حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 127

السالمة ، لهذا السبب تحمل «ذو القرنين» اصعب الاعمال واشقها لتامين امن القوم من اعدائهم وبنى لهم السدود ... .
ولذلك نرى اول شيء طلبه ابراهيم عليه السلام من الله عند بناء الكعبة هو الامن حيث قال : «رب اجعل هذا البلد آمنا» .(1)
7ـ الدرس الآخر الذي يمكن ان نتعلمه من قصة ـ ذو القرنين ـ هو ان اصحاب المشكلة الاصليين والذين يطلبون الراحة والامن من الدعاء ، هم بالدرجة الاولى معنيين في الاشتراك في بناء بلادهم وبذل الجهد لحل مشكلتهم ، ورص الصفوف والتعاون الجمعي ، لذلك نرى «ذو القرنين» اعطى امرا الى الفئة التي اشتكت اليه امر يأجوج ومأجوج ـ وان يجلبوا قطع الحديد ، واشعال النار ، والنفخ في النار لاذابة النحاس ، وهذا يعطي قيمة خاصة للنتائج الحاصلة منه ، وللجهود المبذولة فيه ، ومن ثم يحرص الجميع للحفاظ عليه وادامته بحكم تحملهم لمجهودات انشائه .
ونستفيد من هذا ايضا ان المجتمع المتأخر والمتخلف يستطيع ان ينجز اعمالا مهمة وعظيمة اذا تمتع ببرنامج صحيح وادارة امنية وقيادة مخلصة ومؤمنة ... .
8ـ الزعيم الالهي والقائد الرباني لا يلتفت الى الجزاء المادي والنفع المالي والدنيوي ، وانما يقتنع بما حباه الله ، وعلى هذا نرى «ذو القرنين» عندما اقترحوا عليه الاموال قال : «ما مكني فيه ربي خير» ، وقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : «انما اجري على الله» وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «قل لا اسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربى» ..
9ـ إحكام الامور والدقة في العمل والاخلاص هو درس آخر نستفيده من
1ـ ابراهيم : 35.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 128

ذي القرنين حيث استفاد من قطع الحديد وقد فصلها بالنار ثم غطاها بالنحاس المذاب في بناء السد كي تمتنع عن التلف والصدأ اذا تعرضت للهواء والرطوبة .
10ـ والدرس الآخر هو ، مهما كان الانسان قويا ومتمكنا وعالما وصاحب انجازات كبيرة ، فعليه ان لا يغتر بنفسه ويقول ما قاله «ذو القرنين» ـ هذا رحمة من ربي ـ وكما تعلمون الرياء يذهب ثواب الاعمال ويبطلها ويبتعد عن الله ، وكل شيء الى زوال واضمحلال مهما كان محكما وصلدا ...
اليس الجدير بنا ان نقف امام هذه النقاط المختصرة في عباراتها والمفصلة في معانيها وقفة متفكر ومعتبر كيف نعتبر منها ونعمل على ضوئها حتى نتمكن ان نقف بوجه الاستبداد والطاغوت والمحاريبن لديننا ودنيانا .

حكمه ومواعظه :

الدرس المهم الآخر الذي نستفيده من قصة «ذي القرنين» هي حكمه ومواعظه ومحادثاته مع الآخرين ، نختصر منها ما يلي :
عن ابي وائل ، عن وهب قال : وجدت في بعض كتب الله عز وجل ان ذا القرنين لما فرغ من عمل السد انطلق على وجهه ، فبينما هو يسير ومعه جنوده ، اذ مر على شيخ يصلي فوقف عليه بجنوده حتى انصرف من صلاته .
فقال له ذو القرنين : كيف لم يروّعك ما حضرك من جنودي ؟
قال : كنت اناجي من هو اكثر جنودا منك ، واعز سلطانا ، واشد قوة ، ولو صرفت وجهي اليك لم ادرك حاجتي قبله .
قال له ذو القرنين : هل لك ان تنطلق معي فاواسيك بنفسي ، واستعين بك على بعض امري ؟
قال : نعم ان ضمنت لي اربع خصال : نعيما لا يزول ، وصحة لا سقم فيها ،

