الاربعون حديثاً 515

الحديث الرابع والثلاثون

المؤمن


الاربعون حديثاً 516

بالسند المتصل إلى ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ـ قدس سره ـ عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن أبي سعيد القمّاط ، عن أبان بن تَغلِب ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «لمّا أُسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا رب ما حال المؤمن عندك ؟ قال : يا محمد ، من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وأنا أسرع شيء إلى نُصرة أوليائي ، وما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في وفاة المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته .
وإن من عبادي المؤمنين من لا يُصلحه إلا الغنى ، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يُصلحه إلا الفقر ، ولو صرفته إلى غير ذلك لَهلك . وما يتقرّب إلي عبد من عبادي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وإنه يتقرّب إلي بالنافلة حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت إذاً سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته» (1) .


(1) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من آذى المسلمين ، ح 8 .
الاربعون حديثاً 517

الشرح :


«أُسري» فعل مجهول ومعناه ، السير في الليل . قال الجوهري : «سَرَيت سُرى ومَسرى وأسرَيتُ بمعنى إذا سِرت ليلا ، وبالألف لُغة أهل الحجاز انتهى» فبناء على أن الإسراء هو السير في الليل ، يكون تقييده بالليل في الآية الشريف«سبحان الذي أسرى بعبده ليلا» (1) لأجل إفهام الناس بأن فترة الإسراء كانت قصيرة مع أن المسافة بين مسجد الحرام والمسجد الأقصى تستغرق أربعين يوما مشيا على الأقدام كما قاله الشيخ البهائي . وذلك إما بواسطة تنكير «ليلا» . وإما من جهة تجريد (الليل) من الألف واللام .
و «أسري بالنبي» لقد حذفت بقية الأمور المرتبطة بالإسراء ، لمعروفيتها ومعهوديتها فالمعنى : أُسري به إلى مقام القُرب ، مثلا .
قوله : «ما حال المؤمن ؟» معناه ما هو شأن المؤمن وما هي منزلته ؟
قوله : «مَن أهان لي وليا» إن أهانه : بمعنى استخف به ، واستهان به وتهاون فيه : أي استَحقَره . يُقال : رجل فيه مَهانة أي ذل وضعف . والظاهر إن حرف الجار في كلمة ـ لي ـ يمكن أن يكون متعلقا بفعل «أهان» ، وعليه تكون إهانة المؤمن لإيمان بالله ، ولأجل الحق المتعالي . ويمكن أن يتعلق بالـ «ولي» وعليه يكون المقصود هو إهانة المؤمن بأي هدف كان .
والـ (وَليّ) معناه المحب .
قوله : «بارَزَني» بَرَز الرجل يَبرُز بُروزا : أي خَرَجَ . والمقصود هنا من المبارزة بالمحاربة هو الخروج للحرب أو إظهاره .
قوله : «مَساءَته» مصدر ميمي من ساءه أي أكرهه .

