الاربعون حديثاً 500

بساط أبحاث معظم العلماء لا يزال غامضا لدى الفريقين ولم يتطرّق إليه حسب مقاييس علمية صحيحة . ولهذا لا يجد العلماء غالبا ارتباطا بين هذه المسألة وبحث الجبر والتفويض ، مع أنه من النقاط الدقيقة جدا .
ومجمل القول أنه إذا ارتأى الأشاعرة بأن الحلال والحرام من الرزق المقسوم انطلاقا من التزامهم بالجبر ، أو المعتزلة بأن الحرام ليس من الرزق المقسوم لإيمانهم بالتفويض ، لكان كلا المذهبين باطلا ، وقد ثبت فساده في محله . ونحن على ضوء المبادئ الثابتة لدينا بالدليل والبرهان نؤمن بأن الحلال والحرام من الرزق المقسوم من قبل الحق المتعالي ، كما نرى الآثام بتقدير من الله وقضائه من دون أن يستلزم ذلك الجبر والفساد . وقد آلينا (1) على أنفسنا أن لا نغور في الأبحاث العلمية التي لا نعرف شيئا عن مغزاها الحقيقي . مضافا على أن هذا الكتاب لا يكون في مستوى عرض الأدلة والبراهين على المواقف المختارة . ولهذا نقتنع بهذه الإشارة . والله الهادي .
كما أن المرحوم المحدث المجلسي أورد أيضا في نهاية شرحه لهذا الحديث في كتابه مرآة العقول بحثا آخر وهو أنه هل يجب على الله أن يرزق عباده بصورة مطلقة ، أو عندما يسعى العبد في سبيل تحصيله وكسبه ؟ إن هذا بحث يتناسب مع المبادئ التي يؤمن بها علماء الكلام ، ولا بد من اتخاذ طريقة أخرى في كافة هذه الأبحاث عندما تعالج على أساس البراهين والمقاييس الفلسفية . والأولى ترك الكلام في أمثال هذه الأبحاث التي لا تجدي نفعا تاما . وقد أسلفنا الإشارة إلى أن تقسيم الأرزاق على ضوء القضاء الإلهي ، لا تتنافى مع السعي والجهد في طلب الرزق .
فصل

في بيان أن الحق المتعالي قد جعل الرَوح والراحة في اليقين والرضا ، والهم والحزن في الشك والسخط ، وذلك على أساس القسط والعدل .
لا بد وأن نعرف أن الرَوح والراحة في هذا الحديث الشريف ، وكذلك الهم والحزن بسبب ذكر هذه الأمور إثر تقدير الأرزاق وتقسيمها ، يعودان إلى الأمور الدنيوية وكسب العيش ، وطلب الرزق ، وإن كان إرجاعهما إلى الأمور الأخروية على أساس بيان آخر ، أيضا صحيحا . ونحن نكون فعلا بصدد بيان هذا الحديث الشريف .
إذن فاعلم أن الإنسان الذي يعتقد بالحق وتقديره اعتقادا يقينيا ، ويعتمد على الركن

(1) وحيث أن الله سبحانه هو الذي يدبر الأمور ، قمنا بدراسة مختصرة لهذه المسألة في شرح حديث التاسع والثلاثين عرفت الله بفسخ الغرائم ونقض الهمم (منه عفى عنه) .
الاربعون حديثاً 501

الركين القادر بصورة مطلقة ، الذي يقرر الأمور بأسرها على ضوء المصالح الغيبية ، وأن له سبحانه الرحمة الكاملة المطلقة ، وإنه الرحيم المطلق والجواد المطلق . ومن المعلوم أنه مع مثل هذا اليقين تذلل الصعاب وتهون كل المصائب ، ويختلف كثيرا طلبه لمعيشته عن طلب أهل الدنيا وأهر الشك والشرك . إن الذين يعتمدون على الأسباب الظاهرية ، يعيشون دائما عند طلب الرزق في حالة من القلق والاضطراب ، ولو اصطدموا بمشكلة ، لعظمت عندهم ، لأنهم لا يجدونها محفوفة بالمصالح الغيبية .
وخلاصة الكلام إن من يرى سعادته ، في تحصيل هذه الدنيا ، يواجه في طلبه هذا الآلام والعَناء ، وتُسلب عنه الراحة والبهجة ، وتستنزف قواه وطاقاته في هذا الطلب . كما نرى أن أهل الدنيا دائما في تعب ونصب ، وأنهم لم يتمتعوا باطمئنان في الروح واستقرار في الجسم ، وإذا حلّت بهم مصيبة ، خارت قدراتهم وحيويتهم وزال جلدهم وصبرهم أمام الحوادث التي تداهمهم . وهذا لا يكون إلا نتيجة شكهم وعدم إيمانهم بالقضاء الإلهي وعدله ، فتكون هذه الأمور من الحزن والهم والتعب . نتيجة لهذا التزلزل .
وقد سبق منا شرح مسهب في هذا الموضوع ، ولهذا لا ينبغي تكراره .
وأما بيان أن ترتب الروح والراحة على اليقين والرضا ، وترتب الهم والحزن على الشك والسخط ، من الجعل الإلهي ، وإن هذا الجعل يكون عادلا ، فهو متوقف على بيان تطرق فاعلية الحق المتعالي في جميع مراتب الوجود من دون أن يستلزم جبرا باطلا ومستحيلا ، وعلى بيان البرهان اللمي ـ الاستدلال من المعلول على العلة ـ من أن نظام الوجود أتم وأكمل نظام متصور . وهذان الأمران خارجان عن وظيفة ودور هذا الكتاب . والحمد لله أولا وآخرا .

الاربعون حديثاً 502




الاربعون حديثاً 503

الحديث الثالث والثلاثون

ولاية اهل البيت عليهم السلام


الاربعون حديثاً 504

بالسند المتصل إلى الشيخ الأقدم محمد بن يعقوب الكليني ـ رضوان الله عليه ـ عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عمّن ذكره ، عن عبيد بن زرارة ، عن محمد بن مارد قال : قُلت لأبي عبد الله عليه السلام : «حديث روي لنا أنك قلت : إذا عرفت فاعمل ما شئت ، فقال : قد قلت ذلك ، قال : قلت : وإن زَنَوا وإن سَرَقوا وإن شرِبوا الخمر ؟ فقال لي : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والله ما أنصفونا أن نكون اُخذنا بالعمل ووُضع عنهم ! إنما قلت : إذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره فإنه يُقبل منك» (1) .

(1) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب أن الإيمان لا يضر معه سيئة ، ح 5 .
الاربعون حديثاً 505

الشرح :


«حديث» مبتدأ ومسند إليه «رُوي» خبره ومسند و «أنك» بفتح الهمزة ، خبر لمبتدأ محذوف أي هو أنك .
قوله «إذا عرفت» أن المقصود من المعرفة في هذا الحديث هو معرفة الإمام عليه الصلاة والسلام .
«قال : قلت» يحتمل أن تكون التاء مضمومة فتكون للمتكلم لوحده . ويحتمل أن تكون مفتوحة فتكون الكلمة للخطاب .
«وإن زنَوا» إن كلمة إن وصلية أي إذا عرفوا فليعملوا ما شاؤوا وإن كان من الكبائر .
قوله عليه السلام «إنا لله» إن هذه الكلمة تسمى بكلمة الاسترجاع ، وتقال لدى شدّة المصيبة وعظم الخطب . وحيث أن هذا الافتراء أو سوء الفهم ، يعد من المصائب الكبيرة ، استرجع الإمام حتى يثبت منتهى بُعدُه عنها .
قوله عليه السلام : أن نكون أي في أن نكون بمعنى أنهم لم ينصفونا في أن نكون مكلفين ومأخوذين على التكاليف ، وهم لأجل عقيدتهم فينا لم يكلفوا ولم يؤخذوا على أعمالهم . ثم ذكر عليه السلام مغزى كلامه من أن الولاية شرط في قبول الأفعال . كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى .

فصل
في الجمع بين الاخبار التي تحث على العبادة وترك المعصية وبعض الاخبار التي تخالف الاحاديث الاولى ظاهراً

إعلم أن من يراجع الأخبار المأثورة في ترجمة حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله

الاربعون حديثاً 506

وسلم وأئمة الهدى عليهم السلام ، وكيفية عبادتهم وبذلهم الجهد فيها ، وفي تضرعهم وبكائهم وذلهم ومسكنتهم وخشيتهم وحزنهم أمام ساحة قدس رب العزة ، وفي كيفية مناجاتهم بين يدي قاضي الحاجات لوجدها أوسع من التواتر وأكثر من المئات . وهكذا إذا راجع وصايا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، ووصايا الأئمة بعضهم لبعض ، ووصاياهم للخواص من شيعتهم ، والخُلّص من مواليهم ، ووصاياهم البليغة جدا التي كانوا يوصون بها محبيهم ، ويحذرونهم من معصية الله تعالى والتاكيد عليهم في الإبتعاد عن مخالفة الله سبحانه في أصول الأحكام وفروعها ، المدونة في كتب الأخبار ، إذا راجع تلك الأحاديث وهذه الوصايا ، لحصل له علم قطعي بأن بعض الروايات التي يتنافى ظاهرها مع تلك الأحاديث لم يكن هذا الظاهر مقصودا ، فإن أمكن تأويل هذه الأخبار بصورة لا تتضارب مع تلك الأحاديث الصريحة القطعية التي تعتبر من ضروريات الدين ، لأخذنا بالتأويل . وإذا أمكن الجمع بين هاتين الطائفتين على اساس الجمع العرفي بين الروايات ، لقمنا بهذا الجمع ، وإن لم يمكن التأويل ولا الجمع العرفي ، أرجعنا علمها إلى قائلها .
ونحن لا نستطيع في هذا الكتاب أن نستعرض جميع تلك الأخبار أو عُشرا من أعشارها ونبين كيفية التوفيق والجمع بينها ، ولكننا نضطر لذكر بعض الروايات من الطائفتين حتى تتضح حقيقة الحال .
الكافي : بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «شيعتنا [هُم] الشاحبون الذابلون الناحلون الذين إذا جنهم الليل استقبلوه بحزن» (1) .
والروايات التي تتحدث بهذا المضمون والتي تستعرض علامات الشيعة كثيرة .
وعنه ، عن المفضّل قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : «إياك والسّفلة فإنما شيعة علي عليه السلام مَن عف بطنه وفرجه واشتد جهاده وعمِل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه ، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر» (2) .
وعن الأمالي للحسن بن محمد الطوسي شيخ الطائفة ـ رحمه الله ـ بإسناده عن الرضا عليه السلام ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي جعفر عليه السلام ، أنه قال لِخَيثَمة : «ابلِغ شيعتنا ، أنّا لا نُغني من الله شيئا ، وأبلغ شيعتنا أنه لا يُنال ما عند الله إلا بالعمل ، وأبلغ شيعتنا أن أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وَصَف عدلا ثم خالفه إلى غيره ، وأبلغ شيعتنا أنهم إذا قاموا بما أمروا أنهم هم الفائزون يوم القيامة» (3) .

(1) الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب المؤمن وعلاماته ، ح 7 .
(2) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب المؤمن وعلاماته ، ح 9 .
(3) أمالي الطوسي ، المجلد 1 ، ص 380 .
الاربعون حديثاً 507

الكافي : بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : «لا تذهب بكم المذاهب ، فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع الله» (1) .
وبإسناده عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال لي : «يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت ؟ فوالله ما شيعتنا إلا من اتّقى الله وأطاعه ـ إلى أن قال : فاتّقوا الله واعملوا لِما عند الله ، ليس بين الله ولا بين أحد قرابة ، أحب العباد إلى الله تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملُهُم بطاعته . يا جابر والله ما نتقرّب إلى الله تعالى إلا بالطاعة ، ما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجة ، من كان لله مطيعا فهو لنا ولي ، ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو ، وما تُنال ولايتنا إلا بالعمل والورع» (2) .
وفي الكافي عن أبي جعفر عليه السلام قال : يا معشر الشيعة ـ شيعة آل محمد ـ كونوا النَمرِقة الوُسطى يَرجع إليكم الغالي ويَلحق بكم التالي فقال له رجل من الأنصار يُقال له سعد جُعلت فداك ما الغالي ؟ قال قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا فليس أولئك منّا ولَسنا منهم . قال فما التالي ؟ قال المُرتاد يُريد الخَير يُبَلّغه الخير عليه ثم أقبل علينا فقال والله ما مَعَنا من الله براءة ولا بيننا وبين الله قرابة ولا لنا على الله حُجة ولا نتقرب إلى الله إلا بالطاعة فمن كان منكم مطيعا لله تَنفعه ولايتُنا ، ومن كان منكم عاصيا لله لَم تنفعه ولايتُنا ، ويحكم لا تغتروا وَيحَكم لا تغترّوا (3) .
عن أبي عُبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال : قام رسول الله على الصّفا فقال يا بني هاشم يا بني عبد المطلب إني رسول الله إليكم وإني شفيق عليكم وإن لي عملي ولكل رجل منكم عمله لا تقولوا إن محمدا منا وسندخل مدخله فلا والله ما أوليائي منكم ولا من غيركم يا بني عبد الملطب إلا المتقون ألا فلا أعرفكم يوم القيامة ، تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم ، ويأتون الناس يحملون الآخرة (2) .
وفي حديث جابر عن أبي جعفر عليه السلام .. فقال يا جابر لا تذهب بك المذاهب حسب الرجل أن يقول اُحب عليا وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعّالا ؟ فلو قال إنّي أحب رسول الله ، فرسول الله صلى الله عليه وآله خير من علي عليه السلام ثم لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسُنّته ما نفعه حبّه إيّاه شيئا
(4) .
قال طاووس الفقيه : رأيته ـ الإمام زين العابدين عليه السلام ـ يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد ، فلمّا لم ير أحدا رمق السماء بطرفه ، وقال : إلهي غارت نجوم سماواتك ،

