الاربعون حديثاً 528

ويجب أن يُعلم أن هذا الصحو بعد المحو والعود إلى عالم الكثرة ، تسمّي بالقرب ، لأن هذا الصحو بعد المحو ، يختلف عن حالة الغفلة التي نعيشها ، وإن الوقوع في عالم الكثرة بعد المحو ، يغاير عالم كثرتنا الذي نعيش فيه لأن هذه الكثرة تكون حجابا لنا عن وجه الحق ، ومرآة المشاهدة لهم . «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله معه وفيه وقبله وبعده» .
ونستطيع أن نعتبر القرب الحاصل بالنوافل فناءا إسميا ، والقرب الحاصل بالفرائض ، فناءا ذاتيا ، وعليه تكون النتيجة للتقرب عن طريق الفرائض المحو المطلق .
وليس من المناسب في هذا المقام إطالة البحث أكثر من ذلك ، كما أن هذا القدر من الكلام ، يكون خروجا عن طاقة استيعاب هذا الكتاب .

فصل
في نقل كلام الشيخ الاجل البهائي رضي الله عنه

قال الشيخ الجليل العارف البهائي رضوان الله تعالى عليه في كتاب (الأربعون) لدى شرحه لهذه الرواية الشريفة : «لأصحاب القلوب في هذا المقام كلمات سَنيّة وإشارات سرية وتلويحات ذوقية تعطر مشام الأرواح وتحيي رميم الأشباح ، لا يهتدي إلى معناها ولا يطلع على مغزاها إلا من أتعب بدنه في الرياضات ، وعنّى نفسه بالمجاهدات حتى ذاق مشربهم وعرف مطلبهم . وأما من لم يفهم تلك الرموز ولم يهتد إلى هاتيك الكنوز لعكوفه على الحظوظ الدنية وإنهماكه في اللذات البدنية ، فهو عند سماع تلك الكلمات على خطر عظيم من التردي في غياهب الإلحاد والوقوع في مهاوي الحلول والاتحاد . تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . ونحن نتكلم في هذا المقام بما يسهل تناوله على الإفهام .
فنقول : هذا مبالغة في القرب ، وبيان لاستيلاء سلطان المحبة على ظاهر العبد وباطنه ، وسرّه وعلانيته فالمراد والله أعلم : إني إذا أحببت عبدي جذبته إلى محل الأنس وصرفته إلى عالم القدس ، وصيّرت فكره مستغرقا في أسرار الملكوت وحواسّه مقصورة على اجتلاء أنوار الجبروت ، فيثبت حينئذ في مقام القرب قدمه ويمتزج بالمحبة لحمه ودمه ، إلى أن يغيب عن نفسه ويذهل عن حسه فيتلاشى الأغيار من نظره حتى أكون له بمنزلة سمعه وبصره كما قال من قال :
جُنوني فيك لا يَخفى وناري منك لا تَخبو
فأنت السمع والأبصار والأركـان والقلـب (1)

الاربعون حديثاً 529

في نقل كلام المحقق الطوسي

قال أفضل المتأخرين ، وأكمل المتقدمين الخواجه نصير الدين الطوسي قدس سره القدوسي (العارف إذا انقطع عن نفسه واتصل بالحق رأى كل قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات ، وكل علم مستغرقا في علمه الذي لا يعزب عنه شيء من الموجودات وكل إرادة مستغرقة في إرادته التي لا يتأبى عنها شيء من الممكنات ، بل كل وجود وكل كمال وجود فهو صادر عنه فائض من لدنه . فصار الحق حينئذ بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به وقدرته التي يفعل بها وعلمه الذي يعلم به ، وجوده الذي يجود به ، فصار العارف حينئذ متخلقا بأخلاق الله في الحقيقة) انتهى كلامه زيد في علو مقامه (1) .