(1) سورة الإسراء، آية : 1 .
الاربعون حديثاً 518

قوله : «إن مِن عبادي من لا يُصلحه إلا الغنى» قال الشيخ المحقق البهائي رحمه الله : (الصناعة النحوية تقتضي أن يكون الموصول إسم إن والجار والمجرور خبرها ، لكن لا يخفى أنه ليس الغرض الإخبار عن أن الذي لا يصلحه إلا الفقر بعض العباد ، بل الغرض العكس . فالأولى أن يجعل الظرف اسم أن والموصول خبرها ، وهذا وإن كان خلاف ما هو المتعارف بين القوم يكن جوّز بعضهم مثله في قوله تعالى :« ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر» (1) انتهى كلامه (2) .
ولعل المبتدأ يكون محذوفا في أمثال هذه الموارد ، ويكون دالاّ على حذف الجار ، ولا يكون مثل هذا الحذف مخالفا للقواعد النحوية . ونقل عن صحاب الكشاف (أن الجار والمجرور مبتدأ على معنى وبعض الناس أو بعض منهم من اتصف بما ذكر فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف ولا إستبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدءا) (3) .
ولكن لا نحتاج إلى التأويل بناءا على ما ذكرنا .
واعلم أن ذكر هذه الجملة (إن من عبادي من لا يُصلحه إلا الغنى) في هذا المقام ، لأجل إزالة الالتباس ، والإجابة على السؤال الذي يمكن أن يطرح من قبل الناس الذين لا يعرفون النظام الأتم ، والقضاء الإلهي المكنون ، وهو أن المؤمن إذا كان مقرّبا إلى ساحة الحق تعالى بدرجة تكون إهانته ، محاربة لله سبحانه فلماذا يبتلى بالفقر والحاجة ؟ وإذا لم تكن الدنيا ذات قدر وشأن فلماذا يصبح بعض منهم فيها أغنياء وأثرياء ؟ فأجاب الحق سبحانه بأن الحالات النفسية لعبادي مختلفة ، قلوبهم متغايرة ، فبعضهم لا يصير صالحا إلا في ظروف البؤس والفقر ، فأُفقره حتى تصلح أحواله . وبعضهم يحتاج إلى الغنى والثروة حتى يتحول إلى مؤمن صالح ، فأُغنيهم ، وهاتان الحالتان من كرامة المؤمن وعزّة جاهه في ساحة قدس الحق تبارك وتعالى .
قوله «وما يتقرّب إلي عبد من عبادي ـ الخ» إن ذكر هذه الجملة والجملة التالية لها بيان لمقام قرب المؤمنين الكُمّلين . فإن الله بيّن للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، أحوال المؤمنين ، مبتدئ ومختتما على هذا النحو بأن ذكر إجمالا حال المؤمنين بصورة مطلقة قائلا (من أهانهم فقد بارزني بالمحاربة) ثم يقسم المؤمنين إلى طائفتين بل إلى ثلاث طوائف عند أهل المعرفة .
أحداهما المؤمنون بشكل عام حيث يتكلم الحديث عنهم في جملة «ما تردّدت في أمر»

(1) سورة البقرة ، آية : 8 .
(2) مرآة العقول ، المجلد 10 ، ص 387 .
(3) مرآة العقول ، المجلد 10 ، ص 388 .
الاربعون حديثاً 519

حتى قوله «ما يتقرّب إليّ» . والدليل على أن هذا الشطر من الحديث يكون فيهم ، هو أنهم يكرهون الموت وأن الغنى والفقر يعبثان بقلوبهم ، وهاتان الخاصيتان لا تعودان إلى الكملين من المؤمنين ، وإنما ترجعان إلى المتعارف من أهل الإيمان . وعليه لا يرد اعتراض (1) على ظاهر هذا الحديث القائل بأن المؤمن يكره الموت ، المتضارب مع الأحاديث الشريفة الأخرى الظاهرة في أن المؤمن الخالص لا يكره الموت ، حتى نحتاج إلى الجواب الذي نقله الشيخ المحقق البهائي عن الشيخ الشهيد رضوان الله تعالى عليهما . فمن يرغب في معرفة الجواب فليراجع كتاب «الأربعون حديثا» للشيخ البهائي (1) .
ثانيتهما : ـ المؤمنون الكمّلون وقد تحدّث عنهم الحديث المذكور من قوله «ما يتقرّب إليّ عبد ...» إلى آخر الحديث . وقد قسم أهل المعرفة هذا الشطر من الحديث إلى طائفتين : أحداهما المؤمنون الذين يتقربون إلى الله بالفرائض . والأخرى : المؤمنون الذين يتقربون إلى الله بالنوافل (2) وقد أشار ذيل الحديث إلى مقام المؤمنين ، ونتائج قربهم . ونحن بعون الله سنأتي على ذكر مقام كلتا الطائفتين بصورة مختصرة .
قوله : «يَبطِشُ» يقول الجوهري : البَطشَة : السَطوَة والأخذ بالعنف ، وقد بَطَش به يَبطش ويَبطُش بَطشا . وقد أريد من الكلمة هنا مطلق الأخذ بل الاستعمال المتعارف لهذه الكلمة حسب الظاهر ، الأعم من الأخذ بالعنف او اللين .

