الاربعون حديثاً 573

هالك إلا وجهه» (1) وفي كتاب (الكافي) بسنده إلى (أسود بن سعيد قال : كنت عند أبي جعفر عليه السلام فأنشأ يقول ابتداءا منه من غير أن أسأله نحن حجة الله ، ونحن باب الله ، ونحن لسان الله ونحن وجه الله ونحن عين الله في خلقه ونحن ولاة أمر الله في عباده)(2) وفي دعاء الندبة «أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء ؟ أين السبب المتصل بين أهل الأرض والسماء»(3) . وفي زيارة الجامعة الكبيرة «والمثل الأعلى» (4) . وهذا المثل الأعلى وذلك الوجه الإلهي ، هو الوارد في الحديث الشريف «إن الله خلق آدم على صورته» ومعناه أن الإنسان هو المثل الأعلى للحق سبحانه ، وآيته الكبرى ، ومظهره الأتم ، وأنه مرآة لتجلي الأسماء والصفات وأنه وجه الله وعين الله ويد الله وجنب الله ، «هو يسمع ويُبصر ويبطش بالله ، والله يُبصر ويسمع ويبطش به» . ووجه الله هذا هو النور المذكور في قوله تعالى :«الله نور السموات والأرض» (5) وقال الإمام الباقر عليه السلام كما في كتاب (الكافي) بسنده إلى أبي خالد الكامل (قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل « فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا »فقال يا أبا خالد النور والله نور الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة وهم والله نور الله الذي أنزل ، وهم والله نور الله في السموات والأرض) (6) وفي كتاب الكافي الشريف بسنده إلى الإمام الباقر روحي لتراب مقدمه الفداء في تفسيره عليه السلام للآية الشريفة « عمّ يتسائلون * عن النبأ العظيم» قائلا : «هي في أمير المؤمنين ، كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول : ما لله تعالى آية هي أكبر مني ، ولا لله من نبأ أعظم مني» (7) .
وملخص الحديث أن الإنسان الكامل الذي يكون آدم أبو البشر فردا منه ، أكبر آية ومظهر لأسماء وصفات الحق سبحانه ، وأنه مَثَل الحق المتعالي وآيته . ولا بد من تنزيه الله سبحانه وتقديسه عن المِثل بمعنى الشبه ولا يلزم تنزيه ذاته المقدس عن المَثَل الذي هو بمعنى الآية والعلامة .«وله المثل الأعلى» (8) .
إن كافة ذرات الكون ، آيات ومرآة تجلي ذاك الجمال الجميل عز وجل كل حسب حجمه ومنزلته الوجودية . ولكن لا يكون شيء آية للاسم الأعظم الجامع أي «الله» عدا الكون الجامع ،

(1) سورة القصص ، آية : 88 .
(2) أصول الكافي ، المجلد الأول ، كتاب التوحيد ، باب النوادر ، ح 7 .
(3) مفاتيح الجنان ، دعاء الندبة .
(4) مفاتيح الجنان ، زيارة الجامعة الكبيرة .
(5) سورة النور ، آية : 35 .
(6) أصول الكافي ، المجلد الأول ، كتاب الحجة ، باب أن الأئمة نور الله ، ح 1 .
(7) أصول الكافي ، المجلد الأول ، كتاب الحجة ، باب أن الآيات التي ذكرها الله في كتابه ، ح 3 .
(8) سورة الروم ، آية : 27 .
الاربعون حديثاً 574

والبرزخية الكبرى المقدسة جلت عظمته بعظمة باريه . فالله تعالى خلق الإنسان الكامل والآدم الأول على صورته الجامعة جعله مرآة أسمائه وصفاته . قال الشيخ الكبير : فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية فحازت رُتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود وبه قامت الحجة لله على الملائكة .
وتبين من بحثنا هذا السالف الذكر ، السبب في إصطفاء وإختيار الحق المتعالي للصورة الجامعة الإنسانية من كل الصور المختلفة للكائنات بأسرها . كما تبيّن السر في تفضيل الحق سبحانه لآدم عليه السلام على الملائكة ، وتكريمه دون كافة المخلوقات وفلسفة نسبة روحه إليه في الآية الكريمة «ونَفَختُ فيه من روحي» (1) . وحيث أن هذا الكتاب قد التزم على نفسه الاختصار ، غضضنا الطرف عن بيان حقيقة النفخة الإلهية ، وكيفيتها في آدم ، وسبب اختصاصها به دون الموجودات الأخرى . والحمد لله أولا وآخرا .

