الاربعون حديثاً 544

الكمالية الحقيقية ، مثل العلم والقدرة والسمع والبصر . وهذا من المباحث المهمة التي يكون الإسهاب فيها خارجا عن حدود هذا الكتاب . ونحن نشير إلى المذهب الحق الموافق للبراهين السديدة للفلاسفة والمطابق لمنهج أهل المعرفة .
إعلم أنه قد ثبت في محله ، أن ما هو من سنخ الكمال والجمال والتمام ، فهو راجع إلى عين الوجود ، وحقيقته ، وأن الشيء الوحيد الأصيل الشريف في هذا الكون الذي يكون مصدرا لكل الكمالات ، ومصدرا لكافة الخيرات ، هو حقيقة الوجود . وإذا لم تكن الكمالات عين حقيقة الوجود ، وكانت مغايرة في حاق الواقع مع حقيقة الوجود ، للزم تحقق أصلين في عالم الوجود ، ولبعث على مفاسد كثيرة . فكل ما يكون كمالا ، لا يكون بحسب المفهوم والماهية كمالا ، وإنما يكون كمالا بواسطة تحققه وتحصّله في عالم الأعيان ، وما هو موجود ومتحقق في حاق الأعيان ونفس الأمر هو أصل واحد ، وهو الوجود فيعود كل ما هو كمال إلى أصل واحد وهو حقيقة الوجود .
وقد ثبت أيضا أن حقيقة الوجود ، أمر بسيط من جميع الجهات ، وبريء من التركيب بصورة مطلقة ، ما دام محافظا وباقيا على ذاته الأصيلة ، وحقيقته الخالصة . وإذا تنزل عن أصالته وحقيقته ، لغدا مركبا عقليا أو خارجيا حسب مشهده ، ومنزلته . فهو بسيط ذاتا ومركب نتيجة طرو أمر غريب عرضي خارج عن ذاته . وتستفاد من هذا البيان المذكور ، قاعدتان :
القاعدة الأولى : أن البسيط من جميع الجهات هو بنفسه جميع الكمالات من حيثية واحدة ، وجهة فريدة ، فمن الحيثية التي بها صار البسيط من جميع الجهات موجودا ، يكون عالما وقادرا وحيا ومريدا ، ويصدق عليه جميع الأسماء والصفات الجمالية والجلالية ، فهو عالم من حيث أنه قادر ، وقادر من حيث أنه عالم من دون أدنى اختلاف اعتباري حتى لدى العقل . وأما تغاير مفاهيم الأسماء ، والموضوع الألفاظ في اللغة ، والتي تكون مفاهيم عقليّة متصوّرة على نحو لا بشرط ـ من دون تقييدها بالمدلول البسيط أو المركب ـ فهذا التغاير لا يتسرب إلى الحقيقة العينية ومن الواضح أن المفاهيم المختلفة للكمال ، تنتزع من شيء واحد ، بل حسب البيان المتقدم ـ أن بسيط الحقيقة ، بسيط من جميع الجهات ـ وعليه لا بد من انتزاع كل المفاهيم الكمالية من حيثية واحدة . وإذا انتزعت مفاهيم الكمال من حيثيات مختلفة ومصادر متعددة كما هو شأن بعض الممكنات ، لكان هذا التغاير أمرا عرضيا طارئا وناتجا من تنزل حقيقة الوجود ، وتشابكه مع العدم بالعرض .
القاعدة الثانية : إن الكامل من جميع الجهات وإن ما هو صرف الكمال والخير لا بد وأن يكون بسيطا من جميع الجهات .
وتستفاد أيضا بالتبع قاعدتان أُخريتان هما :

الاربعون حديثاً 545

إن المركب من أي نوع كان التركيب ، لم يكن بكامل من جميع الجهات ، إذ أن النقص والعدم قد تسرّبا إليه .
وأن الناقص لا يكون بسيطا بشكل مطلق .
إذن لما كان الحق المتعالي بسيطا تاما ، وبعيدا كل البعد عما يستلزم الإمكان والفقر والتعلق بالغير ، كان كاملا من جميع الجهات ، ومشتملا على جميع الأسماء والصفات ، وحقيقة أصيلة ، ووجودا صريحا من دون أن يخامره غير الوجود ، ويخالط الكمال غير الكمال ، فهو وجود صرف ، إذ لو تدخل غير الوجود فيه لتحقق شر التراكيب وهو عبارة عن التركيب بين الوجود والعدم . فهو صرف العلم وصرف الحياة وصرف القدرة وصرف البصر والسمع وكافة الكمالات . وعليه يصح كلام الإمام الصادق عليه السلام : «العلم ذاته والقدرة والسمع والبصر ذاته» .

