حرّفوا كل شيء عن طريق الانحراف الجنسي وارتكاب ابشع الاعمال والخبائث ، فان الله جعل مدنهم عاليها سافلها ايضا ، وحيث كانوا يترامون بالاحجار الصغيرة ويرمون بها المارة ، فان الله رماهم بحجارة من سجيل لتتهاوى على رؤوسهم ايضا ، وذلك لتشديد العذاب .
وان هذه الاحجار كانت لها علامات خاصة ومميزة تختلف عن بقية الاحجار العادية ، بل هي احجار خاصة لنزول العذاب الالهي ، هي احجار سماوية كل حجر يصيب شخص معين ولا يتخطاه ، وهي اشارة الى دقة الحساب في عقاب الله وجزائه .
ويحتمل ان يكون سبب قلب مينة قوم لوط وجعل عاليها سافلها على اهلها ورميهم بالحجارة ، هو اجراء الحد الشرعي عليهم ، لان الحد الشرعي في اللواط هو القتل ، اما برميهم من اعلى الشاهق او حرقهم ، او رجمهم بالحجارة اذا كانوا محصنين ، وبالشروط المذكورة في الفقه ، لان الحدود الشرعية لها شرائط دقيقة ذكرت في كتب الفقه .
ونقرأ في حديث للامام الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال :
«من جامع غلاما جاء يوم القيامة جنبا لا ينقيه ماء الدنيا ، وغضب الله عليه ولعنه واعد له جهنم وساءت مصيرا .
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : ان الذكر يركب الذكر فيهتز العرش لذلك .(1)
وعن امير المؤمنين عليه السلام قال : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال»(2) .
وقال عليه السلام : قال : اذا كان الرجل كلامه كلام النساء ، ومشيته مشية النساء ،
1ـ وسائل الشيعة ج14 ص240.
2ـ نفس المصدر ص255.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
108
ويمكّن من نفسه يُنكح كما تُنكح المراة ، فارجموه ولا تستحيوه .(1)
فلسفة تحريم اللواط :
لقد صدر ـ وبكل وقاحة ـ من بعض الدول الغربية مثل ، بريطانيا اصدر المجلس النيابي فيها بجواز اللواط والزواج المماثل .
وقال بعض اتباع المذاهب المادية : نحن لا نجد مانعا طبيا عن هذا الامر ـ اي اللواط ـ .
ولكنهم مع الاسف نسوا او تناسوا ان كل انحراف جنسي له اثره في روحية الانسان وبنائه ويفقد بسببه كل تعادل وتوازن وشخصية الانسان الطبيعي والسليم يميل الى ما يخالفه جنسه ، اي الرجل يميل الى المراة ، والمراة تميل الى الرجل ، وهذا امر طبيعي والانسان فطر عليه ، وهذا الامر ضامن لبقاء النسل وسعادة المجتمع ونموه وتطوره ، اما الانحراف الجنسي ـ اي اللواط ـ سوف يحرف الانسان عن مسيره الطبيعي وسوف يوجد انواع كثيرة من الامراض النفسية والانحرافات والسقوط .
فالرجل الذي يميل الى نظيره من جنسه ـ ليس رجلا كاملا ، والاستمرار على هذا العمل وادامته يجر الانسان تدريجيا الى البرود الجنسي ، ويورث هذا العمل ايضا ضعفا مفرطا في الجنس حتى انه لا يستطيع بعد مدة على المعاشرة الطبيعية مع جنسه المخالف ـ المراة ـ .
مع العلم ان الاحساسات الجنسية للرجل والمراة لها تاثير فاعل على روحية كل منهما .
1ـ نفس المصدر : ص159.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
109
وكذلك يمكن ان يؤثر هذا العمل الشنيع الى ضعف جسم الانسان وروحه ، ومن الممكن ايضا ان يبتلى الافراد المنحرفون بالضعف الجنسي الذي يؤدي الى عدم القدرة على الانجاب والتوليد .
وعلى هذا سوف يفقدون وبالتدريج القدرة والنشاط على الادارة والعمل في اواسط المجتمع ، ويعشعش في روحهم نوع من الاضطراب والقلق ، وهذا القلق والاضطراب النفسي سوف يؤدي بهم الى استعمال المواد المخدرة والمشروبات الكحولية ، كما يجرهم الى انحرافات اخلاقية اخرى .
واذا لم يصمموا على اصلاح انفسهم فورا ، ولم يستعينوا بالطبيب النفسي او الطبيب الجسمي ، سوف يصبح هذا العمل عندهم امرا طبيعيا وعاديا ، عند ذلك يصعب تركه .
نقل عن الامام الصادق عليه السلام ان رجلا سأله : لم حرم الله اللواط ؟ فقال سلام الله عليه «من اجل انه لو كان اتيان الغلام حلالا لاستغنى الرجال عن النساء وكان فيه قطع النسل وتعطيل الفروج وكان في اجازة ذلك فساد كبير .(1)
وهنا مسالة فقهية جديرة بالالتفات وهي : ان الاسلام حرم الزواج من اخت المفعول به وامه وبنته على الفاعل ، اي اذا تحقق اللواط قبل الزواج من احد هؤلاء المذكورين ، فعندئذ يحرم الزواج منهن حرمة مؤبدة .(2)
حكمة :
في الواقع وكما اشرنا الى ذلك ان كل حياة الانبياء عليهم السلام حكم ومواعظ يجب علينا ان نتعظ منها ، ولكن احيانا نذكر بعض الكلمات والاقوال من اجل التاكيد
1ـ تفسير الامثل : ج7 ص30.
2ـ المسائل المنتخبة والرسائل العملية للمراجع باب النكاح : اسباب التحريم م995.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
110
على ذلك .
روي انه لما بعث الله اربعة املاك الى ابراهيم عليه السلام من اجل اهلاك قوم لوط ، وهم : جبرئيل ، وميكائيل ، واسرافيل ، وكرّوبيل ، فسلموا عليه ولم يعرفهم ، فشوى لهم عجلا سمينا ووضعه بين ايديهم فقال لهم كلوا ، ولكنهم امتنعوا من الاكل ...
فقالوا : لا ناكل حتى تخبرنا ما ثمنه ، فقال : اذا اكلتم فقولوا : بسم الله ، واذا فرغتم فقولوا : الحمد لله ، قال : فالتفت جبرئيل الى اصحابه وكان رئيسهم فقال : حق لله ان يتخذ هذا خليلا .(1)
وروي عن الامام علي عليه السلام قال :
.... وستة في هذه الامة من اخلاق قوم لوط ، ... واما التي من اخلاق قوم لوط : فالجلاهق(2) وهو البندق والخذف ، ومضع العلك ، وارخاء الازار خيلاء ، وحل الازرار من القباء والقميص .(3)
وقال عليه السلام ايضا : ... اذا كنت في الصلاة لا يصلي الرجل في قميص متوشحا به فانه من افعال قوم لوط .(4)
هلاك قوم لوط :
عن ابي جعفر عليه السلام ، ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سال جبرئيل كيف كان مهلك قوم
1ـ البحار : ج12 ص168.
2ـ الجلاهق : جسم صغير كروي من طين او رصاص يرمى به الناس ، والبندق جسم صغير ايضا يعملونه من الطين ويرمون به الناس .
3ـ الخصال ج1 ص331.
4ـ نفس المصدر ص627.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
111
لوط ؟ فقال :
ان قوم لوط كانوا اهل فرية لا يتنظفون من الغائط ، ولا يتطهرون من الجنابة ، بخلاء اشحاء على الطعام ، وان النبي لوط لبث عندهم ثلاثين سنة ، ولم يكن له عشيرة فيهم ولا قوم ، وانه دعاهم الى الله عز وجل والى الايمان واتباعه ، ونهاهم عن الفواحش ، وحثهم على طاعة الله فلم يجيبوه ولم يطيعوه ، وان الله عز وجل لما اراد عذابهم بعث اليهم رسلا منذرين عذرا ونذرا ، ـ ولم يعذبهم قبل ان يرسل اليهم رسولا منذرا ـ .
فلما عتوا عتوا عن امر الله ولم يتوبوا بعث الله اليهم ملائكة ليخرجوا من كان في قريتهم من المؤمنين ، فما وجدا منها غير بيت من المسلمين فاخرجوهم منها ، وقالوا للوط : اسر باهلك من هذه القرية الليلة بقطع من الليل ولا يلتفت منكم احد ..
فلما انتصف الليل سار لوط ببناته ورجعت امراته مدبرة الى قومها واخبرت قومها بان لوط خرج ببناته ...
عند ذلك امر الله تعالى جبرئيل عليه السلام ان يهبط الى قرية لوط فقلعها وما حوت من سبع ارضين فرفعها ، حتى سمع اهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها على قومها حتى صار اسفلها اعلاها بامر من الله ، وامطر الله عليهم حجارة من سجيل مسومة فسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبرئيل وقال : اين كانت قريتهم من البلاد ؟
فقال جبرئيل : كان موضع قريتهم في موضع بحيرة طبرية اليوم ، وهي من نواحي الشام .
قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ارايتك حين قلبتها عليهم في اي موضع من الارضين وقعت القرية واهلها ؟ فقال : يا محمد وقعت فيما بين بحر الشام الى
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
112
مصر فصارت تلولا في البحر .(1)
معنى كلمة لوط :
كلمة لوط لها معاني كثيرة منها :
لوط : بمعنى لاط ، اي لاط الحوض بالطين لوطا ، اي : طيّنه وقال اللحياني : لاط فلان بالحوض ـ اي طلاه بالطين وملسه به .
فالتاط به ، اي التصق به ، وفي الحديث : من احب الدنيا التاط منها بثلاث ـ اي التصق بها ـ شغل لا ينقضي ، وامل لا يدرك ، وحرص لا ينقطع .
وايضا اذا لزق الحب بالقلب يقال : لاط حبه بقلبي ، اي لصق حبه بقلبي ـ ويقال : الولد الوط بالقلب ـ اي الصق بالقلب ، وكذلك كل شيء لَصقَ بشيء ، فقد لاط به يلوط لوطا ، ويليط ليطا .
قال الليث : لوط كان نبيا بعثه الله الى قومه فكذبوه واحدثوا ما احدثوا ، فاشتق الناس من اسمه فعلا لمن فعَلَ فِعلَ قومه .(2)
ولوط هو ابن هاران بن تارخ ابن اخي ابراهيم عليه السلام ، «وانما سمي لوط لان حبه لاط بقلب ابراهيم عليه السلام» اي تعلق به ولصق ، وكان النبي ابراهيم عليه السلام يحبه حبا شديدا .
ولوط خرج من ارض بابل مع عمه ابراهيم ، وكان مؤمنا بعمه تابعا له في دينه وهاجر معه الى الشام ... .
1ـ علل الشرائع : ص184.
2ـ لسان العرب : ج12 ص357.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
113
حكم و مواعظ
من حياة الانبياء عليهم السلام
(11)
ذي القرنين
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
114
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
115
قصة ذي القرنين
قال الله تعالى : «ويسالونك عن ذي القرنين قل ساتلو عليكم منه ذكرا ، انا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شيء سببا ، فاتبع سببا ... الخ»(1) .
اختلف المفسرون في شخصية ذي القرنين ، وكما اثارت اهتمام الفلاسفة والباحثين منذ القدم ، وبذلوا مساعي كثيرة للتعرف على هذه الشخصية .
وحياة ذي القرنين مليئة بالحكم والموعظة والعبر ، وكانت محاطة بالغموض والابهام ، لذلك طالبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يوضح لهم حياة ذي القرنين .
واعلم ان الروايات المروية من طرق الشيعة والسنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن طرق الشيعة عن الائمة اهل البيت عليهم السلام ، وكذلك الاقوال المنقولة عن الصحابة والتابعين كثيرة ومشتملة على غرائب وعجائب يستوحش منها الذوق السليم ، واغربها ما روي عن علماء اليهود وغيرهم .
وعلى هذا نحن هنا نترك كل الاقوال المذكورة في الكتب المختلفة عن حياة ذي القرنين ولا نتطرق لها ، ولكن نذكر مختصرا عن حياته المباركة ما جاء به في القرآن الكريم وتفسير آياته وباختصار ايضا ، وبعد ذلك نذكر حكمه ومواعظه الغنية لمن يتعض ... .
1ـ الكهف : 83ـ 98.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
116
ذي القرنين في القرآن :
فلما اخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخبر موسى عليه السلام وفتاه والخضر ، قالوا له : يا رسول الله اخبرنا عن طائف طاف الارض بين المشرق والمغرب من هو ؟ وما قصته ؟ فانزل الله تعالى : «ويسالونك عن ذي القرنين»(1) .
فيكون الجواب على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «قل ساتلو عليكم منه ذكرا» والرسول هنا يتحدث لهم مباشرة عن ذي القرنين .
ويظهر من بداية الآية ان قصة «ذو القرنين» كانت متداولة ومعروفة بين الناس ، ولكنها كانت محاطة بالغموض والابهام ، لهذا السبب طالبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليوضحها لهم .
يقول تعالى : «انا مكنا له في الارض »(2) اي منحناه القوة والقدرة والحكم على وجه الارض ، «وآتيناه من كل شيء سببا»(3) اي اعطاه الله ومنحه كل وسائل القدرة والتمكن ، وعلمه اسباب الوصول اليها مثل : العقل : والعلم الكافي ، والادارة السليمة ، والقوة والقدرة ، والجيوش البشرية ، بالاضافة الى الامكانيات المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الاهداف المنشودة .
ثم يشير القرآن بعد ذلك الى استفادة ذي القرنين من هذه الاسباب والسبل حيث يقول : «فاتبع سببا» اي استفادة من العقل والعلم والقوة التي منحها الله اياه في خدمة الانسان وهدايته واخذ يجول في الارض شرقها وغربها ، فيقول تعالى :
«حتى اذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة»(4) .
1ـ الكهف : 83.
2ـ 3ـ الكهف : 84.
4ـ الكهف : 86.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
117
«حمئة : تعني في الاصل الطين الاسود ذا الرائحة الكريهة ، او الماء الاسن الموجود في المستنقعات ، وهذا الوصف يبين لنا بان الارض التي بلغها ذو القرنين ، كانت مليئة بالمستنقعات ، بشكل كان ذو القرنين يشعر معه بان الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات ، تماما كما يشعر بذلك ما بحر البحر ، وسكان السواحل الذين يشعرون بان الشمس غابت في البحر او خرجت منه» .
«ووجد عندها قوما»(1) : هؤلاء القوم هم الذين خاطب الله ذا القرنين في شانهم وقال :
«قلنا يا ذا القرنين إما ان تعذب وإما ان تتخذ فيهم حسنا »(2)اي اما ان تعذب هؤلاء القوم ، واما ان تتخذ فيهم امرا ذا حسن ، حسب الظاهر ان هؤلاء القوم الذين وجدهم ذي القرنين كانوا منحرفين ولا يعبدون الله وظَلَمة .
بعد ذلك تحكي الآية جواب ذي القرنين الذي قال : «قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الى ربه فيعذبه عذابا نكرا»(3) اي ان الظالمين سينالون العذاب الدنيوي والاخروي معا .
«وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى»(4) .
«وسنقول له من امرنا يسرا»(5) .
اي اننا سنتعامل مع المؤمنين بالقول الحسن ونحسن له ونكلفه بما فيه اليسر ، اما الظالمين منهم سوف نعذبهم ونشدد عليهم في الضرائب والاعمال الشاقة .
وعندما انتهى ـ ذو القرنين ـ من سفره الى المغرب ، توجه الى المشرق
حيث يقول القرآن في ذلك : «ثم اتبع سببا»(1) ، اي استخدم الوسائل والامكانات التي كانت بحوزته .
«حتى اذا بلغ مطلع الشمس»(2) رأى هنا انها تطلع على قوم آخرين ، ما هي صافتهم ؟ «وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا»(3) اي كانت صفاتهم عراة ، لا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية ابدانهم من الشمس ، ولم تكن عندهم مساكن تحميهم من الشمس ، ويحتمل ان يكون هؤلاء القوم في ارض صحراوية لا يوجد فيها جبال ولا اشجار ولا ملاجيء يمكنهم حماية انفسهم .
«كذلك وقد احطنا بما لديه خبرا»(4) . هكذا كانت اعمال ـ ذو القرنين ـ ونحن ، اي الله يعلم جيدا بامكاناته وقدراته وكل جزئياته ، ولا يخفى عليه ما قاساه ذو القرنين في هذا المسير وما تحمله من مصائب وشدائد .
بناء السد :
بعد ان انتهى ـ ذي القرنين ـ من سفره الى المغرب والمشرق ، ينتقل الى المرحلة الثانية والسفرة الثالثة وهي بناء السد والتقاءه بقوم آخرين . حيث يقول تعالى :
«ثم اتبع سببا» : اي استفاد من الوسائل المهمة التي كانت تحت تصرفه لبناء السد .. فقال تعالى :
«حتى اذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون
1ـ الكهف : 89.
2ـ 3ـ الكهف : 90.
4ـ الكهف : 91.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
119
قولا»(1) .
تشير الآية المباركة الى انه وصل الى منطقة جبلية ، وهناك وجد اناسا ـ غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب ـ كانوا على مستوى دان من المدينة ، وكانوا لا يفهمون محتوى الكلام ومتخلفين فكريا عندما وصل ذو القرنين اليهم وراوه ، اغتنموا مجيئه واستنجدوا به ، لانهم كانوا في عذاب شديد من قبل اعدائهم «يأجوج ومأجوج» لذا فقد طلبوا منه العون قائلين :
«قالوا يا ذا القرنين ان يأجوج ومأجوج مفسدون في الارض فهل نجعل لك خرجا على ان تجعل بيننا وبينهم سدا»(2) .
تم التفاهم بين هؤلاء القوم وذي القرنين بالعلامات والاشارات او عن طريق المترجمين ، او باسلوب آخر ، على كل حال اتفقوا معه على بناء السد ، وكانت هذه المجموعة من الناس على وضع جيد من حيث الامكانات والثروة المادية ، ولكنهم ضعفاء من حيث الفكر والصناعة والتخطيط ، لذا فقد قبلوا بتكاليف بناء هذا السد المهم بشرط ان يتكفل ذو القرنين ببنائه .
اما ذو القرنين فقد اجابهم : و «قال ما مكّنّي فيه ربي خير» واني لا احتاج الى مساعدتكم المالية ، وانما : «فاعينوني بقوة اجعل بينكم وبينهم ردما»(3) .
فان ذو القرنين طلب منهم قوة بشرية من اجل ان يساعدوه على بناء السد ، وكلمة «ردم» هنا تقال للسد القوي ، ويطلق ايضا على ـ ترقيع الملابس ـ .
1ـ الكهف : 93.
2ـ الكهف : 94.
3ـ الكهف : 95.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
120
ثم امر ذو القرنين وطلب منهم وقال : «آتوني زبر الحديد»(1) وهي تعني القطع الكبير من الحديد .
وعندما جاءوه بقطع من الحديد اعطى امرا بوضع بعضها فوق بعض الآخر حتى غطى بين الجبلين بشكل كامل : «حتى اذا ساوى بين الصدفين»(2) ومعنى «الصدف» هنا حافة الجبل ، حيث كان بين حافتي الجبل شقا كان يدخل منها يأجوج ومأجوج ويؤذون القوم ، وقد صمم ذو القرنين ملأ هذا الشق .
وبعد ذلك امرهم ذو القرنين وطلب منهم ان ياتون الحطب والاخشاب ويضعونها على جانبي السد ، واشعل النار فيه حتى احمر الحديد من شدة النار و «قال انفخوا حتى اذا جعله نارا»(3) .
لقد كان هدف ذو القرنين من ذلك هو ربط قطع الحديد بعضها مع البعض ليصنع منه قطعة واحدة ، والتحمت اجزاء الحديد بعضها ببعض .
وبعدما انتهى من هذه المرحلة ، طلب منهم فقال : اجلبوا لي النحاس المذاب حتى اضعه فوق هذا السد : «قال آتوني افرغ عليه قطرا»(4) .
وبهذه الطريقة فقد قام بتغطية هذا السد الحديدي بقطعة من النحاس حتى لا ينفذ فيه الهواء ويحفظ من التآكل .
ان علم الحديث اليوم اثبت انه عند اضافة مقدار من النحاس الى الحديد فان ذلك سيزيد من مقدار مقاومته .
واخيرا تم بناء السد واصبح محكما وقويا بحيث : «فما اسطاعوا ان يظهروه وما استطاعوا له نقبا»(5) .
لقد كان عمل ذي القرنين عظيما ومهما ، وكان يمكن له ان يتباهى ويفتخر
1ـ 4ـ الكهف : 96.
5ـ الكهف : 97.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
121
ويمن به على القوم ، الا انه قال بأدب كامل وتواضع : «قال هذا رحمة من ربي» ، لان اخلاقه كانت اخلاقا الهية .
اراد ذو القرنين ان يعِضَهم فقال : انني لا املك شيئا من عندي كي افتخر به ، اذا كنت املك العلم والمعرفة ، وقابلت الكلام والحديث المؤثر ، كل هذا من فضل الله ومن قبل الخالق جل وعلا .
واذا كانت مِثل هذه الوسائل والافكار في اختياري فان ذلك من بركة الله ورحمة الخالق الواسعة .
ثم استطرد قائلا متواضعا لله تعالى : لا تظنوا ان هذا السد سيكون ابديا خالدا لا يتزعزع : «فاذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا»(1) .
لقد اشار ذو القرنين في النهاية من كلامه هذا الى فناء الدنيا وتحطيم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث ويوم تقوم القيامة .
واعتبر بعض المفسرين ـ الوعد الالهي ـ اشارة الى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنى لسد غير قابل للاختراق والعبور ، فالطائرات والصواريخ والقنابل الذرية وما شابهها تستطيع ان تعبر جميع هذه الموانع ... .
من هم يأجوج ومأجوج :
لقد ذكر القرآن الكريم في سورتين اسم ـ يأجوج ومأجوج ـ ، وردت في المرة الاولى في الآيات التي نبحثها من سورة ـ الكهف ـ والثانية في سورة الانبياء ، آية (96) .
الآيات القرآنية تؤيد بوضوح ان هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين
1ـ الكهف : 98.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
122
كانتا تؤذيان سكان المناطق القريبة بهم .
ويقول العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان : انه يستفاد من مجموع ماذكر في التوراة ان مأجوج او يأجوج ومأجوج هم مجموعة او مجاميع كبيرة ، كانت تسكن اقصى نقطة من شمال آسيا ، وهم اناس محاربون يغيرون على الاماكن القريبة منهم ، وانهم كانوا امما حربية معروفة بالمغازي والغارات .(1)
والبعض يعتقد ان هاتبين الكلمتين عبريتين ولكنهما في الاصل انتقلتا من اليونانية الى العبرية ، اذ كانتا تلفظان في اليونانية بـ «كاك» و «ماكاك» ثم انتقلتا على هذا الشكل الى كافة اللغات الاوربية .
وقد وردت اخبار تاريخية مختلفة لحركة هؤلاء الاقوام وهجراتهم منها ، ان منطقة شمال شرقي الارض من نواحي «مغولستان» كانت في الازمنة السابقة كبقية السكان ، وكانت تتكاثر بسرعة ، وبعد ان ازداد عددهم ، اتجهوا نحو الشرق او الغرب ، وسيطروا على هذه الاراضي وسكنوا فيها تدريجيا .
وقد كان آخر مقطع تاريخي لهجومهم في القرن الثاني عشر الميلادي بقيادة «جنكيز خان» حيث هجم شرق البلاد الاسلامية ودمر العديد من المدن ، وفي طليعتها مدينة بغداد ... .
ويظهر من هذا ان «يأجوج ومأجوج» هم من هذه القبائل الوحشية حيث طلب اهل القفقاز من ـ كورش ـ عند سفره اليهم ان ينقذهم من هجمات هذه القبائل الوحشية ، كما طلب قوم ذي القرنين منه ان يجعلوا له خرجا على ان ينجيهم من يأجوج ومأجوج ـ ويجعل فيما بينهم سدا ، فاجابهم الى بناء السد وابى ان يقبل خرجهم ، وانما طلب منهم ان يعينوه بقوة ... .
1ـ تفسير الميزان : ج13 ص379.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
123
من هو ذو القرنين :
روي ان ـ ذي القرنين ـ كان اسمه عياشا وكان اول الملوك بعد نوح عليه السلام ملك ما بين المشرق والمغرب ، ومكن الله له في الارض وبسط يده حتى استولى عليها .. .(1)
وروي عن عبد الله بن سليمان ، وكان قارئا للكتب قال : قرات في بعض كتب الله عز وجل ان ـ ذا القرنين ـ كان رجلا من اهل الاسكندرية وامه عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره يقال له : اسكندروس ، وكان له ادب وخلق وعفة ، وكان راى في المنام كأنه دنا من الشمس حتى اخذ بقرنيها شرقها وغربها ، فلما قص رؤياه على قومه سموه ـ ذا القرنين ـ .
فلما راى الرؤيا بعدت همته وعلا صوته وعز في قومه ، وكان اول ما اجمع على امره ان قال : اسلمت لله عز وجل ، ثم دعا قومه الى الاسلام فاسلموا هيبة له ، ثم امرهم ان يبنوا له مسجدا فاجابوه الى ذلك ... .(2)
وسئل امير المؤمنين عليه السلام عن ذي القرنين ، انبيا كان ام ملكا ؟ فقال : لا نبيا ولا ملكا ، بل عبدا احب الله فاحبه الله ، ونصح لله فنصح له ، فبعثه الى قومه فضربوه على قرنه الايمن فغاب عنهم ما شاء الله ان يغيب ، ثم بعثه الثانية فضربوه على قرنه الايسر فغاب عنهم ما شاء الله ان يغيب ، ثم بعثه الثالثة فمكن له في الارض ، وفيكم مثله(3) يعني نفسه عليه السلام وذلك فانه اصيب بضربة من عمر بن ود ، وبضربة من ابن ملجم لعنه الله .
وروي انه لما اخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخبر موسى وفتاه والخضر ، قالوا له : فاخبرنا يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن طائف طاف الارض بين المشرق والمغرب من
1ـ قصص الانبياء لنعمة الله الجزائري : ص162.
2ـ البحار : ج12 ص183.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
124
هو ؟ وما قصته ؟ فانزل الله : «ويسالونك عن ذي القرنين قل ساتلو عليكم منه ذكرا ...» القصة .(1)
وفي بعض الروايات ، انه كان بشرا ، وقد ورد في بعضها انه كان ملكا سماويا انزله الله الى الارض وآتاه من كل شيء سببا ، وفي خطط المغريزي عن كتاب الجاحظ ؛ ان ذا القرنين كانت امه آدمية وابوه من الملائكة ، وفي بعضها انه كان محدثا ياتيه الملك فيحدثه وفي بعضها انه كان نبيا ... .
وكذلك اختلفوا في اسمه ، ان اسمه عياش ، في بعضها اسكندر ، وفي بعضها مرزيا بن مرزبة اليوناني من ولد يونن بن يافث بن نوح ، وفي بعضها انه الاسكندر المقدوني الذي سيطر على دول الغرب والروم ومصر وبنى مدينة الاسكندرية ، ثم سيطر بعد ذلك على الشام وبيت المقدس .
وقال البعض ان ذو القرنين ـ كان احد ملوك اليمن ، واكد البعض انه «كورش الكبير» الملك الاخميني ... الخ .
واما الاختلافات في وجه تسميته بذي القرنين كثيرا ايضا منها : ما رويناه عن الامام امير المؤمنين عليه السلام : انه دعا قومه الى الله فضربوه على قرنه الايمن ...» فسمي بذلك ذا القرنين .
وفي بعضها انه نبت له قرنان في راسه وكان يتعمم عليها يواريهما بذلك ، وهو اول من تعمم وقد كان يخفيهما عن الناس ... .
وقيل : سمي ذا القرنين لانه ملك قرني الارض وهما المشرق والمغرب ، وقيل : لانه كان له عقيصتان في راسه ، وقيل : لانه ملك الروم وفارس .
واما جواب سؤال ، اين يقع سد ذي القرنين ؟ ايضا اجيب عليه عدة اجوبة
1ـ تفسير القمي : ص40.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
125
منها :
يرى البعض في سد ذي القرنين انه سد مأرب في اليمن ، ولكن هذا السد برغم وقوعه في مضيق جبلي الا انه انشئ لمنع السيل ولخَزن المياه ، وان النحاس والحديد لم يدخلا في بنائه .
ومن قائل يقول بانه جدار الصين الذي لا يزال موجودا ويبلغ طوله مئات الكيلومترات ، وهذا ايضا مردود ، لان الجدار لم يدخل في بنائه النحاس والحديد ، ولا يقع في مضيق جبلي .. .
ولكن بالاستشهاد الى شهادة العلماء واهل الخبرة فان السد يقع في ارض القوقاز بين بحر الخزر والبحر الاسود ، حيث توجد سلسلة جبلية كالجدار تفصل بين الشمال عن الجنوب ، والمضيق الوحيد الذي يقع بين هذه الجبال الصخرية هو مضيق «داريال» المعروف ، ويشاهد فيه جدار حديدي اثري حتى الآن ، ولهذه المرجحات يعتقد الكثير بان سد «ذو القرنين» يقع في هذا المضيق ويوجد نهر بالقرب من ذلك المكان يسمى «سائرس» اي «كورش» اذ كان اليونان يسمون كورش بـ «سائرس» .
وقد وردت روايات كثيرة واقوال مختلفة في حياة ذي القرنين لو اردنا التفصيل يُطيل بنا المقام .(1)
ملاحظات :
قصة ذي القرنين بشكل عام تحتوي على دروس تربوية كثيرة ، ومواعظ وحكم قيمة جدا ومهمة يمكن الاستفادة منها والعمل على ضوئها من اجل
1ـ راجع تفسير الميزان : ج13 ص369.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
126
سعادة الامة وادارة الدولة ... ، ويمكن تلخيص هذه الدروس بما يلي :
1ـ اول درس نتعلمه هو ان اي عمل في هذه الدنيا لا يتم دون توفير اسبابه ، فان الله تبارك وتعالى هيأ الاسباب وتمكن ذو القرنين من الاستفادة منها بالوجه الصحيح وبافضل وجه ممكن ، «فاتبع سببا» .
2ـ لا يمكن اي حكومة ان تنتصر بدون ترغيب الانصار والاتباع ، ومعاقبة المذنبين والمخطئين ، وهذا في قول ذي القرنين : «قال أما من ظلم فسوف نعذبه ... وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى» .
وبلور الامام امير المؤمنين عليه السلام هذا في رسالته الى مالك الاشتر حيث قال عليه السلام : «ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ...»(1) .
3ـ التكليف الشاق وتحميل الناس ما لا يطاق ، مثل هذه الامور لا تناسب الحكومة الالهية العادلة ابدا ، «وسنقول له من امرنا يسرا» ، حتى يمكن انجاز الاعمال عن شوق ورغبة واخلاص .
4ـ رعاية شرائط حياة الامة المختلفة ، والتعامل مع كل مجموعة بما يناسب حياتها الخاصة ، وبذلك يدخل الجميع تحت لوائه ، كما فعله ذو القرنين مع اصحابه .
5ـ الاستماع الى مشاكل الامة ، والدأب على رفع احتياجاتهم باي اسلوب كان ، وعدم التفرقة فيما بينهم ، حتى اذا كانت بعض المجموعات من شرائح الامة لم تكن تفهم الكلام وضعيفة الذكاء ولا تنفع الحكومة باي شيء ـ ولا يكادون يفقهون قولا ـ .
6ـ الامن والامان للامة وهما اهم شرط من شروط الحياة الاجتماعية