حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 86

وكان فيهم تسعة من رؤسائهم كما ذكر الله في سورة النمل : «وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون»(1) فعقروا الناقة ورموها حتى قتلوها وقتلوا الفصيل ، فلما عقروا الناقة قالوا لصالح عليه السلام : «فاتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين»(2) قال صالح :« تمتعوا في داركم ثلاثة ايام ذلك وعد غير مكذوب»(3) .
ثم قال لهم : وعلامة هلاككم انه تصفر وجوهكم غدا ، وتحمر بعد غد ، وتسود يوم الثالث فلما كان من الغد نظروا الى وجوههم قد ابيضت(4) مثل القطن ، فلما كان يوم الثاني احمرت مثل الدم ، فلما كان يوم الثالث اسودت وجوههم ، فبعث الله عليهم صيحة وزلزلة فهلكوا ، وهو قوله تعالى : «فاخذتهم الرجفة فاصبحوا في ديارهم جاثمين»(5) فما تخلص منهم غير النبي صالح عليه السلام وقوم مستضعفين مؤمنين وهو قوله تعالى : «فلما جاء امرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ان ربك هو القوي العزيز ، واخذ الذين ظلموا الصيحة فاصبحوا في ديارهم جاثمين ...»(6) .

قصة اخرى :

وقد كان بعث الله تعالى النبي صالحا عليه السلام الى قومه بعد ما اكثروا الفساد وعبدوا الاوثان ، فدعاهم الى الله تعالى فلم يجيبوه وعتوا عليه فقالوا له : لن نؤمن
1ـ النمل : 48.
2ـ الاعراف : 70.
3ـ هود : 65.
4ـ قد اصفرت .
5ـ الاعراف : 78.
6ـ هود : 66ـ 67.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 87
حتى تُخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء ، وكانت صخرة يعظمونها ويذبحون عندها في راس كل سنة ويجتمعون عندها .
فقالوا له : ان كنت كما تزعم نبيا رسولا ، فادع الله يخرج لنا ناقة منها ، فاخرجها لهم كما طلبوا منه ، بامر من الله ، واوحى الله تعالى الى صالح ان قل لهم : ان الله جعل لهذه الناقة شرب يوم ولكم شرب يوم ، فكانت الناقة اذا شربت يومها ، شربت الماء كله ، فيكون شرابهم ذلك اليوم من لبنها ، فيحلبونها فلا يبقى صغير ولا كبير الا شرب من لبنها يومه ذلك ، فاذا كان الليل واصبحوا غدوا الى مائهم فشربوا هم ذلك اليوم ولا تشرب الناقة .
فمكثوا بذلك ما شاء الله حتى عتوا ودبروا في قتلها فبعثوا رجلا احمر اشقر ازرق ، لا يُعرف له اب ـ ولد زنا ـ يقال له قدار ليقتلها ، فلما توجهت الناقة الى الماء ضربها ضربة ثم ضربها اخرى فقتلها ، ومر فصيلها حتى صعد الى الجبل فلم يبقى منهم صغير ولا كبير الا اكل من لحمها .
فقال لهم صالح عليه السلام : عصيتم ربكم وقتلتم الناقة ، ان الله تعالى يقول : ان تبتم قبلت توبتكم ، وان لم ترجعوا بعثت عليكم العذاب في اليوم الثالث ، فقالوا : يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين ...
فلما كان نصف الليل من اليوم الثالث اتاهم جبرئيل عليه السلام فصرخ صرخة خرقت اسماعهم وشقت قلوبهم فماتوا اجمعين في طرفة عين صغيرهم وكبيرهم ، ثم ارسل الله عليهم نارا من السماء فاحرقتهم .(1)
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لامير المؤمنين علي عليه السلام : يا علي اتدري من اشقى الاولين ؟ قال : قلت : الله ورسوله اعلم ، قال : عاقر الناقة .
1ـ البحار : ج11 ص385.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 88

قال : اتدري من اشقى الآخرين ؟ قال : قلت : الله ورسوله اعلم ، قال : قاتلك .(1)


