الاربعون حديثاً 559

الشرح :


هناك فرق واضح بين العرفان ، والعلم ، بين التعرف على شيء وبين العلم به . يقال إن العلم في اللغة يختص بالكليات ، والمعرفة خاصة بالجزئيات والتشخّص ، ويقال إن العارف بالله هو الذي يتعرف على الحق سبحانه بالمشاهدة الحضورية ، وإن العالم بالله هو الذي ينتهي إلى الحق سبحانه من خلال البراهين الفلسفية .
وذهب بعض إلى أن الفارق بين العلم والعرفان من وجهين : الأول من ناحية متعلق كل منهما كما ذكرنا ـ متعلق العلم كلي ومتعلق المعرفة جزئي ـ . والثاني أنه أخذ في المعرفة نسيان الشيء المعلوم سابقا . في حين أن العلم هو ما يدركه الإنسان ابتداءا . وأما الشيء الذي كان معلوما فغُفل عنه ونسيه ثم أدركه ثانيا ، يقال له أنه قد عرفه ، وإنما يقال للعارف عارفاً ، لأنه يتذكر الأكوان السالفة ، والنشآت السابقة على كونه المُلكي ونشأته الطبيعية .
وادّعى بعض أهل السلوك ـ العرفاء ـ أن سبب التسمية هو تذكر عالم الذر ، ويقول بأنه لو أزيح حجاب الطبيعة الباعث على الغفلة والنسيان عن أعين السالك ، لتذكّر العوالم السابقة .
وقال بعض العرفاء : إن حقيقة المعراج المعنوي والروحاني ، هي تذكر الأيام السالفة ، نحن إذا قفلنا راجعين إلى الوراء للإطلال على أيام الطفولة والمراهقة والشباب و... لوجدنا أن كل شخص يسترجع فترة من حياته ويتذكر بعض الأيام ، فهناك من يتذكر أيام عامه السابع من حياته وما بعدها وهناك من يتذكر أيام السنة الخامسة من عمره ، وبعض يذهب إلى أبعد من ذلك ويدعي تذكر أيام حوله الثالث ، ومن النادر من يسترجع إلى ذاكرته أبعد من أعوام الثلاثة الأولى .
لقد نقل عن الشيخ الرئيس ابن سينا ، أنه كان يدّعي تذكّر أول لحظة ولادته ، وكان يقول( يمكن للإنسان أن يتذكر أبعد من ذلك فيتذكر فترة تواجده جنينا في رحم الأم أو فترة وجوده في صلب الأب ، وهكذا يرجع إلى الوراء ويتذكر جميع الأحوال التي مرّ بها في عالم المُلك ، حتى

الاربعون حديثاً 560

يصل متقهقراً إلى أكوان عالم الملكوت الأعلى والجبروت ، إلى عالم الجبروت الأعلى وهكذا يقفل ويتقهقر حتى يتذكر نشأة العلم الربوبي ومثل هذا التذكر ، هوحقيقة المعراج ومنتهى العروج الروحاني) انتهى بيانه .
وهذا الموضوع حتى إذا كان صحيحا في نفسه ، ولكن تفسير حقيقة المعراج الروحاني بالرجوع القهقرائي لدى أهل العرفان وأرباب القلوب والأفئدة غير سديد ، لأن حقيقة المعراج الروحاني ، هي حركة معنوية انعطافية ، تتم بها دائرة الوجود وينتهي إلى عالم الغيب جميع ما في سلسلة الشهود . ويحدث ذلك في القوس الصعودي ، والحركة الإنعطافية . في حين تعتبر هذه الحركة التقهقرية التي ذكرت لتفسير المعراج الروحاني ، على خلاف سنة الله الجارية في الكائنات ، وخاصّة في الأنبياء ، وعلى الأخص في النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم أجمعين . وإنما يشبه هذا السلوك ، حال المجذوبية المتوفرة في صنف من الملائكة المهيّمة المتحيّرة في ذات ذي الجلال ، الذين غفلوا نهائيا عن الكثرات ، ولم ينتبهوا إلى أن هناك مخلوقا باسم الإنسان والعالم .
يقول الشيخ العارف الكامل الشاه آبادي ـ روحي فداه ـ (إن الحالة الروحية للنبي آدم عليه السلام كانت تجذبه نحو عالم الغيب والمقام المقدّس ، وتُبعده عن عالم مُلكه وعالمه الطبيعي ، ومثل هذه الحركة الجذبية كانت تبعث على سلب الآدمية عن آدم عليه السلام ، فسلّط الحق المتعالي ، الشيطان عليه لكي ينتبه إلى شجرة الطبيعة وينعطف عن الجذبة الملكوتية ، وينصرف إلى عالم الملك والطبيعة) .
قوله عليه السلام : «والعدل والإحسان» الظاهر أنهما معطوفان على قوله «الأمر بالمعروف» أي : إعرِفوهم بالأمر بالمعروف وبالعدل والإحسان . ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله «المعروف» أي : إعرفوهم بالأمر بالمعروف وبالأمر بالعدل والإحسان .