في نقل كلام المرحوم المجلسي

ولحضرة المحقق المجلسي في الموضوع كلام أيضا هو (2) :
أنه سبحانه أودع في بدن الإنسان وقلبه وروحه قوى ضعيفة هي في معرض الانحلال والاختلال والانقضاء والفناء ، فإذا اكتفى بها وصرفها في شهوات النفس والهوى تفنى كلها ، ولا يبقى معه شيء منها ومن ثمراتها إلا الحسرة والندامة . وإذا استعملها في طاعة ربه وصرفها في طاعة محبوبه أبدله الله خيرا منها ، وأقوى وأبقى تكون معه في الدنيا والعقبى «لئن شكرتم لأزيدنّكم» (3) فمنها قوة السمع إذا بذلها في طاعة النفس والشيطان وما يلهي عن الرحمن بطل سمعه الروحاني وهذا السمع الجسماني في معرض الفناء ولذا قال سبحانه فيهم «أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا» (4) فهم صم بكم عمي في الدنيا والآخرة فمثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءا ونداءا فهم في الدنيا أيضا كذلك ، فإذا أبطل بالموت حسّهم ، لم يبق لهم إلا الضلال والوبال ، وإذا صرفها في طاعة ربه أبدله الله سمعا كاملا روحانيا لا يذهب بالصمم ولا بالموت فهو يسمع كلام الملائكة ، ويصغي إلى خطاب الرب تعالى في الآخرة والأولى ، ويفهم كلام الله وكلام الأنبياء والأوصياء عليهم السلام فما منحه الله تعالى ، سمع قلبي روحاني لا يضعف بضعف البدن ولا يذهب بالموت وبه يسمع في القبر الخطاب ويعد الجواب ويناديه الحبيب كما نادى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أهل القليب .

(1) مرآة العقول ، المجلد 10 ، ص 395 ، ط . دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
(2) نقل الإمام قدس سره كلام المجلسي بصورة مختصرة . نقلناه من دون اختزال واختصار (المترجم) .
(3) سورة إبراهيم ، آية : 7 .
(4) سورة الفرقان ، آية : 44 .
الاربعون حديثاً 530

وكذا أودع الله سبحانه حسا ضعيفا في البصر فإذا صرفه في مشتهيات نفسه ذهب الله بنوره وأعمى عين قلبه فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ، وإذا بذله في طاعة ربه نوّر الله عين قلبه ، وأعطى بصره نورا أعلى وأقوى ينظر به إلى الملكوت الأعلى ويتوسّم في وجوه الخلق ما لا يعرف غيره ، ويرى الملائكة الروحانيين كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) وقال تعالى «إن في ذلك لآيات للمُتوسّمين» (1) .
وكذا قوة البطش البدنية إذا صرفها في طاعة الله وقربه ونهكها بالرياضات الحقة أعطاه الله قوة روحانية لا تضعف بالأمراض ، ولا تذهب بالموت فيها يقدر على التصرف في عالم الملك والملكوت كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : (ما قلعت باب خيبر بقُوّة جسمانية ، بل بقوة ربّانية) .
وكذا النطق إذا صدق فيه وكان موافقا لعمله ومصادفا لرضا ربه فتح الله به ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فظهر معنى قوله سبحانه : «كنت سمعه وبصره وغير ذلك على ألطف الوجوه لمن كان قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» (2) . انتهى .
ولا يخلو كلام المجلسي هذا من الغرابة .

تتمة :

يقول الشيخ الأجل البهائي قدس سره : إنّ (هذا صريح في أن الواجبات أكثر ثوابا من المندوبات ـ ثم قال ـ إن قلت : مدلول هذا الكلام هو أن غير الواجب ليس أحب إلى الله سبحانه من الواجب ، لا إن الواجب أحب إليه من غيره فلعلهما متساويان ؟ قلت : الذي يستفيده أهل اللسان من مثل هذا الكلام هو تفضيل الواجب على غيره . ثم قال في نهاية دراسته للحديث واستثنى منه الشهيد رضوان الله عليه صورا :
أولها : الإبراء من الدين فإنه مستحب وهو أفضل من إنظار المعسر وهو واجب .
ثانيها : السلام ابتداء فإنه أفضل من ردّه وهو واجب .
ثالثها : إعادة المنفرد صلاته جماعة . فإن الجماعة مطلقا تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة فصلاة الجاعة مستحبة وهي أفضل من الصلاة التي سبقت وهي واجبة إلى غير ذلك انتهى (3) .

