حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 63
اتاه مكروب قط فصلى فيه بين العشائين ودعا الله الا فرج الله كربته .(1)
روي عن الامام الصادق عليه السلام ايضا انه قال :
اذا دخلت الكوفة فأت مسجد السهلة فصل فيه واسال الله حاجتك لدينك ودنياك ، فان مسجد السهلة بيت ادريس النبي عليه السلام الذي كان يخيط فيه ويصلي فيه ، ومن دعا الله فيه بما احب قضى له حوائجه ورفعه يوم القيامة مكانا عليا الى درجة ادريس عليه السلام ، واجير من مكروه الدنيا ومكائد اعدائه .(2)

هجرته عليه السلام الى مصر :

لما كبر ادريس وآتاه الله النبوة ، واطاعه القليل من قومه ، فنوى الخروج مع اصحابه من القرية التي كان يسكن فيها ، فثقل على اصحابه الرحيل من اوطانهم فقالوا له : واين نجد اذا رحلنا مثل هذا النهر(3) ، فقال لهم : اذا هاجرنا لله رزقنا غيره .
فخرج وخرجوا معه اصحابه الى ان وصلوا الى اقليم فرأوا النيل وراوا واديا خاليا من ساكن ، فوقف ادريس على النيل ، وسبح الله وقال لجماعته : بابليون ، فسمي الاقليم ببابل .(4) وسمته العرب ـ مصر ـ نسبة الى مصر بن حام .
واقام النبي ادريس ومن معه بمصر يدعو الخلائق الى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة الله عز وجل .
وتكلم الناس في ايامه باثنين وسبعين لسانا ، وعلمه الله عز وجل منطقهم
1ـ الكافي : ج3 ص494.
2ـ البحار : ج11 ص280.
3ـ بابل ـ بالسريانية النهر .
4ـ بابل ـ بالسريانية النهر .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 64
ليعلم كل فرقة منهم بلسانها ، ورسم لهم تمدين المدن ، وجمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسة المدنية ، وقررها لهم قواعدها ، فبنت كل فرقة من الامم مدنا في ارضها .
وكانت عدة المدن التي انشئت في زمانه مائة مدينة وثماني وثمانين مدينة ، وعلمهم العلوم .
وكان ادريس عليه السلام اول من اسس المدن .
واول من استخرج الحكمة وعلم النجوم ، فان الله عز وجل افهمه سر ذلك وتركيبه ، وافهمه عدد السنين والحساب .
واقام للامم سننا في كل اقليم تليق كل سنة باهلها .
وقسم الارض الى اربعة ارباع ، وجعل على كل ربع ملكا يسوس امر المعمورة من ذلك الربع .
ويظهر من هذا ان النبي ادريس عليه السلام هو اول من ساق العالم الانساني الى ساحة التفكر الاستدلالي والامعان في البحث عن المعارف الالهية .


وفاته عليه السلام :

ورد في بعض الروايات في معنى قوله تعالى في ادريس النبي عليه السلام : «ورفعناه مكانا عليا» هو :
ان الله عز وجل غضب على ملك من الملائكة فقطع جناحه والقاه في جزيرة من جزائر البحر ، فبقي هناك ما شاء الله . فلما بعث الله ادريس جاءه ذلك الملك وساله ان يدعو الله ان يرضى عنه ويرد اليه جناحه ، فدعا له ادريس فرد الله جناحه اليه ورضى عنه .
قال الملك لادريس : الك حاجة ؟ قال: نعم احب ان ترفعني الى السماء

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 65
حتى انظر الى ملك الموت ، فلا عيش لي مع ذكره ، فاخذه الملك على جناحه حتى انتهى به الى السماء الرابعة .
فلما وصل الى السماء الرابعة نظر الى ملك الموت جالس فلما رآهم حرك راسه تعجبا ، فسلم عليه ادريس فقال له : مالك تحرك راسك ؟ قال : ان رب العزة امرني ان اقبض روحك بين السماء الرابعة والخامسة .
فقلت يا رب كيف يكون هذا بيني وبينه اربع سماوات وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام ...
ثم قبض روحه بين السماء الرابعة والخامسة وهو قوله تعالى : «ورفعناه مكانا عليا»(1) .
وكان قد انزل الله عز وجل على ادريس ثلاثين صحيفة .
وكان يصعد الى السماء من عمله في كل يوم مثل اعمال اهل زمانه كلهم .
وكانت الملائكة في زمان ادريس عليه السلام يصافحون الناس ويسلمون عليهم ويكلمونهم ويجالسونهم ، وذلك لصلاح الزمان واهله ، فلم يزل الناس على ذلك حتى كان زمن نوح عليه السلام وقومه ثم انقطع ذلك .
وكانت حياته في الارض ثلاثمائة سنة ، وقيل : اكثر من ذلك .
وقال الطبرسي رحمه الله عنه والرازي : انه جد ابي نوح عليه السلام واسمه «اخنوخ» .(2)


في وفاته ايضا عليه السلام :

روي عن ابن عباس قال : كان ادريس النبي عليه السلام يسبح النهار ويصومه ويبيت حيث ما جنه الليل وياتيه رزقه حيث ما افطر ، وكان يصعد له من العمل
1ـ تفسير الميزان : ج16 ص68.
2ـ البحار : ج11 ص279.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 66
الصالح مثل ما يصعد لاهل الارض كلهم .
فسال ملك الموت ربه في زيارة ادريس عليه السلام وان يسلم عليه ، فاذن له ، فنزل واتاه ، فقال لادريس : اني اريد ان اصحبك فاكون معك ، فصحبه .
كانا يسيران في النهار ويصومانه فاذا جنهما الليل اتي ادريس فطوره فياكل ويدعو ملك الموت اليه فيقول : لا حاجة لي فيه ، ـ اي لا ياكل لانه ملك ـ ، ثم يقومان يصليان ، وادريس يصلي ويفتر وينام ، وملك الموت يصلي ولا ينام ولا يفتر ، فمكثا بذلك اياما .
ثم انهما مرا بقطيع غنم وكرم قد اينع ، فقال ملك الموت : هل لك ان تاخذ من ذلك حملا او من هذا عناقيد فنفطر عليه ؟ .
فقال : سبحان الله ادعوك الى مالي فتابى فكيف تدعوني الى مال الغير ؟!
ثم قال ادريس عليه السلام : فقد صحبتني واحسنت فيما بيني وبينك من انت ؟
قال : انا ملك الموت ، قال ادريس : لي اليك حاجة ، فقال : وماهي ؟
قال : تصعد بي الى السماء ، فاستاذن ملك الموت ربه في ذلك فاذن له ، فحمله على جناحه فصعد به الى السماء .
ثم قال له ادريس عليه السلام : ان لي اليك حاجة اخرى ، قال وماهي ؟ .
قال : بلغني من الموت شدة فاحب ان تذيقني منه طرفا فانظر هو كما بلغني ، فاستاذن ربه له فاذن فاخذ بنفسه ساعة ثم خلّى عنه .
فقال له : ـ ملك الموت ـ كيف رايت ؟ قال : بلغني عنه شدة وانه لاشد مما بلغني .
قال ادريس عليه السلام : ولي اليك حاجة اخرى تريني النار ، فاستاذن ملك الموت صاحب النار ، ففتح له فلما رآها ادريس عليه السلام سقط مغشيا عليه .
ثم قال : لي اليك حاجة اخرى تريني الجنة ، فاستاذن ملك الموت خازن

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 67
الجنة فدخلها ، فلما نظر اليها قال : يا ملك الموت ما كنت لاخرج منها .
ان الله تعالى يقول : «كل نفس ذائقة الموت»(1) وقد ذقته ، ويقول : «وان منكم الا واردها» وقد وردت النار، ويقول في الجنة : «وماهم منها بمخرجين» ولست اخرج من الجنة بعد دخولها .
فاوحى الله الى ملك الموت : خصمك عبدي فاتركه ولا تتعرض له فبقي في الجنة .(2)
كانت هذه المحاجة بين ملك الموت وادريس النبي عليه السلام بوحي من الله تعالى ، واراد بها الله عز وجل تعجيل دخول ادريس عليه السلام الجنة ، وذلك بما كان يتعب نفسه وجسده لعبادة الله سبحانه ، وكان حقا على الله ان يعوضه من ذلك الراحة والطمانينة ، وان يبوئه بتواضعه لله تعالى وصالح عبادته من الجنة مقعدا ومكانا عليا .
وهكذا نتيجة كل مؤمن صالح متقي يعمل لاجل الله تعالى ويتعب نفسه وجسده من اجل الله ومن اجل الاسلام واعلاء اكلمة لا اله الا الله محمد رسول الله علي ولي الله .


من حكم ومواعظ النبي ادريس عليه السلام :

علما ان في كل خطوة من خطوات النبي ادريس عليه السلام في مسيرة حياته المباركة ـ من ولادته الى مماته ـ حكمة وموعظة يمكننا ان نتعض بها ونعمل على نهجها ، ونضيف وباختصار على ذلك بعضا من حكمه المروية عن السيد ابن طاووس في سعد السعود :
1ـ العنكبوت : 57.
2ـ البحار : ج11 ص278.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 68

روي الثعلبي في العرائس عن ابن عباس وغيره ما ملخصه .
ان ادريس سار ذات يوم فاصابه وهج الشمس فقال : اني مشيت في الشمس يوما فتاذيت فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد !«ويريد بذلك الموقف يوم القيامة» .
اللهم خفف عنه ثقلها واحمل عنه حرها ، فاستجاب الله له ، فاحس الملك الذي يحملها بذلك فسال الله في ذلك فاخبره بما كان من دعاء ادريس واستجابته ، فساله تعالى ان يجمع بينه وبين ادريس ويجعل بينهما خلة فاذن له .(1)


مواعظه عليه السلام في الموت

فكأن بالموت قد نزل ، فاشتد انينك ، وعرق جبينك ، وتقلصت شفتاك ، وانكسر لسانك ، ويبس ريقك ، وعلا سواد عينيك بياض ، وازبد فوك ، واهتز جميع بدنك ، وعالجت غصة الموت وسكراته ومرارته وزعقته(2) ، ونوديت فلم تسمع .
ثم خرجت نفسك وصرت جيفة بين اهلك .
ان فيك لعبرة لغيرك ، فاعتبر في معاني الموت ، ان الذي نزل نازل بك لا محالة .
وكل عمر وان طال فعن قليل يفنى ، لان كل ماهو آت قريب لوقت معلوم .
فاعتبر بالموت يا ابن آدم ، واعلم ايها الانسان ان اشد الموت ما قبله ، والموت اهون مما بعده من شدة اهوال يوم القيامة .
1ـ عن العرائس : البحار : تفسير الميزان : ج16 ص69.
2ـ زعقته اي تقلصه .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 69


مواعظه عليه السلام في التقوى :

واعملوا واستيقنوا ان تقوى الله هي الحكمة الكبرى ، والنعمة العظمى ، والسبب الداعي الى الخير ، والفاتح لابواب الخير والفهم والعقل .
لان الله لما احب عباده وهب لهم العقل ، واختص انبيائه واوليائه بروح القدس ، فكشفوا لهم عن سراير الديانة ، وحقائق الحكمة ، لينتهوا عن الضلال ، ويتبعوا الرشاد ، ليتعظ في نفوسهم .
ان الله اعظم من ان تحيط به الافكار ، او تدركه الابصار ، او تحصله الاوهام ، او تحده الاحوال ، وانه المحيط بكل شيء ، والمدبر له كما يشاء ، ولا يتعقب افعاله ، ولا يدرك غاياته ، ولا يقع عليه تحديد ، ولا تحصيل ، ولا مسار ، ولا اعتبار ، ولا نطق ، ولا تفسير ، ولا ينتهي استطاعة المخلوقين الى معرفة ذاته ولا علم كنهه .


مواعظه عليه السلام في الدعاء :

ادعوا الله في اكثر اوقاتكم ، مقاصدين متألهين في دعائكم ، فانه ان يعلم منكم التظافر والتوازر يجيب دعائكم ، ويقضي حاجاتكم ، ويبلغكم آمالكم ، ويفضي عطاياه عليكم من خزائنه التي لا تفنى .


مواعظه عليه السلام في الصيام :

انما اذا دخلتم في الصيام ، طهروا نفوسكم من كل دنس ونجس ، وصوموا لله بقلوب خالصة صافية منزهة عن الافكار السيئة ، والهواجس المنكرة ، فان الله

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 70
سيحبس القلوب اللطخة ، والنيات المدخولة(1) .
ومع صيام افواهكم من المآكل ، فلتصم جوارحكم من المآثم ، فان الله لا يرضى عنكم ان تصوموا من المطاعم فقط ، لكن من المناكير كلها ، والفواحش باسرها .


مواعظه عليه السلام في الصلاة :

اذا دخلتم في الصلاة فاصرفوا لها خواطركم ، وافكاركم ، وادعوا الله دعاء طاهرا متفرغا وسلوه مصالحكم ، ومنافعكم ، بخضوع ، وخشوع ، وطاعة ، واستكانة ، واذا بركتم وسجدتم فابعدوا عن نفوسكم افكار الدنيا وهواجس السوء ، وافعال الشر ، واعتقاد المكر ، واكل السحت والعدوان والاحقاد ، واطرحوا بينكم ذلك كله(2) .
1ـ اي النيات التي دخلتها الفساد من الرياء والعجب وغيرها .
2ـ عن السيد ابن طاووس في كتاب سعد السعود : 38ـ 40.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 71
حكم و مواعظ
من حياة الانبياء عليهم السلام
(8)







النبي هود عليه السلام وعاد





حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 72


حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 73


قصة النبي هود عليه السلام وعاد

قال الله تعالى : «والى عاد اخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره افلا تتقون»(1) .


من هو هود :

النبي هود عليه السلام فهو من قوم عاد ، وثاني الانبياء(2) الذين انتهضوا للدفاع عن الحق ودحض الوثنية ، وقد تحمل الاذى والمحن في سبيل الله سبحانه ، وقاسى انواع العذاب ، واثنى عليه الله عز وجل فذكره في كتابه الكريم واثنى عليه وعلى رسله الكرام .
وهود بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح ، وقيل : هود بن عبد الله بن رباح بن جلوث(3) بن عاد بن عوض بن ارم بن سام بن نوح .(4)


قوم عاد :

قوم عاد هم قوم هود عليه السلام حيث قال تعالى : «والى عاد اخاهم هودا»
1ـ الاعراف : 65.
2ـ الاول كان نوح عليه السلام .
3ـ في الكامل : ابن الجلود .
4ـ البحار : ج11 ص345.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 74
كان اخاهم في النسب لكونه منهم ، وافراد القبيلة يسمون اخوة لانتسابهم جميعا الى اب القبيلة ، مثلما نقول : اخا اسد .
وان عادا كانت بلادهم في البادية من الشقوق(1) الى الاجفر اربعة منازل ، وكان لهم زرع ونخل كثير ، ولهم اعمار طويلة واجسام طويلة ، وكانوا جبارين واهل اوثان يعبدونها ، واوثانهم الثلاثة يقال لاحدها ـ ضرا ـ وللآخر خمور ، وللثالث الهباء .
بعث الله اليهم النبي هود عليه السلام يدعوهم الى الاسلام وخلع الانداد فابوا ولم يؤمنوا بهود وآذوه ، فدعا عليهم فامسكت السماء عنهم المطر سبع سنين وقيل : ثلاث سنين حتى قحطوا ، وقال لهم هود عليه السلام : «ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا اليه يرسل السماء عليكم مدرارا»(2) فابوا الا تماديا .
فاما عاد ، كان من الجبابرة ، فهو : عاد بن عوض بن ارم بن سام بن نوح ، وهو عاد الاول ، وكانت مساكنهم مابين الشحر وعُمان وحضرموت بالاحقاف ، فكانوا جبارين ، حيث قال الله تعالى : «واذكروا اذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة»(3) .
وكانت مدينة عاد او جنة عاد ، فيها البساتين النظرة والاشجار المثمرة ، والقصور المشيدة بالاعمدة والاوتدة ، وكانت حصونا ومدائن ومصانع ومنازل وبساتين ، وكانت بلاد عاد اخصب بلاد العرب واكثرها انهارا وجنانا ، ولكنهم مع الاسف الشديد لم يشكروا الله على هذه النعمة التي انعمها عليهم بل عصوه
1ـ الشقوق : هو منزل بطريق مكة ، وقيل كانت مساكنهم ما بين الشحر وعمان وحضرموت بالاحقاف » الكامل : ج1 ص79.
2ـ هود : 52.
3ـ الاعراف : 69.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 75
وفسدوا في الارض وعبدوا الاوثان من دون الله ، ولم يمتثلوا ويطيعوا النبي هود عليه السلام الذي ارسله الله لهم ليهديهم من ضلالتهم فلم يهتدوا عند ذلك غضب الله عليهم .
فلما غضب الله عليهم سلط عليهم الريح العقيم ـ وانما سميت عقيم لانها تلقمت بالعذاب ، وعقمت عن الرحمة ـ وطحنت تلك القصور والحصون والمدائن والمصانع حتى عاد ذلك كله رملا ودقيقا تسفيه الرياح .
وكانت تلك الريح تدفع الرجال والنساء فتهب بهم صعدا ثم ترمي بهم في الجو فيقعون على رؤوسهم منكّسين ، واستمرت الريح تعصف عليهم سبع ليالي وثمانية ايام حسوما ، فترى القوم فيها صرعى كانهم اعجاز نخل خاوية ، وكانت الريح تقصف الجبال كما تقصف المساكن فتطحنها ثم تعود رملا دقيقا .
وكانت عاد ثلاثة عشر قبيلة .
وكانوا يسلخون العمد من الجبال فيجعلون طول العمد مثل طول الجبال الذي يسلخونه من اسفله الى اعلاه ، ثم ينقلون تلك العمد فينصبونها ، ثم يبنون القصور عليها ، وعلى هذا سميت ـ ذات العماد ـ .
وانه لم يكن امة اكثر من قوم عاد ولا اشد منهم بطشا وفسادا ، فلما راوا الريح قد اقبلت عليهم قالوا لهود :
اتخوفنا بالريح ؟ فجمعوا ذراريهم واموالهم في شِعب من تلك الشعاب ، ثم قاموا على باب ذلك الشعب يردون الريح ويمنعونها عن اموالهم واهاليهم ، حسب اعتقادهم يتمكنون من منع الريح من دخول الشعب ـ فدخلت الريح من تحت ارجلهم بينهم وبين الارض حتى قلعتهم فهبت بهم صعدا ، ثم رفعتهم في الجو ، ثم رمت بهم الريح في البحر .
وسلط الله عليهم الذر فدخلت في مسامعهم ، وجاءهم من الذر مالا يطاق

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 76
قبل ان ياخذهم الريح .


امراة هود :

كان هود عليه السلام زراعا وكان يسقي الزرع ، فجاء قوم الى بابه يريدونه ، فخرجت عليهم امراته شمطاء عوراء .
فقالت من انتم ؟ فقالوا : نحن من بلاد كذا وكذا ، اجدبت بلادنا فجئنا الى هود نساله ان يدعو الله لنا حتى تمطر وتخصب بلادنا .
فقالت : لو استجيب لهود لدعا لنفسه ، فقد احترق زرعه لقلة الماء ، قالوا : فاين هو ؟ قالت : هو في موضع كذا وكذا .
فجاؤوا اليه فقالوا : يا نبي الله قد اجدبت بلادنا ولم تمطر فاسال الله ان تخصب بلادنا وتمطر ، فتهيا للصلاة وصلى ودعا لهم فقال لهم : ارجعوا فقد امطرتم فاخضبت بلادكم .
فقالوا : يا نبي الله انا راينا عجبا ، قال : وما رايتم ؟
قالوا : راينا في منزلك امراة شمطاء عوراء ، قالت لنا : من انتم ؟ ومن تريدون ؟ قلنا : جئنا الى نبي الله هود ليدعو الله لنا فنمطر ، فقالت :
لو كان داعيا لدعا لنفسه فان زرعه قد احترق .
فقال هود : ذاك ، وانا ادعو الله لها بطول البقاء .
فقالوا : كيف ذلك ؟ قال : لانه ما خلق الله مؤمنا الا وله عدو يؤذيه ، وهي عدوتي .
فلئن يكون عدوي فمن املكه ، خير من ان يكون عدوي ممن يملكني .

حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 77


نبوة هود عليه السلام :

بالاسناد عن الصدوق ... عن وهب قال :
لما تم لهود عليه السلام اربعون سنة اوحى الله تعالى اليه : ان ائت قومك فادعهم الى عبادتي وتوحيدي ، فان اجابوك زدتهم قوة واموالا ، فبينما هم مجتمعون اذ اتاهم هود- فقال : يا قوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره .
فقالوا : يا هود لقد كنت عندنا ثقة امينا ، قال : فاني رسول الله اليكم ، دعوا عبادة الاصنام ، فلما سمعوا ذلك منه بطشوا به وخنقوه وتركوه كالميت ، فبقي يومه وليلته مغشيا عليه ، فلما افاق قال : يا رب اني قد عملت وقد ترى ما فعل بي قومي ، فجاء جبرئيل عليه السلام فقال : يا هود ان الله تعالى يامرك ان لا تفتر عن دعائهم وقد وعدك ان يلقي في قلوبهم الرعب فلا يقدرون على ضربك بعدها .
فبقي هو في قومه يدعوهم الى الله وينهاهم عن عبادة الاصنام حتى تخصب بلادهم وينزل الله عليهم المطر ، وهو قوله عز وجل : «ويا قومي استغفروا ربكم ثم توبوا اليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزيدكم قوة الى قوتكم ولا تتولوا مجرمين»(1) .
فقالوا كما حكي الله عز وجل : «يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين»(2) .
فلما لم يؤمنوا ارسل الله عليهم الريح الصرصر ـ يعني الباردة ـ قال تعالى : «انا ارسلنا عليهم ريحا صرصرا(3) في يوم نحس مستمر»(4) .
وحكى في سورة الحاقة فقال : «واما عاد فاهلكوا بريح صرصر
1و2ـ هود : 52ـ 53.
3ـ الصرصر : الريح الباردة واليوم النحس ، اليوم المشؤم .
4ـ القمر : 19.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 78
عاتية»
(1) .
عن ابي جعفر عليه السلام قال : الريح العقيم تخرج من تحت الارضين السبع وما خرج منها شيء قط الا على قوم عاد حين غضب الله عليهم ، فامر الخزان ان يخرجوا منها مثل سعة الخاتم ، فعصت على الخزنة ، فخرج منها مثل مقدار منخر الثور تغيظا منها على قوم عاد .
فضج الخزنة الى الله من ذلك وقالوا : يا ربنا انها قد عصت علينا ونحن نخاف ان يهلك من لم يعصك من خلقك وعمار بلادك ، فبعث الله جبرئيل فردها بجناحه وقال لها : اخرجي على ما امرت به ، فرجعت وخرجت على ما امرت به فاهلكت قوم عاد ومن كان بحضرتهم .(2)


رياح الرحمة ورياح العذاب :

عن ابي جعفر عليه السلام قال : ان لله تعالى رياح رحمة ورياح عذاب ، فان شاء الله ان يجعل العذاب من الرياح رحمة فعل ، قال : ولن يجعل من الرحمة من الريح عذابا ، قال : وذلك انه لم يرحم قوما قط اطاعوه وكانت طاعتهم اياه وبالا عليهم الا من بعد تحولهم من طاعته .
قال : وكذلك فعل بقوم يونس لما آمنوا رحمهم الله بعدما قد كان قدر عليهم العذاب وقضاه ، ثم تداركهم برحمته فجعل العذاب المقدر عليهم رحمة فصرفه عنهم وقد انزله عليهم وغشيهم ، وذلك لما آمنوا به وتضرعوا اليه .
قال : واما الريح العقيم فانها ريح عذاب لا تلقح شيئا من الارحام ولا شيئا من النبات ، وهي ريح تخرج من تحت الارضين السبع ، وما خرجت منها ريح
1ـ الحاقة : 6.
2ـ البحار : ج11 ص351.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 79
قط الا على قوم عاد .(1)
وروي عن الامام ابي جعفر عليه السلام انه قال : ان لله جنودا من الرياح يعذب بها من يشاء ممن عصاه ، ولكل ريح منها ملك موكل بها ، فاذا اراد الله ان يعذب قوما بنوع من العذاب اوحى الى الملك الموكل بذلك النوع من الريح التي يريد ان يعذبهم بها ، قال : فيامر بها الملك فتهيج كما يهيج الاسد المغضب .
قال : ولكل ريح منهن اسم ، اما تسمع قوله تعالى : «كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر ، انا ارسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر» وقال تعالى : «الريح العقيم»(2) وقال: «ريح فيها عذاب اليم» وقال : «واصابها اعصار فيه نار فاحترقت» وماذكر من الرياح التي يعذب الله بها من عصاه ؛ الخبر .(3)
ان الله عز وجل رؤوف رحيم بعباده المخلصين ، ولا يسلط عليهم العذاب الا من بعد ان يبعث لهم رسولا يدعوهم الى عبادته واطاعة اوامره والنهي عن المحرمات والسير على سراطه المستقيم ، واذا عصوا الله وتمادوا وازدادوا في عصيانهم ، يرسل عليهم العذاب ، وقال تعالى «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا»(4) ، والعذاب الذي يسلطه على عباده العاصين والمذنبين يختلف حسب ما يراه سبحانه وتعالى مناسبا وصالحا لتلك الامة ولؤلائك القوم ، مرة يبعث عليهم الزلزال ، واخرى الفيضان ، واخرى الدم والضفادع ، ومرة اخرى الريح على انواعها ، ومرة اخرى يسلط بعضهم على بعض ، والى غير ذلك .
1ـ البحار : ج11 ص352 عن الروضة : ص92.
2ـ الريح العقيم : لا تلقح الشجر ولا تنبت النبات .
3ـ نفس المصدر ص 354 .
4ـ الاسراء : 15.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 80

اعاذنا الله واياكم من عذابه وغضبه ورحمنا برحمته .
وكذلك لله تعالى رياح رحمة لواقح ينشرها بين يدي رحمته ، منها يهيج بها السحاب للمطر ، ومنها تعصر السحاب فتمطره باذن الله ، ومنها لواقح تلقح الاشجار وينمو الثمر ، والى غير ذلك .


وفاة النبي هود عليه السلام :

وفي النهاية لحق النبي هود عليه السلام ومن آمن معه بمكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا .
وكانت اعمار قوم هود عليه السلام بحدود اربعمائة سنة . وتوفي النبي هود عليه السلام وله من العمر مائة وخمسين سنة ، وقبره بحضرموت .(1)
اختلف في موضع قبر هود عليه السلام فقيل : انه بغار بحضرموت ، وروي المؤرخون عن امير المؤمنين عليه السلام ان قبره على تل من رمل احمر بحضرموت ، وقيل : انه دفن في مكة في حجر اسماعيل ، وقيل : انه دفن قريبا من امير المؤمنين عليه السلام في الغري ....
والمشهور الآن قبر النبي هود والنبي صالح عليهما السلام في وادي السلام في النجف ويزار ، ويحتمل ان يكون قد دفن في مكان آخر ثم نقل الى الغري كآدم عليه السلام» ، والله العالم .
1ـ الكامل : ج 1 ص 81 .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 81
حكم و مواعظ
من حياة الانبياء عليهم السلام
(9)







النبي صالح عليه السلام





حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 82


حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 83

قصة النبي صالح عليه السلام وقومه

قال الله تعالى : «والى ثمود اخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تاكل في ارض الله ولا تمسوها بسوء فياخذكم عذاب اليم ، .... قال الذين استكبروا انا بالذي آمنتم به كافرون ، فعقروا الناقة وعتوا عن امر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين ، فاخذتهم الرجفة فاصبحوا في دارهم جاثمين ...»(1) .


من هم ثمود :

في هذه الآيات المباركة وفي غيرها ما جاء في سورة هود ، والشعراء ، والقمر ، والشمس ، وفي سورة هود اكثر تفصيلا .
كل هذه الآيات ذكرت فيها بشكل مختصر قصة صالح عليه السلام وقومه قوم هود ومادار بينهما ، وقصة الناقة ، وكيف كانت نهايتهم .
واما ثمود : فهم ولد ثمود بن جائر بن ارم بن سام ، وكانت مساكن ثمود بالحجر بين الحجاز والشام ، وكانوا بعد عاد قد كثروا وكفروا وعتوا ، فبعث الله
1ـ الاعراف 73ـ 79.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 84
اليهم صالح بن عبيد بن اسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود ، ودعاهم الى توحيد الله بالعبادة .(1)
وكان الله قد اطال اعمارهم حتى كان احدهم يبني البيت من المدَر فينهدم وهو حي ، فلما راوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا فنحتوها ، وكانوا في سعة من معايشهم ، ولم يزال صالح يدعوهم فلم يتبعه منهم الا قليل من المستضعفين .
وروي ايضا ان ثمود كانت بوادي القرى بين المدينة والشام ، وكانت عاد باليمن ، وكانت اعمارهم من الف سنة الى ثلاث مائة سنة ، وكانوا قوم النبي صالح عليه السلام .(2)
ان الله تبارك وتعالى بعث صالحا الى ثمود وهو ابن ست عشر سنة ، وكان يدعوهم الى الله والعمل الصالح فلا يقبلون منه ويعصون امره ، وكان لهم سبعون صنما يعبدونها من دون الله .
فلما راى ذلك منهم واصرارهم على العصيان ، قال لهم : يا قوم بعثت اليكم وانا ابن ست عشر سنة ، وقد بلغت الآن من العمر مائة وعشرون سنة ، وانا اعرض عليكم امرين :
ان شئتم فاسالوني حتى اسال الهي فيجيبكم ، وان شئتم سالت آلهتكم فان اجابتني خرجت من عندكم .
فقالوا له : انصفت فامهلنا ، فاقبلوا يتعبدون ثلاثة ايام ويتمسحون بالاصنام ، ويذبحون لها ، واخرجوها الى سطح الجبل ، واقبلوا يتضرعون اليها ، فلما كان يوم الثالث قال لهم صالح عليه السلام :
قد طال هذا الامر فقالوا : اسال ما شئت ، فدنا الى اكبر صنم لهم فقال له : ما
1ـ الكامل : ج1 ص81.
2ـ البحار : ج11ص373.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 85
اسمك ؟ فلم يجبه ، فقال لهم : ماله لا يجيبني ؟ قالوا له : تنح عنه ، فتنحى عنه ، فاقبلوا اليه يتضرعون ووضعوا على رؤوسهم التراب وضجوا وقالوا : فضحتنا ونكست رؤوسنا .
فقال صالح : قد ذهب النهار ، فقالوا : سله ، فدنا منه فكلمه فلم يجبه ، فبكوا وتضرعوا حتى فعلوا ذلك ثلاث مرات فلم يجبه بشيء .
فقالوا : ان هذا لا يجيبك ، ولكنا نسال الهك ، فقال لهم سلوه ما شئتم ، فقالوا : سله ان يخرج لنا من هذه الجبل ناقة حمراء شقراء شعراء ، او : عشراء ـ اي حاملة ، تضرب منكبيها طرفي الجبلين ، وتلقي فصيلها من ساعتها ، وتدر لبنها .
فقال صالح : ان الذي سالتموني عندي عظيم وعند الله هين ، فقام فصلى ركعتين ثم سجد وتضرع الى الله فما رفع راسه حتى تصدع الجبل وسمعوا له دويا شديدا ففزعوا منه وكادوا ان يموتوا منه ، فطلع راس الناقة وهي تجتر ، فلما خرجت القت فصيلها ، ودرت بلبنها ، فبهتوا ، وقالوا :
قد علمنا يا صالح ان ربك اعز واقدر من آلهتنا التي نعبدها .
وكان لقريتهم ماء وهي الحِجر التي ذكرها الله تعالى في كتابه وهو قوله : «ولقد كذب اصحاب الحجر المرسلين»(1) فقال لهم صالح عليه السلام : لهذه الناقة شرب ، اي تشرب ماءكم يوما وتدر لبنها عليكم يوما ، وهو قوله تعالى : «قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ، ولا تمسوها بسوء فياخذكم عذاب يوم عظيم»(2) فكانت تشرب ماءهم يوما ، واذا كان من الغد وقفت وسط قريتهم فلا يبقى في القرية احد الا حلب منها حاجته .
1ـ الحجر : 80.
2ـ الشعراء : 155ـ 156.

السابق السابق الفهرس التالي التالي