فصل
في بيان المقصود من قوله : اعرفوا الله بالله

إعلم إن كل واحد من العلماء رضوان الله تعالى عليهم قد تناول هذه الجملة «إعرفوا الله بالله» وشَرَحَها على ضوء مسلكه العلمي أو مذهبه الفلسفي . ونحن لأجل التبرك بكلام الأجلاء نذكر بصورة مختصرة بعض تلك الآراء وهي :
الأول : قال ثقة الإسلام الكليني رضوان الله تعالى عليه «ومعنى قوله عليه السلام اعرفوا الله بالله يعني أن الله خلق الأشخاص والأنوار والجواهر والأعيان ـ فالأعيان الأبدان والجواهر الأرواح ـ وهو جل وعز لا يشبه جسما ولا روحا وليس لأحد في خلق الروح الحسّاس الدرّاك أمر

الاربعون حديثاً 561

ولا سبب وهو المتفرد بخلق الأرواح والأجسام فإذا نفى عنه الشبهين : شبه الأبدان وشبه الأرواح فقد عرف الله بالله وإذا شبهه بالروح أو البدن أو النور فلم يعرف الله بالله» (1) .
ومن الغريب أن صدر المتألهين قدس سره اعتبر هذا الكلام من تتمة الحديث فأخذ بشرحه وتفسيره على أساس مذهبه في الفلسفة .
الثاني : قال الشيخ الصدوق رضوان الله عليه بعد إيراد الخبر ، ما حاصله : «عرفنا الله بالله لأنا إن عرفناه بعقولنا فهو عز وجل واهبها وإن عرفناه عز وجل بأنبيائه ورسله وحججه عليهم السلام فهو عز وجل باعثهم ومرسلهم ومتخذهم حجبا وإن عرفناه بأنفسنا فهو عز وجل محدثها فبه عرفناه» (2) .
الثالث : ما أشار إليه صدر المتألهين . حيث قال إن هناك سبيلان لمعرفة الحق المتعالي (أحدهما : المشاهدة وصريح العرفان . ثانيهما : التنزيه والتقديس . وحيث أن السبيل الأول لا يتيسّر إلا للأنبياء والكُمّلين اختار عليه الصلاة والسلام بيان الطريق الثاني في الحديث) . انتهى .
ويتوقف هذا التفسير على اعتبار كلام الشيخ الكليني جزءا من الحديث الشريف . واعتبار حديث الإمام الصادق عليه السلام ، كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .
الرابع : قال المحقق فيض الكاشاني عليه الرحمة : «إن لكل شيء ماهية هو بها هو ، وهي وجهه الذي إلى ذاته كذلك لكل شيء حقيقته محيطة به ، بها قوام ذاته وبها ظهور آثاره وصفاته ، وبها حوله عما يَرِدُ به ويضرّه وقوّته على ما ينفعه ويسرّه وهي وجهه الذي إلى الله سبحانه ، وإليهما أشير بقوله عز وجل«والله بكل شيء محيط» (3) وبقوله سبحانه «وهو معكم أينما كنتم» (4) وبقوله تعالى «وهو أقرب إليه من حبل الوريد» (5) وبقوله سبحانه «ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تُبصرون» (6) وبقوله «كل شيء هالك إلا وجهه» (7) فإن تلك الحقيقة التي تبقى بعد فناء الأشياء فقوله عليه السلام اعرفوا الله بالله معناه انظروا في الأشياء إلى وجوهها التي إلى الله سبحانه بعد أن أثبتم أن لها ربا صانعا فاطلبوا معرفته بأمارة فيها من حيث تدبيره لها وقيوميته عليها وتسخيره لها أو إحاطته بها وقهره إياها حتى تعرفوا الله بهذه الصفات القائمة به ولا تنظروا إلى

(1) أصول الكافي ، المجلد 1 ، باب أنه لا يعرف إلا به ، ح 1 .
(2) مرآة العقول ، المجلد 1 ، ص 298 .
(3) سورة فصلت ، آية : 54 .
(4) سورة الحديد ، آية : 4 .
(5) سورة ق ، آية : 16 .
(6) سورة الواقعة ، آية : 85 .
(7) سورة القصص ، آية : 88 .
الاربعون حديثاً 562