(1) سورة الحجر ، آية : 75 .
(2) مرآة العقول ، المجلد 10 ، ص 392 ـ 393 ، ط . دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
(3) مرآة العقول ، المجلد 10 ، ص 382 ـ 383 ، ط . دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
الاربعون حديثاً 531

وقد ناقش بعض في كل منها ولا حاجة لبيان تلك المناقشات .
ولا بد من معرفة أن الظاهر من الحديث الشريف هو أن الواجبات أفضل من المستحبات ، وإن لم يكونا من سنخ واحد فمثلا : رد السلام واجب ، أفضل من الحج المندوب ، ومن تشييد المدارس العظيمة ، وزيارة أهل الله من المؤمنين . وإن ترائى هذا الأمر بعيدا ، ولهذا قال المرحوم المجلسي رحمه الله (يمكن تخصيص الأخبار وكلام الأصحاب بكون الواجب أفضل من المستحب من نوعه وصنفه) (1) .
ولكن عندما يدل الدليل على ذلك فلا مجال لمثل هذا الاستبعاد .
ويمكن ادعاء انصراف الفريضة إلى الفرائض التعبدية المحضة مثل الصلاة والصوم والحج والزكاة وأمثالها ، لا الفرائض الأخرى من أمثال إمهال المعسر ، ورد السلام وغيرهما ، رغم عدم خلو هذا الكلام أيضا من الاعتراض . والحمد لله أولا وآخرا .

(1) مرآة العقول ، المجلد 10 ، ص 383 ، ط . دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
الاربعون حديثاً 532




الاربعون حديثاً 533

الحديث الخامس والثلاثون

الحسنات من الله والسيئات من الانسان


الاربعون حديثاً 534

بالسند المتصل إلى عماد الإسلام والمسلمين محمد بن يعقوب الكليني ـ رضوان الله عليه ـ عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : قال أبو الحسن الرضا عليه السلام : «قال الله يا ابن آدم بِمَشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبِقُوّتي أدّيت فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعا بصيرا قويا ، ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك ، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك مني ، وذاك أنّني لا أُسأل عما أفعل وهم يُسألون» (1) .

(1) أصول الكافي ، كتاب التوحيد ، باب المشيئة والإرادة ، ح 6 .
الاربعون حديثاً 535

الشرح :


في هذا الحديث الشريف أبحاث سامية ، وأمور هامّة من العلوم العالية لما وراء الطبيعة التي إذا أردنا أن نبسط الحديث فيها مع بيان المقدمات لطال بنا المقام ، ولخرج الكتاب عن حجمه المناسب .
إذن نضطر إلى سلوك الطريق الوسط ، واللجوء إلى الإختصار فنذكر نتائج البراهين العلمية لبعض المسائل ضمن فصول عديدة . وعلى الله التُكلان .


فصل
في بيان ان لأسماءالحق سبحانه مقامين

إعلم أن لمشيئة الحق المتعالي جلّت عظمته ، بل لكل الأسماء والصفات مثل العلم والحياة والقدرة وغيرها مقامين :
أحدهما : مقام الأسماء والصفات الذاتية . وقد ثبت بالبرهان أن الذات المقدس الواجب الوجود بحيثية واحدة ، وجهة بسيطة محضة ، مستجمع لجميع الأسماء والصفات ، وعين كل الكمالات . وإن جميع الكمالات والأسماء ، وصفات الجمال والجلال يعود إلى حيثية الوجود البسيطة . وكل ما هو وراء الوجود فهو نقص وقصور وعدم . وحيث أن ذاته المقدس صرف ، الوجود ، ووجود صرف كان صرف الكمال وكمال صرف «علم كلّه ، قدرة كله ، حياة كله» .
ثانيهما : مقام الأسماء والصفات الفعلية ، الذي هو مقام الظهور بالأسماء والصفات الذاتية ، ومرتبة التجلي بالصفات الجمالية والجلالية . وهذا المقام هو مقام معية القيومية . «هو معكم» (1) و «ما من نجوى ثلثة إلا هو رابعهم» (2) . ومقام وجه الله «أينما تُولّوا فثمّ وجه الله» (3) .

