو محرم، منعاً للفتنة،

الزيارة 215

لعموم الحديث (الاول)، ولقول عائشة: كيف أقول لهم يارسول الله؟...الخ. ولزيارة عائشة لقبر أخيها عبد الرحمن، فلما اعترضها عبد الله قالت: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عن زيارة القبور ثمَّ أمر بزيارتها، رواه أحمد(1) وابن ماجة(2) .
13 ـ قال فقهاء المذاهب الاربعة مؤلفوا كتاب الفقه على المذاهب الاربعة 1: 424: زيارة القبور مندوبة للاتعاظ وتذكّر الاخرة، وتتأكد يوم الجمعة ويوماً قبلها ويوماً بعدها(3) . وينبغي للزائر الاشتغال بالدعاء والتضرع، والاعتبار بالموتى، وقراءة القرآن للميت، فإنّ ذلك ينفع الميت على الاصحّ، وممّا ورد أنْ يقول الزائر عند رؤية القبور:
اللّهمَّ ربّ الارواح الباقية، والاجسام البالية، والشعور الممزقة، والجلود المنقطعة، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أنزل عليها روحاً منك وسلاماً مني.
وممّا ورد أيضاً أنْ يقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون.

(1) مسند أحمد 2:214.
(2) سنن ابن ماجة 1: 500 ـ 1570.
(3) الحنابلة قالوا: لا تتأكد الزيارة في يوم دون يوم، والشافعية قالوا: تتأكد من عصر يوم الخميس إلى طلوع شمس يوم السبت، وهذا قول راجح عند المالكية، وكذا في هامش الفقه على المذاهب الاربعة. «المؤلّف».
الزيارة 216

ولافرق في الزيارة بين كون المقابر قريبة أو بعيدة، بل يندب السفر لزيارة الموتى، خصوصاً مقابر الصالحين، أمّا زيارة قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)فهي من أعظم القرب. وكما تندب زيارة القبور للرجال تندب أيضاً للنساء العجائز اللاتي لايُخشى منهنّ الفتنة إنْ لم تؤد زيارتهنّ إلى الندب أو النياحة، وإلاّ كانت محرمة.

النذور لاهل القبور

إنّ لابن تيميّة ومن لفّ لفّه في المسألة هثهثة، أتوا فيها بالمهاجر، ورموا مخالفيهم من فرق المسلمين بمهجرات، وقد مرّ عن القصيمي ص90 أنّها من شعائر الشيعة الناشئة عن غلوهم في أئمتهم وتأليههم لعلي وولده.
إنّ هذا إلاّ اختلاق وليس إلاّ الهث والهتر، وماشذّت الشيعة في المسألة عمّا أصفقت عليه الامة الاسلامية سلفاً وخلفاً، فقد بسط الخالدي فيها القول في كتابه «صلح الاخوان: 102 ـ 109»، ومجمل ذلك التفصيل: إنَّ المسألة تدور مدار نيات الناذرين، وانّما الاعمال بالنّيات، فإن كان قصد الناذر الميت نفسه والتقرب إليه بذلك، لم يجز قولاً واحداً. وإن كان قصده وجه الله تعالى وانتفاع الاحياء بوجه من الوجوه وثوابه لذلك المنذور له الميت، سواء عيّن وجها من وجوه الانتفاع أو أطلق القول فيه، ويكون هناك ما يطرد الصرف فيه في عرف الناس من مصالح القبر أو أهل بلده أو

الزيارة 217

مجاوريه أو الفقراء عامّة أو أقرباء الميت أو نحو ذلك، ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالنذور.
وحكى القول بذلك عن الاذرعي، والزركشي، وابن حجر الهيثمي المكي، والرملي الشافعي، والقباني البصري، والرافعي، والنووي، وعلاء الدين الحنفي، وخير الدين الرملي الحنفي، والشيخ محمد الغزّي، والشيخ قاسم الحنفي.
وذكر الرافعي نقلاً عن صاحب «التهذيب» وغيره: أنه لو نذر أنْ يتصدق بكذا على أهل بلد عينه، يجب أنْ يتصدّق به عليهم.
قال: ومن هذا القبيل ما ينذر بعثه إلى القبر المعروف بجرجان، فإنّ ما يجتمع منه على مايحكى يقسّم على جماعة معلومين، وهذا محمول على أنّ العرف اقتضى ذلك، فنزل النذر عليه. ولاشك أنّه إذا كان عرف حمل عليه، وإن لم يكن عرف فيظهر أنْ يجري فيه خلاف وجهين:
أحدهما: لايصح النذر، لانّه لم يشهد له الشرع، بخلاف الكعبة والحجرة الشريفة. والثاني: يصحّ إذا كان مشهوراً بالخير، وعلى هذا ينبغي أنْ يصرف في مصالحه الخاصة به ولا يتعدّاها، واستقرب السبكي بطلان النذر في صورة عدم العرف هناك للصرف.
راجع فتاوى السبكي 1: 294.
وقال العزامي في «فرقان القرآن: 133»: وقال (يعني ابن

الزيارة 218

تيمّية): من نذر شيئاً للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)أو غيره من النبيين والاولياء من أهل القبور، أو ذبح له ذبيحة، كان للمشركين الذين يذبحون لاوثانهم وينذرون لها، فهو عابد لغير الله، فيكون بذلك كافراً. ويطيل في ذلك الكلام، واغترّ بكلامه بعض من تأخّر عنه من العلماء ممّن ابتلى بصحبته أو صحبة تلاميذه.
وهو منه تلبيس في الدين، وصرف إلى معنى لا يريده مسلم من المسلمين، ومن خبر حال من فعل ذلك من المسلمين وجدهم لايقصدون بذبائحهم ونذورهم للميتين من الانبياء والاولياء إلاّ الصدقة عنهم، وجعل ثوابها اليهم، وقد علموا أن اجماع أهل السنة منعقد على أنّ صدقة الاحياء نافعة للاموات واصلة بهم، والاحاديث في ذلك صحيحة مشهورة:
فمنها ماصحّ عن سعد أنه سأل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يانبيّ الله إنَّ أمي قد أفتلتت، وأعلم أنّها لو عاشت لتصدّقت، أفإن تصدّقت عنها أينفعها ذلك؟ قال: «نعم»، فسأل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أيّ الصدقة أنفع يارسول الله؟ قال: «الماء»، فحفر بئراً وقال: هذه لام سعد(1) .
فهذه اللام هي الداخلة على الجهة التي وجهت اليها الصدقة، لاعلى المعبود المتقرب إليه، وهي كذلك في كلام المسلمين، فهم سعديون لاوثنيون، وهي كاللام في قوله: « انما الصدقات

(1) مسند أحمد 6: 7.
الزيارة الصفحة 219

للفقراء »(1) ، لا كاللام التي في قول القائل: صلّيت لله ونذرت لله، فاذا ذبح للنبيّ أو نذر الشيء له فهو لا يقصد إلاّ أنْ يتصدق بذلك عنه ويجعل ثوابه إليه، فيكون من هدايا الاحياء للاموات المشروعة المثاب على اهدائها، والمسألة مبسوطة في كتب الفقه وفي كتب الردّ على هذا الرجل ومن شايعه. انتهى.
فالنذر بالذبح وغيره للانبياء والاولياء أمر مشروع سائغ من سيرة المسلمين عامة، من دون أي اختصاص بفرقة دون أخرى، وانما يثاب به الناذر إنْ كان لله وذبح المنذور بالذبح باسم الله.
قال الخالدي: بمعنى إنَّ الثواب لهم والمذبوح منذور لوجه الله، كقول الناس: ذبحت لميتي، بمعنى تصدّقت عنه، وكقول القائل: ذبحتُ للضيف، بمعنى أنه كان السبب في حصول الذبح. انتهى.
وليس أيّ وازع من جواز نذر الذبح ولزوم الوفاء به إنْ كان على الوجه المذكور، ولا يتصور من مسلم وغيره.
وربما يستدل في المقام بما أخرجه أبو داود السجستاني في سننه2: 80 باسناده عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنْ ينحر أبلاً ببوانة(2) ، فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فأخبره فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «هل كان فيها وثن يعبد من أوثان الجاهلية؟» قالوا: لا قال: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟» قالوا: لا، قال

(1) التوبة 60.
(2) بضم الموحدة وتخفيف الواو. هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر. «المؤلّف».
الزيارة 220

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أوف بنذرك، فإنّه لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى ولا فيه ما لا يملك ابن آدم».
وبما أخرجه أبو داود في السنن 2: 81 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت: يارسول الله إنّي نذرت أنْ أضرب على رأسك الدف. قال: «أوفي نذرك»، قالت: إنّي نذرت أنْ أذبح بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية، قال: «لصنم؟» قالت: لا، قال: «لوثن؟»، قالت: لا، قال: «أوفي بنذرك»(1) .
وفي «معجم البلدان 2: 300»: وفي حديث ميمونة بنت كردم: أنّ أباها قال للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّي نذرت أنْ أذبح خمسين شاة على بوانة. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «هناك شيء من هذه النصب؟» فقال: لا، قال: «فأوف بنذرك» فذبح تسعاً وأربعين، وبقيت واحدة فجعل يعدو خلفها ويقول: اللّهمَّ أوف بنذري حتّى أمسكها، فذبحها «وهذا معنى الحديث لالفظه».
قال الخالدي في «صلح الاخوان: 109»، بعد ذكر حديثي أبي داود: وأمّا استدلال الخوارج بهذا الحديث على عدم جواز النذر في أماكن الانبياء والصالحين، زاعمين أنّ الانبياء والصالحين أوثان والعياذ بالله وأعياد من أعياد الجاهلية، فهو من ضلالهم وخرافاتهم وتجاسرهم على أنبياء الله وأوليائه حتّى سموهم أوثاناً،

(1) على القارئ أن يمعن النظر في صدر هذا الحديث ويعرف مكانة النبيّ الاقدس في السنن، حاشا نبيّ القداسة عن هذه المخازي. «المؤلّف».

السابق السابق الفهرس التالي التالي