(1) سورة الحجر ، آية : 29 .
الاربعون حديثاً 575

الحديث التاسع والثلاثون

الخير والشر


الاربعون حديثاً 576

بالسند المتصل إلى ركن الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ـ رضوان الله عليه ـ عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ،عن ابن محبوب وعلي بن الحَكَم ، عن معاوية بن وهب قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : «إن مما أوحى الله إلى موسى عليه السلام وأنزل عليه في التوراة : أني أنا الله لا إله إلا أنا ، خلقت الخلق وخلقت الخير وأجريته على يدَي مَن أُحب ، فطوبى لمن أجريته على يديه ، وأنا الله لا إله إلا أنا ، خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدَي من أُريده ، فويل لمن أجريته على يديه» (1) .

(1) أصول الكافي ، المجلد الأول ، كتاب التوحيد ، باب الخير والشر ، ح 1 .
الاربعون حديثاً 577

الشرح :


قوله : إله : يكون «أَلَهَ» ـ بفتح الهمزة واللام ـ إلهَةً على وزن عبد عبادة . ويكن إله بكسر الهمزة على وزن فِعال بمعنى المفعول أي المعبود مثل الإمام بمعنى من يؤتم به . وإن «إله» أساس اشتقاق «الله» حيث أدخلت الألف واللام وحذفت الهمزة تخفيفا . وقال بعض أن الألف واللام أدخلتا عوضا عن الهمزة التي حذفت . ولكل من القولين دليل لغوي لا حاجة لذكره . وتطلق «الإلهية والألوهية» غالبا في لسان أهل الله ـ العرفاء ـ على مقام التجلي بالفعل ، وعلى مقام الفيض المقدس . وتطلق عندهم «الله» : اسم الجلالة ، غالبا على مقام الذات المستجمع للصفات . وقد يستعملون على العكس من ذلك ـ فتطلق الألوهية والإلهية على مقام الذات والله على مقام التجلي بالفعل ومقام الفيض المقدس ـ .
ويحتمل أن يكون «الإله» في هذا الحديث الشريف بمعناه اللغوي العرفي أي (أنا المعبود ولا معبود غيري) وعليه يكون قصر العبودية في الله سبحانه إما على أساس أن غيره لا يستحق العبادة حتى وإن أخطأ الناس ورأوا غيره معبودا . وأما على مذهب أهل القلوب وأرباب المعرفة من أن العبادة في اي صورة ومظهر كانت ، تكون للكامل المطلق ، وأن الإنسان حسب (فطرة الله التي فطر الناس عليها) يطلب الجميل المطلق وإن كان الإنسان العابد محجوبا عن هذه الفطرة ، وزاعما أنه قد ارتبط بالمتعين والمحدود ـ من غير الإله سبحانه ـ .
ولعل المقصود من الإله حسب ما ورد في ذيل هذا الحديث الشريف من نسبة الخير والشر إليه سبحانه ، هو مقام الألوهية الذي يكون إشارة إلى مقام توحيد الأفعال ، والذي عبر عنه الحكماء العظام بقولهم (لا مؤثر في الوجود إلا الله) كما سنشير إليه بعد قليل إن شاء الله تعالى .
قوله : «الخير» قال محقق المحدثين المجلسي رحمه الله في ذيل هذا الحديث الشريف : (والخير والشر يطلقان على الطاعة والمعصية وعلى أسبابهما ودواعيهما وعلى المخلوقات

الاربعون حديثاً 578

النافعة كالحبوب والثمار والحيوانات المأكولة والضارة كالسموم والحيات والعقارب وعلى النعم والبلايا . وذهب الأشاعرة إلى أن جميع ذلك من فعله تعالى . والمعتزلة والإمامية خالفوهم في أفعال العباد وأوّلوا ما ورد في أنه تعالى خالق الخير والشر بالمعنيين الأخيرين ـ ثم قال ـ وأما الحكماء فأكثرهم يقولون لا مؤثر في الوجود إلا الله ، وإرادة العبد مُعِدّة لإيجاده تعالى الفعل على يده فهي موافقة لمذاهبهم ومذاهب الأشاعرة ويمكن حمله على التقية) (1) انتهى كلامه رفع مقامه .