تنبيه :


قال الشيخ المحقق البهائي برد الله مضجعه هذا الحديث صحيح السند وهو من الأحاديث المشهورة بين الخاصة والعامة . وقد رووه في صحاحهم بأدنى تغيير (1) . وذكر رحمه الله في هامش كتاب الأربعين أن علي بن إبراهيم من «المجموعة» الواقعة في السند ، وعليه

(1) تعرض الشيخ البهائي رحمه الله لهذا الموضوع عنده تفسيره للحديث الخامس والثلاثين من كتابه الأربعين قال : ـ وهم وتنبيه قد يتوهم المنافاة بين ما دل عليه هذا وأمثاله من أن المؤمن الخالص يكره الموت ، ويرغب في الحياة وبين ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله ، من احب لقاء الله احب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، فإنه يدل بظاهره على أن المؤمن الحقيقي لا يكره الموت بل يرغب فيه ، كما نقل عن أمير المؤنين أنه كان يقول : إن ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه ، وأنه قال حين ضربه ابن ملجم فزت ورب الكعبة : وقد أجاب عنه شيخنا الشهيد طاب ثراه في الذكرى فقال : إن حب لقاء الله غير مقيد بوقت ، فحمل على حال الاحتضار ومعانيه وما يحب ، كما روينا عن الصادق عليه السلام . (المترجم) .
(2) مرآة العقول ، المجلد 10 ـ وهو أن النوافل جمع نافلة وهي الأعمال الغير الواجبة مما يفعل لوجه الله سبحانه وأما تخصيصها بالصلوات المندوبة فعرف طارئ .
الاربعون حديثاً 520

تكون الرواية صحيحة . وقد روى العامة هذا الحديث بطريق صحيح . ويعتبر هذا الحديث من الأحاديث المشهورة المتفق عليها لدى أهل الإسلام . انتهى .

فصل
في بيان التوجيهات المذكورة في نسبة التردد والتحير الى الحق المتعالي

إننا قد بينا لدى شرح بعض الأحاديث السابقة ، موضوع إهانة المؤمنين ، فلا ضرورة في تكراره هنا . فننتقل إلى شرح بعض الجمل الأخرى .
إعلم أن العلماء قد وقفوا أمام نسبة التردد إلى الحق المتعالي الواردة في هذا الحديث الشريف وكذلك أمام ما ورد في أحاديث صحيحة بل في الكتاب الحكيم الإلهي من نسبة أمور أخرى إليه سبحانه مثل البداء والامتحان ، إن العلماء قد وقفوا أمام هذه النسب إلى الحق سبحانه وبدأوا بالتوجيه والتأويل ، كل على ضوء مسلكه . وقد أبدى الشيخ الأجل البهائي رضوان الله تعالى عليه في كتاب «الأربعين» احتمالات ثلاثة ، نشير إليها نحو الإيجاز والاختصار :
(الأول : إن في الكلام إضمارا والتقدير لو جاز عليّ التردّد ما تردّدت في شيء كتردّدي في وفاة المؤمن .
الثاني : أنه لمّا جرت العادة بأن يتردّد الشخص في مساءة من يحترمه ويوقّره كالصديق الوفي ، والخل الصفي وأن لا يتردد في مساءة من ليس له عنده قَدَر ولا حرمة كالعدو والحيّة والعقرب ، بل إذا خطر بالبال مساءته أوقعها من غير تردد ولا تأمل ، صح أن يعبّر بالتردّد والتأمل في مساءة الشيء عن توقيره واحترامه وبعدمها عن إذلاله واحتقاره فقوله سبحانه ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في وفاة المؤمن المراد به والله أعلم : ليس لشيء من مخلوقاتي عندي قدر وحرمة كقدر عبدي المؤمن وحرمته فالكلام من قبيل الاستعارة التمثيلية .
الثالث : أنه قد ورد في الحديث من طرق الخاصة والعامة أن الله سبحانه يُظهر للعبد المؤمن عند الاحتضار من اللطف والكرامة والبشارة بالجنة ما يزيل عنه كراهة الموت ، ويوجب رغبته في الانتقال إلى دار القرار ، فيقل تأذّيه به ويصير راضيا بنزوله ، راغبا في حصوله ، فأشبهت هذه الحالة معاملة من يريد إن يؤلم حبيبه ألما يتعقّبه نفع عظيم فهو يتردد في أنه كيف يوصل ذلك الألم إليه على وجه يقل تأذيه به ، فلا يزال يظهر له ما يرغّبه فيما بتعقبه من اللذة الجسمية والراحة العظيمة إلى أن يتلقاه بالقبول ، ويده من الغنائم المؤدية إلى إدراك المأمول) (1) انتهى .