(1) سورة الحديد ، آية : 4 .
(2) سورة المجادلة ، آية : 7 .
(3) سورة البقرة ، آية : 115 .
الاربعون حديثاً 536

ومقام النورية «الله نور السموات والأرض»(1) ومقام المشيئة المطلقة «وما تشاؤن إلا أن يشاء الله»< (2) «خلق الله الأشياء بالمشيّة وخلق المشيّة بنفسها» (3) ، ولهذا المقام اصطلاحات وألقاب أخرى على ألسنة أهل الله .
وقد أشير إلى هذين المقامين في الآية الشريفة من الكتاب الإلهي : «هو الأول والآخر والظاهر والباطن» (4) .
ومجمل القول أن مقام المشيئة الفعلية المطلقة ، ذو إحاطة قيومية لجميع الموجودات المُلكية والملكوتية . وإن جميع الموجودات من ناحية تكون من تعيناته ومن ناحية أخرى من مظاهره . وقد قال هذا الحديث الشريف ، عن مقام المشيئة الفعلية والمظهرية ، وفناء مشيئة العباد في ذلك ، بل مظهرية ومرآتيّة العباد وجميع شؤونهم عن ذلك : (يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبقُوّتي أدّيت فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعا بصيرا قويا) . إن ذاتك وكمالات ذاتك بمشيئتي وقوتي ، بل إنك بنفسك وكمالاتك من مظاهر وتعينات مشيئتي «وما رمَيت إذ رميت ولكن الله رمى» .
ولهذا الموضوع العرفاني شواهد كثيرة من القرآن والسنة ، لا حاجة لذكرها ويرى الشيخ الجليل السهروردي الأشراقي قدس سره ، أن العلم التفضيلي للحق المتعالي بالأشياء هو هذا المقام من العلم الفعلي . وتبعه في هذا الموضوع المحقق الطوسي قدس سره . ويرى صدر المتألهين ـ قدس سره ـ أن العلم التفضيلي هو مقام الذات البسيط ، ولا يوافق قدس سره هذين الجليلين على موقفهما بصورة مطلقة .
وأرى بأن جوهر كلامهما ، واحد وأن النزاع لفظي ولا يناسب المقام بيان ذلك .
وتبين من هذا العرض أن كل ما يحصل في هذا العالم الوجودي سواء كان من الجواهر القدسية الإلهية أو المُلكية الطبيعية أو الاعراض أو كان من الذوات والأوصاف والأفعال ، فإن كل ذلك يتحقق بقيّوميّة الحق سبحانه ونفوذ قدرته وإحاطة قوته . وعليه يصح القول «بقُوّتي أدّيت فرائضي» ومقام المشيئة المطلقة هذه ، مقام الرحمة الواسعة والنعمة الجامعة كما يقول «وبنعمتي قويت على معصيتي» .

(1) سورة القلم ، آية : 35 .
(2) سورة الدهر ، آية : 30 .
(3) أصول الكافي ، كتاب التوحيد ، باب الإرادة أنها من صفات الفعل ، ح 4 .
(4) سورة الحديد ، آية : 3 .
الاربعون حديثاً 537

فصل
في الاشارة الى مسألتي الجبر والتفويض

اشار الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الشريف بكل وضوح إلى مسألتي الجبر والتفويض والمذهب الحق وهو الأمر بين الأمرين ، والمنزلة بين المنزلتين ، الموافق لمسلك أهل المعرفة ، وأصحاب القلوب ، لانه أثبت المشيئة والقوة للعبد ، وفي نفس الوقت جعلها مشيئة الحق سبحانه . قائلا : (يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقُوّتي أدّيت فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي) فلا تنتفي الأفعال والأوصاف والوجودات بصورة مطلقة ، كما لا يثبت للإنسان كل تلك الأمور بصورة مطلقة . إنك شئت ، ومشيئتك قد فنيت في ومشيئتك مظهر مشيئتي وتعينك مظهر تعيني . وتنهض بقوتك على طاعتي ومعصيتي ، مع العلم بأن قوتك وقدرتك مظهر قدرتي وقوتي .
ولما كان هناك توهم اشكال واعتراض وهو أنه بناءا على هذا العرض المذكور تنسب إلى الحق المتعالي النقائص والرذائل والمعاصي أيضا .
أجاب عليه السلام على هذا الزعم على أساس فلسفي برهاني وذوقي عرفاني ، من أن الحق عز وجل لمّا كان كمال صرف وخير محض وعين الجمال والبهاء ، كانت الكمالات والخيرات من ناحيته ، بل إن نظام الوجود ، وحقيقته في عالم الغيب والشهود ، عين الكمال وأصل الجمال والتمام . وما يعود إلى النقص والرذيلة والشر والوبال ، فهو عائد إلى العدم والتعيّن ومن لوازم الماهية . ولا يكون مجعولا ومفاضا من الحق سبحانه . بل إن الشرور الحاصلة في عالم الطبيعة وهذه النشأة المُلكية الضيّقة نتيجة التضاد بين الموجودات ، وعسر هذا العالم ، وأن التضاد بين الكائنات لا يكون مجعولا . فما هو من الخيرات والكمالات والحسنات فمن الحق ، وما هو نقص وشر ومعصية فمن الخلق . كما قال عليه السلام «ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك» .
إذن إن جميع أنواع السعادة الدنيوية والأخروية ، وجميع أنواع الخير المُلكية والملكوتية قد أفيضت من ينبوع الخير والسعادة . وإن كافة أنواع الشقاء الدنيوي والأخروي وشرور هذا العالم والعوالم الأخرى من القصور الذاتي للموجودات ونقصها . وما هو المعروف أن السعادة والشقاء لا يكونان مجعولين بجعل الجاعل ، بل إنهما ذاتي الأشياء ، فلا أساس له بالنسبة إلى السعادة ، لأنها مجعولة ومفاضة من قبل الحق المتعالي ، إذ أن كل ذات من الذوات أو ماهية من الماهيات لا يكون سعيدا بل هو هلاك محض .
وأما بالنسبة إلى الشقاء ، فلأن الشقاء التام راجع إلى حيثية الماهية وهي غير مجعولة ، لا

الاربعون حديثاً 538

لأنها ذاتية بل لأنها أدون من مرتبة الجعل ، فلا يتعلق بها الجعل . وأما الحديث المعروف «السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه» فله معنى آخر يعود إلى العلم بالأسماء والصفات ولا يناسب المقام ذكره .
وبعد هذا البيان الصحيح المستدل ، نواجه شبهة مظنونة أخرى وهي أننا حسب البيان المذكور عزلنا الكائنات الموجودة عن الخير والسعادة ، عندما ربطناها بالحق المتعالي وهذا من الجبر المرفوض . وجعلنا الشر والشقاء من الإنسان وعزلناها عن القدرة الواجبة وهذا من التفويض المستنكر ، وذاك الرفض وهذا الاستنكار ثابتان على مذهب العرفاء وعلى ضوء الأدلة الفلسفية فكيف يتم التوفيق بين الكلام السابق وما يلازمه من الجبر أو التفويض ؟
فأجاب الإمام صلوات الله وسلامه عليه حسب الدليل المذكور في الكلام الذي قلنا وتحقيق ذلك . إن الحق المتعال أولى بالحسنات من العباد وهم أولى بالسيئات من الذات المقدس للحق ، وفي إثبات هاتين الأولوتين ، إثبات الانتساب إلى الطرفين .
أما بيان أولولية الحق سبحانه في الخير من عباده ، فلأجل أن نسبة الخير إلى مبدء المبادئ نسبة وجودية بالذات ، فإن الخير ذاتي الوجود وهو في الواجب عين الذات ، وفي الممكن بالجعل والإفاضة ، وعليه يكون مصدر إفاضة الخير من الواجب تعالى ، ولكن مرآة ظهوره ، ومَظهره يكون الممكن . وتلك النسبة الظاهرية والمفيضة ، أتم من هذه النسبة المظهرية والقابلية .
وأما في السيئات والشرور فيكون الأمر معكوسا رغم صحة الانتساب إلى الطرفين لأن ما يفاض من الحق يكون خيرا ، ويلازمه تخلّل الشر على أساس الانجرار والتبعية فتكون نسبة الشر إلى الحق بالعرض ، وإلى الماهية بالذات لنقصانها وقصورها . وقد تولت الآية الكريمة بيان هاتين النسبتين . فعندما تتحكم الوحدة وتتلاشى الكثرات والنقائص يقول سبحانه «قل كل من عند الله» (1) ولدى مراعات الكثرات بالعرض والوسائط يقول عز وجل «ما أصابك من حسنة فمن الله» (2) .


فصل
في بيان ان الحق تعالى لايُسأل عما يفعل وهم يُسالون

إعلم : يقول المحققون من الفلاسفة أنه لا يوجد غرض وغاية لأفعال الحق المتعالي سوى ذاته ، وتجلّياته الذاتية ، ولا يمكن أن يكون لذاته الأقدس في إيجاد الأشياء هدف آخر

(1) سورة النساء ، آية : 78 .
(2) سورة النساء ، آية : 79 .
الاربعون حديثاً 539

وراء ذاته وظهوره وتجليه المقدس . لأن كل فاعل عندما أوجد شيئا وإبتغى من عمله غير ذاته مهما كانت هذه الغاية حتى إذا كانت إيصال الفائدة والمثوبة للغير ، أو كانت الغاية العبادة والمعرفة أو الثناء والحمد كان هذا الفاعل مستكملا بهذه الغاية وكان وجود هذا الهدف بالنسبة إليه أولى من عدمه ، وهذا يستلزم النقص والقصور فيه وانتفاع الفاعل به ، وهو محال على الذات المقدس الكامل على الإطلاق ، الغنى بالذات الواجب من جميع الجهات ، فلا يستفسر عن أفعاله ولا يوجه إليه لِمَ و «لا يُسأل عما يفعل» . وأما الموجودات الأخرى فإنها تستبطن في أفعالها أغراض ومقاصد أخرى غير ذواتها . فإن عشّاق جمال الحق والمقربين إليه والمجذوبين نحوه يكون هدفهم البلوغ إلى باب الله ، والوصول إلى لقاء الله ، والتقرّب نحو ساحة قدسه الإلهي . وإن الكائنات الأخرى فهي حسب كمالها ونقصها وقوتها وضعفها أن تستهدف ، ما هو زائد على ذواتها .
وخلاصة القول إن ما يكون كمالا مطلقا وواجبا بالذات ، كان واجبا من جميع الجهات . وعندما لا يصح توجيه الاستفسار نحو ذاته المقدس كانت أفعاله أيضا بعيدة عن توجيه السؤال نحوها . على خلاف سائر الموجودات فإنه يصح السؤال عن سبب وجودها كما يصح الاستفهام عن أفعالها .
وأيضا لما كان ذاته المقدس كاملا مطلقا وجميلا مطلقا ، صار كعبة لآمال كافة الموجودات وهدفا منشودا لجميع الكائنات ، في حين أنه سبحانه لا مقصد من خلقه وأفعاله ولا كعبة لآماله وراء ذاته ، لأن الموجودات الأخرى ناقصة بالذات ، وإن كل ناقص مهروب عنه بالفطرة كما أن كل كامل مرغوب فيه ، فالذات المقدس غاية جميع الحركات والأفعال ، ولا توجد غاية وراء ذاته المقدس «لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون» .
وأيضا لمّا كان ذاته المقدس في المنتهى الأقصى من الجمال والكمال ، كان نظام دائرة الوجود الذي هو ظل ذلك الجمال الحق سبحانه ، في الغاية القصوى من الكمال الممكن ، وعليه يكون هذا النظام الكلي الموجود أتم الأنظمة المتصورة ، فيكون الاستفهام عن الغاية والغرض والفائدة ، منبعثا عن الجهل والنقص . كما أن إبليس اللعين وجّه أسئلة سبعة معروفة من جرّاء جهله ، وأجابه الله سبحانه إجمالا وعلى أساس «وجادلهم بالتي هي أحسن جوابا واحدا عن أسئلته السبعة» فالله سبحانه لا يسأل لأن فعله في منتهى الكمال وتُسأل الكائنات الأخرى لنقصها الذاتي والفعلي .
وأيضا إن الحق المتعالي حكيم بصورة مطلقة ، فما يصدر منه من الأفعال يكون في منتهى الاتقان فلا يسأل ، في حين أن الموجودات الأخرى تُسأل لأنها ليست كذلك .
وأيضا إن كل ما يصدر من وجوده المقدس ، فهو صادر من حقيقة ذاته وأصل حقيقته ،