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 129

وشبابا لا هرم فيه ، وحياة لا موت فيها .
فقال له ذو القرنين : واي مخلوق يقدر على هذه الخصال ؟
فقال الشيخ : فاني مع من يقدر عليها ويملكها واياك .
ثم مر برجل عالم فقال لذي القرنين : اخبرني عن شيئين منذ خلقهما الله عز وجل قائمين ، وعن شيئين جاريين ، وشيئين متباغضين .
فقال له ذو القرنين : اما الشيئان القائمان فالسماوات والارض ، واما الشيئان الجاريان فالشمس والقمر ، واما الشيئان المختلفان فالليل والنهار ، واما الشيئان المتباغضان فالموت والحياة .
فقال : انطلق فانك عالم .
فانطلق ذو القرنين يسير في البلاد حتى مر بشيخ يقلب جماجم الموتى ، فوقف عليه بجنوده فقال له : اخبرني ايها الشيخ لاي شيء تقلب هذه الجماجم ؟
قال : لاعرف الشريف من الوضيع ، والغني من الفقير ، فما عرفت ، واني لاقلبها منذ عشرين سنة ، فانطلق ذو القرنين وتركه وقال : ما عنيت بهذا احدا غيري .
فبينما هو يسير اذ وقع الى الامة العادلة والعالمة من قوم موسى عليه السلام الذين يهدون بالحق وبه يعدلون .
فلما رآهم قال لهم : ايها القوم اخبروني بخبركم ، فاني قد درت الارض شرقها وغربها وبرها وبحرها ، وسهلها وجبلها ، ونورها وظلمتها فلم الف مثلكم .
فاخبروني ما بال قبور موتاكم على ابواب بيوتكم ؟
قالوا : فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا .
قال : فما بال بيوتكم ليس عليها ابواب ؟
قالوا : ليس فينا لص ولا ظنين وليس فينا الا امين .

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 130

قال : فما بالكم ليس عليكم امراء ؟
قالوا : لا نتظالم .
قال : فما بالكم ليس بينكم حكام ؟ قالوا : لا نختصم .
قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نتكاثر .
قال : فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون ؟ قالوا : من قبل انا متواسون متراحمون .
قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من قبل الفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا .
قال : فما بالكم لا تستبون ولا تقتلون ؟ قالوا : من قبل انا غلبنا طبائعنا بالعزم وسسنا انفسنا بالحلم .
قال : فما بالكم كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة ؟
قالوا : من قبل انا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا .
قال : فاخبروني لم ليس فيكم مسكين ولافقير ؟
قالوا : من قبل انا نقسم بالسوية .
قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قبل الذل والتواضع .
قال : فلمَ جعلكم الله عز وجل اطول الناس اعمارا ؟
قالوا : من قبل أنّا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل .
قال : فما بالكم لا تقحطون ؟ قالوا : من قبل أنّا لا نغفل عن الاستغفار .
قال : فما بالكم لا يصيبكم الآفات ؟ قالوا : من قبل أنّا لا نتوكل على غير الله عز وجل ، ولا نستمطر بالانواع والنجوم .
قال : فحدثوني ايها القوم هكذا وجدتم آباءكم يفعلون ؟
قالوا : وجدنا آباءنا يرحمون مسكينهم ، ويواسون فقيرهم ، ويعفون عمن