(1) مرآة العقول ، المجلد 10 ، ص 384 .
الاربعون حديثاً 521

توجيه عرفاني

وأما مسلك الحكماء والعرفاء في هذا الموضوع وأمثاله ، فيختلف عن المذاهب الأخرى . ونحن لأجل صعوبة فهم مسلك الحكماء والعرفاء ، لا نسترسل في الحديث عن ذلك ولا نذكر مقاماته ، وإنما نعرض ما هو قريب على الاستيعاب والإدراك وموافق للذوق . فنقول :
لا بد من معرفة أن جميع مراتب الوجود ، من منتهى قمّة عالم الملكوت وذروة عالم الجبروت إلى أسفل السافلين من عالم الظلمات والهيولى تكون مظاهر جمال الحق سبحانه وجلاله ، ومراتب تجليات الرب عز وجل ، وإن جميع الكائنات غير مستقلة في ذاتها ، وإنما هي تعلق صرف ، وربط محض ، وعين الفقر والتدلّي بالذات المقدس الحق ، وإن الموجودات كافة مسخرات بأمر الحق ، ومطيعات للأوامر الإلهية . كما أن الآيات القرآنية التي أشارت إلى ذلك كثيرة ، قال تعالى :«وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» (1) إن هذا الإثبات والنفي ـ وما رميت إذ رميت ـ إشارة إلى مقام الأمر بين الأمرين ، بمعنى أنك رميت ، وفي نفس الوقت أنك لم ترم بقدرتك المستقلة ، بل إنما حصل الرمي بواسطة ظهور قدرة الحق في مرآتك ، ونفوذ قدرته في عالم مُلكك وملكوتك . فإذن أنت تكون راميا ، وفي نفس اللحظة يكون الحق جل وعلا راميا .
وتضاهي تلك الآية المجيدة ، الآيات الشريفة المذكورة في سورة الكهف المباركة عند بيان قصة الخضر وموسى عليهما السلام : «أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يُرهقهما طُغيانا وكفرا * فأردنا أن يُبدلهما ربهما خيرا منه زكوة وأقرب رَحَما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلُغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا» (2) فإن النبي الخضر عليه السلام كشف أسرار عمله لموسى ونسب مورد العمل الناقص والمعيب إلى نفسه قائلا « فأردت أن أعيبها» وفي مورد آخر ، مورد الكمال نسب العمل إلى الحق سبحانه «فأراد ربك أن يبلُغا» وفي مورد ثالث نسب العمل إلى الطرفين قائلا «فأردنا أن يُبدلهما ربهما»وكل ذلك يكون صحيحا .
ومن أمثال الآيات المباركات قول الله تعالى حيث يقول : «الله يتوفّى الأنفس حين موتها» (3) مع أن ملك الموت هو المسؤول عن توفي النفوس .

(1) سورة الأنفال ، آية : 17 .
(2) سورة الكهف ، آية : 79 ـ 82 .
(3) سورة الزمر ، آية : 42 .
الاربعون حديثاً 522

وقوله تعالى : «يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء»< (1) فالله تعالى هو الهادي والمضل . مع أن جبرائيل يكون هاديا ، والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يكون هاديا «إنما أنت منذر ولكل قوم هاد» (2) وإن الشيطان يكون مضلا . وهكذا النفخة الإلهية من صور إسرافيل إلى نفس النفخة الإسرافيلة حيث توجد التعددية ـ نفخة آلهيه ونفخة إسرافيلية ـ من جهة والاشتراك والوحدة من جهة أخرى حيث ان الجميع منه وإليه .
فمن منظار لا يكون كل من إسرافيل وعزرائيل وجبرائيل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وكافة الأنبياء وكل من هو في دار التحقق ، شيئا ـ وهذا هو منظار الوحدة ـ فلا ينسب إليهم أمرا ، في مقابل مُلك المَلِك بشكل مطلق ، ومقابل إرادة الحق النافذة ، إن جميع الأشياء مظاهر قدرة الحق وإرادته«هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله» (3) .
ومن منظار آخر وهو منظار الكثرة والإنتباه إلى الأسباب والمسبّبات ، تكون جميع الأسباب صحيحة وذات دور فاعل ، ويكون النظام الكوني الأتم قائما على أساس نظم وتنسيق بين الأسباب والمسببات ، بحيث لو تعطل سبب وواسطة في تسلسل الأسباب والوسائط في هذا الكون لتوقفت عجلة الوجود ، وإذا لم يرتبط الحادث بالقديم ، عبر الوسائط والأسباب المقررة ، لتوقّف الفيض وتعطّلت الرحمة . ولو أن شخصا بواسطة المنطلقات والمقدمات المقرّرة في مظانّها ـ خاصة كتب العرفاء الشامخين وكتب صدر الحكماء والفلاسفة وأفضل الحكماء الإسلاميين من كتب الفلاسفة ـ أدرك هذا المشرب الإيماني العذب ، وأدخله في مقام قلبه ، لانفتحت عليه هذه الأبواب ، ولعرف بأن هذه النِسَب صحيحة وحقيقية ولا يخامره التسامح والمجاز نهائيا لدى دراساته الدقيقة العرفانية .
وعندما يرى بعض الملائكة الموكلين بنفوس المؤمنين وبقبض أرواحهم المقدسة ، مقام المؤمنين لدى محضر الحق المقدس المتعالي ، ويرون من جانب آخر أن المؤمنين يكرهون الموت ، انتابتهم حالة من التزلزل والتردد . وقد نسب سبحانه هذه الحال إلى نفسه (وما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في وفاة المؤمن) . كما نسب إلى نفسه التوفي ، والهداية والضلال . وكما أن تلك النسب إلى الحق المتعالي صحيحة على مسلك العرفاء ، تكون نسبة التردّد إليه عز وجل أيضا صحيحة .

(1) سورة النمل ، آية : 93 .
(2) سورة الرعد ، آية : 7 .
(3) سورة الزخرف ، آية : 84 .
الاربعون حديثاً 523

ولكن استيعاب هذا المشرب يحتاج إلى قريحة حسنة ولطيفة ، وذوق سليم والله العالم الهادي .
ولا يخفى ـ هذا الأمر الهام وهو : ـ أنه لما كانت حقيقة الوجود عين حقيقة الكمال وعين التمام ، وإن النقائص والعيوب لا تنسب إلى الحق المتعالي ، ولا تكون مجعولة له ـ كما تقرر بالبرهان في محله ـ فكلما كان الفيض أقرب إلى أفق الكمال وأبعد من الفتور والضعف ، كان ارتباطه بالحق أتم ، ونسبته إلى الذات المقدس أولى . وعلى العكس كلما كانت ظلمات التعيّن والاعدام أكثر ، والقيود والحدود أوفر ، كان الارتباط بالله أوهى ، والانتساب إليه سبحانه أبعد .
ومن هنا نرى بأن الشرع المجيد ـ القرآن والسنة ـ كثيرا ما ينسب الفعل الإبداعي ـ الغيبي المجرد ـ إلى الحق ، في حين أن نسبة الأفعال المتجددة المُلكية ـ المادية الطبيعية ـ إلى الحق المتعالي فيه قليلة .
فإذا فرّقت عيون ثاقبة ، وقلوب يقظة ، بين الكامل والناقص والحسن والقبيح ، والجميل والبشع ، استطاعت أن تفهم حينذاك ، رغم أن كل ما في عالم التحقق ، تجل فعلي للحق سبحانه ، ومرتبط به ، بأن كافة أعماله جميلة وكاملة ولا علاقة للنقائص والعيوب بذاته المقدس . وأما ما هو الشائع على ألسنة الحكماء رضوان الله تعالى عليهم ـ من إسناد النقص إلى الله ـ فهو إنتساب بالعرض ، حيث تروج مثل هذه النسبة المجازية العرضية في بداية التعليم وفي الفلسفة الشائعة بين المتعلمين .
وفي هذا المستوى من العلم أخطاء والتباس يكون من الأولى غض الطرف عنها .
والمقصود من بيان هذا الأمر الأساسي المهم هو :
أولا : تفنيد الكلمات الفاسدة التي يمكن أن تعترض على المقام من قبل جاهل عار من المعارف الإلهية .
ثانيا : بيان أن نسبة هذا التردّد والترجّح للدوافع والحوافز ، الحاصل لدى بعض الملكوتيين ، إلى الحق سبحانه يكون أتمّا ، من نسبة الأمور الطبيعية التي تحدث في هذا العالم إليه سبحانه .
وثالثا : أن على الإنسان العارف بالحقائق ، أن يحدّد جهة الكمال والنقص ، في هذا التردد ، وترجح الدواعي ، فينسب الكمال إلى الحق ، ويسلب عنه النقص .