نقل وتحقيق
في كلام الفلاسفة في تقسيم اوصاف الحق عز وجل

إعلم أن الفلاسفة الإلهيين الحكماء ، قد قسّموا صفات الحق سبحانه على أقسام ثلاثة :
الأول : الصفات الحقيقية . وصنّفوها إلى صنفين :
(أ) الصفات الحقيقية المحضة مثل الحياة والثبات والبقاء والأزلية وأمثال ذلك .
(ب) الصفات الحقيقية ذات الإضافة ، مثل العلم والقدرة والإرادة . وهذه الصفات قد أضيفت إلى شيء آخر مثل المعلوم والمقدور والمراد . وهذان الصنفان من الصفات الحقيقية ، يعتبران عين الذات .
الثاني : الصفات الإضافية المحضة ، مثل المبدئية والرازقية والراحمية ، والعالمية ، والقادرية وأمثالها .
الثالث : الصفات السلبية المحضة مثل القدوسية والفردية والسبوحية وأمثالها . ويعتبر العلماء هذين النوعين ـ الثاني والثالث ـ من الصفات الزائدة على الذات المقدس . كما وأنهم يرجعون جميع الصفات السلبية إلى سلب واحد هو سلب الإمكان . وجميع الصفات الإضافية إلى إضافة واحدة هي الموجدية ، ويرون بأن مبدأ الإضافات يعود إلى الإضافة الإشراقية والإفاضة النورية ـ صدور المعلول من العلة ـ .
ولا تكون هذه الأقسام من العينية في الصفات الحقيقية ، والزيادة في الصفات الإضافية والسلبية ، بالبيان الذي شرحوه ، وعلى ضوء البراهين التي أقاموها ، صحيحة عندي كما لا

الاربعون حديثاً 546

تتطابق مع الأدلة القويمة الفلسفية ، والاعتبار العرفاني الصحيح . وذلك إننا إذا حدثنا في صفات الله سبحانه ، على أساس مفاهيم الأسماء والصفات ، وملاحظة المفاهيم المتكثرة ، للزم أن لا نجعل صفة من الصفات ـ حتى الصفات الحقيقية ـ عين ذاته المقدس . وإذا جعلنا الذات عين مفاهيم الأوصاف الإضافية أو السلبية ، للزم أن يكون الحق سبحانه ، إضافة محضة وحيثية سلبية . وكذلك إذا جعلنا الذات عين مفاهيم الصفات الحقيقية ، للزم أن يكون الحق عز وجل نفس المفاهيم الاعتبارية والمعاني العقلية . تعالى عن ذلك .
وإن لاحظنا حقائق الأوصاف ـ لا مفاهيمها ـ والمصداق المتحقق للأسماء والصفات لكانت الأسماء والصفات الإضافية والحقيقية بأسرها عين الذات المقدس ، لأن الفرق بين العالمية والعالم ، والقادرية والقادر ، اعتباري ومفهومي . وأن الأوصاف الإضافية كافة ، تعود إلى الرحيمية والرحمانية الذاتيتين ، حتى الرازقية والخالقية وغيرهما .
وأما إرجاع جميع الصفات السلبية إلى صفة واحدة هي سلب الإمكان ، والصفات الإضافية إلى إضافة واحدة هي الموجودية ، وعدم إرجاع الأوصاف الحقيقية إلى شيء فكذلك لأنه إذا بحثنا الموضوع على ضوء المفاهيم ، لما عادت صفة من تلك الصفات إلى أخرى ، لا في الصفات السلبية ولا الصفات الإضافية ولا الصفات الحقيقية . ولو درسنا الموضوع على أساس الحقائق لا المفاهيم ، لرجعت جميع الأوصاف على ما هي من الأقسام والأنواع إلى صفة واجبة واحدة .

في تحقيق عينية الصفات مع الذات المقدس

وملخص الكلام أن التحقيق في أوصاف الحق سبحانه في ظل الفلسفة النظرية ، يفضي إلى القول بأن الأوصاف الحقيقية والإضافية ، على ضوء المفاهيم ، متغايرة ومختلفة ولا تكون إحداها عين الأخرى . وعلى ضوء الحقيقة والواقع فإن جميع الأوصاف تعود جميعا إلى الذات المقدس وتكون عينه . ولكن توجد للأوصاف مرتبتان :
أحدهما : مرتبة الذات والأوصاف الذاتية ، حيث نستطيع أن ننتزع من هذه المرتبة العلم والعالمية والقدرة والقادرية .
ثانيهما : مقام الأوصاف الفعلية ، الذي يكون أيضا من انتزاع مفهوم العلم والعالمية والقدرة والقادرية .
وأما الأوصاف السلبية مثل القدوس والسبوح والأسماء التنزيهية فإنها من لوازم الذات المقدس ، ويكون الذات المقدس مصداقا بالعرض لتلك الأوصاف السلبية ، لأن الحق المتعالي كمال مطلق ، ويصدق عليه سبحانه الكمال المطلق بالذات ـ لا بالعرض ـ لأنه