وجوهها التي إلى نفسها أعني من حيث أنها أشياء لها ماهيات لا يمكن أن توجد بذواتها ، بل مفتقرة إلى موجد يوجدها فإنكم إذا نظرتم إليها من هذه الجهة تكونوا قد عرفتم الله بالأشياء ، فلن تعرفوه إذن حق المعرفة ، فإن معرفة مجرد كون الشيء مفتقرا إليه في وجود الأشياء ليست بمعرفة في الحقيقة .
على أن ذلك غير محتاج إليه لما عرفت أنها فطرية بخلاف النظر الأول فإنكم تنظرون في الأشياء أولا إلى الله عز وجل وآثاره من حيث هي آثاره ، ثم إلى الأشياء وافتقارها في انفسها»(1) .
الخامس : الاحتمال الذي قد خطر على بال الكاتب وهو يبتنى على مقدمة مذكورة في علم الأسماء والصفات ، وهي أن للذات المقدس الحق عز جلاله اعتبارات ، وأن لكل اعتبار إصطلاحا خاصا به . هي :
منها : اعتبار الذات من حيث هو ، أي الذات المجهول بصورة مطلقة ، من دون أن يكون له اسم أو رسم ومن دون إمكان بلوغ آمال العرفاء ، وذوي القلوب والأولياء إليه . وقد يعبّر عنه حينا لدى أرباب المعرفة بعنقاء المُغرِب . قال الشاعر :
أيها الصياد انتبه بأن العنقاء لا يسقط في الفخ فاسحب مصيدتك !

وحينا آخر بالعماء أو العمى ، رُوي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : «أين كان ربك قبل أن يخلق الخلق ؟ قال : في عَماء» . وحينا ثالثا بغيب الغيوب والغيب المطلق وغير ذلك ، فإن كل هذه التعبيرات والمصطلحات ، تكون قاصرة عن أداء المعنى . وأن العنقاء والعماء والتعبيرات الأخرى المذكورة لدى العرفاء الموافقة لنوع من الأدلة والبراهين ، غير مرتبطة بهذا المقام .
ومنها : اعتبار الذات حسب مقام التعين الغيبي ، وعدم الظهور المطلق ، المسمّى بمقام الأحدية . والتعبيرات المذكورة في الاعتبار السابق تتلاءم مع هذا المقام : ويتحول في هذا المقام اعتبار الأسماء الذاتية ، حسب إصطلاح العلماء ، إلى الأسماء مثل : الباطن المطلق ، والأول المطلق ، والعلي والعظيم ، كما يستفاد من حديث (الكافي) أن أول اسم اتخذه الحق لنفسه هو العلي العظيم .
ومنها : اعتبار الذات حسب مقام الواحدية ، ومقام جمع الأسماء والصفات ، الذي عبر عنه بمقام الواحدية ومقام الأحدية لجمع الأسماء وجمع الجمع وغير ذلك . ويقال لهذا المقام باعتبار مقام أحدية الجمع ، مقام الاسم الأعظم والاسم الجامع «الله» .