تتميم
في بيان توجيه اخر عن حديث التردد

وفي هذا المقام توجيه آخر لهذا الحديث الشريف الذي ينسب التردد إلى الحق

الاربعون حديثاً 524

المتعالي ، قد خطر على فكري القاصر في سالف الأيام وهو :
إن العباد إما أن يكونوا عرفاء وأولياء لله ، وينخرطوا لدى سيرهم إلى الله ، في سلك اصحاب القلوب ، فيكونون مجذوبين للحق ، وتوّاقين لجماله الذي لا مثيل له ومستقبلين ذاته المقدس في كل تطلعاتهم وآمالهم ولا يلتفتون إلى غيره سبحانه من العوالم ، بل لا يفكرون في أنفسهم وكمالاتهم .
وأما ينغمرون في زخارف الدنيا ويغوصون في ظلمات حب الجاه والمال وتكون قلوبهم متجهة نحو الأنانية والإنية من دون أن يعبأوا بالعلم الأقدس ، ويأبهوا بالملكوت الأعلى وهم الملحدون في أسماء الله .
والطائفة الثالثة من المؤمنين هم الذين ينتبهون إلى العالم الأرفع نتيجة نور إيمانهم ، ويكرهون الموت لإلتفاتهم إلى هذا العالم . وقد عبّر الله سبحانه عن هذا التجاذب بين المُلك والملكوت ، والغيب والمادة والآخرة والدنيا ، بالتردد ، ومن المعلوم أن التردد قائم بطرفي القضية . فكأنه يقول : لا يوجد في أي كائن من الموجودات هذا التجاذب بين المُلك والملكوت ، بمثل ما هو موجود لدى العبد المؤمن فمن ناحية يكره الموت ، لأنه قد وجّه وجهه إلى عالم الملك والدنيا ، ومن ناحية أخرى تشدّه الجاذبة الإلهية نحوها ، لإيصاله إلى كماله . فالحق المتعالي يكره إساءته التي تساوي بقاؤه في عالم الطبيعة ويكره المؤمن الموت .
وأما الناس الآخرون فلا يكونون كذلك ، حيث لا يكون لأولياء الله الانجذاب نحو عالم المُلك والطبيعة ، ولا يكون للمنغمسين في الدنيا الانجذاب نحو عالم الملكوت والغيب .
وتكون نسبة هذا التجاذب والتردد إلى الحق سبحانه على أساس ما ذكرناه في الوجه السابق ـ قبل هذا التتميم ـ .
وللمحقق الكبير والسيد الجليل المير محمد باقر داماد وتلميذه محمد بن إبراهيم المعروف بصدر المتألهين أبحاث دقيقة يوجب ذكرها التفصيل والإطالة .


فصل
في بيان ان الحق المتعالي يصلح احوال المؤمنين بالفقر والغناء وغيرهما

يفهم من هذا الحديث الشريف القائل : (وإن من عبادي المؤمنين من لا يُصلحه إلا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يُصلحه إلا الفقر ولو صَرَفتُه إلى غير ذلك لهلك) إن كل ما يوفره الحق سبحانه للمؤمنين من الغنى والفقر ، والصحة والمرض والأمن والاضطراب وغير ذلك ، فهو لأجل إصلاح المؤمنين وصيرورة قلوبهم خالصة لله سبحانه

الاربعون حديثاً 525

ولا يتنافى هذا الحديث الشريف مع الأحاديث الأخرى الكثيرة الواردة في باب شدة ابتلاء المؤمنين بالأسقام والأوجاع والفقر والفاقة وكافة البلايا . لأن الحق المتعالي نتيجة رحمته الواسعة وفضله العميم ، يعامل كل إنسان حسب وضعه وظروفه كي يكون في منأى من الدنيا تماما مثلما يعامل الطبيب المعالج مرضاه .
فقد يعطي لأحد ثروة ، وفي الوقت نفسه يصيبه ببلايا أخر حسب شدة إيمانه وضعفه ، كماله ونقصه ، بل أن ثروته وغناه تحف بمصائب ومحن تصرفه عن الدنيا وحبها . إن تكوين هذا الشخص يكون على شاكلة ، لو كان فقيرا لأصبح من الهالكين بصورة دائمة ، لأنه يرى السعادة في المال والجاه ، وأن أهل الدنيا هم السعداء فيتوجه إلى الدنيا وينهمك فيها ، ولكنه لو تمكن من الدنيا ، المحفوفة بالمكاره والآلام الخارجية والداخلية لانصرف عنها .
كان يقول أحد مشايخنا العظام : يحسب الإنسان أن في تعدد الزوجات دخولا في الدنيا ورغبة فيها ، في حين أن من الإبداع الفريد هو أن الإنسان عندما يدخل ويبتلى بها يخرج منها وينصرف عنها .
فإذن قد يصيب الله المؤمنين بالفقر ، لإصلاحهم ولابعادهم عن الدنيا مع أنه سبحانه يسليهم ويهوّن عليهم الفقر ، وقد يُغدِق عليهم الثراء والغنى ويتراءى للآخرين بأن الأثرياء في رفاه ورغد وبهجة وراحة ، ولكنهم يعيشون في محن وصعوبات وضيق . ولا منافاة في أن يكون أجر الفقراء المسلمين عند الحق المتعالي أكثر أيضا . كما نفهم من الروايات . وقد ذكرنا نبذة من هذا الموضوع في شرح حديث من الأحاديث السابقة .