الاربعون حديثاً 547

سبحانه أساس الحقيقة وأصلها ، ومن لوازمه سلب النقائص ، فيكون الكمال مصداقا عرضيا لسلب النقائص .
ويرى أهل المعرفة وأصحاب القلوب أن مقام التجلي بالفيض الأقدس مبدأ للأسماء الذاتية . وأن مقام التجلي بالفيض المقدس ، مبدأ للأوصاف الفعلية ، ويعتقدون بأن هذا المقام ـ التجلي بالفيض المقدس ـ لا يكون (غيرا) ـ غير الذات ـ كما لا يكون (عينا) ـ عين الذات ـ .
والبحث في هذا الموضوع يفضي إلى البحث عن الأسماء والصفات على مسلك الفلاسفة ، ويخرج عما هو مقصود في هذا الكتاب .
لقد أرجع بعض العلماء صفات الحق المتعالي إلى الأمور العدمية ، وفسّروا العلم بعدم الجهل ، والقدرة بعدم العجز . ورأيت من العرفاء شخصا يصر على هذا المعنى وهو المرحوم العارف الجليل (قاضي سعيد القمي) حيث يتبع حسب الظاهر استاذه (رجب علي) بالبيان المذكور في كتاب (شرح التوحيد) . ونحن في سالف الزمان قد أجبنا على أدلته وعلى الأخبار التي يتمسك بظاهرها أجابة حاسمة .


فصل
في بيان العلم قبل الايجاد

ومن الأبحاث الشريفة التي أشار إليها هذا الحديث الشريف هو علم الله سبحانه بمخلوقاته في الأزل قبل إيجادها . لقد حصل خلاف عظيم في أصل هذا العلم وكيفيته من أنه يكون على نحو الإجمال أو التفصيل ؟ وهل إن هذا العلم يكون زائدا على الذات أو عينه ؟ وهل هو قبل الإيجاد أو معه ؟ وتفصيل ذلك موجود في كتب الفلاسفة . ونحن نقتصر على التحقيق في هذا الموضوع ونتجنب عرض الأقوال الأخرى ومناقشتها .
إعلم أنه قد ثبت لدى أصحاب البرهان ـ الفلاسفة ـ وأرباب العرفان ـ العرفاء ـ بأن هذا الحديث الشريف قد أومأ إلى أن العلم بالمعلوم قد كان في الأزل قبل الإيجاد ، وأن هذا العلم عين الذات المقدس ، وأن علمه سبحانه تفصيلي وليس بإجمالي حيث قال (والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مُبصر) ومن الواضح أن البصر والسمع شهود للمبصر والمسموع بصورة تفصيلية . وأشير أيضا في هذا الحديث إلى علمه التفصيلي سبحانه عندما يقول عليه السلام : «فإذا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم ـ الخ» لأنه سبحانه لم يجدد علمه بعد الإيجاد ، وإنما وقع العلم منه على المعلوم بعد حدوثه . ونحن سنذكر معنى وقوع العلم على المعلوم .

الاربعون حديثاً 548

وأما بيان هذا الموضوع الإيماني الشريف على مسلك المحققين من الفلاسفة فهو أنه بعد أن تبين في الفصل السابق ، أن الحق سبحانه وجود صرف وكمال صرف وأن الوجود الصرف مع بساطته ووحدته التامة ، جامع لجميع الكمالات ، ومستجمع لكمال جميع الموجودات ، وأن ما يكون خارجا عن إحاطته الوجودية فهو عدم ونقص وقصور ولا شيئية ، وأن نسبة المراتب الأخرى الوجودية إلى ذاته المقدس نسبة النقص إلى الكمال . بعد هذا نقول بأن العلم بالكمال المطلق علم بمطلق الكمال من دون نقص وقصور ، ومثل هذا العلم ، عين الكشف التفصيلي الكلي البسيط ، من دون أن يخرج من إحاطة علمه ، ذرة من الموجودات ، أزلا وأبدا ومن دون أن تتطرّق إليه سبحانه الكثرة والتركيب .
وأما على مسلك العرفاء ، فهو أن الحق سبحانه وتعالى مستجمع لجميع الأسماء والصفات ، في مقام الواحديّة ، ومقام جمع الأسماء ، وأن الأعيان الثابتة لجميع الموجودات ، من لوازم الأسماء الإلهية في مقام جمع الأسماء في الأزل ، قبل الإيجاد . وأن التجلي المطلق للذات سبحانه من مقام الأحدية وغيب الهوية ، هو كشف لجميع الأسماء والصفات ولوازمها من الأعيان الثابتة لكافة الموجودات ، بتجلي واحد ، وكشف بسيط مطلق . إذن يتم من خلال الكشف العلمي بواسطة تجلي الفيض الأقدس ، كشف الذات والأسماء والصفات والأعيان ، من دون حصول كثرة وتركيب .
وهذان المسلكان في منتهى الاتقان والسداد والمعرفة ، ولكن من جهة صعوبتهما ، وتوقفهما على استيعاب مبادئ فلسفية كثيرة وفهم مصطلحات أهل الله ، وأصحاب القلوب ـ العرفاء ـ ومن جهة أنه لولا معرفة تلك المقدمات والأنس التام والتمام بها وممارستها وحسن الظن الكامل بالعلماء بالله لما إستفيد شيء من هذه الأبحاث ، بل ازداد التحير ، وتضاعف التعقيد . فالأولى اللجوء في توضيح الموضوع إلى بيان سهل قريب إلى أفهام الناس .
فنقول : ـ إن علية واجب الوجود تعالى شأنه ، ومبدئيته ، تختلف عن علية الفاعل الطبيعي ، حيث أن العلة الطبيعية تركّب المواد الموجودة ، وتجزّأها ، مثل النجار الذي يغيّر القطعة الخشبية ، فيزيد قطعة وينقص أخرى . ومثل البنّاء الذي يجمع ويركب المواد الموجودة ، ولكن الحق المتعالي فاعل إلهي يخلق الأشياء بإرادته من دون حاجة إلى مواد أولية مسبقة ، وأن علمه وإرادته علة الظهور ووجود الأشياء ، فدار التحقق محاطة بعلمه ، وتخرج من غيب الهوية ، عندما يريد الله سبحانه إظهاره «وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو» (1) .
يقال إن مثل عالم الأعيان الخارجية بالنسبة إلى ذاته المقدس جل جلاله ، مثل الذهن