في تحقيق الخير والشر

إن الخير والشر في موارد استعمالهما يكونان بمعنى الكمال والنقص في الذات أو الصفات وفي الوجود وكمالاته ، وأن جميع ما هو خير بحسب ذاته ، فهو عائد إلى حقيقة الوجود وإذا أطلق على غيره ، فهو من أجل الوجود . كما أن الشر بالذات ، هو عدم الوجود أو عدم كمال الوجود ، وإطلاقه على غير ذلك مثل الموجودات المؤذية والحيوانات الضارة ، فإنما هو إطلاق بالعرض والمجاز لا بالذات والحقيقة . ولو تصوّرنا هذا الموضوع مع مبادئه ومنطلقاته ، للزم أن يكون تصديقه ضروريا ، رغم وجود البرهان السديد أيضا على ذلك .
وما قاله المحقق المجلسي رضوان الله تعالى عليه في موضوع «خلق أفعال العباد» من أن الإمامية والمعتزلة قد خالفوا الأشاعرة ، وأنهم قد قاموا بتأويل الآيات والأحاديث التي تنسب الخير والشر إلى الحق سبحانه . ففيه بعض الملاحظات : إذ أن مخالفة الإمامية والمعتزلة ، للأشاعرة القائلين بالجبر ، الذاهبين إلى مسلك مخالف للعقل والبرهان والوجدان ، هذه المخالفة تكون صحيحة ولكن لا وجه لتأويل الآيات والأخبار ، على مذهب المعتزلة القائلين بالتفويض الذي يكون أسوأ وأشنع من مذهب الأشاعرة .
وكذلك لا يحتاج الشيعة رضوان الله تعالى عليهم ، الذين استناروا بنور هداية أهل البيت العظام ، واختاروا بسبب بركة أهل بيت الوحي والعصمة مسلك الحق الموافق للآيات الكريمة ، والبراهين المتقنة والمطابقة مع مذهب العرفاء الشامخين ومسلك أصحاب القلوب ، هؤلاء لا يحتاجون إلى تأويل هذه الأخبار والآيات الكثيرة ، وخاصّة التأويل الذي عرضه المحدث المذكور رحمه الله والذي يعتبر مرفوضا وغير ممكن . بل إن الإمامية وأئمتهم عليهم السلام ، لا يعزلون إرادة الحق سبحانه عن أي فعل من أفعال العباد ، ولا يرون تفويض أي أمر من الأشياء إلى العباد .
وأما ما ذكره في نهاية كلامه : (أكثر الحكماء يقولون بأنه لا مؤثر في الوجود إلا الله ، وهذا

(1) مرآة العقول ، المجلد 2 ، ص 172 .
الاربعون حديثاً 579

يتطابق مع مذهبهم ومذهب الأشاعرة) .
فإن هذه الكلمة «لا مؤثر في الوجود إلا الله» صحيحة لدى أكثر الحكماء ، بل لدى جميع الحكماء وأهل المعرفة بل يقولون إن من لم يذعن لهذه القضية من الفلاسفة ، لم ينفذ نور الحكمة في قلبه ، ولم يشعر عمق قلبه بالمعرفة ولكن ليس معناها أن إرادة العبد من الأمور المُعِدّة لإيجاد الحق سبحانه ، الفعل في العبد ، كما هو واضح لدى أهل العلم والفلسفة .
وقوله (ويوافق مع مذهب الأشاعرة) غير صحيح فإن من الغرابة بمكان عطف مذهب الأشاعرة على مذهب الحكماء ، لوجود البعد الشاسع بين مذهب الحكماء ومذهب الأشاعرة ، ولا تجد حكيما محققا لم يطعن في مذهب الأشاعرة ولم يخالفه .
وأما ما ذكره (يمكن حمل هذه الأخبار على التقية) فتتوجه نحوه الملاحظات التالية :
أولا : لا مجال لمثل هذا التوجيه ، لأن ظواهر الأخبار تتوافق مع مذهب الحق والبرهان القويم .
ثانيا : إن هذه الأخبار تتطابق مع آيات كثيرة من القرآن الكريم ، ولا معنى لتوجيه الآيات والأخبار الموافقة لها على التقية .
ثالثا : لا توجد أخبار تتعارض مع هذه الأخبار ، حتى نحملها على التقية التي تكون من المرجحات في باب التعارض ، إذ يمكن الجمع بينها وبين ما يدل على أن الإنسان فاعل للخير والشر .
رابعا : إن هذه الأخبار تنسجم حسب زعمه مع مذهب الأشاعرة الذي لم يعتنقه الغالب من الناس فلا مسوّغ لحمل الأخبار على التقية .
خامسا : أن المرجحات لدى تعارض الخبرين لا تجري على الموضوع الذي نحن فيه من المسائل العقائدية ما هو واضح .
قوله : طوبى . قال الجوهري (إن طوبى على وزن فُعلى وأنه مشتق من الطيّب ، فبمناسبة الضمة السابقة على الطاء انقلبت الياء إلى الواو) . وفي مجمع البحرين : (طوبى لهم أي طيب العيش ، وقيل : طوبى : الخير وأقصى الأمنية . وقيل طوبى اسم للجنة بلغة أهل الهند . وقيل طوبى شجرة في الجنة . ويقال طوبى لك وطوباك على نحو الإضافة إلى ضمير المخاطب . وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (طوبى شجرة في الجنة أصلها في داري وفرعها في دار علي فقيل له في ذلك فقال لي داري ودار علي في الجنة بمكان واحد) (1) .