(1) كتاب الوافي ، ص 75 منشورات مكتبة المرعشي ـ قم .
الاربعون حديثاً 563

ومنها : إعتبار الذات حسب مرتبة التجلّي بالفيض المقدس ، ومقام ظهور الأسماء والصفات في مرائي الأعيان ، كما أن مقام الواحدية يكون بسبب تجلي الفيض الأقدس . ويقال لهذا المقام الذي هو مقام ظهور الأسماء ، مقام الظهور الإطلاقي ومقام الألوهية ومقام الله أيضا حسب الاعتبارات المقررة في الأسماء والصفات . وقد شرحناها في كتاب (مصباح الهداية) .
ولا بد من معرفة أن هذه الاعتبارات المذكورة على ألسنة أهل المعرفة وأصحاب القلوب ، إخبار عن دور تجليات الحق سبحانه على قلوبهم الصافية ، وتكون تلك التجليات حسب مراتب ومقامات سلوك الأولياء ، وحسب منازل سير السائرين إلى الله ومراحله ، مبتدئة من مقام ظهور الأسماء والصفات ، الذي هو مقام الإلوهية والمسمى بـ «الله» والتي تكون آية «الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكوة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ، ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم» (1) إشارة إلى ذلك ، ومنتهية بمقام الغيب الأحدي ، ومرتبة الأسماء الذاتية والاسم المستأثر ، الذي يكون نهاية السير والمقصد . ويمكن أن يكون قوله تعالى «أو أدنى» (2) إشارة إلى هذا المقام .
وبعد هذه المقدمة نقول : إن الإنسان عندما يلجأ إلى الفكر والبرهان في طلبه للحق وسيره إلى الله ، يكون سيره عقليا علميا ، ولا يكون من نوع سير أهل المعرفة وأرباب العرفان ، لأنه قد سقط في الحجاب الأكبر والأعظم ، من دون فرق بين أن ينظر إلى الأشياء من ماهياتها ، والتي تعتبر الحجب الظلمانية ، ويبحث عن الحق المتعالي من خلالها ، أو ينظر إلى الأشياء من خلال وجوداتها التي تكون حجبا نورانية وهي التي يشير إليها المرحوم الفيض الكاشاني في الاحتمال الرابع المتقدم .
إن الشرط الأول في السير إلى الله ، هو الخروج من البيت المظلم للنفس والذات والأنانية . فكما أن الإنسان في السفر الخارجي العيني المحسوس ، لا يكون مسافرا ما دام هو في مكانه وبيته رغم تخيّله السفر وتحدثه عن كونه مسافرا ، بل لا بد من ترك المكان ومغادرة البيت حتى يقال أنه مسافر ، وكما أن السفر الشرعي لا يتحقق إلا بعد مغادرة البلد واختفاء آثاره ، فكذلك لا يتحقق هذا السفر العرفاني إلى الله ، والهجرة الشهودية إلا بعد التخلي عن البيت المظلم للنفس واختفاء آثارها ومعالمها ، لأنه ما دامت آثار التعينات مشهودة وأصوات الكثرات مسموعة ، لا يكون الإنسان مسافرا ، بل أنه تخيل السفر وادعى السير والسلوك قال الله

(1) سورة النور ، آية : 35 .
(2) سورة النجم ، آية : 9 .
الاربعون حديثاً 564

تعالى :ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يُدركه الموت فقد وقع أجره على الله»(1) .
فبعد أن يغادر السالك إلى الله بخطوات ترويض النفس والتقوى الكاملة من بيت النفس ، ولم يصطحب معه في هذا الخروج العُلقة الدنيوية ، والتعيّنات ، ويتحقق له السفر إلى الله سبحانه ، يتجلى له الحق المتعالي قبل كل شيء ، على قلبه المقدس بالألوهية ومقام ظهور الأسماء والصفات . ويكون هذا التجلي أيضا مرتّبا ومنظما ، حيث ينطلق من الأسماء المحاطة مرورا بالأسماء المحيطة حسب شدة السير وضعفه وحسب قوة قلب السالك وضعفه على التفصيل الذي لا يستوعبه هذا الكتاب المختصر ، حتى ينتهي إلى رفض كل تعينات عالم الوجود سواء كانت تعينات تعود إلى نفسه أو تعينات راجعة إلى غيره والتي تعتبر ـ أي هذه التعيينات الغيرية ـ في المنازل والمراحل التالية من التعينات العائدة إلى نفسه أيضا ويعد الرفض المطلق ، يتم التجلي بالأهولية ، ومقام الله الذي هو مقام أحدية جمع ظهور الأسماء ، وتظهر «إعرِفوا الله بالله» في مرتبتها الأولية النازلة .
ولدى وصول العارف إلى هذا المقام والمنزلة ، يفنى في هذا التجلي ، فإذا وسعته العناية الأزلية ، لحصل للعارف الفاني في هذا التجلّي ، إستيناساً ، ولزالت عنه وحشة الطريق ونَصَب السفر ، وإستفاق ، فلم يقتنع بهذا المقام ، ويستمر بخطوات ملؤها الشوق والعشق ، وفي سفر العشق هذا يكون الحق المتعالي مبدأ السفر والباعث على السفر ونهاية السفر ، وتتم خطواته في أنوار التجلي ، ويسمع هاتفا يقول له «تقدَّم» ويستمر في التقدم إلى أن تتجلى في قلبه بصورة مرتبة ومنظمة ، الأسماء والصفات في مقام الواحديّة ، حتى يبلغ مقام الأحديّة ، ومقام الإسم الاعظم الذي هو إسم الله ، فيتحقق في هذا المقام (إعرِفوا الله بالله) في مرتبة عالية . ويوجد أيضا بعد هذا المقام ، مقام آخر لا مجال لذكره فعلا .
ومع هذا الذي ذكرنا ، أضفى مقام عرفان الرسول على الرسالة وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان ، ترتيبا عرفانيا بديعا يحتاج إلى شرح مقام الرسالة والولاية . وهو لا يتناسب مع مستوى هذا الكتاب . وقد تولّى التفصيل في ذلك الكتاب (مصباح الهداية) الذي ذكرته سلفا .