وفاته عليه السلام

اختلفت الاقوال والروايات في عمر النبي صالح عليه السلام وتاريخ وفاته ، وقد ذكر في الكامل :
واما صالح عليه السلام ، فانه سار الى الشام فنزل فلسطين ثم انتقل الى مكة فاقام بها يعبد الله حتى مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة ، وكان قد اقام في قومه يدعوهم عشرين سنة .(2)
والرواية الثانية ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه سال جبرئيل عليه السلام كيف كان مهلك قوم صالح ؟ فقال : يا محمد ان صالحا بعث الى قومه وهو ابن ست عشر سنة ، فلبث فيهم حتى بلغ عشرين ومائة سنة لا يجيبونه الى خير ... الى آخر القصة .
ويظهر من هذه الرواية انه كان عمر النبي صالح عليه السلام مئة وعشرون سنة وهو لا يزال حي يدعو قومه الى التوحيد ولا يجيبونه .


اصحاب الرس :

قال تعالى : «وعادا وثمود واصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا»(3) .
كلمة «رس» في الاصل بمعنى الاثر القليل ، فيقال : «وجد رسّا من
1ـ رواه الثعلبي في العرائس : 43.
2ـ الكامل في التاريخ : ج1 ص83.
3ـ الفرقان : 38.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 89
حمى ، يعني وجد قليلا من درجة الحرارة في نفسه»(1) .
واعتقد بعض من المفسرين بان «الرس» بمعنى البئر .
على اي حالة فتسمية هؤلاء القوم «بالرس» اما لان اثرا قليلا جدا بقي منهم ، او لانهم كانت لديهم آبار ماء كثيرة ، او لانهم هلكوا وزالوا بسبب جفاف آبارهم .
اقوال كثيرة بين المؤرخين والمفسرين في : من هم هؤلاء القوم ؟!
1ـ الكثير يعتقدون ان «اصحاب الرس» كانوا طائفة تعيش في ـ اليمامة ـ وبعث الله لهم نبي اسمه «حنظلة» كذبوه والقوه في بئر ، حتى كتب بعضهم : انهم ملأوا هذا البئر بالرماح ، واغلقوا فم البئر بعد القاء النبي عليه السلام في البئر وملؤها بالحجارة الى ان استشهد ذلك النبي .(2)
2ـ والبعض الآخر يعتبر ان «اصحاب الرس» اشارة الى الناس ايام «شعيب» الذين كانوا يعبدون الاصنام ، وكانوا ذوي اغنام كثيرة وآبار ماء و«الرس» كان اسما لبئر عظيم ، حيث اغاضه الله ، فاهلك اهل ذلك المكان .(3)
3ـ وبعض آخر يعتقد ان «الرس» كانت قرية في ارض «اليمامة» حيث كان يعيش فيها جماعة من بقايا قوم ثمود ، فهلكوا نتيجة طغيانهم وغرورهم .(4)
4ـ العلامة الطبرسي في مجمع البيان ، والفخر الرازي في التفسير الكبير ، والآلوسي في روح المعاني ، نقلوا : ان اولئك كانوا اناسا يعيشون في انطاكية
1ـ مفردات الراغب .
2ـ اعلام القرآن ص149 عنه تفسير الامثل ج11 ص227.
3ـ تفسير الامثل : ج11 ص227.
4و2ـ تفسير الامثل : ج11 ص227.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 90
الشام ، وكان بينهم «حبيب النجار» .(1)
5ـ روي عن يعقوب بن ابراهيم بن عبد الله بن جعفر بن ابي طالب ، قال : سمعت ابا الحسن موسى بن جعفر صلوات الله عليهما ، انه ساله رجل عن «اصحاب الرس» الذي ذكرهم الله في كتابه من هم ؟ وممن هم ؟ واي قوم كانوا ؟ .
فقال : كانا رسين ، فاما احدهما ليس الذي ذكره الله في كتابه ، كان هؤلاء اهل بدو واصحاب شاة وغنم ، يعيشون في البادية ، فبعث الله اليهم صالح النبي رسولا ، فقتلوه ، وبعث اليهم رسولا آخر فقتلوه ، ثم بعث اليهم رسولا آخر وعضده بولي ، فقُتل الرسول وجاهد الولي حتى فحمهم ، وكانوا يقولون الهنا في البحر ، وكانوا يسكنون على شفير البحر ، وكان لهم عيد في السنة يخرج حوت عظيم من البحر في ذلك اليوم فيسجدون له .
واما الذين ذكرهم الله في كتابه ، فهم قوم كان لهم نهر يدعى « الرس » وكان فيها مياه كثيرة ، يقع بمنقطع آذربيجان وهو من حد ارمينية وآذربيجان ، وكانوا يعبدون الاوثان ، فبعث الله اليهم ثلاثين نبيا فقتلوهم جميعا ، فبعث الله اليهم نبيا آخر وبعث معه وليا فجاهدهم .
وبعد ذلك بعث الله عليهم العذاب ، فجف مائهم ، ويبست الانهار ومات الزرع ، وماتت مواشيهم ، فماتوا جوعا وعطشا وبكاء ، فلم يبق منهم باقية ، وبقي منهم المخلصون فقط ، وهم قليلون ، فدعوا الله ان ينجيهم بزرع وماشية وماء قليلا لئلا يطغوا ، فاجابهم الله الى ذلك ، لما علم من صدق نياتهم .(2)
6ـ عن ابي الصلت الهروي عن الرضا عن امير المؤمنين عليهما السلام حديث
2ـ قصص الانبياء للراوندي : ص96.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 91
طويل في قصة اصحاب «الرس» ملخصة :
انهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاه درخت ، كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها : روشن آب ، وكان لهم اثنا عشرة قرية معمورة على شاطئ نهر يقال له «الرس» .
وهذه القرى يسمين باسماء : ابان ، آذر ، بهمن ، اسفندار ، فروردين ، اردي بهشت ، خرداد ، مرداد ، تير ، مهر ، شهريور ، ومن هذه الاسماء اشتق العجم اسماء شهورهم .
وقد غرسوا في كل قرية منها من طِلع تلك الصنوبرة حبة ، اجروا عليها نهرا من العين التي عند الصنوبرة ، وحرموا شرب مائها على انفسهم وانعامهم ومن شرب منه قتلوه ، ويقولون : انه حياة الآلهة فلا ينبغي لاحد ان ينقص حياتها .
وقد جعلوا في كل شهر من السنة يوما في كل قرية عيدا يخرجون فيه الى الصنوبرة التي خارج القرية ويقربون اليها القرابين ويذبحون الذبائح ... .
وكان في كل سنة يجتمعون جميعا في القرية الكبيرة التي يسكنها ملكهم واسمها «اسفندار» ويعيّدون فيها اثنى عشر يوما ، ويجيئوا باكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة ، ويكلمهم ابليس ويعدهم ويمنيهم اكثر من سائر الاعياد .
ولما طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجر ، بعث الله اليهم رسولا من بني اسرائيل من ولد يهودا فدعاهم الى عبادة الله وترك الشرك فلم يؤمنوا ، فدعى على الشجرة فيبست فلما راوا ذلك ساءهم فقال بعضهم : ان هذا الرجل ساحر ... .
فاجتمعت آرائهم على قتله ، فحفروا بئرا عميقا والقوه فيها وشدوا راسها

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 92
فلم يزالوا عليها يسمعون انينه حتى مات فاتبعهم الله بعذاب شديد واهلكهم عن آخرهم .(1)
1ـ تفسير الميزان : ج15 ص219.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 93
حكم و مواعظ
من حياة الانبياء عليهم السلام
(10)







النبي لوط عليه السلام





حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 94


حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 95

قصة النبي لوط عليه السلام وقومه

قال الله تعالى في كتابه الكريم :
«ولوطا اذ قال لقومه اتاتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين» .
«انكم لتاتون الرجال شهوة من دون النساء بل انتم قوم مسرفون» .
«وما كان جواب قومه الا ان قالوا اخرجوهم من قريتكم انهم اناس يتطهرون» .
«فانجيناه واهله الا امراته كانت من الغابرين» .
«وامطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين»(1) .


وقفة تأمل :

في هذه الآيات المباركة يستعرض القرآن الكريم فصلا آخر غنيا بالعبر والمواعظ والحكم من قصص الانبياء .
والقصة هذه المرة هي قصة النبي «لوط» عليه السلام ، وقد ذكرت هذه القصة في
1ـ الاعراف : 80ـ 84.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 96
عدة سور من القرآن الكريم منها :
سورة هود ، والحجر ، والشعراء ، والانبياء ، والنمل ، ... الخ ويشير القرآن الكريم في قصة لوط وفي سورة الاعراف ، ضمن خمس آيات الى خلاصة سريعة عن الحوار الذي دار بين لوط النبي وقومه .
نقف لحظات ونتامل قوله تعالى في هذه الآيات الكريمة اعلاه ، ونرى كيف كان الانبياء عليهم السلام والرسل يبلغون رسالات الله ، وكيف كان جواب اقوامهم لهم ، وكيف كانت اعمالهم ، وكيف كان صنع الله بهم بعد عصيانهم ، عسى ان نعتبر ... «... يخربون بيوتهم بايديهم وايدي المؤمنين فاعتبروا ياولي الابصار»(1) .
في البداية يقول النبي لوط عليه السلام لقومه : اترتكبون عملا قبيحا لم يفعله احد قبلكم من الناس ، لان هذه المعصية مضافا الى كونها عملا قبيحا جدا ولم يفعله احد قبل هذا ، وقد اصبح فيما بعد سنة سيئة ، وسببا لوقوع الآخرين في المعصية .
واي انحراف واي عمل قبيح هذا حيث يترك الرجل المراة التي هي الوسيلة لتوليد النسل وانجاب الاولاد ، والتي جعلها الله سكنا ولباسا وسترا وعفافا للرجل والمراة ، يترك هذا العمود الاساسي للاسرة والتركيب الطبيعي للجسم والروح ، ويلجا الى الاشباع الكاذب والمنحرف للحاجة الجنسية ، والقضاء على الهدف الاصلي ، وهو استمرار النسل البشري وسعادة الامة وطهارة الاسرة .
وفي الحقيقة مثل هؤلاء المنحرفين والذين يرتكبون الذنوب العظيمة ، لم
1ـ الحشر : 2.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 97
يكن عندهم جواب مقنع وشافي ومقبول في مقابل دعوة الانبياء والرسل والدعاة الى الله ، الا التعنت والاصرار على الخطيئة مثل قوم لوط حيث قالوا : اخرجوا لوطا واتباعه من مدينتكم ، او قَتلِهم بعض الانبياء والرسل .
وهذا ليس موضع تعجب واستغراب ان يطرد جماعة من العصاة والفسقة والطغاة اشخاصا طاهرين ومؤمنين لا لشيء الا لانهم اتقياء انقياء الجيب ، يجتنبون المنكرات ، لانهم يعتبرون هؤلاء الصلحاء مزاحمين لشهواتهم ومفاسدهم .
ولكن مثل هؤلاء الفسقة والطغاة يقف الله عز وجل لهم بالمرصاد وينزل عليهم العذاب الاليم ويجعلهم عبرة لمن يعتبر مثلما انزل غضبه تعالى على قوم لوط بعدما انجا لوطا واتباعه واهله الطيبين الا زوجته التي كانت مع قومه المنحرفين .
كان الله عز وجل يعذب الاقوام المنحرفة والعاصية السالفة كل حسب ما يراه تعالى مناسبا لهم ولزمانهم ولذنوبهم حيث نرى قوله تعالى : «فكلا اخذنا بذنبه فمنهم من ارسلنا عليه حاصبا» ، وهم قوم هود وعاد ، والحاصب معناه الطوفان الذي فيه الحصى الكثير .
«ومنهم من اخذته الصيحة» ، وهم ثمود ـ قوم صالح ـ والصيحة السماوية هي الصاعقة التي تقترن بالزلزلة يحدث منها صوت رهيب .
«ومنهم من خسفنا به الارض» وهو قارون الملك المتكبر والمتجبر الثري المغرور ، خسفت به الارض نتيجة استكباره وغروره .
«ومنهم من اغرقنا» ، وهم فرعون وهامان وجنودهما .

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 98

«وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون»(1) .
وهناك طوائف واقوام اخرى اصابها العذاب مثل قوم نوح وقوم لوط وغيرهم .
وعلى كل حال فان انواع العذاب ينزل على الاقوام المنحرفة والعاصية حسب ما يراه الله تعالى ، علما ان الله عز وجل لا يعذب احدا ولا يظلمهم الا بما كسبت ايديهم وبعدما يرسل لهم الانبياء والرسل لهدايتهم ، فالله اكثر عدلا واسمى من ان يظلم الانسان اقل ظلم ، وقد خلقه حرا ويريده حرا ... .


لوط في القرآن :

كان النبي لوط عليه السلام من كلدان في ارض بابل ومن السابقين الاولين ممن آمن بابراهيم عليه السلام ، وقد ذكرت التوراة ان لوطا كان ابن اخي ابرام ـ « اي ابراهيم » ... وهاجر مع النبي ابراهيم الى الارض المقدسة ارض فلسطين : «اني مهاجر الى ربي ...»(2) .
وكان اهل المدينة وماحولها من المدائن ـ التي سماها الله في كلامه بالمؤتفكات «... واصحاب مدين والمؤتفكات ...»(3) يعبدون الاصنام ، وياتون بالفاحشة اللواط ، وهم اول قوم شاع فيهم ذلك «... اتاتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين»(4) حتى كانوا ياتون به في نواديهم من غير
1ـ العنكبوت : 40.
2ـ العنكبوت : 26.
3ـ التوبة : 70.
4ـ الاعراف : 80.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 99
انكار ، ولم «... وتاتون في ناديكم المنكر ...»(1) يزالوا يمارسون الفاحشة فيهم حتى اصبحت سنة قومية ابتلت به عامتهم وتركوا النساء وقطعوا السبيل .
بعد ان تمادوا في غيهم ارسل الله اليهم لوطا عليه السلام ، فدعاهم الى تقوى الله وترك الفحشاء ، وانذرهم وخوفهم فلم يزدادوا الا عتوا ، ولم يكن جوابهم الا ان قالوا : ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين ، وهددوه بالاخراج من بلدتهم وقالوا له : «لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين»(2) .
لم يزال لوط عليه السلام يدعوهم الى سبيل الله وترك الفحشاء وهم يصرون على عمل الخبائث حتى استقر بهم الطغيان وحقت عليهم كلمة العذاب ، فبعث الله من الملائكة المكرمين لاهلاكهم .
نزلوا الملائكة اولا على النبي ابراهيم عليه السلام واخبروه بما امرهم الله به من اهلاك قوم لوط ، فجادلهم ابراهيم عليه السلام لعله يرد بذلك عنهم العذاب ، وذكرهم بان فيهم لوطا ، فقالوا له بانهم اعلم بموقع لوط واهله ، وانه قد جاء امر الله وان القوم آتيهم العذاب غير مردود «قد جاء امر ربك وانهم آتيهم عذاب غير مردود»(3) .
عند ذلك ذهبوا الى لوط في صِوَر غلمان مرد ودخلوا عليه ضيفا فشق ذلك على لوط وضاق بهم ذرعا ، وخاف عليهم من قومه انهم سيتعرضون لهم وانهم غير تاركيهم البتة «ولما ان جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لاتخف ولا تحزن انا منجوك واهلك الا امراتك كانت من
1ـ العنكبوت : 29.
2ـ الشعراء : 167.
3ـ العنكبوت : 32 وهود : 76.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 100
الغابرين»
(1) .
فلما دخلوا البيت وسمع القوم بذلك اقبلوا يهرعون اليه وهم يستبشرون وهجموا على داره ، فخرج اليهم وبالغ في وعظهم واستثارة فتوتهم ورشدهم حتى عرض عليهم بناته وقال : يا قوم ان هؤلاء بناتي هن اطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي ، ثم استغاث وقال : اليس منكم رجل رشيد ، فردوا عليه : انه ليس لهم في بناته اربة وانهم غير تاركي اضيافه البتة حتى آيس لوط وقال : لو ان لي بكم قوة او آوي الى ركن شديد .(2)
عند ذلك قالت له الملائكة يا لوط : انا رسل ربك طب نفسا ان القوم لن يصلوا اليك ، فطمسوا اعين القوم فعادوا عميانا يتخبطون وتفرقوا «ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا اعينهم فذوقوا عذابي ونذر»(3) .
ثم امروا لوطا عليه السلام ان يسري باهله من ليلته بقطع من الليل ويتبع ادبارهم ولا يلتفت منهم احد الا امراتهه فانه مصيبها ما اصابهم ، واخبروه انهم سيهلكون القوم مصبحين «... فاسر باهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم احد ...»(4) .
جاء في معنى قوله تعالى : «ولا يلتفت مكم احد الا امراتك انه مصيبها ما اصابهم ...» مفهوم ذلك ان لوطا واهله بما فيهم امراته تحركوا للخروج من المدينة ولم يلتفت منهم احد كما امرهم الرسل ، الا امراة لوط فانها بحكم علاقتها بقوم لوط وتاثرها على مصيرهم ، حينما سمعت الصوت وقفت والتفتت وراءها لترى ما حدث ، اصابها حجر من الاحجار التي كانت تهوي على
1ـ العنكبوت : 33.
2ـ هود : 80.
3ـ القمر : 37.
4ـ الحجر : 66.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 101
المدينة فقتلت به .
وايضا نرى في قوله تعالى : «ولا يلتفت منكم احد» احتمالات عديدة : منها .
1ـ لا ينظر احد الى وراء مديرا وجهه لمن خلفه .
2ـ لا تفكروا بما تركتم خلفكم من الاموال والقصور ووسائل المعاش ، انما عليكم ان تنجوا بانفسكم من العذاب والهلاك ، ولا تنفعكم اموالكم واولادكم ونسائكم اذا نزل العذاب وقامت القيامة .
3ـ لا يتاخر احد منكم عن هذه القافلة الصغيرة يا اهل لوط عليه السلام الى غير ذلك من الاحتمالات ...
فاخذت الصيحة القوم مشرقين ، وارسل الله عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين ، وقلب مدائنهم عليهم فجعل عاليها سافلها ، واخرج من كان فيها من المؤمنين ، فلم يجد فيها غير بيت من المسلمين ، وهو بيت لوط ، وترك فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم(1) .
نزول غضب الله على قوم لوط عليه السلام دليل على ان القوم كانوا كفارا غير مؤمنين ، وان الفحشاء ما كانت شائعة بين الرجال منهم حسب بل ان الفحشاء شاعت بين الرجال والنساء ، واكتفى الرجال بالرجال باللواط ، والنساء بالنساء بالسحق .
ومن الاعمال الشنيعة والخبيبثة التي كان يرتكبونها قوم لوط وادت الى قطع السبيل كما ذكرها الله في كتابه العزيز : «وتقطعون السبيل» اي تقطعون سبيل الولد وقطع النسل الحلال باختياركم الرجال بدل النساء ، كما تقطعون
1ـ الذاريات : 37.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 102
سبيل المعروف ، وخوف الناس من الاسفار ، لان قوم لوط كانوا ياتون الفاحشة بالمجتازين في ديارهم ، وكانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالخذف ، فايهم اصابه كان اولى به ، وياخذون ماله ، وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم ، وكان لهم قاض يقضي بذلك ، وكانوا يقطعون الطريق على الناس بالسرقة ، وكانوا يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة ولا حياء ، وكانوا ياتون الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا ، وقيل : كانت مجالسهم تشمل انواع المناكير مثل الشتم والسخف والصفع والقمار وخذف الاحجار على من مر بهم ، وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات واللواط .
ضلوا عليها عاكفين حتى جائتهم ريحا حصبتهم ورمتهم بالحجارة والحصباء فاهلكتهم .


آثار البخل :

نقرأ في حياة الانبياء وقصصهم ومواعظهم وحكمهم روايات مختلفة وقصص متعددة ، وهذا الاختلاف سببه ينحصر في نقل الراوي وحسب ما يراه ويعيشه من الحوادث والمناسبات الواقعة في زمانه وحين حضوره .
وعلى هذا الاساس نحن نذكر النقاط المهمة التي جرت في حياة الانبياء .
نقرا في كتاب بحار الانوار ما نقله من علل الشرائع عن الراوية الثقة «ابي بصير» رضي الله عنه القصة الثانية من حياة النبي لوط عليه السلام وقومه هذه الحكمة والموعظة المهمة عسى ان نعتبر بها ما ينفعنا لديننا ودنيانا .
... عن ابي بصير قال : قلت لابي جعفر عليه السلام : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعوذ من البخل ؟ قال : نعم يا ابا محمد في كل صباح ومساء ، ونحن نتعوذ بالله من البخل ،

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 103
الله يقول : «ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون»(1) وساخبرك عن عاقبة البخل .
ان قوم لوط كانوا اهل قرية اشحاء على الطعام ، فاعقبهم البخل داء لا دواء له في فروجهم .
وقال : ان قرية لوط كانت على طريق السيارة الى الشام ومصر ، فكانت السيارة تنزل بهم فيضيفونهم ، فلما كثر ذلك عليهم ضاقوا بذلك ذرعا وبخلا ولؤما ، فدعاهم البخل الى ان كانوا اذا نزل بهم الضيف فضحوه من غير شهوة بهم الى ذلك ، وانما كانوا يفعلون ذلك بالضيف حتى لا ينزل عندهم الضيوف والمارة على قريتهم .
فشاع امرهم في القرى وحذر منهم النازلة والمارة ، فاورثهم البخل بلاء لا يستطيعون دفعه عن انفسهم من غير شهوة لهم الى ذلك ، حتى صاروا يطلبونه من الرجال في البلاد ـ بشهوة ـ ويعطونهم عليه الجعل .
قال ابو بصير : فقلت له : جعلت فداك فهل كان اهل قرية لوط كلهم هكذا يعملون ؟ فقال : نعم الا اهل بيت من المسلمين ، اما تسمع لقوله تعالى : «فاخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين»(2) .
ثم قال ابو جعفر عليه السلام : ان لوطا عليه السلام لبث في قومه ثلاثين سنة يدعوهم الى الله عز وجل ويحذرهم عذابه ، وكانوا قوما لا يتنظفون من الغائط ، ولا يتطهرون من الجنابة ، وكان لوط عليه السلام ابن خالة النبي ابراهيم عليه السلام وكان امراة ابراهيم سارة اخت لوط ، وكان لوط وابراهيم نبيين مرسلين منذرين ، وكان لوط رجلا سخيا
1ـ الحشر : 9.
2ـ الذاريات : 35.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 104
كريما يقري الضيف اذا نزل به ، وكان قومه يحذرونه من ذلك ، وكانوا يقولون له : انا ننهاك ان تقر ضيفا ينزل بك ان فعلت فضحنا ضيفك الذي ينزل بك واخزيناك .
فكان لوط اذا نزل به الضيف كتم امره مخافة ان يفضحه قومه ، وذلك انه لم يكن للوط عشيرة تدافع عنه ، فضلّ على هذه الحالة حتى جاء امر الله وقلب عاليها سافلها وامطرهم بحجارة من سجيل .
وروي ايضا : ان قرية قوم لوط كانت كثيرة الشجر والنبات والخير ، وكان الطريق عليها ، وكان كل من يمر بتلك البلاد يتناول من ثمارهم وزرعهم ، فجزعوا من ذلك ، فجائهم ابليس في صورة شيخ فقال لهم : ادلكم على ما ان فعلتموه لم يمر بكم احد ؟
فقالوا : ماهو ؟ فقال : من مر بكم فانكحوه في دبره واسلبوه ثيابه ، ثم تصور لهم ابليس في صورة شاب امرد حسن الوجه ، فجائهم فوثبوا عليه ففجروا به كما امرهم فاستطابوه فكانوا يفعلونه بالرجال ، فاستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء .
وكان هذا اول انحراف قوم لوط وسبب هلاكهم .
وقال المسعودي : ارسل الله النبي لوط عليه السلام الى المدائن الخمسة وهي : سدوم ، وعموراء ، وادوما ، وصاعورا ، وصابورا .(1)
هذه المدن كان يسكنها قوم لوط ، واعظم هذه المدن سدوم ، وكان لوط يسكنها ، وقد قلبها الله عز وجل كلها على قومها المنحرفين ، فلذلك سميت ـ المؤتفكات : ـ اي المنقلبات .
1ـ مروج الذهب : ج1 ص21.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 105


ملاحظات :

اختلف المفسرون في معنى قول النبي لوط عليه السلام لقومه : «هؤلاء بناتي هن اطهر لكم» .
ذلك لما راى لوط عليه السلام ان الاشرار تجمعوا على داره ، وصمّموا على اقتحام الدار ، اراد ان يصرفهم عنه بتبديل ما يريدون من الفحشاء مما لا معصية فيه من الحلال ، فعرض بناته عليهم ورجحه لهم بانهن اطهر لكم ـ اي كان يقصد بذلك تزويجه بناته لهم وتركهم الفحشاء .
وتقييد قوله ـ هؤلاء بناتي ـ بقوله «هن اطهر لكم» شاهد صدق على انه عرض عليهم النكاح بالحلال لا بالسفاح ، وحاشا مقام النبي عن ذلك ـ وذلك لان السفاح لا طهارة فيه اصلا ، وقد قال الله تعالى : «ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن»(1) وقال تعالى : «ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيل»(2) وهذه الاحكام مشرعة من قبل الله تعالى وعامة على كل الانبياء وفي جميع الشرائع الالهية النازلة على الانبياء .
وقيل ايضا : ان المراد بقوله : «هؤلاء بناتي» اشارة منه الى ان نساء القوم هن بناته ، لان النبي ابو امته فنساؤهم بناته كما ان رجالهم بنوه ، ويقرب هذا القول تعبيره عليه السلام ـ بالبنات ـ بنات القوم ، لانه ليس عنده الا بنتان ، وان البنتان لا يصدق عليهن لفظ الجمع .
وهناك من قال : بان بناته مسلمات وهم كفار ، ولا يجوز انكاح المسلمة من الكافر .
نقول : فمن الجائز ان يكون تزويج المؤمنة بالكافر جائزا في شريعة
1ـ الانعام : 151.
2ـ الاسراء : 32.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 106
لوط عليه السلام ، كما انه كان جائزا في صدر الاسلام ، وقد زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنته من ابي العاص بن الربيع وهو كافر قبل الهجرة ثم نسخ ذلك .(1)
ويحتمل ان يكون قوله مشروطا بالايمان ، اي تعالوا يا قومي وآمنوا بالله واتركوا الفحشاء حتى ازوجكم بناتي حلالا طاهرا ، وكان يريد بهذا ان يثبت منتهى علاقته بهدايتهم ويوقظ ضمائرهم ووجدانهم .
والملاحظة الاخرى في معنى قوله تعالى : «ولا يلتفت منكم احد» اي لا ينظر احد منكم وراءه او لا يلتفت احد منكم الى ماله ولا متاعه بالمدينة ، او لا يتخلف احد منكم ويتاخر في الخروج ، كما امرهم ان لا يلتفتوا اذا سمعوا الرجفة والهدة ، وقيل : ان امراته التفتت حين سمعت الرجفة وقالت : يا قوماه ، فاصابها حجر فقتلها .
وذكر ان حجرا بقي معلقا بين السماء والارض اربعين يوما يتوقع به رجل من قوم لوط كان في الحرم حتى خرج منه فاصابه الحجر فقتله .
وقيل : لِمَ كانت لحظة نزول العذاب صباحا ؟
والجواب هو : ان الله عز وجل امهلهم للصبح لعلهم يتيقظون ويرجعون اليه ويتوبون .
او ان الله لم يرد ان يجعل الليل داميا عليهم ، ولذلك فقد امر الملائكة المأمورين بالعذاب ان ينتظروا حتى يجيء الصباح ؟!
او حتى يخرج لوط واهله ويبتعدوا عن المدينة .
وقيل لِمَ قلب الله عاليها سافلها ؟ :
الجواب : ان العذاب ينبغي ان يتناسب مع الاثم ، حيث ان هؤلاء القوم
1ـ الميزان : ج10 ص339.

السابق السابق الفهرس التالي التالي