(1) سورة الأنعام ، آية : 59 .
الاربعون حديثاً 549

بالنسبة إلى نفس الإنسان ، حيث تخلق النفس في الذهن بإرادتها ما تريد ، وتظهر ما هو مكنون في غيب الهوية .
فجميع العوالم الموجودة محاطة بعلمه ، وتظهر منه ، وتعود إليه (إنا لله وإنا إليه راجعون) .
وبعبارة أوضح : إن العلم يسبب الشيء وعلّته التامة ، يستلزم العلم بذلك الشيء ، فإن علم المنجم بالخسوف والكسوف في ساعة محدّدة من يوم معلوم ، يكون نتيجة علمه بالأسباب ، حيث يرصد حركة الشمس والقمر ، وحيلولة القمر بين الأرض والشمس ، فيحصل له العلم بالكسوف والخسوف ، وإذا كان رصده دقيقا لَما تخلّف الكسوف والخسوف عن علمه .
ولَمّا كانت حلقات الأسباب والمسببات من هذا العالم تنتهي إلى الذات المقدس المبدأ لكل المبادئ ، وكان الحق سبحانه عالما بذاته ، وأن علمه بذاته الذي هو سبب لجميع الموجودات ، علم بالمسبب أيضا ، ولمّا كانت كذلك ، كان الله سبحانه عالما بكل الأشياء ، وكان علمه بنفسه سببا لظهور وخلق جميع الأشياء .
هذه هي الوجوه المذكورة في المقام لإثبات علمه سبحانه بالأشياء قبل خلقها وإيجادها ، ويستطيع كل واحد حسب نشأته أن يختار وجها منها ، رغم أن بعض الوجوه اسدّ وأوفى بكل المقصود .


فصل
في معنى سمع الحق سبحانه وبصره

من المباحث في باب أسماء الحق سبحانه وصفاته ، الدائرة بين الفلاسفة العظام هو إثبات السمع والبصر للحق المتعالي ، حيث أرجع جمهور الفلاسفة والمتكلمين السمع والبصر إلى العلم ، ولكن الشيخ الجليل السهروردي الأشراقي ، أرجع العلم إلى البصر والسمع كل حسب بيان يسبّب ذكره الخروج عن الاختصار المنشود في الكتاب . ونحن نتولى بيان المسلك الصحيح والمذهب القويم كي يتضح من خلاله الحق ، في مطلق الأسماء والصفات .
إعلم أن كثيرا من الفلاسفة والكبار نتيجة الإهمال والغفلة عن بعض الحيثيات اختلفوا فيما بينهم ، وأرجع كل منهم بعض الأسماء والصفات إلى البعض الآخر ، حيث أن المعروف والمسلّم به عندهم تفسير إرادة الحق تعالى بعلمه سبحانه بالمصلحة والنظام الأتم . وإرجاع بعضهم السمع والبصر إلى العلم ، وبعضهم الآخر ، أرجع العلم إلى السمع والبصر .
ولكن هذه الآراء والتوجهات مخالفة لما يستدعيه التحقيق ، وناجمة عن إهمال الحيثيات . لأنه إذا كان المقصود من إرجاع الإرادة ، إلى العلم بالمصلحة ، أو إرجاع العلم إلى السمع أو السمع إلى العلم ، هو أن لا إرادة للحق سبحانه ولا سمع ولا بصر له وأن له سبحانه