دفع وهم
في بيان عدم حمل الاحاديث المأثورة على المعاني الدارجة

لا يظن بأن مقصودنا من شرح الحديث الشريف على ضوء مسلك أهل العرفان ، هو

(1) سورة النساء ، آية : 100 .
الاربعون حديثاً 565

حصر معنى الحديث في ذلك ، حتى يكون من قبيل الرجم بالغيب والتفسير بالرأي ، بل هو من أجل دفع توهم حصر معاني الأحاديث المنقولة في باب معارف أصول الدين ، في المعاني الرائجة العرفية .
وإن الملمّ بأحاديث الأئمة عليهم السلام يعرف بأن تفسير الأخبار المأثورة عنهم عليهم السلام في العقائد ومعارف أصول الدين على أساس الفهم العرفي الشائع لا يكون سديدا وصحيحا ، بل إنها تحتوى على أدق المعاني الفلسفية ، وقمة معارف أهل المعرفة . ومن يرجع إلى كتاب (أصول الكافي) وكتاب (التوحيد) للشيخ الصدوق عليه الرحمة ، يذعن لما قلناه .
ولا يتنافى هذا التفسير الدقيق العرفاني مع صياغة أئمة أهل المعرفة ، العلماء بالله لكلامهم الشريف في اسلوب جامع ، تقطف كل طائفة حسب مسلكها قدراً من الثمار ، ولا يحق لأحد أن يقصر الحديث في المعنى الذي ارتآه . مثلا : نستطيع أن نشرح الحديث الشريف المذكور ، شرحا عرفيا رائجا يتطابق مع ظهور الألفاظ وفهم الناس بأن نقول أن معنى «إعرفوا الله بالله» هو إعرفوا الله بآثار صنعه واتقان عمله اللذين يكونان من آثار الألوهية . كما أنه يجب معرفة النبي بالرسالة وآثاره المتقنة لدعوته ، ومعرفة أولي الأمر بكيفية أعمالهم من قبيل الأمر بالمعروف والعدالة . حيث نتعرف من خلال الآثار على أصحابها . وهذا لا يتنافى مع وجود معنى أدق للحديث ، يكون بمثابة البطن له . ووجود معنى آخر أيضا أدق من المعنى الثاني يكون بمنزلة بطن البطن .
وعلى أي حال إن مقارنة كلام الأولياء عليهم السلام بكلام أمثالنا غير صحيحة ، كما أن قياس أشخاصهم عليهم السلام على أشخاص من أمثالنا مجحف وباطل . ولا أستطيع أن أشرح هذا الموضوع الغامض بصورة مفصلة مع بيان فلسفته وسببه .
ومن غرائب الأمور : أن بعضا يطعن في هذه المعاني الرقيقة العرفانيّة والفلسفية ويعترض عليها قائلا : إن أحاديث أئمة الهدى عليهم السلام لتوجيه الناس ، فلا بد وأن تتوافق مع الفهم العرفي ، ويجب أن لا تصدر عنهم المفاهيم الفلسفية أو العرفانية التي لا ينالها الفهم العرفي لعامة الناس .
إن هذا افتراء مستنكر وتهمة بذيئة نجمت عن قلة التدبر في أخبار أهل البيت عليهم السلام ومعارف الأنبياء وعدم التجوال فيها .
فواعجباً لو أن الأنبياء والأولياء عليهم السلام لم يقصدوا تعليم الناس ، دقائق التوحيد ، ومعارف الأنبياء فمن كان بإمكانه أن ينهض بمثل هذا التعليم ؟
هل أن التوحيد والمعارف الأخرى العقائدية ، لا تستبطن الدقائق العلمية ، وإن الناس