فصل
في بيان ان الفرائض والنوافل تقرب الانسان من الله وآثار ذلك حسب رأي اهل السلوك والعرفان

إعلم أن للسالك إلى الله ، والمهاجر من بيت النفس المظلم ، إلى الكعبة الحقيقية ، سفرا روحانيا وسلوكا عرفانيا ، حيث يكون مبدأ هذه الرحلة بيت النفس والأنانية ، ومنازل هذه الرحلة مراتب التعيّنات الأدناس والأنفسية والمُلكية والملكوتية التي عبر عنها بالحجب النورانية والظلمانية «إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة» أي أنوار الوجود ، وظلمات التعين أو أنوار الملكوت وظلمات المُلك أو الظُلمة الناتجة عن التعلقات النفسية والأنوار الطاهرة الباعثة عن التعلّقات القلبية . وقد يعبّر عن سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ، بحجب سبعة بصورة مضغوطة كما ورد عن الأئمة الأطهار عليهم السلام في التكبيرات الافتتاحية السبعة للصلاة والتي تخرق كل تكبيرة حجابا . وورد في السجود على التربة الحسينية المطهّرة ، خرق

الاربعون حديثاً 526

للحجب السبع (1) . يقول العارف المشهور عطار النيسابوري : بيت شعر :
جاب عطار مدن العشق السبعة ولا نزال نحن في منعطف زقاق واحد

وعُبّر عن الحجب السبعة في الإنسان الصغير باللطائف السبع . وقد يخفضون عدد الحجب إلى ثلاث حجب كلية ويصطلحون عليها في عالم الآفاق ، بالعوالم الثلاث . وفي عالم الأنفس بالمراتب الثلاثة . وقد يعبّر عن الحجب على أساس الحدود المتوسطة بألف منزل معروف لدى السالكين . وبمائة منزل حسب اعتبار آخر . وبعشرة منازل على ضوء اعتبار ثالث . وقرر الشيخ العارف الكامل الشاه آبادي دام ظله كل منزل من منازل السائرين المائة بيوتا عشرة ببيان بديع فيصير المجموع ألف بيت . وإن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام قد أوجز ذلك السفر الروحاني نحو الحق المتعالي الذي يقصه القرآن بمنازل ثلاثة : أحدهما الكوكب والآخر القمر والثالث الشمس .
وعلى أي حال إن مبدأ السفر الروحاني إلى الله سبحانه هو بيت النفس المظلم ، ومنازل هذه الرحلة ، المراتب الآفاقية والمراحل الأنفسية . ونهاية هذا السفر الذات الحق المقدس حيث يكون للإنسان الكامل في المرحلة الأولى الذات مع جميع الصفات والأسماء . وفي المرحلة الأخيرة الذات مضمحلا فيه الأسماء والصفات . ولغير الإنسان الكامل الذات المقدس مع اسم وصفة وتعين من الأسماء والصفات والتعينات .
وبعد أن يطأ الإنسان السالك بِرِجله على هامة إنيته وأنانيته ، ويغادر البيت المظلم ويتجاوز المنازل ومراحل التعينات عند بحثه عن المقصد الأصلي وطلبه لله سبحانه ويطأ بقدميه على رأس كل ذلك ، ويخرق الحجب الظلمانية والنورانية ويقطع آماله من كل الموجودات والكائنات ، ويحطم الأصنام بيد قدرة ولايته من كعبة قلبه ، وتغيب الكواكب والأقمار والشموس من أفق قلبه ويغدو قلبه إلهيا ذا وجه واحد وجهة واحدة من دون أن يعكر صفوها التعلق بالغير ، ويبلغ مستوى «وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض» (2) ويفنى في الأسماء والذات والأفعال . وبعد هذه المراحل التي يجتازها ، ينسلخ عن نفسه ويحصل له المحو الكلي وتظهر له حالة الصعق ، ويصير الحق المتعالي فيه فعّالا . حيث يسمع بسمع الحق ويبصر بعين الحق ويبطش بيد قدرة الحق وينطق بلسان الحق ، ويرى الحق ولا يرى غيره ، ويتكلم بالحق دون غيره فيكون تجاه غير الحق أعمى وأصم وأبكم وتجاه الحق بصيرا وسميعا وناطقا .