الاربعون حديثاً 550

العلم وأن إرادته وسمعه وبصره قد سمّيت بالعلم ، فهذا باطل وتَقوّل فضيع على الحق سبحانه ، لأنه يستلزم أن يكون الحق المتعالي مبدأ للوجود من دون أن تكون له إرادة واختيار .
مضافا إلى ذلك : أن المقياس في باب إتصاف الحق سبحانه بالأوصاف الكمالية هو أن تلك الصفة لا بد وأن تثبت للموجود بما أنه موجود ، حتى تكون الصفة كمالية ، أي تكون الصفة ، نفس حقيقة الوجود ، ومن كمالات أصل ذات الوجود . ولا ريب أن الإرادة من الصفات الكمالية للحقيقة المطلقة الوجودية . ومن هنا كلّما تنزّل الوجود نحو المنازل السافلة ، كلما ضعفت الإرادة فيه ، حتى يصل إلى درجة تُسلب منه الإرادة ، ويراه الناس عديم الإرادة ، مثل الأمور الطبيعية من قبيل المعادن والنباتات . في حين أن الوجود كلّما سَما نحو الكمالات وتصاعد نحو الأفق الأعلى كلما ظهرت الإرادة فيه أكثر وأقوى ، كما نلمس ذلك في تسلسل الموجودات الطبيعية حيث أنه عندما نتجاوز مقام الهيولى والجسم والعنصر والمعدن والنبات تظهر الإرادة والعلم وكلما صعدنا أكثر كملت هذه الجوهرة أكثر ، حتى أن الإنسان الكامل يملك إرادة كاملة يستطيع أن يحوّل العنصر إلى عنصر آخر فإن عالم الطبيعة خاضع لإرادته . فنكتشف بأن الإرادة من الصفات الكمالية للوجود ، وللموجود بما أنه موجود ، ونثبت هذه الحقيقة للذات المقدّس الحق من دون رجوع إلى حقيقة أخرى .
وهكذا نجد بعد الدراسات العميقة الجديرة بالإذعان والتصديق أن السمع والبصر من كمالات الموجود المطلق ، فإن حقيقة السمع والبصر لا تقوم بالأدوات الجسمية ولا تكون من العلوم المادية المرتبطة بالآلات والأدوات ، بل المحتاج إلى الآلات هو النفس عندما تكون في عالم الطبيعة وترتبط بالبدن ، لكي يتم ظهور السمع والبصر . كما أنها في مقام العلم تحتاج أيضا إلى أداة تدعى بأم الدماغ ، لكي يتحقق العلم ويظهر في عالم المُلك والطبيعة . وهذا الاحتياج والنقص ينجم عن عالم الطبيعة والمُلك وليس من قصور ونقص في العلم والسمع والبصر .
ثم إن السمع والبصر لو تجرّدا ، واستغنيا عن المادة ، لاستطاعا البلوغ إلى مستوى رؤية حقائق عالم الغيب ، وسماع كلام الملكوتيين من الملائكة والروحانيين في الملأ الأعلى . كما أن موسى كليم الله في مناجاته ، كان يسمع كلام الحق وأن خاتم المرسلين المكرّم كان يتحدث مع الملائكة ، ويرى الصورة الملكوتية لجبرائيل ، من دون أن تسمع أذن أحد ذلك الحديث ـ حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع جبرائيل ـ وتبصر عين ذلك المشهد رغم حضور بعض الناس لدى نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعدم مشاهدتهم للمشهد .
وملخّص القول إن السمع والبصر من العلوم الزائدة على أصل العلم ، وأنهما يغايران حقيقة العلم ويعتبران من الكمالات المطلقة للوجود ، فلا بد من إثباتهما للحق المتعالي الذي

الاربعون حديثاً 551

يعد مبدأ للوجود ، ومصدرا لكمالاته .
وإن كان مقصودهم من إرجاع الإرادة ، والسمع والبصر إلى العلم أو العلم إلى الإرادة ، والسمع والبصر ، هو أن حيثية العلم والإرادة في الحق سبحانه حيثية واحدة وأنه لا حيثيات مختلفة للبصر والسمع والعلم في الحق المتعالي ، فهو كلام صحيح وموافق للبرهان ، ولكنه لا وجه لاختصاص هذا الكلام بهذه الأوصاف لأن جميع الأوصاف الكمالية تعود إلى حقيقة الوجود الصرف . ولا يتنافى هذا البيان مع ثبوت الأوصاف المتغايرة الكثيرة لذات الحق سبحانه ، بل يكون مؤكدا وداعما لها ، لأننا بيّنا بأن الوجود كلما كان أقرب إلى أفق الوحدة وأبعد من دائرة الكثرة كلما كان أجمع وأشمل تجاه الأسماء والصفات ، إلى أن نبلغ مقام صرف الوجود ، والحقيقة البسيطة الواجبة ـ جلّت عظمته وعظمت قدرته ـ الذي هو في منتهى الوحدة والبساطة ، ومستجمعا لجميع الكمالات ، وجامعا لجميع الأسماء والصفات ، حيث تصدق جميع مفاهيم الكمال ومعاني الجلال والجمال على نحو الحقيقة ـ لا المجاز ـ عليه سبحانه ، ويكون صدقها على الذات المقدس الحق ، أولى وأجدر بكل معاني ومراتب الأحقية والأولوية .
وخلاصة البيان أن الوحدة كلما كانت في الوجود أقوى وأتم ، كلما كان صدق مفاهيم الكمال عليه أوفى ، وعدد الأسماء والصفات فيه أوفر . وعلى العكس ، كلما كان الموجود إلى الكثرات أقرب ، كان صدق مفاهيم الكمال عليه أقل وكان ما تصدق عليه من مفاهيم الكمال ، أوهى وأقرب إلى المجاز ـ دون الحقيقة ـ وكل ذلك من أجل أن الوحدة تساوي الوجود ، وتعتبر من كمالات الموجود بما هو موجود ، ومعنى مساواة الوحدة للوجود ، هو أن الوجود مع الوحدة وإن اختلفتا مفهوما ، ولكن حقيقة الوجود نفس حقيقة الوحدة ، في الخارج كما أنه أينما كانت الكثرات كان هناك النقص والعدم والشر والضعف والفتور .
ولهذا كلما تهاوى الوجود في منحدر المراتب النازلة كانت الكثرات أكثر من جميع مراتب الوجود . ومقام الربوبية وساحته المقدسة جل وعلا التي تكون صرف الوجود ، الذي هو صرف الوحدة والبساطة ، من دون أن تقترب منها الكثرة والتركيب . وقد أشرنا سابقا بأن الوجود ، مبدأ حقيقة الكمال ، وينبوع الجلال والجمال . فصرف الوجود هو صرف الوحدة وصرف الكمال وصرف الوحدة ، هو صرف الكمال أيضا . وكلّما كانت الوحدة في أسمى مراتبها في الموجود ، كانت مفاهيم الأسماء والصفات والكمالات بأسرها صادقة عليه ، وكان صدق مفهوم كل واحد منها عليه أولى وأحسن . وعلى العكس كل موجود يدنو من الكثرات أكثر ، يكون نقصه أكثر ، وصدق مفاهيم الكمال والأسماء والصفات له أقل ، وملاك الصدق وكيفيته أوهن .