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 131

ظلمهم ، ويحسنون الى من اساء اليهم ، ويستغفرون لمسيئهم ، ويصلون ارحامهم ، ويؤدون امانتهم ، ويصدقون ولا يكذبون ، فاصلح الله لهم بذلك امرهم ، فاقام عندهم ذو القرنين حتى قبض ، وكان له خمسمائة عام .(1)
ومن الحكم التي تعلمها ذو القرنين من الله تعالى بواسطة الملائكة واوصانا بها قوله : «لا يهمّنّك رزق غد ، ولا تؤخر عمل اليوم لغد ، ولا تحزن على ما فاتك ، وعليك بالرفق ، ولا تكن جبارا متكبرا» .(2)
روي انما لما التقى ذو القرنين مع النبي ابراهيم الخليل عليه السلام ، قال ابراهيم عليه السلام لذي القرنين : بمَ قطعت الدهر ؟ قال : باحدى عشر كلمة : «سبحان من هو باق لا يفنى * سبحان من هو عالم لا ينسى * سبحان من هو حافظ لا يسقط * سبحان من هو بصير لا يرتاب * سبحان من هو قيوم لا ينام * سبحان من هو ملك لا يرام(3) * سبحان من هو عزيز لا يضام(4) * سبحان من هو محتجب لا يرى * سبحان من هو واسع لا يتكلف * سبحان من هو قائم لا يلهو * سبحان من هو دائم لا يسهو» .
مثال ضربه الخضر عليه السلام الى ذي القرنين عندما ملك ما بين المشرق والمغرب واراد ان يصل الى عين الحياة ، في قصة مفصلة ذكرها صاحب البحار(5) ، لا يعلم مدى صحتها الا الله ، نذكر الموعظة التي فيها .
قال الخضر لذي القرنين : ان مثلَ ابن آدم مِثل هذا الحجر العجيب الذي اذا
1ـ البحار : ج12 ص177.
2ـ نفس المصدر : ص188.
3ـ لا يرام : اي لا يقصده احد بسوء .
4ـ لا يضام : اي لا يُقهر ولا يَظلم .
5ـ البحار : ج12 ص199.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 132

وضِعً في كفة الميزان ووضع مقابله الف حجر فمال بها ، ثم اذا وضع عليه التراب شَبِعَ وعاد حجرا مثله «فتساوى» .
فقال : كذلك مثلك «يا ذا القرنين» اعطاك الله من الملك ما اعطاك فلم ترضى به حتى طلبت امرا لم يطلبه ابدا من كان قبلك ، ودخلت مدخلا لم يدخله انس ولا جان .
يقول : كذلك ابن آدم لا يشبع حتى يحثى عليه التراب .
قال : فبكى ذو القرنين بكاء شديدا وقال : صدقت يا خضر يضرب لي هذا المثل ، لا جرم اني لاطلب اثرا في البلاد بعد مسلكي هذا .
ثم انصرف راجعا في الظلمة ، فبينما هم يسيرون اذ سمعوا خشخشة تحت سنابك خيلهم ، فقالوا : ايها الملك ما هذا ؟ فقال : خذوا منه ، فمن اخذ منه ندم ، ومن تركه ندم ، فاخذ بعض وترك بعض ، فلما خرجوا من الظلمة اذا هم بالزبرجد فندم الآخذ والتارك «ندم الآخذ لانه لم ياخذ اكثر ، وندم التارك لانه لم ياخذ» .
ورجع ذو القرنين الى دومة الجندل وكان بها منزله ، فلم يزل بها حتى قبضه الله اليه .
وكان عدة ما سار في البلاد من يوم بعثه الله عز وجل الى يوم قبض خمسمائة عام .(1)
1ـ البحار : ج12 ص193.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 133
حكم و مواعظ
من حياة الانبياء عليهم السلام
(12)







النبي يوسف عليه السلام





حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 134


حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 135


قصة النبي يوسف عليه السلام

قال الله عز وجل في كتابه الكريم : «اذ قال يوسف لابيه يا ابت اني رايت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين * قال يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا ان الشيطان للانسان عدو مبين ...» الخ(1) .


احسن القصص

عزيزي القارئ بين يديك قصة النبي يوسف عليه السلام والتي تعتبر هي من احسن القصص المذكورة في القرآن الكريم وفي كتب القصص المختلفة ، هذه القصة تحتوي على حكم ومواعظ كثيرة ، ولها تاثير فاعل في حياة الانسان ، وفيها دروس تربوية ودينية واخلاقية واجتماعية وعبر لمن يعتبر .
قصة يوسف عليه السلام ليست قصة عشق وغرام كما يتصور البعض ، بل قصة صراع مرير بين الحق والباطل ، بين جنود الشيطان وجنود الرحمان ، بين العشق المعنوي الالهي والعشق المادي الشيطاني .
ظاهر القصة عذب وجميل ومن حيث الباطن فمحتواه عظيم ومليء
1ـ يوسف : 4ـ 5 ... الخ .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 136