(1) عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال : إن السجود على تربة أبي عبد الله عليه السلام يخرق الحجب السبع (المترجم) وسائل الشيعة ، المجلد 3 ، باب 16 من أبواب ما يسجد عليه ، ح 3 .
(2) سورة الأنعام ، آية : 79 .
الاربعون حديثاً 527

ولا يحصل هذا المقام إلا مع الجذب الربوبي وجذوة نار العشق ، حيث يتقرّب بها إلى الحق بصورة مستمرة ، ويُسعف بواسطة الجذبة الربوبية التي تحصل إثر حب الذات المقدس ، حتى لا ينزلق في وادي الحيرة ، ولا يبتلى بالشطحات وغيرها التي تكون من رواسب الأنانية . وقد أشير إلى هذين الأمرين في قوله «وإنه يتقرّب إلي بالنافلة حتى أُحبّه» .
فإن تقرّب العبد إلى الله من آثار جذوة العشق والجذبة الإلهية للحق سبحانه من نتائج الحب
إذا لم تكن جذبة من طرف المعشوق لا تفلح مساعي العاشق المسكين

فيوجب التقرب بالنوافل ، الفناء الكلي والاضمحلال المطلق والانصهار التام وتكون نتيجته «كنت سمعه الذي يسمع به ـ الخ» وبعد هذا الفناء التام ، والمحو الكلي ، والمحق المطلق ، والصعق التام ، قد تشمله العناية الأزلية ويرجع إليه وعيه ، ويعيده إلى عالمه ويعتريه الصحو ، وتحصل له حال الأنس والطمأنينة ، وتنكشف له سُبُحات الجمال والجلال ، وفي هذه الحال من الصحو تتجلى في مرآة الذات ، الصفات وفيها تنكشف الأعيان الثابتة ولوازمها ، ويكون وضع أهل السلوك في هذا المقام مثل المقام الأول في أن عينه الثابتة ، تفنى في الإسم الذي تتبعه ، وتبقى معه وينكشف عليه حين الصحو الاسم نفسه والعين الثابتة التابعة لذلك الاسم .
إذن تنكشف على الإنسان الكامل ، المنطوي تحت الاسم الجامع الأعظم ، مطلق الأعيان الثابتة مع لوازمها أزلا وأبدا ، وتنكشف له حالات الكائنات واستعداداتها ، وكيفية سلوكها وطريقة وصولها وتليق به زينة الخاتمية والنبوة الخاتمة اللتان تكوّنتا نتيجة الكشف المطلق ، وتنكشف على بقية الأنبياء كل حسب مظهريته لإسم من الأسماء الإلهية ، وحسب إحاطة وسعة ذلك الإسم ، تنكشف ، الأعيان التابعة لذلك الإسم ، وتنطلق منها سعة دائرة الدعوة وضيقها ، والكمال والنقص ، والأشرفية وغيرها ، وتعود إلى التبعية للأسماء الإلهية . كما ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب «مصباح الهداية» .
ومجمل الكلام ، بعد أن يتحقق الصحو بعد المحو ، يتحوّل وجوده إلى وجود حق ، يرى الحق سبحانه في مرآة جماله ، الموجودات الأخرى ، بل يتحول إلى موجود منسجم مع المشيئة . وإذا كان الإنسان كاملا ، انسجم مع المشيئة المطلقة ، وصارت روحانيته عين مقام الظهور الفعلي للحق عز وجل . وفي هذه الصورة يرى به الحق المتعالي ويسمع ويبطش ، ويصير هو الإرادة النافذة للحق ومشيئته الكاملة ، وعلمه الفعلي «فالحق يسمع به ويُبصر به ـ إلى آخره» ، «عليٌّ عين الله وسمع الله وجنب الله» إلى غير ذلك .
إذن إن التقرب بالفرائض يقود الإنسان إلى الصحو بعد المحو ، وتكون ثماره ما سمعته .

السابق السابق الفهرس التالي التالي