الاربعون حديثاً 552

فالحق المتعالي يستجمع جميع الكمالات والأسماء والصفات ، من دون رجوع إحداها إلى الأخرى ، بل يصدق حقيقة كل من الكمالات والأسماء والصفات على الذات المقدس فكل من سمعه سبحانه وبصره وإرادته وعلمه ، يشتمل على مداليله ومعانيه على نحو الحقيقة ، ويصدق على الذات عز وجل كل منها حقيقة من دون أن تستلزم كثرة في ذاته سبحانه بوجه من الوجوه . فله الأسماء الحسنى والأمثال العليا والكبرياء والآلاء .


فصل
في بيان كيفية تعلق علمه سبحانه بالمعلوم

إعلم أنه على ضوء ما أشرنا إليه من قبل ، تنكشف على الحق المتعالي من خلال علمه البسيط الذاتي ، والكشف الواحد الأزلي ، جميع الموجودات بما أنها موجودات وجهات وجودية كمالية بما أنها كمالية ، ويتم العلم له سبحانه . وهذا الكشف رغم كونه بسيطا وواحدا تاما ، يكون تفصيليا ، على نحو لا تخرج عن حيطة علمه سبحانه ذرّة من سماوات الأرواح ، وأراضي الأشباح ، أزلاً وأبدا ، وهذا العلم والكشف يكون منذ الأزل ، ويكون عين ذاته المقدس ، والمعلوم المتعين والمحدود ، الذي يعود تعينه وتحديده إلى العدم والنقص ، عندما يتعلق به الإيجاد ، يتحقق بالعرض ، ويصير معلوما بالعرض ، فيكون التعلّق بالعرض بعد الإيجاد . وأشار عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث إلى هذا المعنى عندما قال : «فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم» .
كما يحتمل أن تكون هذه الجمل إشارة إلى العلم الفعلي الذي يحصل نتيجة التجلي للفيض المقدس . ويكون المقصود من المعلوم ، المعلوم بالذات ، الذي هو هويّات وجودية قد تعلق بها الفيض المقدس ، وتجل ، ظهوري ، نوري .
فعلى الاحتمال الأول يكون معنى هذه الجملة (فلمّا تجلّى بفيضه المقدس وظهر الكون بالعرض وقع العلم على المعلوم ، أي ظهر الفيض في مرآة المُستَفيض بالعَرَض) .
وعلى الاحتمال الثاني يكون المعنى (فلما تجلى بفيضه المقدس وظهر وجود الكون بالذات ، أي بلا حيثية تقييدية وقع الفيض على المُستفيض بالذات) .
وعلى كلا الاحتمالين ، لا يكون هذا التجلي الذي يحصل بالفيض المقدس من جرّاء الحوادث الزمانية والظروف المتغيرة ، فإن إيجاد الحق سبحانه مقدس ومنزّه من كل ما فيه شائبة الحدوث والتغيير بل التعيّن والتحديد . فكما أن العلم الذاتي بسيط من جميع الجهات ، ومحيط بتمام الحيثيات ، فكذلك العلم الفعلي الذي هو آية حقيقية للحق المتعالي ، وظهور لعلمه الذاتي ومرآة له ، يكون بسيطا تاما ، وواحدا بالمطلق ، ومحيطا بجميع دائرة الكون