(1) مجمع البحرين ، مادة طيب .
الاربعون حديثاً 580

قوله : ويل . قال الجوهري (إن ويح كلمة رحمة كما أن ويل كلمة عذاب) وقال اليزيدي هما بمعنى واحد تقول ويح لزيد وويل لزيد ترفعهما على الابتداء وتنصبهما بإضمار فعل مثل ألزمه الله الويل (1) . ويقال ويل واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال لذابت من حرّه (2) . وقيل إنه اسم بئر في جهنم .


فصل
في بيان ان كلا من الخير والشر يتعلق به الايجاد والخلق بيان كيفية ذلك
وفيه اشارة الى كيفية وقوع الشر في القضاء الالهي

إعلم أنه قد ثبت بكل وضوح في الفلسفة المتعالية ، أن نظام الكون في أسمى مرتبة من الكمال والخير ، وأقصى درجة من الحسن والجمال . وبُرهن على ذلك بنوع من البرهان اللمي على نحو إجمالي تارة ، وعلى نحو تبسيطي وتفصيلي أخرى . والوقوف على تفاصيل ذلك بصورة دقيقة ، مختص بالخالق تقدس أسماؤه أو بمن يوحى له الله سبحانه ويخبره عن ذلك . ولكن ما يستدعيه الكتاب في هذا الموضوع هو ما اومأنا إليه سابقا : من أن ما هو من سنخ الكمال والجمال والخير ، لا يكون خارجا عن نطاق حقيقة الوجود لأنه المتحقق ، دون غيره ، ومن الواضح أن ما يقابل حقيقة الوجود ، هو العدم أو الماهية ، وكل منهما حسب ذاته وفي نفسه لا شيء ، وبطلان محض ، أو اعتبار محض ، ولا يكون لهما ثبوت إلا إذا تنورا بنور الوجود ، وظهرا بظهوره ، ومن دون الوجود لا ثبوت في ذاتهما ولا في صفاتهما وآثارهما ، وعندما يلقي الوجود بظله على رؤوسهما ، ويمسح بيد رحمته الواسعة على وجههما ، يصبح لكل منهما ظهورا وخصائص وآثارا . فإذن تكون كافة الكمالات نتيجة جمال الجميل المطلق ، وتجلي النور المقدس للكامل المطلق . وأما الكائنات الأخرى فهلاك في نفسه ، وفقر محض وبطلان مطلق . فجميع الكمالات تصدر من الوجود وتعود إلى الوجود .
وتقرر أيضا في محله أن الصادر من الذات المقدس هو أصل حاق الوجود ، وصرفه من دون أن يكون محدودا بحدود عدمية أو ماهوية ، لأن العدم او الماهية لا يكونان صادرين من شيء ، وأن التحديد المفروض على الفيض ، يكون ناشئا من المفيض المحدود . ومن تدبر في شرح أهل المعرفة حول كيفية الإفاضة والفيض ، لأذعن بأنه لا يمكن بتاتا تصور التقييد والتحديد في الفيض النازل من الباري عز وجل . فكما أن ذاته القدسيّة منزّهة من كل نقص وإمكان وتقييد ، فكذلك يجب تنزيه فيضه المقدس وتقديسه من كافة الحدود الإمكانية ،

(1) مجمع البحرين ، مادة ويح .
(2) مجمع البحرين ، مادة ويل .
الاربعون حديثاً 581

والأمور المنبثقة من الماهيات والتحديدات الراجعة إلى الحدود والنقائص . إذن فيضه الذي هو ظل للجميل المطلق ، يكون جميلا مطلقا ، وجمالا تاما ، وكمالا تاما ، فهو جميل في ذاته وصفاته وأفعاله ، فلا يتعلق الجعل والإيجاد إلا بالوجود .
وقد برهن أيضا في محله ، أن جميع الشرور والإخترام ـ الموت المبكر ـ والهلاك والأمراض والحوادث الغريبة المهلكة والحيوانات المؤذية وغير ذلك من المصائب والآلام الموجودة في هذا العالم المادي الطبيعي ، وفي هذه الهاوية الضيقة المظلمة ، ينشأ من التضاد والاصطدام الحاصل بين الموجودات ، هذا التضاد ، الذي لم يكن نتيجة الجهة الوجودية للموجودات بل يحصل من جرّاء النقص في هذه النشأة وضيق المحل والمقر للموجودات ، ويعود ذلك إلى الحدود والنقائص الخارجة عن إطار نور الجعل بل تكون في الحقيقة دون الجعل .
إن الوجود هو الحقيقة وهو كل شيء وهو البريء والمقدّس من كل الشرور والعيوب والنواقص وأن النقائص والشرور والأشياء الضارة والمؤذية التي تعود إلى جهة النقص والضرر ، وإن كانت غير مجعولة بالذات ، ولكنها مجعولة بالعرض حسب الأدلة والبراهين . لأنه لو لم يتحقق أصل العالم المادي ولم يتعلق الجعل للجهة الوجودية من عالم الطبيعة لما كان هناك نقص وشر كما أنه لم يكن نفع وخير وكمال ، لأن هذه النقائص والأعدام لم تكن من الأعدام المطلقة ، بل هي من نوع الأعدام المضافة التي تتحقق بالعرض تبعا لملكاتها ، والقضية التي تتألف من الأعدام المضافة تعتبر من القضايا المعدولة أو القضايا الموجبة السالبة المحمول وليست من السالبة المحصلة .
وملخّص الكلام أن ما هو مخلوق ومجعول بالذات لله سبحانه هو الخير والكمال ، وإن تخلُّل الشرور والمضار وغيرها في القضاء الإلهي ، يكون بالتبع والانجرار . وقد أشارت الآية الكريمة التالية في القرآن الكريم «ما اصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك» (1) إلى المقام الأول ـ الوجود مصدر الخير والكمال وإنه ـ «قل كل من عند الله» (2) إلى المقام الثاني ـ مجعول بالذات والشرور والنقائص مجعولة بالعرض ـ ووردت في الآيات الشريفة وأحاديث أهل بيت العصمة عليهم السلام إشارات كثيرة إلى هذين الاعتبارين ، ومن تلك الأخبار هذا الحديث الشريف الذي يحتوي على هذه الجملة (خلقت الخلق وخلقت الشر) .

(1) و (2) سورة النساء ، آيات : 79 ـ 78 .
الاربعون حديثاً 582

فصل
في بيان كيفية اجراء الحق سبحانه الخير والشر على ايادي عباده

يتبين لأصحاب العلم التحقيق بعد التأمل في الأبحاث السابقة ، كيفية إجراء الحق سبحانه ، الخير والشر على أيدي مخلوقه ، من دون أن يستلزم الجبر وآثاره الباطلة . والتحقيق في ذلك على مستوى يتّضح الموضوع وتندفع الملاحظات ، يستدعي ذكر مقدمات كثيرة ، وعرض المذاهب الفلسفية بصورة مسهبة ، في حين أن هذا الكتاب لا يسع ذلك ، فاعتذر عن الخوض فيه بصورة مفصلة ، ولكنني سأشير بصورة مجملة تنسجم مع بحثنا هذا .
إعلم أنه لا يمكن أن يكون موجودا من الكائنات مستقلا في عمل من الأعمال ، إلا بعد أن ينهض الموجد والفاعل ، بسد كافة أبواب العدم التي قد تنفتح على المعلول . مثلا إذا كان لموجود معلول مائة شرط في تحقّقه ووجوده ، وقامت العلة بتوفير تسع وتسعين شرطا أي بإغلاق تسع وتسعين بابا من العدم المنفتحة على الموجود المعلول ـ إذ في عدم تحقق كل شرط عدم للمعلول ـ ولم يبق إلا باب واحد ، لما أمكن أن تكون العلة مستقلة في إيجاد المعلول ، فالاستقلال في العلية يتوقف على قيام العلة بسد أبواب العدم الممكن فتحها على المعلول سدا نهائيا ، حتى يصل المعلول إلى حد الوجوب لكي يصير موجودا ـ الشيء ما لم يجب لم يوجد ـ .
ومن المعلوم بالضرورة والبرهان ، أن القوى الفعّالة الظاهرية والباطنية من جميع الممكنات في هذا العالم من أهل عالم الجبروت العظمى والملكوت العليا حتى سُكّان عالم المُلك والمادة ، قاصرون وعاجزون عن القيام بمثل هذا العمل ، لأن العدم الأول الذي يمكن أن ينفتح على المعلول ، هو عدم المعلول عند عدم علته الفاعلة والمؤثر ، ولا تجد في سلسلة الممكنات موجودا يستطيع أن يغلق هذا الباب بنفسه ، لان ذلك يوجب انقلاب ما هو ممكن بالذات إلى ما هو واجب بالذات ، وخروج الممكن عن حدود بقعة الإمكان ، وهو محال بالبداهة والضرورة ، لدى العقل . فاتضح بأن الاستقلال في الإيجاد يتطلب الاستقلال في الوجود ، وهذا الشيء لا يتحقق في عالم الممكنات .
ويتبين بأنه لا يمكن التفويض في الإيجاد ، في أي شأن من الشؤون الوجودية ، ولأي موجود ، من الكائنات . وأن عدم الإمكان هذا ، لا يختص بالمكلفين وأفعالهم ، كما يُفهم الإختصاص من الكلمات الجارية على ألسنة المتكلمين ، ولكن ملاحظة أقوالهم في الأبواب المختلفة ، تفيد أن عدم الإمكان هذا يعم المكلف وأفعاله وغيرهما .
وحيث أن أصحاب علم الكلام قد اهتموا بأفعال المكلفين وجعلوها محور بحثهم ، نجد

الاربعون حديثاً 583

بأن دراساتهم تدور حول أفعال المكلفين .
والخلاصة أننا لا نقترب من أقوال المتكلمين وأبحاثهم ، وإنما نبحث عن قول الحق في الموضوع . وقد ثبت وإتضح عدم إمكان التفويض في اي أمر من الأمور ولأي موجود من الكائنات .

في إبطال الجبر

ويعلم بطلان مذهب الجبر أيضا ، بعد أن نشير إليه وهو : (أنه لا دور لأي واسطة وجودية في خلق الكائنات والموجودات ، وإنما يتوهم الإنسان ذلك . مثلا : إن النار لا تؤثر أبدا في الحرارة ولا توجدها ، وإنما جرت سنة الله على تحقق الحرارة إثر تحقق النار ، من دون أن يكون للنار دور في ذلك . ولو كانت سنة الله جارية على تحقّق البرودة عقيب تحقق النار ، لما اختلفت الأمور عما هو عليه الآن . والخلاصة أن الحق سبحانه من دون أي واسطة ، يباشر جميع أفعال المكلفين ، ويخلق آثار الكائنات) . ويزعمون أنهم ارتأوا هذا المذهب كي ينزّهوا الحق المتعالي ويقدّسوه ، حتى لا تكون يد الله مغلولة«غلّت أيديهم ولُعنوا» (1) ولكن يستلزم هذا الضرب من التنزيه والتقديس ، النقص والتشبيه ، كما ثبت ذلك بالأدلة والبراهين ، ولدى مذهب أهل العرفان . ويستلزم التفويض المذكور التعطيل ، كما أشير إليه في الفصل المتقدم حيث قلنا : بأن الحق سبحانه كمال مطلق ، ووجود صرف ، ولا يتصور الحد والنقص في ذاته وصفاته ، وأن متعلق إيجاده عز وجل وجعله ، الموجود المطلق ، والفيض المقدس الإطلاقي ، ولا يمكن صدور الموجود المحدود الناقص من الذات المقدس ، ونشوئه من النقص في الإيجاد ، بل هو نتيجة النقص في المعلول والمستفيض ، وهذا لا يتنافى مع الفاعل بالإرادة كما يزعم المتكلمون منافاته . وقد ثبت ذلك في محله . فما يمكن أن يكون مرتبطا من الموجود والمعلول ، بالذات المقدس الحق المتعالي مباشرة هو الموجود المطلق وصريح الوجود وهو إما الفيض المقدس بناءً على مسلك العرفاء ، أو العقل المجرد أو النور الشريف الأول بناءا على مذهب الحكماء والفلاسفة ، وأما الوجودات الأخرى فتوجد مع الوسائط لا بالمباشرة .
وبعبارة أخرى لا شك في أن الموجودات تختلف فيما بينها من جهة تقبل الوجود ، فبعض الموجودات ، تقبل الوجود ابتداءا واستقلالا مثل الجواهر ، وبعض الموجودات لا تقبل الوجود إلا بعد موجودية شيء آخر ، وتبعا لموجود آخر ، مثل الاعراض ، والأشياء التي يكون وجودها ضعيفا ، مثل تكلم زيد ، حيث لا يتحقق ولا يوجد إلا تبعا لزيد . ومثل الأعراض والأوصاف حيث تأبى الوجود من دون وجود الجواهر والموصوف ، وترفض التحقق لوحدها . ويكون هذا

(1) سورة المائدة ، آية : 64 .
الاربعون حديثاً 584

الرفض نتيجة النقص الذاتي ، والنقص الوجودي لهذا الموجود ، وليس من آثار نقص الفاعل وموجدية الحق تعالى شأنه . فتبين أن الجبر ونفي الوسائط الوجودية غير ممكن في سلسلة الكائنات الموجودة بل هناك وسائط في الإيجاد .
ومن البراهين القوية السديدة في موضوع بطلان الجبر هو أن الماهيات في نفسها عديمة التأثير والتأثر ، وغير مجعولة بالذات ، في حين أن حقيقة الوجود بذاته منشأ للتأثير وأن سلب التأثير عنه بصورة مطلقة يستلزم الانقلاب الذاتي أي سلب ما هو من ذاته التأثير عن ذاته وهو عبارة عن عدم التأثير . فإيجاد مراتب من الوجود غير مؤثرة ومسلوبة التأثير كليا ، غير ممكن ، وموجب لنفي الشيء عن ذاته بل تكون مؤثرة وموجدة حسب الوسائط والمراتب .
فتبين بصورة مجملة أن مذهب التفويض والجبر نتيجة البراهين القاطعة ، والمقاييس العقلية يكونا باطلين وممتنعين ، وأن مذهب الأمر بين الأمرين لدى أهل المعرفة والفلسفة العالية هو الثابت والصحيح .
غير أن العلماء رضوان الله عليهم قد اختلفوا في معنى الأمر بين الأمرين اختلافا عظيما ، والقول السديد المتقن ، الذي يكون أبعد من المناقشات وأقرب إلى التوحيد ، هو رأي العرفاء الشامخين وأصحاب القلوب . ولكن مسلك العرفاء في كل موضوع من المعارف الإلهية من قبيل (السهل الممتنع) حيث لا يمكن فهمه على أساس البحث والبرهان ، ولا استيعابه من دون التقوى الكاملة والسداد الإلهي ، ولهذا نتركه لأهله الذين هم أولياء الحق سبحانه ، ونسلك منهج الأصحاب في البحث وهو :
أننا نرفض كلا من التفويض الذي هو عبارة عن استقلال الموجودات في التأثير ، والجبر الذي هو عدم تأثير الموجودات نهائيا ، ونؤمن بالمنزلة بين المنزلتين التي هي إثبات التأثير ونفي الاستقلال في التأثير ، ونقول :
إن منزلة الإيجاد مثل الوجود وأوصافه ، فكما أن الكائنات موجودة وليست بمستقلة في الوجود ، وأن الأوصاف ثابتة لها وغير مستقلة فيها ، وأن الآثار والأفعال ثابتة فيها وصادرة عنها ولكنها غير مستقلة في الوجود ، فكذلك الفاعل والموجد ، يفعل ويوجد ولكنه غير مستقل في الفاعلية والإيجاد .
ولا بد من معرفة أنه قد إتضح بعد التدبر في البيان المذكور في الفصل المتقدم بأن كلا من الخير والشر يصح أن ينتسب إلى كل من الحق والخلق ، ولهذا قال عليه السلام في الحديث الشريف «وخلقت الخير وأجريته على يدي من أحب فطوبى لمن أجريته على يديه ، وأنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدَي من أريد» ومع ذلك تكون نسبة الخير إلى الحق

الاربعون حديثاً 585

سبحانه ، بالذات ، وإلى العباد والكائنات ، بالعرض ، في حين أن نسبة الشرور إلى الموجودات الأخرى بالذات ، وإلى الحق سبحانه بالعرض ، وقد أشار إلى هذا المعنى الحديث القدسي القائل «يا بني آدم أنا أولى منك بحسناتك وأنت أولى بسيئاتك مني» وقد أشرنا إلى هذا المعنى قبل ذلك ، ونغض الطرف عنه هنا فعلا . والحمد لله أولا وآخرا .

(1) الموافق 24 ـ 2 ـ 1939 م .
الاربعون حديثاً 586




الاربعون حديثاً 587

الحديث الموفـّى للأربعين

تفسير سورة التوحيد

والايات الاولى من سورة الحديد


الاربعون حديثاً 588

بالسند المتصل إلى الشيخ الأقدم والركن الاعظم محمد بن يعقوب الكليني ـ رضوان الله عنه ـ عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن عاصم بن حُمَيد قال : «سُئل علي بن الحسين عليهما السلام عن التوحيد ، فقال : إن الله عز وجل عَلِم أنه سيكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فانزل الله تعالى : « قل هو الله أحد »والآيات من سورة الحديد إلى قوله « وهو عليم بذات الصدور»فمن رام وراء ذلك فقد هلك» (1) .

(1) أصول الكافي ، كتاب التوحيد ، باب النسبة ، ح 3 .
الاربعون حديثاً 589

الشرح :


قال صدر المتألهين قدس سره «أن الراوي عاصم بن حميد لم يرو مباشرة عن الإمام السجاد عليه السلام لأنه لم يعاصره فلا يكون الحديث مسندا بل مرفوعا» انتهى كلامه .
إن تكرار لفظ «قال» في الحديث الشريف إما لأجل تقطيع وقع في الحديث الشريف . وإما لحصول غلط من النُسّاخ والكُتّاب وإما أن الفاعل للفعل كان مذكورا في الكلام ، ولكنه سقط لدى الكتابة وإما أن الفاعل قد حذف ، لأن حذف ما يعلم جايز ، وإما أن فاعل الأول ضمير يعود إلى نضر بن سويد وهذا الاحتمال بعيد جدا .
قوله : التوحيد . إن التوحيد على وزن تفعيل ، وهو إما لأجل التشديد في الوحدة ومعناه الاهتمام البالغ والأكيد بالوحدة والبساطة . أو من أجل الإنتساب المفعول ـ من وقع عليه الفعل ـ إلى الفعل مثل التكفير والتفسيق . وذهب بعض الفضلاء إلى أن باب التفعيل لم يستعمل لانتساب المفعول إلى الفعل ، وإن استعمال التفسيق والتكفير بهذا المعنى يكون أيضا خطأ وإنما هو بمعنى الدعوة إلى الفسق والكفر ، ولا بد من استعمال الأكفار ، محل التكفير ، حتى يتم انتساب المفعول إلى الفعل . ولم يستعمل صاحب كتاب «القاموس» مادة الكفر في التكفير بمعنى الانتساب إلى الكفر .
يقول الكاتب : إنني لم أقف في كتاب «القاموس» على استعمال التكفير في الانتساب إلى الكفر ، بل لم يستعمل علامة اللغويين الجوهري أيضا ، التكفير في الانتساب إلى الفعل ، وإنما جعل الأكفار ، للإنتساب كما يقول هذا الفاضل الكريم . ولكن المشهود في الكتب الأدبية هو أن من معاني باب التفعيل الانتساب إلى الفعل ومثلوا لذلك بالتفسيق . وعلى أي حال يكون التوحيد بمعنى الانتساب إلى الوحدة .
قوله : «مُتَعَمِّقون» : العَمق والعُمق ـ بفتح العين وضمها ـ قعر البئر ، ولهذا الاعتبار يعتبر

السابق السابق الفهرس التالي التالي