الاربعون حديثاً 566

جميعا في استيعابهم للمعارف على مستوىً واحد ؟
هل أن معارف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، مع معارفنا في درجة واحدة ؟ وأن معارفه صلوات الله وسلامه عليه ، هي المعارف الشائعة الموجودة لدى الناس أو إنها تختلف عن معارفنا ؟
وهل أن تعليم تلك المعارف والعلوم المختزنة لدى أهل البيت عليهم السلام غير ضروري بل غير محبذ ؟ أو أنه لا يكون واحدا مما تقدم وأن الأئمة عليهم السلام لم يهتموا لهذه المعارف ؟
وهل من المعقول أن من لا يتوانى في بيان الآداب المستحبة للنوم و الأكل وبيت الخلاء و... قد غفل عن بيان المعارف الإلهية التي هي منتهى أمل الأولياء ؟ .
والأغرب من ذلك أن بعض هؤلاء المعترضين الرافضين لهذه المعاني الدقيقة قد تناولوا الأخبار الفقهية المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام ودققوا فيها بدرجة يعجز عن فهمها العقل فضلا عن العرف وينسبون المعنى العميق الذي استخلصوه إلى الارتكاز العرفي رغم أنه من المسلّم به أن فهم الأخبار الفقهية موكول إلى العرف . ومن ينكر ما ذكرته ، فعليه مراجعة المباحث التي وردت في قاعدة (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) وأمثالها من القواعد الفقهية الكلية وخاصة المرتبطة منها بالمعاملات ، حتى يفهم مستوى التعمق والتدقيق في كلمات الأئمة عليهم السلام في الأحكام وفروع الدين .
وعلى أي حال إن البحث قد خرج من أيادينا ، والقلم قد تمرّد علينا ، والكاتب يُشهد الله عز وجل على أنه لا يقصد من هذا الكلام إلا تعريف اخوانه في الله بالمعارف الإلهية .وأستغفر الله من الزلل والفشل والكسل ، والحمد لله أولا وآخرا .

الاربعون حديثاً 567

الحديث الثامن والثلاثون

ان الله خلق آدم على صورته


الاربعون حديثاً 568

بالسند المتصل إلى الشيخ الجليل عماد الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ـ رضوان الله عليه ـ عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن ابيه ، عن عبد الله بن بحر ، عن أبي أيّوب الخزّاز ، عن محمد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر عليه السلام عما يَروون أن الله خلق آدم عليه السلام على صورته ، فقال : هي صورة مُحدَثَة مخلوقة [و] اصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه فقال : «بيتي» و « نفخت فيه من روحي» (1) .

(1) أصول الكافي ، المجلد الأول ، كتاب التوحيد ، باب الروح ، ح 4 .
الاربعون حديثاً 569

الشرح :


إن صدر هذا الحديث من الأحاديث المشهورة في أيام الأئمة عليهم السلام إلى يومنا هذا . وأن الفريقان السنة والشيعة يستشهدون به في كتبهما . وقد أيّد الإمام الباقر سلام الله عليه صدور هذا الحديث وصدّقه وتولى بيان المقصود منه :
وهناك حديث آخر رواه الصدوق في كتاب (عيون أخبار الرضا) عليه السلام بسنده إلى ثامن الحجج عليهم السلام (عن الحسين بن خالد قال : قلت للرضا عليه السلام : يا ابن رسول الله إن الناس يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن الله خلق آدم على صورته فقال : قاتَلهم الله قد حذفوا أول الحديث إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر برَجُلَين يتسابّان فسمع أحدهما يقول لصاحبه قبّح الله وجهك ووجه من يُشبهك فقال عليه السلام : يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته) (1) .
ولأجل هذا قال المرحوم المجلسي (أولم يتعرض لنفيه تقية) (2) واحتمل أيضا رحمه الله أن الإمام عليه السلام (أجاب هكذا على تقدير تسليم الخبر) (3) ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا .
ويحتمل أن يكون الحديث المروي عن الإمام الرضا عليه السلام ، قد أرجع إلى الحديث الأول ويكون المقصود من «آدم» في نهاية الخبر «إن الله خلق آدم على صورته» هو نوع الإنسان ، ويعود الضمير في قوله «على صورته» إلى الحق المتعالي ، ولمّا علم الإمام الرضا عليه السلام بأن الراوي ليس في مستوى الاستيعاب والفهم لمدلول الحديث الشريف إقتصر صلوات الله عليه على ذكر صدر الحديث ، حتى يتخيل الرواي بأن المقصود من آدم ، هو أبو البشر ، وان ضمير على صورته يرجع إليه . تأمل .