الاربعون حديثاً 553

والتحقّق ، من دون أن يحدث فيه تعيّن وتجدّد وتركيب ، غاية الأمر أن هذا العلم الفعلي متقوّم بالذات بذاته المقدس سبحانه ، وأنه تعلّق محض ، ولهذا يكون فانيا في كبرياء الحق عز وجل وحضورا في محضر ذي الجلال . ومن هذا المنطلق يعتبرونه علم الحق سبحانه . كما أن إيجاد النفس الناطقة للحقائق العقلية في عالم العقل والمُثُل الخيالية في لوح الخيال ، علم فعلي للنفس وفانٍ فيها .
قال الحكماء : إن نسبة عالم نفس الأمر إلى الحق سبحانه ، تضاهي نسبة الصور العلمية إلى النفس . ومن أجل هذه الإحاطة والسعة والبساطة والنفوذ للحق سبحانه ، ذهبوا إلى أن الحق المتعالي يعلم الجزئيات بالعلم الكلي أي أن جزئية المعلوم ومحدوديته ومحاطيّته ، لا تبعث على محدودية في العلم . فعلمه سبحانه : محيط وقديم وأزلي وغير متغيّر وأما المعلوم فهو محاط ومحدود وحادث ومتغير .
والذي لم يعرف أسلوب كلام الحكماء ، يحسب أنهم قد نفوا علمه عز وجل بالجزئيات ، حيث فسّروا الكلية والجزئية ، بالمعنى الرائج لدى المناطقة واللغويين ولم يعلموا أن هناك معنى آخر للكلي والجزئي في مصطلح أهل العرفان وقد يتبعهم أحيانا الفلاسفة في ذلك المصطلح ، بل استعار الحكماء هذا المعنى من أهل المعرفة ـ العرفاء ـ في باب علم واجب الوجود جل اسمه وتعالى شأنه .


فصل
في بيان المقياس في الصفات الثبوتية والسلبية

إن المقياس في الصفات الثبوتية للذات المقدس الواجب جل اسمه ، والصفات السلبية ، هو أن كل صفة من الأوصاف الكمالية ، والنعوت الجمالية التي تعود حقيقة الوجود وذاته الصرف ، من دون أن نتعيّن بتعيّن ، وتتواجد في عالم دون آخر ، تعود لهوية الوجود وذاته النورية ، يُعتبر من الصفات اللازمة الثبوت والواجبة التحقق ، للذات المقدس تعالى شأنه ، لأن هذه الصفات لو لم تثبت للذات المقدس للزم إما أن لا يكون الذات المتعالي ، وجودا صرفا ومحضا ، أو لا يكون الوجود الصرف محض كمال وجمال . وهذا الأمران باطلان لدى العرفاء والحكماء . كما تقرر في محله .
وإن كل صفة ونعت لا تثبت للموجود ، إلا بعد تنزّله إلى منزلة من منازل التعينات ، وتَقارنه بشكل من أشكال التقييد ، وتعانقه بمرتبة من مراتب القصور وتلازمه مع حد من حدود الوهن والفتور ، ومجمل القول إن كل صفة لا تُعد من حقيقة الوجود ، بل كانت راجعة إلى الماهية ، لكانت من الصفات المسلوبة التي يمتنع تحققها في الذات الكامل المطلق ، لأن

الاربعون حديثاً 554

الذات الكامل المطلق والوجود الصرف كما يكون مصداقا للكمال الصرف ، يكون مصداقا لسلب النقائص والحدود والأعدام والماهيات .
هذا الكلام وما اشتهر لدى المحققين من أن جميع الصفات السلبية ، تعود إلى سلب واحد وهو سلب الإمكان ، فلا يكون سديدا وصائبا لدى الكاتب فكما أن ذاته المقدس سبحانه يكون مصداقا ذاتيا حقيقيا لكل واحد من الصفات الكمالية ، من دون أن يرجع بعضها إلى البعض الآخر ـ كما بيناه سابقا ـ فكذلك يكون الذات المقدس مصداقا بالعرض لكل واحد من الصفات السلبية أيضا .
ولا نستطيع أن نقول بأن الأعدام والنقائص حيثية واحدة وأنه (لا مَيز في الاعدام) ، لأننا إذا درسنا هذا الموضوع على أساس الواقع ونفس الأمر ، فكما أن العدم المطلق حيثية واحدة رغم كونه كل الاعدام ، فكذلك الوجود المطلق أيضا حيثية واحدة وكل الكمالات . فلا نستطيع إثبات صفة للحق سبحانه ، في مرحلة اعتبار الاحدية ، وغيب الغيوب ، لا الصفات الحقيقية الثبوتية ، ولا الصفات السلبية الجلالية .
وإذا درسناه على أساس مقام الواحدية وجمع الأسماء والصفات ، فكما أن الصفات الثبوتية الكمالية متكثرة ومتعدّدة ، كانت الصفات السلبية متكثرة أيضا لأن في مقابل كل صفة كمالية ، صفة ناقصة مسلوبة . فالذات المقدس سبحانه كما يكون مصداقا للعالم بالذات ، يكون مصداقا لعدم كونه جاهلا بالعرض . وكما يكون قادرا يكون ليس بعاجز ، وكما تقرر في علم الأسماء ، أن للأسماء والصفات الثبوتية اعتبار المحيطية والمحاطية والرئاسة والمرؤسية فكذلك تكون للأسماء والصفات السلبية هذه الاعتبارات بالتبع أيضا .
ومجمل الحديث أنه بعدما اتضح المقياس في الصفات الثبوتية والسلبية ، نستطيع أن نفهم بأن الحركة التي تتقوم بالقوة والهيولى ، وأن الحدوث والتجدد المتغلغل في ذات القوة ، لا تتسرب إلى ذاته المقدس جل جلاله .
والتكلم بمعناه الدارج العرفي الذي يكون محلا لسؤال الراوي في الحديث الشريف فهو صفة محدثة متجددة يتنزه الحق المتعال ويتبرأ عنها . وهذا لا يتهافت مع إثبات الكلام والتكلم الذاتي للحق سبحانه في مقام الذات على نحو ينسجم مع تنزهه سبحانه عن التجدد وبراءته من الحدوث .
وخلاصة هذا البحث الشريف أن حقيقة التكلم ، لا تتوقف على خروج الحروف من المخارج الخاصة في الحنجرة والفم . وما هو الشائع لدى أبناء اللغة وعرف الجمهور من الناس من أن التكلم يتقيد وينصرف إلى خروج الأحرف الأبجدية من مخارجها ، فإن هذا ناتج عن

الاربعون حديثاً 555

العادة وأنس ذهن الناس بمثل هذا التفسير ، ومساعدة أوهام الناس وأفكارهم بذلك ، وأما أصل معنى التكلم فلا يتقيّد بالأحرف أبدا .
إن حقيقة العلم عبارة عن ظهور الشيء لدى العالم ، من غير أن يتقيد بالإدراك بواسطة الأدوات البادية الظاهرة مثل الدماغ أو الآلات المعنوية مثل الحس المشترك والخيال . فإذا فرضنا أن شخصا قد حصل على العلم بشيء بواسطة يده أو رجله أو رأى شيئاً أو سمع صوت شيء ، لصدق عليه العلم والسمع والبصر ، وهكذا إذا رأى في عالم الرؤيا شيئا أو سمع صوت شيء أو تكلم أو أحس ، لصدق عليه أنه رأى وسمع تكلم وأحس حقيقة ، من دون شائبة المجاز مع أن الرؤية والسمع والتكلم والإحساس قد تم من دون الإستعانة بالأدوات الحسية الخاصة التي تستعمل في هذه الموارد حالة اليقظة . فالمقياس في صدق الرؤية والتكلم والسمع والإحساس هو نفس الإدراك الخاص .
وحقيقة التكلم هو إظهار المكنون في الخاطر وإبراز ما في الضمير من دون أن تكون لآلة خاصة دور في ذلك . ولو فرضنا أن إطلاق التكلم والسمع والبصر على حصول العلم من دون الاستعانة بآلاتها ، كان مجازا في اللغة ولدى العرف ، ولكن حقيقة معاني هذه الأمور ـ نفس الحقائق ـ لم تكن مقيدة بالأدوات الخاصة ويكون السمع والبصر والتكلم و... صادقا عليها عقلا . ولا يكون البحث في باب الأسماء والصفات بحثا لغويا ، بل المقصود هو إثبات نفس الحقائق حتى إذا لم تسعف اللغة والعرف في ذلك .
إذاً نقول إن حقيقة الكلام هي إظهار ما في الضمير ، عبر الأدوات المادية الحسية أو من دونها ، وسواء كان الكلام من مقولة الصوت واللفظ والنَفَس المتصاعد من الداخل والرئة أو لا . وعليه يكون الكلام من الأوصاف الكمالية للوجود ، لأن الظهور والإظهار من حقيقة الوجود ويعودان إلى حقيقة الوجود . وكلّما كان الوجود أكمل واقوى كلما كان الظهور والإظهار أكثر ، إلى أن يصل الأمر إلى الأفق الأعلى والمقام الواجب الأسنى ، الذي هو نور الأنوار ونور على نور ، وظهور على ظهور . وبواسطة الفيض المقدس وكلمة (كن الوجودية) يتم إظهار ما في الغيب من مقام الواحدية . ومن خلال الفيض الأقدس والتجلي الذاتي الأحدي ، يتم إظهار الغيب المطلق ، ومقام اللامقام من الأحدية . وفي هذا التجلّي الأحدي ، يكون المتكلم : هو الذات المقدس الأحدي ، والكلام : هو الفيض الأقدس والتجلي الذاتي ، والسامع : الأسماء والصفات . وبنفس هذا التجلي تتم طاعة تعيّنات الأسماء والصفات وتتحقق علميا . وفي التجلي الواحدي بالفيض المقدس يكون المتكلم ، الذات المقدس الواحد المستجمع لجميع الأسماء والصفات ، والكلام ، نفس التجلّي ، والسامع والمطيع هما تحقيق الأعيان العلمية ،

الاربعون حديثاً 556

الملازمة للأسماء والصفات واللذان يتحققا بواسطة أمر «كُن» تحققا خارجيا عينيا (فإذا قال لكل عين أراد إيجادها : كُن ، فيُطيع الأمر الإلهي فيكون ويتحقّق) .
ولم نستعرض الشواهد النقلية في هذا الموضوع ولم نتطرق إليها . والحمد لله أولا وآخرا .

الاربعون حديثاً 557

الحديث السابع والثلاثون

معرفة الله بالله والرسول بالرسالة


الاربعون حديثاً 558

بالسند المتصل إلى محمد بن يعقوب ، عن علي بن محمد ، عمن ذكره ، عن أحمد بن عيسى ، عن محمد بن حُمران ، عن الفضل بن السكن ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : «إعرِفوا الله بالله ، والرسول بالرسالة ، وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان» (1) .

(1) أصول الكافي ، المجلد 1، كتاب التوحيد ، باب أنه لا يعرف إلا به ، ح 1 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي