الزيارة 106

22 ـ قال الحافظ أبو العبّاس القسطلاني المصري المتوفّى 923هـ، في «المواهب اللدنيَّة»: الفصل الثاني في زيارة قبره الشَّريف ومسجده المنيف: إعلم أنَّ زيارة قبره الشَّريف من أعظم القربات وأرجى الطاعات والسبيل إلى أعلى الدرجات، ومَنْ إعتقد غير هذا فقد إنخلع من ربقة الاسلام، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الاعلام، وقد أطلق بعض المالكيَّة وهو أبو عمران الفاسي كما ذكره في «المدخل» عن «تهذيب الطالب» لعبد الحقّ: أنَّها واجبةٌ، قال: ولعلّه أراد وجوب السُنن المؤكّدة. وقال القاضي عياض: إنَّها من سُنن المسلمين، مجمعٌ عليها، وفضيلةٌ مرغَّبٌ فيها، ثمَّ ذكر جملةً من الاحاديث الواردة في زيارته (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: وقد أجمع المسلمون على إستحباب زيارة القبور كما حكاه النووي و أوجبها الظاهريَّة، فزيارته (صلى الله عليه وآله وسلم)مطلوبةٌ بالعموم والخصوص كما سبق، ولانَّ زيارة القبور تعظيمٌ، وتعظيمه (صلى الله عليه وآله وسلم)واجبٌ، ولهذا قال بعض العلماء: لا فرق في زيارته (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الرِّجال والنساء وإن كان محل الاجماع على إستحباب زيارة القبور الرِّجال، وفي النساء خلافٌ، الاشهر في مذهب الشافعي الكراهة.
قال ابن حبيب من المالكيَّة: ولا تدع في زيارة قبره (صلى الله عليه وآله وسلم)والصَّلاة في مسجده، فإنَّ فيه من الرغبة ما لا غنى بك وبأحد عنه، وينبغي لمن نوى الزيارة أن ينوي مع ذلك زيارة مسجده الشريف

الزيارة 107

والصَّلاة فيه; لانَّه أحد المساجد الثلاثة التي لا تشدّ الرحال إلاّ إليها، وهو أفضلها عند مالك. وليس لشدِّ الرِّحال إلى غير المساجد الثلاثة فضلٌ; لانَّ الشَّرع لم يجييء به، وهذا الامر لا يدخله قياسٌ; لانّ شرف البقعة إنَّما يُعرف بالنصِّ الصريح عليه، وقد ورد النصُّ في هذه دون غيرها.
وقد صحَّ عن عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد للسَّلام على النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالسفر إليه قربةٌ، لعموم الادلَّة، ومَنْ نذر الزيارة وجبت عليه كما جزم به ابن كج من أصحابنا، وعبارته: إذا نذر زيارة قبر النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لزمه الوفاء وجهاً واحداً. إنتهى.
إلى أن قال: وللشيخ تقيِّ الدين إبن تيمية هنا كلامٌ شنيعٌ عجيبٌ، يتضمَّن منع شدِّ الرِّحال للزيارة النبويَّة، وأنَّه ليس من القرب، بل يضدُّ ذلك، وردَّ عليه الشيخ تقيّ الدين السبكي في «شفاء السِّقام»، فشفى صدور المؤمنين.
23 ـ ذكر شيخ الاسلام أبو يحيى زكريّا الانصاري الشافعي المتوفّى 925هـ، في «أسنى المطالب» شرح «روض الطالب» ـ لشرف الدين إسماعيل بن المقري اليمني ـ: ج1، ص501، ما يستحبّ لمن حجَّ وقال: ثمَّ يزور قبر النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)ويسلّم عليه وعلى صاحبيه بالمدينة المشرَّفة، ثمَّ ذكر شطراً من أدلّتها وجملة من آداب الزيارة.
24 ـ قال إبن حجر الهيتمي المكي الشافعي المتوفّى 973هـ، في

الزيارة 108

كتابه (الجوهر المنظّم في زيارة القبر المكرَّم) ص12 ط سنة 1279 بمصر ـ بعد ما إستدلَّ على مشروعيَّة زيارة قبر النبيِّ بعدَّة أدلّة منها الاجماع ـ فإن قلتَ: كيف تحكي الاجماع على مشروعيَّة الزيارة والسفر إليها وطلبها، وابن تيميَّة من متأخِّري الحنابلة منكرٌ لمشروعيَّة ذلك كلّه، كما رآه السبكي في خطِّه؟! وقد أطال ابن تيميَّة الاستدلال لذلك بما تمجه الاسماع، وتنفر عنه الطباع، بل زعم حرمة السَّفر لها إجماعاً وأنَّه لا تقصّر فيه الصَّلاة، وأنّ جميع الاحاديث الواردة فيها موضوعةٌ، وتبعه بعض مَنْ تأخَّر عنه من أهل مذهبه.
قلتُ: مَنْ هو ابن تيميَّة؟ حتّى يُنظر إليه أو يُعوَّل في شيء من اُمور الدِّين عليه، وهل هو إلاّ كما قال جماعة من الائمَّة ـ الذين تعقَّبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة، حتَّى أظهروا عوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته كالعزّ بن جماعة ـ: عبدٌ أضلّه الله تعالى وأغواه، وألبسه رداء الخزي وأراده، وبوَّأه من قوَّة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان وأوجب له الحرمان ولقد تصدّى شيخ الاسلام وعالم الانام، المجمع على جلالته وإجتهاده وصلاحه وإمامته، التقيُّ السبكيُّ قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه، للردِّ عليه في تصنيفُ مستقلّ، أفاد فيه وأجاد، وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الصَّواب.

الزيارة 109

ثمَّ قال: هذا وما وقع من ابن تيميَّة ممّا ذكر وإن كان عثرةً لاتُقال أبداً، ومصيبةً يستمرُّ شؤمها سرمداً، وليس بعجيب فإنَّه سوَّلت له نفسه وهواه وشيطانه أنَّه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب، وما درى المحروم أنَّه أتى بأقبح المعائب، إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة، وتدارك على أئمَّتهم ـ سيَّما الخلفاء الراشدين ـ بإعتراضات سخيفة شهيرة، حتّى تجاوز إلى الجناب الاقدس المنزَّه سبحانه عن كلِّ نقص والمستحقِّ لكل كمال أنفس، فنسب إليه الكبائر والعظائم، وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامَّة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم، وتضليل مَنْ لم يعتقد ذلك من المتقدِّمين والمتأخرين، حتّى قام عليه علماء عصره وألزموا السّلطان بقتله أو حبسه وقهره، فحبسه إلى أن مات، وخمدت تلك البدع، وزالت تلك الضَّلالات، ثمَّ إنتصر لهُ أتباعٌ لم يرفع الله لهم رأساً، ولم يظهر لهم جاهاً ولا بأساً، بل ضُربت عليهم الذلَّة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
25 ـ قال الشيخ محمَّد الخطيب الشربيني المتوفّى 977هـ، في «مغني المحتاج: 1، 357»: ومحلّ هذه الاقوال(1) في غير زيارة قبر سيِّد المرسلين، أمّا زيارته فمن أعظم القربات للرِّجال والنساء، وألحقَ الدمنهوري به قبور بقيّة الانبياء والصّالحين والشهداء،

(1) يعني الاقوال في زيارة القبور للنساء من الندب والكراهة والحرمة والاباحة. «المؤلّف».
الزيارة 110

وهو ظاهرٌ وإن قال الاذرعي: لم أره للمتقدِّمين، قال ابن شهبة: فإن صحَّ ذلك فينبغي أن يكون زيارة قبر أبويها وأخوتها وسائر أقاربها كذلك فإنَّهم أولى بالصّلة من الصالحين. إنتهى.
والاولى عدم إلحاق بهم، لما تقدَّم من تعليل الكراهة(1) .
وقال في ص494، بعد بيان مندوبيَّة زيارة قبره الشريف (صلى الله عليه وآله وسلم)وذكر جملةً من أدلّتها: ليس المراد إختصاص طلب الزيارة بالحجِّ، فإنَّها مندوبةٌ مطلقاً كما مرَّ بعد حجّ أو عمرة أو قبلهما أو لامع نسك; بل المراد [يعني من قول المصنِّف بعد فراغ الحجِّ] تأكّد الزيارة فيها لامرين:
أحدهما: أنَّ الغالب على الحجيج الورود من آفاق بعيدة، فإذا قربوا من المدينة يقبح تركهم الزيارة.
والثاني: لحديث «مَنْ حجَّ ولم يزرني فقد جفاني»، رواه ابن عدي في الكامل(2) وغيره(3) . وهذا يدلُّ على أنَّه يتأكّد

(1) من أنّها مظنّة لطلب بكائهن و رفع أصواتهن، لما فيهن من رّقة القلب وكثرة الجزع.
قال الاميني: هذا التعليل عليل جداً، كما يأتي بيانه في كلمة ابن حجر في زيارة القبور. «المؤلّف».
(2) الكامل في الضعفاء 7: 248.
(3) منهج الدار قطني في سننه 2: 278، والسبكي في شفاء السقام: 22، والسمهودي في وفاء الوفاء 2: 398، والشوكاني في نيل الاوطار 4: 325، والسيوطي في اللالي المصنوعة 2: 72 والدر المنثور 1: 237، والتقي الهندي في كنز العمال 5: 135/12371.
الزيارة 111

للحاجِّ أكثر من غيره، وحكم المعتمر حكم الحاجّ في تأكّد ذلك.
26 ـ قال الشيخ زين الدين عبد الرؤوف المناوي المتوفّى 1031هـ، في شرح الجامع الصغير 6 ص140: وزيارة قبره (صلى الله عليه وآله وسلم)الشريف من كمالات الحجِّ، بل زيارته عند الصوفيَّة فرضٌ، وعندهم الهجرة إلى قبره كهي إليه حيّاً. قال الحكيم: زيارة قبر المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)هجرة المضطرِّين هاجروا إليه فوجدوه مقبوضاً فإنصرفوا، فحقيقٌ أن لا يخيّبهم، بل يوجب لهم شفاعة تقيم حرمة زيارتهم.
وقال في شرح الحديث الاوَّل المذكور ص93: إنَّ أثر الزيارة إمّا الموت على الاسلامُ مطلقاً لكلِّ زائر، وإمّا شفاعةٌ تخصُّ الزائر أخصَّ من العامّة، وقوله: شفاعتي» في الاضافة إليه تشريفٌ لها، إذ الملائكة وخواصُّ البشر يشفعون، فللزائر نسبةٌ خاصّةٌ، فيشفع هو فيه بنفسه، والشفاعة تعظم بعظم الزائر.
27 ـ جعل الشيخ حسن بن عمّار الشرنبلالي في «مراقي الفلاح بإمداد الفتاح» فصلاً في زيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: زيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)من أفضل القربات وأحسن المستحبّات، تقرب من درجة مالزم من الواجبات، فإنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حرَّض عليها وبالغ في الندب إليها فقال: «مَنْ وجد سعةً فلم يزرني فقد جفاني»(1) ، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ

(1) تقّدمت مصادره في الصفحة.
الزيارة 112

زار قبري وجبت له شفاعتي»(1) ، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ زارني بعد مماتي فكأنَّما زارني في حياتي»(2) ، إلى غير ذلك من الاحاديث.
وممّا هو مقرّرٌ عند المحقِّقين إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيٌّ يُرزق ممتّعٌ بجميع الملاذِّ والعبادات، غير أنّه حُجب عن أبصار القاصرين عن شرف المقامات، ورأينا أكثر الناس غافلين عن أداء حقِّ زيارته، وما يسنُّ للزائر من الجزئيّات والكليّات أحببنا أن نذكر بعد المناسك وآدابها ما فيه نبذة من الاداب تتميماً لفائدة الكتاب، ثمَّ ذكر شيئاً كثيراً من آداب الزائر والزيارة كما يأتي.
28 ـ وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخفاجي الحنفي المصري المتوفّى 1069هـ، في شرح الشفاء 3 ص566: وأعلم أنَّ هذا الحديث(3) هو الذي دعا ابن تيميّة ومن معه كابن القيِّم إلى مقالته الشنيعة التي كفّروه بها، وصنّف فيها السبكي مُصنّفاً مستقلاً، وهي منعه من زيارة قبر النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وشدّ الرحال إليه، وهو كما قيل:

(1) تقدّمت مصادره في الصفحة.
(2) تقدّمت مصادره في الصفحة.
(3) حديث شدّ الرحال إلى المساجد (المؤلّف».
الزيارة 113

لمهبط الوحي حقّاً ترحل النجبُ
وعند ذاك المرجّى ينتهي الطلبُ

فتوهّم أنَّه حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها، فإنَّها لا تصدر عن عاقل، فضلاً عن فاضل سامحه الله تعالى.
وأمّا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تتَّخذوا قبري عيداً»، فقيل: كره الاجتماع عنده في يوم معينّ على هيئة مخصوصة، وقيل: المراد لا تزوره في العام مرَّة فقط، بل أكثروا الزيارة له(1) .
وأمّا إحتماله للنهي عنها فهو بفرض أنّه المراد محمولٌ على حالة مخصوصة، أي لا تتَّخذوه كالعيد في العكوف عليه وإظهار الزينة عنده وغيره مما يجتمع له في الاعياد، بل لا يُؤتى إلاّ للزيارة والسَّلام والدعاء ثمَّ ينصرف.
وقال في صحيفة 577 في شرح حديث: «لا تجعلوا قبري عيداً»: أي كالعيد بإجتماع الناس، وقد تقدَّم تأويل الحديث وأنَّه لا حُجّة فيه لما قاله ابن تيميّة وغيره، فإنَّ إجماع الاُمّة على خلافه يقتضي تفسيره بغير ما فهموه، فإنّه نزعةٌ شيطانيّة.
29 ـ قال الشيخ عبد الرَّحمن شيخ زاده المتوفّى 1087هـ، في (مجمع الانهر في شرح ملتقى الابحر) ج1 ص157: من أحسن المندوبات، بل يقرب من درجة الواجبات، زيارة قبر نبيِّنا
(1) هذا المعنى ذكره غير واحد من أعلام القوم (المؤلّف».
الزيارة 114

وسيِّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد حرَّض (عليه السلام) على زيارته وبالغ في الندب إليها بمثل قوله (عليه السلام):«مَنْ زار قبري». فذكرَ ستَّة مِن أحاديث الباب ثمَّ قال: فإنّ كان الحجُّ فرضاً فالاسن أن يبدأ به إذا لم يقع في طريق الحاجّ المدينة المنوَّرة ثمَّ يثني بالزيارة، فإذا نواها فلينوِ معها زيارة مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمَّ ذكر جملةً كبيرةً من آداب الزائر.
30 ـ قال الشيخ محمّد بن علي بن محمّد الحصني، المعروف بعلاء الدين الحصكفي الحنفي المفتي بدمشق المتوفّى 1088هـ، في (الدُّرِّ المختار في شرح تنوير الابصار) في آخر كتاب الحجّ: وزيارة قبره (صلى الله عليه وآله وسلم)مندوبةٌ بل قيل: واجبةٌ لمن له سعةٌ، ويبدأ بالحجِّ لو فرضاً ويخيّر لو نفلاً مالم يمرُّ به، فيبدأ بزيارته لا محالة، ولينوِ معه زيارة مسجده (صلى الله عليه وآله وسلم).
31 ـ قال أبو عبدالله محمّد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي المصري المتوفّى 1122هـ، في «شرح المواهب: ج8، ص299: قد كانت زيارته مشهورةً في زمن كبار الصحابة معروفةً بينهم; لمّا صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الاحبار فأسلم ففرح به وقال: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبره (صلى الله عليه وآله وسلم)وتتمتَّع بزيارته؟ قال: نعم.
32 ـ قال أبو الحسن السندي محمَّد بن عبد الهادي الحنفي المتوفّى 1138هـ، في شرح سنن ابن ماجة 2 ص268: قال الدميري:

الزيارة 115

فائدةٌ: زيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من أفضل الطاعات وأعظم القربات، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ زار قبري وجبت له شفاعتي»(1) ، رواه الدارقطني وغيره وصحّحه عبد الحقِّ، ولقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ جائني زائراً لا تحمله حاجة إلاّ زيارتي كان حقّاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة»(2) ، رواه الجماعة منهم الحافظ أبو علي ابن السكن في كتابه المسّمى بالسنن الصِّحاح، فهذان إمامان صحَّحا هذين الحديثين، وقولهما أولى من قول مَنْ طعن في ذلك.
33 ـ قال الشيخ محمّد بن علي الشوكاني المتوفّى 1250هـ، في «نيل الاوطار 4: 324»: قد إختلفت فيها [في زيارة النبيِّ ]أقوال أهل العلم، فذهب الجمهور إلى أنّها مندوبةٌ، وذهب بعض المالكيَّة وبعض الظاهريَّة إلى أنّها واجبةٌ، وقالت الحنفيَّة: إنّها قريبةٌ من الواجبات، وذهب ابن تيميّة الحنبلي حفيد المصنِّف المعروف بشيخ الاسلام إلى أنّها غير مشروعة، ثمَّ فصَّل الكلام في الاقوال إلى أن قال في آخر كلامه:
وإحتجَّ أيضاً من قال بالمشروعيَّة بأنّه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحجِّ في جميع الازمان على تباين الديار وإختلاف المذاهب، الوصول إلى المدينة المشرَّفة لقصد زيارته، ويعدّون ذلك من أفضل الاعمال،ولم ينقل أنَّ أحداً أنكر ذلك عليهم فكان إجماعاً.

(1) تقدّمت مصادره في الصفحة 61 ـ 62.
(2) تقدّمت مصادره في الصفحة 67 ـ 68.
الزيارة 116

34 ـ قال الشيخ محمّد أمين بن عابدين المتوفّى 1253هـ، في (ردِّ المحتار على الدرِّ المختار) عند العبارة المذكورة ج2 ص263: مندوبةٌ بإجماع المسلمين كما في «الباب» إلى أن قال: وهل تستحبّ زيارة قبره (صلى الله عليه وآله وسلم) للنِّساء؟ الصحيح: نعم بلا كراهة بشروطها على ما صرَّح به بعض العلماء، أمّا على الاصحِّ من مذهبنا ـ وهو قول الكرخي وغيره من أنَّ الرخصة في زيارة القبور ثابتةٌ للرِّجال والنساء جميعاً ـ فلا إشكال، وأمّا على غيره فذلك نقول بالاستحباب لاطلاق الاصحاب، [بل قيل: واجبةٌ ]ذكره في شرح اللباب، وقال: كما بيَّنته في «الدرَّة المضيَّة في الزِّيارة المصطفويَّة» وذكره أيضاً الخير الرملي في حاشية «المنح» عن ابن حجر وقال: وانتصر له. نعم عبارة اللباب والفتح وشرح المختار أنّها قريبةٌ من الوجوب لمن له سعةٌ، إلى أن قال:
قال ابن الهمام: والاولى فيما يقع عند العبد الضعيف تجريد النيّة لزيارة قبره عليه الصّلاة والسّلام، ثمَّ يحصل له إذا قدم زيارة المسجد، أو يستمنح فضل الله تعالى في مرَّة اُخرى ينويها; لانَّ في ذلك زيادة تعظيمه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإجلاله. ويوافقه ظاهر ما ذكرناه من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ جاءني زائراً لا تعمله حاجة اذلاّ زيارتي كان حقّاً عليَّ أن أكون شفيعاً له يوم القيامة». إنتهى.
ونقل الرَّحمتي عن العارف الملاّ جامي أنّه أفرز الزِّيارة عن الحجِّ

الزيارة 117

حتّى لا يكون له مقصدٌ غيرها في سفره، ثمَّ ذكر حديث: «لا تشدّ الرِّحال إلاّ لثلاثة مساجد»(1) فقال: والمعنى كما أفاده في «الاحياء» أنّه لا تُشدّ الرِّحال لمسجد من المساجد إلاّ لهذه الثلاثة; لما فيها من المضاعفة، بخلاف بقيَّة المساجد فإنّها متساويةٌ في ذلك، فلا يردّ أنَّه قد تشدّ الرِّحال لغير ذلك كصلة رحم وتعلّم علم، وزيارة المشاهد كقبر النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وقبر الخليل (عليه السلام) وسائر الائمّة.
35 ـ قال الشيخ محمّد بن السيِّد درويش الحوت البيروتي المتوفّى 1276هـ، في تعليق «حسن الاثر: ص246»: زيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)مطلوبةٌ; لانّه واسطة الخلق، وزيارته بعد وفاته كالهجرة إليه في حياته، ومَنْ أنكرها فإن كان ذلك إنكاراً لها من أصلها فخطاؤه عظيم، وإن كان لما يعرض من الجهلة ممّا لا ينبغي فليبيّن ذلك.
36 ـ قال الشيخ إبراهيم الباجوري الشافعي المتوفّى 1277هـ، في حاشيته على شرح ابن الغزي على متن الشيخ أبي شجاع في الفقه الشافعي ج1 ص347: ويسنُّ زيارة قبره (صلى الله عليه وآله وسلم)ولو لغير حاجّ ومعتمر كالذي قبله، ويسنُّ لمن قصد المدينة الشريفة

(1) صحيح البخاري 2: 76، صيح مسلم 2: 1014/1397، سنن النسائي 2: 73، مسند أحمد 2: 234، المعجم الكبير للطبراني 2: 310.
الزيارة 118

لزيارته (صلى الله عليه وآله وسلم)أن يكثر من الصَّلاة والسَّلام عليه في طريقه، ويزيد في ذلك إذا رأى حرم المدينة وأجشارها، ويسأل الله أن ينفعه بهذه الزيارة ويتقبَّلها منه، ثمَّ ذكر جملةً كثيرةً من آداب الزِّيارة وألفاظها.
37 ـ جعل الشيخ حسن العدوي الحمزاوي الشافعي المتوفّى 1303هـ، خاتمة في كتاب (كنز المطالب) ص179 ـ 239 لزيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفصّلَ فيها القول وذكرَ مطلوبيّتها كتاباً وسنّةً وإجماعاً وقياساً، وبسط الكلام في شدِّ الرِّحال إلى ذلك القبر الشريف، وذكر جملةً من آداب الزائر ووظائف الزِّيارة، وقال في ص195 بعد نقل جملة من الاحاديث الواردة في أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم)يسمع سلام زائريه ويردّ عليهم:
إذا علمت ذلك علمت أنَّ ردَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) سلام الزائر عليه بنفسه الكريمة (صلى الله عليه وآله وسلم)أمرٌ واقعٌ لا شكَّ فيه، وإنّما الخلاف في درِّه على المسلّم عليه من غير الزائرين، فهذه فضيلةٌ اُخرى عظيمةٌ ينالها الزائرون لقبره (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيجمع الله لهم بين سماع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لاصواتهم من غير واسطة وبين ردِّه عليهم سلامهم بنفسه.
فأنّى لمن سمع لهذين بل بأحدهما أن يتأخَّر عن زيارته (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! أو يتوانى عن المبادرة إلى المثول في حضرته (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! تالله ما يتأخَّر عن ذلك مع القدرة عليه إلاّ مَن حقَّ عليه البعد من الخيرات،

الزيارة 119

والطرد عن مواسم أعظم القربات، أعاذنا الله تعالى من ذلك بمنِّه وكرمه آمين.
وعُلم من تلك الاحاديث أيضاً أنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيٌّ على الدوام، إذ من المحال العادي أن يخلو الوجود كلّه عن واحد يُسلّم عليه في ليل أو نهار، فنحن نؤمن ونصدِّق بأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيٌّ يُرزق، وأنَّ جسده الشريف لا تأكله الارض، وكذا سائر الانبياء عليهم الصَّلاة والسّلام، والاجماع على هذا.
38 ـ قال السيِّد محمّد بن عبدالله الجرداني الدمياطي الشافعي المتوفّى 1307هـ، في «مصباح الظلام: ج2، ص145»: قال بعضهم: ولزائر قبر النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)عشر كرامات:
أحداهنَّ: يُعطي أرفع المراتب، الثانية: يبلغ أسنى المطالب، الثالثة: قضاء المآرب، الرابعة: بذل المواهب، الخامسة: الامن من المعاطب، السادسة: التطهير من المعايب، السابعة: تسهيل المصائب، الثامنة: كفاية النوائب، التاسعة: حسن العواقب، العاشرة: رحمة ربّ المشارق والمغارب.
وما أحسن ما قيل:
هنيئاً لمن زار خير الورى وحطّ عن النفس أوزارها
فإنَّ السَّعادة مضمـونـةٌ لمن حلَّ طيبة أو زارها

وبالجملة فزيارة قبره (صلى الله عليه وآله وسلم) من أعظم الطاعات وأفضل القربات، حتّى أنَّ بعضهم جرى على أنّها واجبة، فينبغي أن

الزيارة 120

يحرص عليها، وليحذر كلَّ الحذر من التخلّف عنها مع القدرة، وخصوصاً بعد حجَّة الاسلام، لانَّ حقّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على اُمَّته عظيمٌ، ولو أنَّ أحدهم يجيء على رأسه أو على بصره من أبعد موضع من الارض لزيارته (صلى الله عليه وآله وسلم)لم يقم بالحقِّ الذي عليه لنبيِّه، جزاه الله عن المسلمين أتمَّ الجزاء.
زُر مَنْ تحبُّ وإن شطّت بك الدارُ وحال من دونه تربٌ وأحجارُ
لا يمنعنّـك بُعـدٌ عـن زيارتـه إنَّ المحبَّ لمن يهـواه زوّارٌ
ويسنُّ لمن قصد المدينة الشريفة (إلخ)، ثمَّ فصّل القول في آداب الزيارة، وذكر التسليم على الشيخين، وزيارة السيِّدة فاطمة وأهل البقيع والمزارات المشهورة، وهي نحو ثلاثين موضعاً كما قال.
39 ـ قال الشيخ عبد الباسط ابن الشيخ علي الفاخوري مفتي بيروت في (الكفاية لذوي العناية) ص125: الفصل الثاني عشر في زيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وهي متأكّدةٌ مطلوبةٌ، ومستحبّة محبوبةٌ، وتسنُّ زيارته في المدينة كزيارته حيّاً، وهو في حجرته حيٌّ يردُّ على مَنْ سلّم عليه السّلام. وهي من أنجح المساعي وأهمِّ القربات وأفضل الاعمال وأزكى العبادات،وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم):«مَنْ زار قبري

الزيارة 121

وجبت له شفاعتي»(1) ، ومعنى «وجبت» ثبتت بالوعد الصّادق الذي لا بدَّ من وقوعه وحصوله.
وتحصل الزِّيارة في أيِّ وقت، وكونها بعد تمام الحجّ أحبُّ، ويجب على من أراد الزيارة التوبة من كلِّ شيء يخالف طريقته وسننه (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثمَّ ذكر شطراً وافراً من آداب الزِّيارة والزِّيارة الاُولى الاتية في الاداب; فقال: ومن عجز عن حفظ هذا فليقتصر على بعضه وأقلّه السّلام عليك يا رسول الله. ثمَّ ذكر زيارة الشيخين إلى أن قال: ويستحبُّ التبرُّك بالاُسطوانات التي لها فضلٌ وشرفٌ وهي ثمانية: أسطوانة محلِّ صلاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإسطوانة عائشة رضي الله عنها وتسمّى إسطوانة القرعة، واسطوانة التّوبة محلّ إعتكافه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإسطوانة السرير، وإسطوانة عليّ (رضي الله عنه)، وإسطوانة الوفود، وإسطوانة جبريل (عليه السلام)، وإسطوانة التهجّد.
40 ـ قال الشيخ عبد المعطي السَّقا في «الارشادات السنيّة» ص260: زيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)إذا أراد الحاجُّ أو المعتمر الانصراف من مكّة أدام الله تشريفها وتعظيمها، طلب منه أن يتوجّه إلى المدينة المنوَّرة للفوز بزيارته عليه الصّلاة والسّلام، فإنّها من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، وأنجح المساعي المشكورة، ولا

(1) تقدّمت مصادره في الصفحة.
الزيارة 122

يختصُّ طلب الزيارة بالحاجّ غير أنّها في حقِّه آكد.
والاولى تقديم الزِّيارة على الحجّ إذا إتّسع الوقت، فإنّه ربّما يعوقه عنها عائقٌ، وقد ورد في فضل زيارته (صلى الله عليه وآله وسلم)أحاديث منها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ زار قبري وجبت له شفاعتي»(1) ، وينبغي الحرص عليها، وعدم التخلّف عنها عند القدرة على أدائها خصوصاً بعد حجّة الاسلام، لانَّ حقّه (صلى الله عليه وآله وسلم)على اُمَّته عظيمٌ.
وينبغي لمريد الزيارة أن يُكثر من الصّلاة والسَّلام عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)في طريق ذهابه إليها، وإذا وصلها إستحبَّ له أن يغتسل ثمَّ يتوضَّأ أو يتيمّم عند فقد الماء،ثمَّ ذكر جملةً من آداب الزيارة ولفظاً مختصراً من زيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)والشيخين.
41 ـ قال الشيخ محمّد زاهد الكوثري في (تكملة السيف الصقيل) ص156: والاحاديث في زيارته (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغاية من الكثرة، وقد جمع طرقها الحافظ صلاح الدين العلائي في جزء كما سبق، وعلى العمل بموجبها استمرَّت الاُمّة، إلى أن شذَّ ابن تيميَّة عن جماعة المسلمين في ذلك، قال عليّ القاري في شرح «الشفاء»: وقد فرط ابن تيميّة من الحنابلة حيث حرَّم السفر لزيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أفرط غيره حيث قال: كون الزيارة قربةً معلومٌ من الدين بالضرورة، وجاحده محكومٌ عليه بالكفر. ولعلَّ الثاني

(1) تقدّمت مصادره في الصفحة 61 ـ 62.
الزيارة 123

أقرب إلى الصَّواب، لانَّ تحريم ما أجمع العلماء فيه بالاستحباب يكون كفراً، لانّه فوق تحريم المباح المتّفق عليه.
فسعيه في منع الناس من زيارته (صلى الله عليه وآله وسلم)، يدلُّ على ضغينة كامنة فيه نحو الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكيف يتصوّر الاشراك بسبب الزيارة والتوسّل في المسلمين الذين يعتقدون في حقِّه (عليه السلام) أنَّه عبده ورسوله، وينطقون بذلك في صلاتهم نحو عشرين مرَّة في كلِّ يوم على أقلِّ تقدير، إدامة لذكرى ذلك؟
ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع في كلِّ شؤونهم، ويرشدونهم إلى السنّد في الزيارة وغيرها إذا صدرت منهم بدعةٌ في شيء، ولم يعدّهم في يوم من الايّام مشركين بسبب الزِّيارة أو التوسّل، كيف؟ وقد نقذهم الله من الشِّرك وأدخل في قلوبهم الايمان. وأوَّل من رماهم بالاشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيميّة، وجرى خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودماءهم لحاجة في النفس، ولم يخف ابن تيميّة من الله في رواية عدِّ السفر لزيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)سفر معصية لا تقصر فيه الصّلاة عن الامام ابن الوفاء ابن عقيل الحنبلي ـ وحاشاه عن ذلك ـ راجع كتاب «التذكرة» له تجد فيه مبلغ عنايته بزيارة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)والتوسّل به كما هو مذهب الحنابلة.
ثمَّ ذكر كلامه وفيه القول بإستحباب قدوم المدينة وزيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكيفيّة زيارته وزيارة الشيخين، وكيفيّة زيارتهما،

الزيارة 124

وإتيان مسجد قبا والصَّلاة فيه، وإتيان قبور الشهداء وزيارتهم، وإكثار الدعاء في تلك المشاهد. ثمَّ قال: وأنت رأيت نصّ عبارته في المسألة على خلاف ما يعزو إليه ابن تيميّة.
42 ـ قال فقهاء المذاهب الاربعة المصريّين في (الفقه على المذاهب الاربعة): ج1 ص590: زيارة قبر النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)أفضل المندوبات، وقد ورد فيها أحاديث. ثمَّ ذكروا ستَّة من الاحاديث، وجملةً من أدب الزائر، وزيارة للنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، واُخرى للشيخين.
«هُدوا إلى الطيِّب مِنَ الْقول وَهُدوا إلى صِراطِ الْحميدِ»(1)

فروع ثلاثة
هذه الفروع تُعطينا درس التسالم من أئمَّة المذاهب على رجحان زيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وإستحبابها، ومحبوبيَّة شدِّ الرحال إليها من أرجاء الدنيا، ألا وهي:
1 ـ إختلفت الاراء من فقهاء المذاهب الاربعة في تقديم أيٍّ من الحجّ والزِّيارة على الاخر:
فقال تقيُّ الدين السبكي في «شفاء السقام: ص42»: إختلف السَّلف رحمهم الله في أنَّ الافضل البدأة بالمدينة قبل مكّة، أو بمكّة

(1) الحجّ: 24.

السابق السابق الفهرس التالي التالي