(1) بحار الأنوار ، المجلد الرابع ، الباب 3 ، من كتاب التوحيد ح 1 ، ص 11 .
(2) و (3) مرآة العقول ج 2 ، ص 84 .
الاربعون حديثاً 570

ولعل الحديثين قد صدرا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث الإمام الرضا عليه السلام . ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حدّث تارة من دون ذكر أول الحديث وهو ما رواه الإمام الباقر عليه السلام بصورة مختصرة . وحدّث صلى الله عليه وآله وسلم مرة أخرى مع تلك البداية وذلك المدخل . وحيث أن الإمام الرضا عليه السلام قد عرف بأن الراوي لا يستوعب معنى الحديث ، أشار عليه السلام إلى الحديث الشريف المبدوّ بذلك المدخل . والشاهد عليه أن بعض الروايات تشتمل على جملة (صورة الرحمن) بدلا عن (صورته) وهذا لا ينسجم مع الحديث المروي في كتاب (عيون الرضا) الظاهر في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أتى على ذكر ـ على صورته ـ مع الضمير مرتين .
وإذا فرضنا بأن الحديث الشريف المذكور لم يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن معناه موجود في الأحاديث الشريفة الأخرى كما نشرح ذلك إنشاء الله .
فلنرجع إلى شرح ألفاظ الحديث الشريف :
قوله عليه السلام : «آدم» يقول الجوهري في (صحاحه) : (أصله)( أأدم على وزن أفعل ، بدّلت الهمزة الثانية إلى الألف وتحوّل الألف إلى الواو لدى تحريكها . وجمها أوادم) . ويحتمل أن يكون وجه تسمية أبي البشر بـ (آدَمَ) هو أنه عليه السلام كان أسمر اللون ففي اللغة الآدم من الناس : الأسمر . وفي بعض الروايات أن سبب التسمية بآدم هو أنه من أديم الأرض أي من على وجه الأرض .
قوله عليه السلام : «على صورته» . إن الصورة في اللغة ، بمعنى التمثال والهيئة . ونستطيع أن نقول بأن للصورة معنى عاما مشتركا بين الأمور ، وذلك المعنى المشترك هو شيئية الشيء وفعليته ، غاية الأمر أن لكل شيء فعلية خاصة به . ومن هذا المنطلق يقال للشيء بذي الصورة وللفعلية بالصورة . وما قيل في الفلسفة في معنى الصورة الذي تعمّه وتشمله فعلية الشيء وشيئيته لا يتنافى مع المعنى اللغوي ، ولا يكون من قبيل تقارن وضعين للفظ واحد على معنى واحد في نوعين من العلم . كما لا يكون مصطلحا .
قال الشيخ أبو علي ابن سينا رئيس فلاسفة الإسلام في إلهيات كتابه (الشفا) : (ويقال صورة لكل هيئة وفعل يكون في قابل وحداني أو بالتركيب ، حتى تكون الحركات والأعراض صورا . ويقال صورة لما تتقدم به المادة بالفعل فلا تكون حينئذ الجواهر العقلية والأعراض صورا . ويقال صورة لما تكمل به المادة وإن لم تكن متقدمة بها بالفعل ، مثل الصورة وما يتحرك بها إليها بالطبع . ويقال صورة خاصة لما يحدث في المواد بالصناعة من الأشكال وغيرها .

الاربعون حديثاً 571

ويقال صورة لنوع الشيء ولجنسه ولفصله ولجميع ذلك ، وتكون كلية الكلى صورة للأجزاء أيضا) (1) .
ويستفاد بعد التأمل في كل موارد استعمال الصورة ، أن المعنى في جميع تلك الموارد ، هو الفعلية التي ذكرناها فيكون استعمال الصورة في هذه الموارد على أساس الاشتراك المعنوي . ويقال للحق المتعالي صورة الصور .
قوله عليه السلام : «إصطفاها» تكون «الصفوة» بمعنى الخالص من الشوائب ، والصافي من الكدر و «الاصطفاء» هو أخذ الخالص والصافي هو يلازم الخالص . ولكن رأي الجوهري وغيره أن «الاصطفاء» بمعنى الاختيار ، كما فسّروا في اللغة «الاختيار» بـ «الاصطفاء» وهذا أيضا من التفسير باللازم ، لأن الاختيار أيضا بمعنى أخذ ما هو خير وحسن ، فيكون لازما لواقع الاصطفاء في الخارج ، وليس بمدلول مطابقي للإختيار .
قوله عليه السلام : «الكعبة» . إن الكعبة اسم لبيت الله . وإنما سُمي البيت بالكعبة لما قاله بعض بأنه يضاهي الجسم المعكب أو لكونه مربعا . والمكعب لدى الرياضيين هو الجسم المحفوف بسطوح ستة تكون الزاوايا فيها قائمة .
قوله عليه السلام : «والروح» . إن الروح لدى الأطباء عبارة عن البخار اللطيف الناجم عن حرارة دم الحيوان في القلب . يقال إن للقلب تجويفين : الأول في الجانب الأيمن حيث يتدفق الدم من الكبد باتجاه هذا التجويف ومن جراء حرارة القلب يتبخر الدم ، ويتسرّب البخار إلى التجويف الثاني الكائن في الجانب الأيسر من القلب ، فيتلطّف من وراء حركات القلب ، فيتكون الروح الحيواني منه ، وتسري في الشرايين نتيجة ضخ القلب بالبسط والقبض ، حسب البيان المذكور في محله . إذن مصدر الروح الحيواني هي القلب ، ومجراها الشرايين .
وقد تطلق الروح على الدم المتجمع في الكبد ، والذي يمشي في الأوردة ، ويسمى بالروح الطبيعية . كما أنه قد تستعمل الروح في مصطلح الحكماء ، في الروح النفسية التي تنبعث من الدماغ ، وتجري في الأعصاب ، وتكون مظهرا ومرتبة نازلة من الروح المجرد ، التي هي السر السبحاني ، وروح الله المشار إليها بقوله تعالى : «ونفخت فيه من روحي» . وبعد هذا نستعرض ونبين بأن هذه الروح تنفخ بالنفخة الإلهية ، وتصطفي لدى الحق جل وعلا وتصير مختارة لديه سبحانه .

(1) الشفاء ، المجلد الثاني من الإلهيات ، ص 282 ، منشورات مكتبة المرعشي ، قم .
الاربعون حديثاً 572

فصل
في بيان ان الانسان مظهر تام لله والاسم الاعظم للحق جل وعلا

إعلم : يقول أرباب المعرفة وأصحاب القلوب ، بأن لكل اسم من الأسماء الإلهية لدى الحضرة الواحدية ، صورة ، تابعة للتجلي بالفيض الأقدس لدى الحضرة العلمية ، وذلك بواسطة الحب الذاتي وطلب مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو ، ويعبّر لدى أهل الله عن تلك الصورة بـ «العين الثابتة» وتحصل أولا ، من جراء هذا التجلي بالفيض الأقدس ، التعيّنات الاسمائية ، ويتحقق ثانيا ، بسبب هذه التعينات الاسمائية ، صور الأسماء التي هي الأعيان الثابتة . والاسم الأول الذي يبرز ويظهر مع مرآته ، بتجلي الأحدية ، والفيض الأقدس ، لدى حضرة العلمية الواحدية ، هو الاسم الأعظم الجامع الإلهي ، والمقام المسمى بـ «الله» الذي يكون من الناحية الغيبية عين التجلي بالفيض الأقدس . وفي التجلي الظهوري يكون كمال الجلاء والاستجلاء عين مقام جمع الواحدية ، باعتبار وعين الكثرة الاسمية باعتبار آخر . وإن تعين الاسم الجامع وصورته ، عبارة عن العين الثابتة للإنسان الكامل ، وعن الحقيقة المحمدية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم . كما أن مظهر التجلي الحقيقي للفيض الأقدس هو الفيض المقدس ، وأن مظهر التجلي لمقام الواحدية ، هو مقام الألوهية ، وأن مظهر التجلي لحقيقة الإنسان الكامل الثابتة ، هي الروح الأعظم ، وأن كافة الموجودات الإسمية والعلمية والعينية ـ الخارجية ـ تكون مظاهر كلية وجزئية لهذه الحقائق والرقائق على أساس ترتيب بديع لا يسعه هذا الكتاب المختصر وإنما ذكرناه في كتاب (مصباح الهداية) .
ويستفاد مما ذكرناه بأن الإنسان الكامل ، مظهر الاسم الجامع ، ومرآة تجلي الاسم الأعظم . كما أشير إلى هذا المعنى في الكتاب والسنة كثيرا . قال الله تعالى :«وعلّم آدم الأسماء كلها» (1)وقد تم هذا التعليم الإلهي على يدي الجمال والجلال تجاه باطن آدم بواسطة التخمير الغيبي الجمعي ، لدى الحضرة الواحدية كما أنه تم التعليم الإلهي تجاه صورة آدم وظاهره ، في عالم الشهادة بمظهر الطبيعي المادي ، بواسطة ظهور يدي الجلال والجمال . قال تعالى :«إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبَين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا» (2) .
وتكون الأمانة لدى العرفاء الولاية المطلقة التي لا يليق بها غير الإنسان ، وهذه الولاية المطلقة ، هي مقام الفيض المقدس . وقد أشير إليه في القرآن الكريم بقوله تعالى : «كل شيء

(1) سورة البقرة ، آية : 31 .
(2) سورة الأحزاب ، آية : 72 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي