حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 267

فقد اظهروا لها تسليمهم واذعانهم لاوامرها ، كما ابدوا رغبتهم في الاعتماد على القوة والحرب .
ولما رأت الملكة رغبتهم في الحرب ، مع انها لم ترغب في ذلك ولم تَمِل اليه في الباطن ، لذلك قالت لهم «ان الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة وكذلك يفعلون»(1) فيقتلون جماعة منهم ويأسرون آخرين ويهجرونهم و ويُخرجونهم من ديارهم ويخربونها ، وذلك ان ملكة سبأ كانت هي بنفسها ملكة ايضا وتعرف الملوك بصورة جيدة ، حيث شأنهم الافساد والتخريب ، واذلال الاعزة .
ثم قالت للاشراف من قومها : علينا ان نختبر سليمان واصحابه ، لنعرف ماهم وما يريدون ؟ وهل سليمان نبي حقا او ملك ؟ وهل هو مصلح او مفسد ، وهل يريد العزة والكرامة للناس او الاذلال والحقارة ، فينبغي ان نرسل اليه هدايا غالية ، فاذا قبلها منا فانه ملك ، وينبغي ان نواجهه بالقوة ، واذا الح على كلامه ولم يقبل هديتنا ، فهو نبي ويجب ان نتعامل معه بحكمة وتعقل .
«يظهر من هذا ان الملوك كل تفكيرهم وانشداد قلوبهم الى الهدايا والجاه والمقام والذهب والمال ، ولا يفكرون الا في مصالحهم الشخصية ، ولا يفكرون في مصالح الامة ، في حين ان الانبياء والرسل لا يفكرون الا باصلاح اممهم وسعادتهم وتأمين مصالحهم المادية والمعنوية» .
توجه رُسُل ملكة سبأ بقافلة الهدايا نحو الشام ، وتركوا اليمن ورائهم قاصدين مقر سليمان في الشام ، ظنا منهم ان سليمان سيكون مسرورا بمشاهدته هذه الهدايا من المجوهرات والاموال والجواري والغلمان ... ويرحب بهم .
لكن لما وصلوا سليمان وواجهوه وجها لوجه ، حتى وقفوا مدهوشين امامه لعدم استقباله لهم بالشكل المطلوب فحسب بل قال : «اتمدونن بمال

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 268

فما آتاني الله خير مما آتاكم بل انتم بهديتكم تفرحون»
(1) فما قيمة المال ازاء مقام النبوة والعلم والهداية والتقوى ، بل انتم الذين تفرحون بالهدايا والزخارف الدنيوية الزائلة .
وبعد ذلك التفت الى رسول الملكة الذي جاء بالهدايا وقال له : «ارجع اليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها اذلة وهم صاغرون»(2) وهذا التهديد كان تهديدا جديا واخذه الرسول بعين الاعتبار .
واخيرا عاد رسل ملكة سبأ مع هداياهم الى ارضهم واخبروا الملكة بما شاهدوه وسمعوه ، كما بينوا عظمة ملك سليمان وجهاز حكومته ، ولم يكن كسائر الملوك ، بل هو مرسل من قبل الله ونبيا من انبياء الله العظام .
كما اتضح لهم جميعا انهم غير قادرين على مواجهته عسكريا ، لذلك قررت الملكة ان تأتي بنفسها مع اشراف قومها الى سليمان ، ويتفحصوا عن هذه المسألة ليعرفوا اي مبدأ يحمله سليمان ؟
فلما وصل الخبر وعلم سليمان بمجيء الملكة ، اراد ان يُظهر قدرته واعجازه لها من اجل ان يدعوهم الى الاسلام وعبادة الله فالتفت الى من حوله و«قال يا ايها الملأ ايكم ياتيني بعرشها قبل ان يأتوني مسلمين»(3) .
وهنا اظهر شخصان استعدادهما لامتثال طلب سليمان عليه السلام ، وكان الاول عجيبا والثاني اعجب اذ «قال عفريت من الجن انا آتيك به قبل ان تقوم من مقامك واني عليه لقوي امين * قال الذي عنده علم من الكتاب انا آتيك به قبل ان يرتد اليك طرفك»(4) .
1ـ 2ـ النمل : 36ـ 37.
3ـ النمل : 38.
4ـ النمل : 39ـ 40.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 269

فلا عجب من ذلك ، فان حياة الانبياء والائمة الاطهار عليهم السلام مملوءة بالعجائب والمعاجز الربانية .
واما الشخص الآخر الذي عنده علم من الكتاب هو «آصف بن برخيا« وزير سليمان وابن اخته ، الذي كان عارفا بالاسم الاعظم ، الاسم الذي يخضع له كل شيء ، ويمنح الانسان قدرة خارقة للعادة :
فلما نطق آصف بالاسم الاعظم انشقت الارض وظهر عرش بلقيس امام سليمان ومن كان معه جالسا ، فامر سليمان ان يوجدوا تغييرات فيه ، من قبيل تبديل بعض علاماته ، من اجل ان يختبر عقل ملكة سبأ وذكائها ، هل تعرفه ام لا ؟
فلما جاءت الملكة قيل لها : «اهكذا عرشك قالت كأنه هو ...»(1) .اجابت جوابا دقيقا ، لا انكار فيه ولا تصديق ـ كأنه هو ـ
وبعد ذلك التفتت الى سليمان وقالت له : اذا كان مرادك من هذا الاعجاز ـ او من هذه المعجزة ـ ان نؤمن بك ونصدقك ، فانا كنا مؤمنين حتى قبل رؤية هذا الامر الخارق للعادة !
وهكذا فان سليمان منعها من عبادة الاصنام وعبادة غير الله تعالى ، فأسلمت ، وخطت خطوة جديدة من الحياة المملوءة بنور الايمان واليقين .
قامت الملكة لتدخل القصر الذي هيئه لها سليمان وكان قد امر ان تصنع في احدى ساحات القصر من قوارير ، وان يجري الماء من تحتها .
فلما وصلت الملكة الى ذلك المكان ، وارادت ان تدخل حَسِبته ماء ، فرفعت ثيابها وكشفت عن ساقيها ، ولكن سرعان ما قال لها سليمان : «انه صرح
1ـ النمل : 42.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 270

ممرد من قوارير»
وحيثما رأت ملكة سبأ هذا المشهد الرائع وانتبهت الى نفسها «قالت رب اني ظلمت نفسي واسلمت مع سليمان لله رب العاليمن»(1) .
وقالت : لقد كنت فيما مضى اسجد للشمس واعبد الاصنام ، وكنت غارقة في الزينة والتجمل ، وكنت اتصور اني اعلى الناس في الدنيا .
اما الآن فانني افهم انني ضعيفة جدا ، وهذه الزخارف والزبارج لا تروي ظمأ الانسان ولا تبل غليل روحه !
رباه ... اتيتك مع قائدي سليمان ، نادمة عن سالف عمري ، خاضعة عنقي اليك .
«صحيح ان ملكة سبأ كانت قد اعلنت ايمانها قبل هذا ، ولكن هنا كررت ايمانها واكدت اسلامها مرة اخرى مما رأت» .
لم يشر القرآن الكريم الى اكثر من هذا ، ولم يذكر بعد هذا عن مصير ملكة سبأ ، هل رجعت الى وطنها ، او بقيت عند سليمان وتزوجت منه ؟ او تزوجت من غيره ؟
هذه الامور لم يشير اليها القرآن ، ولكن المؤرخين والمفسرين اختلفوا في ذلك ، كل منهم اختار رأيا .
وطبقا لما قاله اغلب المفسرين ، انها تزوجت من سليمان نفسه ... والله العالم .

سيرة سليمان عليه السلام :

ان ماورد عن سيرة سليمان عليه السلام في القرآن الكريم ، يكشف لنا عن مسائل كثيرة ذكرناها في بحثنا هذا ، وهناك مسائل كثيرة ايضا لم يسعنا المجال لذكرها
1ـ النمل : 44.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 271

بل نختصر على البعض منها :
1ـ ان هذه القصة تبدأ بالحديث عن موهبة سليمان عليه السلام وعلمه الوافر التي وهبها الله لسليمان بن داود عليهما السلام ، وتنتهي بالتسليم لامر الله ، وتوحيده .
2ـ وتدل القصة على ان هذا الطائر والمخلوق الصغير يمكنه احيانا ان يغير مسير تاريخ امة ، وينقذها من الفساد الى الصلاح ، ومن الشرك الى الايمان ، وهذا مثل عن بيان قدرة الله ، وحكومة الحق .
3ـ هداية الانسان وتدمير غروره وكبرياءه ، واماطة ستار الظلام عن وجه الانسان ، كما فعل سليمان ، فدمر نمرود وكبرياء ملكة سبأ باحضار عرشها ، وادخالها الصرح الممرد الذي حسبته لجة.
4ـ ان الهدف من حكومة الانبياء ـ والحكومة الاسلامية ـ ليس التوسع في رقعة الارض ـ اي التوسع المادي ، بل التوسع المعنوي ـ بل الهدف هو : ان يعترف الظالم بذنبه ، وان يسلم لرب العالمين ، وينتشر السلم والامان والحرية والسعادة في ربوع العالم على النهج السماوي .
5ـ قد يحتاج الانسان في بعض الاحيان الى موجود صغير وضعيف كالطائر مثلا ويستعين عليه بعلمه وعمله ، مع ما لديه من قوة وقدرة ومعرفة في امور كثيرة ، ولكنه يبقى محتاج الى غيره ... فتامل .
6ـ كان سليمان عليه السلام ياكل من كسب يده ، وكان كثير الغزو .
واعطاه الله القدرة انه لا يتكلم احد بشيء الا حملته الريح اليه فيعلم ما يقول .
وكذلك اليوم ، وفي زماننا هذا ، من في المغرب يسمع من في المشرق ويتكلم معه بواسطة الريح وعن طريق ، السلك واللاسلك ، وغير ذلك من العلوم المتطورة والاكتشافات الغريبة .

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 272


وفاة النبي سليمان عليه السلام :

«فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته الا دابة الارض تاكل منسأته فلما خر تبينت الجن ان لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين»(1) .
قال سليمان بن داود عليهما السلام ذات يوم لاصحابه : ان الله تبارك وتعالى قد وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي سخر لي الريح والانس والجن والطير والوحوش ، وعلمني منطق الطير ، وآتاني من كل شيء ، ومع جميع ما اوتيت من الملك ماتم لي سرور يوم الى الليل .
وقد احببت ان ادخل قصري في غد ، فاصعد اعلاه وانظر الى ممالكي ، فلا تاذنوا لاحد علي لئلا يرد علي ما ينغص علي يومي .
قالوا نعم : فلما كان من الغد اخذ عصاه بيده وصعد الى اعلى موضع في القصر ، ووقف متكئا على عصاه ينظر الى ممالكه مسرورا بما اوتي فرحا بما اعطي .
وبينما هو كذلك اذ نظر الى شاب حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا القصر ، فلما بصر به سليمان عليه السلام قال له : من ادخلك الى هذا القصر وقد اردت ان اخلو فيه اليوم ؟ فباذن من دخلت ؟
فقال الشاب : ادخلني هذا القصر ربه وباذنه دخلت ، فقال : ربه احق به مني ، فمن انت ؟ قال : انا ملك الموت ، قال : وفيما جئت ؟ قال : جئت لاقبض روحك ، قال : امض لما امرت به فهذا يوم سروري ، وابى الله ان يكون لي يوم سرور دون لقائه .
1ـ سبأ : 14.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 273

فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه ، فبقي سليمان عليه السلام متكئا على عصاه وهو ميت ما شاء الله ـ وقيل سنة ـ والناس ينظرون اليه وهم يقدرون انه حي ، وكان الجن كذلك ينظر اليه ويعملون له .
وبعد مدة من الزمن بعث الله عز وجل «الارضة» فدبت في عصاه ، فلما اكلت جوفها انكسرت العصا وخر سليمان عليه السلام من قصره على وجهه ميتا .
وعلمت الجن بعد ذلك ما التبس عليهم انهم لا يعلمون الغيب ، ولو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب ، وشكرت الجن الارضة ما صنعت بعصا سليمان ، فما تكاد تراها في مكان الا وعندها ماء وطين .
وقيل ان سليمان عليه السلام عاش سبعمائة سنة واثنى عشر سنة ،(1) وقيل اقل من هذا ، وروي ان سليمان عندما توفي دفن الى جنب قبر ابيه داود ، وكان له من العمر يوم ملك اثنتا عشرة سنة ، فمات وله اثنتان وخمسون سنة والله العالم .(2)
اتضح لنا كيف ان رجلا بكل هذه القدرة والعظمة كان امام الموت ضعيفا لا حول له ولا قوة ، بحيث فارق الدنيا فجاة وفي لحظة واحدة .
وكيف ان الاجل لم يعطه حتى فرصة الجلوس او الاستلقاءعلى سريره .
هذه عبرة وموعظة لمن يتعض البعض حينما يبلغون مقاما او منصبا ان قد اصبحوا مقتدرين حقيقة ، فان المقتدر الحقيقي ، ذلك الذي كان الجن والانس والشياطين خدما بين يديه ، ذلك الذي كان يجول في الارض والسماء ، والذي بلغ قمة الهيبة والحشمة ، ثم في لحظة واحدة قصيرة ـ كزبد البحر ـ فارق الدنيا ... فتامل .
1ـ كمال الدين ، عنه البحار : ج14 ص140.
2ـ تاريخ اليعقوبي : ص60.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 274


حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 275
حكم و مواعظ
من حياة الانبياء عليهم السلام
(17)







النبي زكريا ويحيى عليهما السلام





حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 276


حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 277

قصة زكريا ويحيى عليهما السلام

قال تعالى : «هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة انك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ان الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين»(1) .


استجابة دعاء زكريا :

قيل : ان زوجة زكريا ، واسمها : «اليصابات»(2) وام مريم زوجة عمران واسمها «حنة» كانتا اختين ، وكانتا عاقرين ، وعندما رزقت ام مريم بلطف من الله هذه الذرية الصالحة ، وراى زكريا خصائصها العجيبة حيث كان كلما يدخل على مريم في محرابها يجد عندها طعام ، فسالها : من اين لك هذا قالت هو من عند الله ، فعند ذلك تمنى زكريا ان يرزقه الله ذرية صالحة وطاهرة وتقية مثل مريم .
وعلى الرغم من كبر سن زكريا وزوجته ، حيث كانت عاقرا ايضا كان يستحيل من الناحية الطبيعية ان يرزقا طفلا ، لكن زكريا لم يستبعد من حصوله
1ـ آل عمران : 38ـ 39.
2ـ وقيل اسمها «اشياع بنت فاقوذ» الكامل في التاريخ ج1 ص197.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 278

على طفل مع شيخوخته ، لذلك راح يتضرع الى الله ويدعو ويصلي في محرابه لطلب الولد .
ولم يمضي وقت طويل حتى اجاب الله دعاء زكريا ، فبينما كان يعبد الله في محرابه ، نادته الملائكة وقالت : ان الله يبشرك بمولود اسمه ـ يحيى ـ وسوف يؤمن بالمسيح عيسى ويشد ازره ، وسيصبح من حيث العلم والعمل قائدا للناس وسيدا وحصورا ، اي يضع نفسه في المحاصرة والمراقبة ويمتنع عن الشهوات المادية ، وسيكون ايضا من الانبياء والصالحين .
فلما سمع زكريا قول الملائكة ، استولى عليه العجب والحيرة ، فقال لدى سماعه بشارة الملائكة ، كيف يمكن ان يولد لي ولد وانا في هذا السن من الشيخوخة ، ثم ان زوجتي عاقرا لا تلد .
فجاءه الجواب : ان الله يفعل ما يشاء وبيده كل شيء .
كم هو جميل ورائع ان يستجيب الله دعاء عبده بهذه الصورة ، ويبشره على تحقيق مراده ، ويعطيه مولودا ذكرا في مقابل طلب الولد ، ويسميه ايضا بنفسه تعالى ، ولم يسبقه احد بهذا الاسم :«لم نجعل له من قبل سميا» .
وكان قبل هذا قد طلب زكريا ايضا من الله ان يجعل له آية وامارة وعلامة وكان يريد ان يمتليء قلبه بالايمان : «قال رب اجعل لي آية قال آيتك الا تكلم الناس ثلاثة ايام الا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار»(1) .
اجاب الله طلب زكريا هذا ايضا ، وعين له علامة ، وهي ان يكف لسانه عن الكلام ثلاثة ايام ، فلم يقدر على المحادثة العادية ، ولكن لسانه كان ينطق بذكر الله والتسبيح فقط ، ويستطيع ان يخاطب الناس بالايماء في الامور الضرورية .
1ـ آل عمران : 41.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 279

بعد هذه البشارة والآية الواضحة ، خرج زكريا من المحراب الى الناس فكلمهم بالاشارة «فخرج على قومه من المحراب فاوحى اليهم ان سبحوا بكرة وعشيا»(1) . هذا بالاضافة الى انه كان يسبح الله ، كذلك طلب من القوم ان يسبحوا لله ويشكروه من اجل ان تقوى اسس الايمان في قلوب الناس .
وروي ان زكريا عليه السلام سال ربه ان يعلمه اسماء الخمسة ، فاهبط عليه جبرئيل عليه السلام فعلمه اياها ، فكان زكريا عليه السلام اذا ذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليا وفاطمة والحسن عليهم السلام وانكشف عنه همه وانجلى كربه ، واذا ذكر اسم الحسين عليه السلام خنقته العبرة ووقعت عليه الزفرة وتشايع النفس .
فقال ذات يوم : الهي ما بالي اذا ذكرت اربعة منهم تسليت باسمائهم من همومي ، واذا ذكرت الحسين عليه السلام تدمع عيني وتثور زفرتي ، فانبأه الله تعالى عن قصة كربلاء وما يجري على الحسين عليه السلام وعترته الطاهرة ... .(2)


كفيل مريم عليها السلام :
فلما ولدت مريم بنت عمران عليها السلام ، وتنافس فيها الرهبان في من يكفلها لانها كانت بنت امامهم ونبيهم ، فقال زكريا : انا اكفلها ، انا احق بها لان خالتها عندي ، لان عمران كان متزوجا «بجنة بنت فاقوراء» ، وكان زكريا متزوجا باختها «اشاع بنت فاقوراء» وكان زكريا رئيس الرهبان فقال الرهبان نقترع عليها ، فاقترعوا فوقعت القرعة على زكريا فاخذها وكفلها وضمها الى خالتها ام يحيى واسترضع لها حتى كبرت .
فكان زكريا كلما يدخل على مريم يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف
1ـ مريم : 11.
2ـ البحار : ج14 ص178.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 280

وفاكهة الصيف في الشتاء ، فسالها من اين لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله ، فلما راى زكريا ذلك منها دعى الله عز وجل وطلب منه الولد ، فقال : ان الذي فعل بمريم هذا الفعل ورزقها الفاكهة قادر على ان يصلح زوجتي حتى تلد ! فرزقه الله يحيى .
وكان عمر زكريا عليه السلام لما ولِد يحيى عليه السلام ، مائة وعشرين سنة وكانت امراته عمرها ، ثمان وتسعين سنة .


شهادة زكريا :

لم يذكر في القرآن كيف توفي زكريا عليه السلام ، وكيفية ارتحاله ، ولكن وردت اخبار متكاثرة من طريق العامة والخاصة ، ان قومه قتلوه ، وذلك ان اعداءه قصدوه ليقتلوه فهرب منهم والتجا الى شجرة فانفرجت له فدخل جوفها ثم التامت ، فدلهم الشيطان عليه وامرهم ان ينشروا الشجرة بالمنشار ، ففعلوا وقطعوه نصفين ، فقتل عليه السلام عند ذلك ، ثم بعث الله عز وجل الملائكة فغسلوا زكريا وصلوا عليه ودفنوه .


ولادة يحيى عليه السلام :

قال تعالى :
«يا زكريا انا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا» الى ان قال تعالى : «يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا»(1) .
لقد من الله عز وجل على زكريا عند كبره بيحيى ، وبعد ذلك صدر الامر
1ـ مريم : 7 : 12.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 281

الالهي المهم الذي خاطب به يحيى : «يا يحيى خذ الكتاب بقوة» ـ «المشهور بين المفسرين ان المراد من الكتاب هنا هو التوراة»(1).
والمراد من اخذ الكتاب بقوة : هو اجراء وتنفيذ ما جاء في كتاب التوراة السماوي وما احتواه من احكام بكل حزم واقتدار ، وارادة حديدية ، وان يعمل بكل مافيه ، وان يستعين بكل القوى المادية والمعنوية في سبيل نشره ... .
ولد يحيى عليه السلام لابويه على خارق العادة ، حيث كان ابوه شيخا فانيا ، وكانت امه عاقرا ، فرزقهما الله يحيى ، واخذ بالرشد والعبادة والزهد من صغر سنه ، «وآتاه الحكم صبيا» كان زاهدا عابدا قد تجرد لعبادة الله والانقطاع له فلم يتزوج قط ولا الهاه شيء من ملاذ الدنيا .
وكان عليه السلام معاصرا لعيسى بن مريم عليه السلام ، وصدق بنبوته وكان ابن خالة عيسى عليه السلام ، وكان سيدا في قومه تحن اليه القلوب وتميل اليه النفوس ، ويجتمع اليه الناس فيعضهم ويدعوهم الى التوبة ويامرهم بتقوى الله . وروي ان يحيى عليه السلام صدق بالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام وله ثلاث سنين ، وقيل ولد يحيى قبل المسيح بثلاث سنين وقيل بستة اشهر(2) والله العالم .


صفاته عليه السلام :

كانت للنبي يحيى عليه السلام صفات كثيرة وقد وصفه القرآن في مواضع كثيرة وذكره الله واثنى عليه ثناء جميلا ومن الصفات التي كان يمتاز بها هي :
1ـ كان مصدقا بكلمة من الله ، وهو تصديقه بنبوة المسيح .
2ـ وانه كان سيدا يسود قومه .
1ـ تفسير القرطبي والآلوسي .
2ـ الكامل في التاريخ : ج1 ص198.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 282

3ـ وانه كان حصورا ، لا ياتي النساء ولم يتزوج .
4ـ وكان نبيا ومن الصالحين والمجتبين ومن المهديين .
5ـ وان الله هو سماه بيحيى ولم يجعل له من قبل سميا .
6ـ واعطاه الحكم والنبوة وهو صبي ، وآتيناه الحكم صبيا .
7ـ واعطاه الله ايضا الرحمة والشفقة والمحبة ، وحنانا من لدنا .
8ـ واعطاه زكاة : اي كل الاعمال والصفات الطاهرة والصالحة .
9ـ وبارا بوالديه ، ولم يكن جبارا ، ولم يكن عصيا ... .
10ـ فلما جمع كل هذه الاوصاف البارزة ، والاوسمة الكبيرة ، فان الله عز وجل منحه وسام مهم وبارز وشمله بعنايته الخاصة وذلك في السلام عليه ، حيث سلم عليه في مواطن ثلاث وهي اهم واخطر المواطن التي يمر بها الانسان وهي قوله تعالى :
«وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا»(1) .
هذه هي اصعب المراحل التي يمر بها الانسان في حياته وانتقاله من عالم الى عالم آخر ، يوم يضع قدمه في هذه الدنيا ، ويوم موته وانتقاله الى عالم البرزخ ، ويوم يبعثه الله في العالم الآخر .
وفي رواية عن الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام : «ان اوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يلد ويخرج من بطن امه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاني الآخرة واهلها ، ويوم يبعث حيا فيرى احكاما لم يرها في دار الدنيا ، وقد سلم الله على يحيى عليه السلام في هذه الثلاثة مواطن وآمن روعته ، فقال : وسلام عليه ...»(2) .
1ـ مريم : 15.
2ـ تفسير البرهان : ج3 ص7.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 283


اوجه التشابه بين يحيى وعيسى عليهما السلام :

توجد علاقة قوية وتقارب واضح وجوانب مشتركة بين حياة يحيى وعيسى عليهما السلام ، منها :
1ـ الولادة : كانت ولادة يحيى عليه السلام من اب كبير طاعن في السن ومن ام مسنة وعقيم .
وكانت ولادة عيسى عليه السلام من ام دون اب ، وهي اعجب .
وقال الله عز وجل في ولادة يحيى عليه السلام من زكريا : «يا زكريا انا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا»(1) .
2ـ النبوة : وصل يحيى عليه السلام الى مقام النبوة وهو صبي وفي مرحلة الطفولة ، واعطاه الله عقلا وذكاء ودراية واسعة ، بحيث اصبح مؤهلا لتقبل هذا المنصب ، «... وآتيناه الحكم صبيا»(2) .
وكذلك عيسى عليه السلام وصل الى النبوة وكلم الناس وهو في المهد ، «قال اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا»(3) .
3ـ عدم الزواج : لم يتزوج يحيى عليه السلام ولم يقترب من النساء ، وذلك قوله تعالى : «... وسيدا وحصورا ...»(4) وحصورا بمعنى الذي يمتنع عن الزواج وترك الملذات الدنيوية .
وكذلك عيسى عليه السلام عاش حياة العزوبة ولم يتزوج .
4ـ النسب والقرابة : ان يحيى كان ابن خالة عيسى ، اي ام يحيى وام عيسى عليهما السلام اخوات .
1ـ مريم : 15ـ 33.
2ـ 3ـ مريم .
4ـ آل عمران : 39.

السابق السابق الفهرس التالي التالي