بالموعظة والعفة والكرامة .
يعتقد بعض المفسرون ان قوله تعالى : «نحن نقص عليك احسن القصص ...»(1) اشارة الى مجموع القرآن ، اي ان القرآن الكريم كله قصص وحكايات ، والحال ليس كذلك ، صحيح يوجد في القرآن قصص كثيرة وحكايات بنّاءه ومربية كما ذكر في الاحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : «ان احسن القصص هذا القرآن»(2) .
وكما نقرأ في خطبة الامام امير المؤمنين عليه السلام قوله : «ان احسن القصص وابلغ الموعظة وانفع الذكر كتاب الله»(3) .
ولكن هذا ليس معناه ان القرآن كتاب قصصي فقط ويقرا للتسلية وسد الفراغ ، بل القرآن الكريم دستور الهي وكتاب سماوي انزله الله تعالى على نبيه المرسل وخاتم الانبياء والرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو خاتم الرسالات السماوية ، ليهتدي به الناس ويسيرون على نهجه ومنهاجه وحُكمه والعمل به بما فيه خير الدنيا والآخرة ، حيث قال تعالى : «ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا»(4) .
والقصة التي في القرآن الكريم ليست بمعنى سرد الحكايات وسد الفراغ كما ذكرنا ، بل المراد معناها ـ الجذري ـ في اللغة وهو البحث عن آثار الشيء ، وترسم لنا في فصولها المثيرة اسمى دروس الحياة وحاكمية الله على كل شيء ، وتُظهر لنا ما ينتهي اليه الحاسدون والحاقدون والمنافقون والمنحرفون عن الحق
1ـ يوسف : 3.
2ـ نور الثقلين : ج2 ص49.
3ـ نفس المصدر .
4ـ الاسراء : 9.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 137

المتمسكون بالشيطان .
ولا مانع من ان يكون القرآن هو احسن القصص بصورة عامة ، وقصة يوسف هي احسن القصص بصورة خاصة .


قصة يوسف عليه السلام :

كان ليعقوب عليه السلام اثنا عشر ولدا ، اثنان منهما وهم يوسف وبنيامين من ام واحدة اسمها «راحيل» ، وكان يعقوب عليه السلام يولي هذين الولدين محبة خاصة ، وخاصة يوسف عليه السلام ، لانه كان اصغر اولاده وهو يحتاج الى رعاية وعناية خاصة ، وفي نفس الوقت كانت امه قد ارتحلت من الدنيا .
ومع كل هذا كان يوسف ترتسم عليه علائم النبوغ والذكاء الحاد ، مما ادى هذا الى ان يولي يعقوب اهتمام وعناية اكثر لولده يوسف ، حيث ادى هذا الى اثارة نار الحسد والحقد من اخوته عليه ، واخذوا يتدارسون الامر وكيفية التخلص من يوسف حتى يخلو وجه ابيهم اليهم حسب تصورهم الباطل ، وبعد ذلك صمموا على المؤامرة الشنعاء والجريمة النكراء في التخلص من يوسف .
«اذ قالوا ليوسف واخوه احب الى ابينا منا ونحن عصبة» .
وحكموا على ابيهم من جانب واحد بقولهم «ان ابانا لفي ضلال مبين» .
ان نار الحسد والحقد لم تدعهم ليفكروا في جميع جوانب الامر من اجل ان يكتشفوا اسباب علاقة يعقوب بالنسبة لولديه يوسف وبنيامين واظهار الحب لهما ، لان المنافع الخاصة لكل فرد تجعل بينه وبين عقله حجابا فيجعله يقضي من جانب ، وتكون النتيجة ، الضلال والخسران المبين .
وعلما ان اتهام اخوة يوسف لابيهم بالضلالة ، لم يكن المقصود منها

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 138

الضلالة الدينية ، لانهم يعتقدون بنبوة ابيهم ، وانما استنكروا طريقة معاشرته فحسب .