الاربعون حديثاً 540

بينما لم تكن الكائنات الأخرى كذلك ، فهو فاعل بالذات ولا يصح السؤال عمن هو فاعل بالذات . أما الموجودات الأخرى فهي فاعلة بالعرض ويصح السؤال عن فعلها . وحيث أن الإرادة ، والمشيئة ، والقدرة عين ذاته المقدس ، كانت الفاعلية بالذات عين الفاعلية بالإرادة والقدرة . ولا يرد هنا اعتراض الفاعل بالطبع . وهذا من الأبحاث الشريفة التي ثبتت بالبرهان في محله ، وبه تُحل الكثير من اعتراضات المتكلمين في أبواب مختلفة من المعارف الإلهية .
ويستفاد من البيان الذي ذكرناه ، ارتباط الجمل المذكورة في الحديث الشريف بعضها مع البعض الآخر على أساس الرابطة العلية ، وذلك أن الحق لا يسأل عن فعله لأن فعله كامل تام ، يحتوي على نظام أتم ، وأما الآخرون فليسوا كذلك فيسألون وذلك لأنه سبحانه أولى بالحسنات والعبد أولى بالسيئات وهو علّة لصدور السيئات مهما كانت فمن العبد وأما الحسنات فمن الحق عز وجل .
وهناك بيانات أخرى أيضا تُبيّن نوعيّة الارتباط بين الفاعل والفعل لم نذكرها هنا . والحمد لله أوّلا وآخرا .

الاربعون حديثاً 541

الحديث السادس والثلاثون

الصفات الذاتية لله سبحانه


الاربعون حديثاً 542

بالسند المتصل إلى ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن خالد الطيالسي ، عن صفوان بن يحيى ، عن ابن مَسكان ، عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : «لم يزل الله عز وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مُبصَر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ؛ فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المُبصَر والقدرة على المقدور . قال : قلت : فلم يزل الله متحرّكا ؟ قال : فقال : تعالى الله عن ذلك ، إن الحركة صفة محدثة بالفعل . قال : فقلت : فلَم يزل الله متكلّما ؟ قال : فقال : إن الكلام صفة مُحدَثة ليست بأزليّة كان الله عز وجل ولا متكلم» (1) .

(1) أصول الكافي ، كتاب التوحيد ، باب صفات الذات ، ح 1 .
الاربعون حديثاً 543

الشرح :


قوله : «لَم يزل الله عز وجل ربنا» إن ربنا حسب الظاهر خبر (لَم يزل) وجملة (والعلم ذاته) حال لربنا . ولكن هذا المعنى لا يكون بليغا ولا مقصودا ، لأن الهدف ليس هو إثبات أزلية صفة الربوبية بل المنشود إثبات أزلية صفة العلم قبل حصول المعلوم . ويمكن أن نقول بأنه يستفاد المقصود من مجموع هذه الجمل وهو إثبات الأزلية للعلم . كما يحتمل أن يكون (ربنا) مرفوعا على التبعية لاسم (زال) ويكون الخبر محذوفا دلّت عليه جملة (والعلم ذاته) ويكون التقدير هكذا لم يزل الله ربنا عالما والعلم ذاته .
ومن المحتمل أن تكون (زال) تامة تقتصر على الاسم المرفوع فيكون المضارع (يَزول) وعليه لا يحتاج إلى الخبر ولا يكون مضارعه (يزال) الذي يكون ماضيه زال والذي يعد من الأفعال الناقصة دائما ، على خلاف يزول الذي يكون تاما دائما .
قوله عليه السلام : «وكان المعلوم» إن كان هنا تامة ومعناها لما أوجد الأشياء وتحقق المعلوم ...
قوله عليه السلام : «مُحدَثة بالفعل» من الممكن أن يكون معنى بالفعل ما يقابل القوة أي المعنى المصدري والمدلول هو : أن الصفة التي تتحقق بالإيجاد والخلق ، لا يمكن أن تكون صفة للحق سبحانه .
وفي هذا الحديث أبحاث شريفة نذكر بعضها حسب المناسبة والمقام .


فصل
في بيان عينية صفات الحق سبحانه مع الذات المتعالي

إعلم أنه قد أشير في هذا الحديث الشريف إلى عينية الذات المقدس للحق مع الصفات

السابق السابق الفهرس التالي التالي