الرؤيا الصادقة :

والذي زاد في حب يعقوب لولده يوسف الرؤيا التي رآها يوسف ، ـ وكان ذلك وحسب ما رواه ابن عباس ـ في ليلة الجمعة التي صادفت ليلة القدر تعيين الاقدار والآجال .
جاء يوسف في احد الايام صباحا الى ابيه وهو في غاية الشوق ليحدثه عن رؤياه ، وقال له : يا ابت اني رايت في المنام احد عشر كوكبا والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين ، حيث كان عمره آنذاك ، تسع سنوات او سبع ، ومنهم من يقول : اثنتي عشرة سنة ، والقدر المسلم انه كان صبيا .
عندما سمع يعقوب رؤيا ولده يوسف اخذ يفكر في الامر وما معنى هذه الرؤيا وتفسيرها .. .
وقال في نفسه : لا شك ان الشمس والقمر «انا وامه او خالته» لان امه كما ذكرنا قد ماتت ، والكواكب الاحد عشر ـ اخوته ـ ولابد لولدي يوسف شأن عند الله تعالى وسوف يصبح عزيز قوم ويتواضعون له ويخشعون .
لذلك توجه الى يوسف بلهجة ملؤها الاضطراب والخوف المقرون بالفرحة وقال له : يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك ولا تخبرهم خوفا من ان يكيدوا لك كيدا ، لانه كان يعرف حساسيتهم وحسادتهم بالنسبة لاخيهم يوسف ، فخاف عليه منهم .
ولكن هذه الرؤيا لم تكن دليلا على عظمة يوسف في المستقبل من الوجهة الظاهرية والمادية فحسب ، بل تدل على مقام النبوة التي سيصل اليها

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 139

يوسف في المستقبل ، وذلك في قول يعقوب لولده يوسف : «وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تاويل الاحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما اتمها على ابويك من قبل ابراهيم واسحق ...»(1) . فان الله على كل شيء قدير ملكا .
اذن علم يعقوب عليه السلام بان ابنه سوف يصبح نبيا ، وذلك ليس بعيد على النبي ، لان ارتباطه بالله عز وجل وبعالم الغيب يوصله الى تفسير ذلك .


آثار الحسد :

ازداد حب يعقوب لولده يوسف وازداد تحفضه عليه واهتمامه به ، مما ادى الى ازدياد حسد اخوته منه وحقدهم عليه .
اخذو يفكرون ويخططوا بكيفية التخلص من يوسف وابعاده عن ابيه حتى يخلوا لهم وجه ابيهم ، فوصلوا الى مقترَحَين وقالوا : اما ان نقتله او نرميه في بئر فتاخذه المارة ونتخلص منه ، وبعد ذلك نتوب الى الله ونكون قوما صالحين .
هذه هي اساليب الشيطان لاغواء الانسان ، يرسم له الخطة في ارتكاب الذنب والجريمة وبعد ذلك يرسم له خطة شيطانية اخرى في كيفية التخلص والابتعاد عنها ، وذلك لمخادعة الضمير والوجدان في تسهيل ارتكاب الذنب ، فان اخوة يوسف دخلوا من هذا الطريق والمخطط الشيطاني .
وفي النهاية صمموا على صواب اقتراح احدهم في عدم قتل يوسف والقائه في الجب « اي البئر » ، وكان الذي اقترح ذلك اخوه من امه ـ بنيامين ـ .
عند ذلك اخذوا يفكرون في كيفية نجاح الخطة وابعاد يوسف عن ابيه
1ـ يوسف : 6.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 140

واخذه الى خارج المدينة والقائه في البئر .
فجاؤوا الى ابيهم بلسان ليّن يدعوا الى الترحم والمحبة والعطف وقالوا له : يا ابانا انّ اخانا هذا ما يزال صبيا وبحاجة الى اللهو واللعب فخل سبيله واتركه معنا غدا يرتع ويلعب ونحن نواظب عليه ونحامي عنه .
ولكن يعقوب دون ان يتهم اولاده بسوء القصد ، بل اظهر التردد في ارسال يوسف وقال لهم :
انه اذا ابتعد عني سوف يحزنني ، وربما يوجد في خارج المدينة بعض الذئاب المفترسة اخاف ان تاكله ، فاعتذر اليهم .
فقالوا لابيهم : كيف يكون ذلك ، هل نحن موتى فلا ندافع عن اخينا بل نتفرج عليه والذئب ياكله ، ما عسى ان نقول للناس وكيف نغفل عنه ونتركه وحده ، الى غير ذلك من الترغيب وتحريك احاسيس يوسف وترغيبه للذهاب معهم للنزهة خارج المدينة ايضا .
واخيرا انتصر اخوة يوسف واقنعوا اباهم ان يرسل معهم اخاهم يوسف ، فباتوا ليلتهم مطمئني البال لياتي الصباح وينفذوا خطتهم .
عندما اصبح الصباح جاؤوا الى ابيهم واخذوا منه يوسف فامرهم بالمحافظة عليه ، وكرر توصياته في شأنه ، فاظهر الابناء طاعتهم لابيهم ، وابدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة ، وتحركوا الى خارج المدينة .
عندما انتهوا الى خارج المدينة وجدوا بئرا فاجمعوا على القائه في هذا البئر ، فالقوه في البئر .
وبعد ان نفذ اخوة يوسف خطتهم كما ارادوا ، جلسوا يفكرون ماذا يجب ان يفعلوا اذا رجعوا الى ابيهم كي يصدق كلامهم بان يوسف قد انتهى الى العدم بصورة طبيعية ، ليجلبوا عواطف ابيهم نحوهم .

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 141

وكانت الفكرة هي ما تخوّف ابوهم منها في بادئ الامر ، فادّعوا بان الذئب قد اكل يوسف وجاؤوا اليه بدلائل مزيفة ! .
«وجاؤوا اباهم عشاء يبكون * قالوا يا ابانا انا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فاكله الذئب وما انت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجاؤوا على قميصه بدم كذب ...»(1) .
اما الاب الذي كان ينتظر مجيء ولده بفارغ من الصبر ، عندما لم يرى ولده مع اخوته وسمع مقولتهم ، اهتز وارتجف وبكى ولده لشدة حزنه عليه ، واخذ قميص ولده الملطخ بدم الغزال ووضعه على وجهه وطفق يبكي حتى غشي عليه وسقط الى الارض كالخشبة اليابسة ، وبقي مغشيا عليه حتى السحر ، فلما هب النسيم ومر بوجهه افاق من غشيته .
وبالرغم من احتراق قلبه وبكائه الشديد ، لم يجر على لسانه ما يدل على الجزع وعدم الشكر بل قال : «فصبر جميل» ثم قال : «والله المستعان على ما يصفون» واساله ان يرزقني الصبر والتحمل والقدرة اكثر فاكثر على فراقه .
ولم يقل على موته ، لانه كان يعلم ان يوسف لم يُقتل ، بل قال اطلب الصبر على مفارقة : ولدي يوسف ... وعلى ما تصفون .


نجاة يوسف من البئر :

قضى يوسف في ظلمة البئر الموحشة والوحدة القاتلة ساعات مرة ، ولكنه بايمانه بالله ودعائه وتوسله المستمر شع في قلبه نور الامل ، والهمه الله تعالى القوة والقدرة على تحمل الوحدة الموحشة وان ينتصر في هذا الامتحان .
1ـ يوسف : 16ـ 18.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 142

بقي يوسف في البئر يومين او ثلاثة ايام ، وبينما هو كذلك اذ جاءت قافلة وحطت رحلها بالقرب من البئر ، وجاء احدهم الى البئر وادلى بدلوه ليستسقي من ماء البئر .
التفت يوسف الى صوت وحركة من اعلى البئر ، ثم راى الحبل والدلو يسرعان الى النزول ، فانتهز الفرصة وتعلق بالحبل بشدة .
فاحس المامور بجلب الماء ان الدلو قد ثقل اكثر مما ينبغي ، فلما سحبه بقوة الى الاعلى فوجيء بغلام كانه فلقة القمر ، فصرخ وقال : يا بشرى هذا غلام ...
انتشر خبر يوسف شيئا فشيئا بين اهل القافلة ، ولكن الذي وجده اخفاه من اجل ان لا يذاع هذا الخبر وينتشر كي يمكن بيع هذا الغلام في مصر «وأسرّه بضاعة والله عليم بما يعملون»(1) .


يوسف في بيت العزيز :

عندما وصلت القافلة الى مصر عرضوا يوسف للبيع ، فاشتراه عزيز مصر الذي كان وزيرا لفرعون ، ولم يكن يرزق ولدا وكان في غاية الشوق للولد ، وحينما راى هذا الصبي الجميل تعلق قلبه به ليكون مكان ولده .
جاء به الى بيته وقال العزيز لامراته «اكرمي مثواه» ، اي تصدي بنفسك امره وتربيته واجعلي له مقاما كريما عندك عسى ان ينفعنا في امورنا او نتخذه ولدا لنا .
بقي يوسف في بيت العزيز وواجه في هذا المحيط الجديد ، الذي يعد
1ـ يوسف : 19.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 143

واحدا من المراكز المهمة السياسية في مصر ، ومن جهة اخرى كان يرى قصور الطغاة المدهشة وثرواتهم ، ومن جهة اخرى كانت تتجسد في ذهنه صورة اسواق النخاسين وبيع المماليك والعبيد ، وكان يفكر في كيفية القضاء على هذه الظواهر ونجاة الناس من المستضعفين منهم .
نعم لقد تعلم الكثير في فترة بقائه في هذا المحيط المفعم بالضوضاء ، وكان في نفس الوقت مشغولا بتهذيب نفسه وبنائها ، وبقي كذلك في بيت العزيز حتى بلغ اشده وآتاه الله علما وحكما بعدما وصل الى مرحلة البلوغ الجسمي والروحي .


عشق العزيزة :

لم ياسر جمال يوسف الملكوتي عزيز مصر فحسب ، بل اسر حتى قلب امراة العزيز واصبح بسرعة مسخرا لجماله !
وامتدت مخالب العشق الى اعماق قلبها ، وبمرور الزمن وكلما ترعرع يوسف وكبر يزداد جمالا ورشاقة ، وفي المقابل تزداد امراة العزيز عشقا ومحبة واشتعالا يوما بعد يوم .
لكن يوسف هذا الطاهر التقي ، لم يفكر سوى بالله ، ولم يتعلق قلبه بغير عشق الله سبحانه ، ولم تتمكن امراة العزيز من الوصول الى قلبه والى هدفها مع اتباع كل الوسائل المغرية والاساليب الجذابة ، ولكنها فشلت ولم تتمكن من اغوائه واغرائه ، وبقيت هكذا الى ان نفذ صبرها وانتظارها بحيث اخبرت يوسف اخيرا عما في قلبها وراودته عن نفسه .
واتبعت جميع الاساليب والطرق للوصول الى هدفها ، وسعت لكي تلقي في قلبه اثرا من هواها وترغيبها وطلبها ، كما ذكر لنا القرآن الكريم «وراودته

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 144

التي هي في بيتها»
. وطلبت مه ان ينال منها بطرق المسالمة والمساومة ، وبدون اي تهديد ، وابدت محبتها القصوى له بمنتهى اللين ، ولكنها فشلت ولم توفق للنيل منه .


ساعة الصفر :

واخيرا حانت ساعة الصفر وفكرت في ان تخلو به وتوفر له جميع ما يثير غريزته ، ولبست من الثياب الفضفاضة ، وعطرت نفسها بعطور عبقة شذية ، وتجميلات مرغبة ، حتى تستولي على يوسف وتاسره .
«وغلقت الابواب وقالت هيت لك» .
نعم بعد ان هيئت نفسها على احسن ما يرام وغلقت جميع الابواب واحكمتها لئلا يجد اي طريق للفرار ، وتقدمت نحوه وقالت : «هيت لك» وقال لها : «معاذ الله انه ربي احسن مثواي انه لا يفلح الظالمون» .
وفي هذا الحال ، وحين راى يوسف ان هذه تجره نحو الاثم ، ولم يرى طريقا للخلاص منها ، توجه اليها وقال بهذا الكلام «معاذ الله» .
وبهذا الكلام رفض يوسف طلب امراة العزيز غير المشروع ... واعلمها انه لن يستسلم لارادتها ... .
وافهمنا ضمنا ، كما افهم غيرها ، ان مثل هذه الظروف الصعبة لا يمكن النجاة من وساوس الشيطان واغراءاته ، الا بالالتجاء الى الله والتمسك بالعروة الوثقى ، الله الذي يعلم الجهر وما اخفى ، والمطلع والمهيمن على كل شيء ، وحاضر في كل مكان في السر والعلانية .

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 145


معنى هم بها :

ومعنى قوله تعالى : «ولقد همت به وهم بها لولا ان راى برهان ربه» المراد هنا بالهم الثاني هو قصده ان يضربها للدفاع عن نفسه ، اي بعدما همت به لارتكاب الفاحشة معه ، هم بها ليضربها ، ودفعها عن نفسه ، كما يقال : هممت بفلان اي بضربه وايقاع مكروه به ، والدليل على التفرقة بين الهمين شهادته تعالى على انه من عباده المخلصين وقيام الحجة عقلا على عصمة الانبياء عليهم السلام .
وعلى هذا فيكون معنى رؤية البرهان ان الله سبحانه اراه برهانا على انه ان اقدم على ما هم به وضربها ، اهلكه اهلها او قتلوه ، او ادعت عليه المراودة على القبيح وقذفته بانه دعاها اليه وضربها لامتناعها منه ، فاخبره الله سبحانه انه صرف عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل .
وكذلك هم بها بمعنى : الهم ان يختار للدفاع عن نفسه سبيل الفرار فقصد باب البيت ليفتحه ويخرج من عندها ويهم بالفرار .
فتصميم امراة العزيز على هذا العمل كان لعدم انتصارها في عشقها وبروز روح الانتقام فيها ثأرا لهذا العشق .
وتصميم يوسف كان دفاعا عن نفسه ، وعدم التسليم لطلب تلك المراة .
هذا مختصرا ، وهناك اقوال عديدة وتفاسير مختلفة ومفصلة ومنها افتراءات واكاذيب اسرائيلية ، للاطلاع عليها راجع تفسير الميزان(1) .


الانتصار على النفس :

وهنا يبلغ امر يوسف وامراة العزيز الى ادق مرحلة واخطرها ، وتحول الى
1ـ تفسير الميزان : ج11 ص122ـ 140.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 146

مرحلة صعبة ، وعذاب مستمر يحتاج الى صبر وتحمل وتوكل على الله .
بعدما تمكن يوسف ان ينجو من هذه المرحلة الصعبة جدا والتي ساعده الله وانجاه منها بما انقدح في ذهنه وراى ببصره وبصيرته برهان ربه ، وانتصر على نفسه الامارة بوجه مشرق .
قال يعطي المفسرين ان سبب انتصاره يقود الى اسباب ثلاث :
الاول : انه التجأ الى ربه واستعاذ به ، وقال : «معاذ الله» .
الثاني : التفاته الى ـ الزاد والملح ـ الذي اكله عند عزيز مصر ، وما تناوله في بيته فاثر فيه فلم ينس فضله طيلة حياته ، هذا مع ما حصل عليه من نعم الله التي لا تحصى والتي انقذته من غيابة الجب الموحشة واوصلته الى محيط الامان والهدوء ، كل هذه جعلته يفكر بها ، ولا يستسلم للتيارات العابرة . واللذةالزائلة .
الثالث : بناء شخصيته وعبوديته المقرونة بالاخلاص لله تعالى ، والتي عبر عنها القرآن : «انه من عبادنا المخلصين» .
وهذا الدرس كبير ومهم لجميع الناس الاحرار الذين يريدون ان ينتصروا على عدوهم الخطير في ميادين الجهاد ، جهاد النفس .
نرى امراة العزيز تتوسل بيوسف بعدة اسباب وتغلق الابواب دونه وتراوده بقولها : هيت لك ـ ، واما هو ، فقد قابلها بقوله : «معاذ الله» فلم يجبها بتهديد ولم يقل : باني اخاف العزيز ، او لا اخونه ، الى غير ذلك من الاعتذارات ، بل استمسك بعروة التوحيد ، ولم يكن في قلبه احد سوى ربه ، ولم يقل سوى معاذ الله ... .


الفضيحة :

نعم : لم تيأس امراة العزيز «زليخا» من يوسف ، وارادت ان ترمي بنفسها


السابق السابق الفهرس التالي التالي