(1) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الطاعة والتقوى ، ح 1 و 3 .
(2) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الطاعة والتقوى ، ح 6 .
(3) روضة الكافي ـ ص 159 ح205 .
(4) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الطاعة والتقوى ، ح 3 .
الاربعون حديثاً 508

وهجعت عيون أنامك ، وأبوابك مفتّحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عرصات القيامة ، ثم بكى وقال : وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرّض ، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخي به عليَّ، فالآن من عذابك من يستنقذني ؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني ؟ فواسوأتاه غدا من الوقوف بين يديك ، إذا قيل للمخفّين جوزوا ، وللمثقلين حطّوا ، أمع المخفّين أجوز ؟ أم مع المثقلين أحط ؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب ، أما آن لي أن أستحي من ربي ؟! ثم بكى وأنشأ يقول :
أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأيـن رجائي ثـم أيـن محبّتـي
>أتيت بأعمال قبـاح زريّـة وما في الورى خلق جني كجنايتي

ثم بكى وقال : سبحانك تُعصى كأنك لا ترى ، وتحلم كأنك لم تعص تتودّد إلى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيّدي الغنيّ عنهم ثم خر إلى الارض ساجدا ؟ قال : فدنوت منه ورفعت رأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خدّه ، فاستوى جالسا وقال : من الذي شغلني عن ذكر ربي ؟ فقلت : أنا طاوس يا ابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع ؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون ، أبوك الحسين بن علي وأمّك فاطمة الزهراء ، وجدّك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! قال : فالتفت إليّ وقال : هيهات هيهات يا طاوس دع عنّي حديث أبي وأمّي وجدّي خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ، ولو كان عبدا حبشيا ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولدا قرشيا أما سمعت قوله تعالى « فإذا نُفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون » والله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدّمها من عمل صالح (1) .
هذه بعض الأحاديث الشريفة الصريحة في أن هذه الرغبات الكاذبة الموجودة فينا نحن أهل الدنيا وأهل المعصية ، تجاه هذه الحياة ، فاسدة وباطلة ، وتعتبر من الأهواء الشيطانية ، ومخالفة للعقل والنقل .
وتنضم إلى تلك الأحاديث ، الآيات الكريمة القرآنية مثل قوله تعالى «كل نفس بما كسبت رهينة» (2) وقوله تعالى : «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره» وقوله تعالى :«لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» (3) وغيرها من الآيات الشريفة الموجودة في كل

(1) بحار الأنوار ، المجلد 46 ، ص 82 .
(2) سورة المدثر ، آية : 38 .
(3) سورة البقرة ، آية : 286 .
الاربعون حديثاً 509

صفحة من الكتاب المجيد التي تدل على أن الورع والعمل الصالح هما الركيزتان لنجاة الإنسان ولا مجال لتأويل هذه الأخبار والتصرف فيها لأن ذلك على خلاف الضرورة .
وتقابل هذه الروايات ، أحاديث أخرى مأثورة عن أهل البيت عليهم السلام ومذكورة في الكتب المعتبرة أيضا ـ كما تأتي بعد قليل ـ ولكن نستطيع أن نجمع بين معظم هذه الروايات وتلك الأخبار بالجمع الصحيح العرفي . وإذا لم يكن الجمع مقبولا أيضا ولم يمكن التأويل ، فلا تستطيع هذه الروايات من مقاومة تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة المؤيدة بظاهر القرآن ونصوص الفرقان ، والعقل السليم ، والضرورة البديهية لدى المسلمين على أن الأساس هو العمل الصالح والورع .
فمن تلك الأحاديث التي تقابل تلك الروايات ـ ما رواه ثقة الإسلام الكليني بإسناده عن يوسف بن ثابت بن ابي سعدة ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «الإيمان لا يضر معه عمل وكذلك الكفر لا ينفع معه عمل» (1) وهناك روايات أخرى بهذا المضمون .
وقد فسّر المحدث الجليل المجلسي عليه الرحمة ، الضرر المنفي في هذه المجموعة من الأخبار : (مايصير سببا لدخول النار أو الخلود فيها) (2) . انتهى . وإذا كان المقصود من الضرر المنفي دخول النار ، فلا منافاة بين عدم الدخول في النار حسب هذه الروايات ، وتحقق أنواع أخرى من العذاب في عالم البرزخ والمواقف المختلفة في يوم القيامة .
ويظن الكاتب بأنه يمكن تفسير هذه الأخبار ، بأن الإيمان ينوّر القلب قليلا وفي درجة محدودة لو اقترف الإنسان خطيئة أو ذنبا عولج ببركة ذلك النور وملكة الإيمان ، الإثم وتلك الجريرة ، بالتوبة والرجوع إلى الله ، فإن صاحب الإيمان بالله واليوم الآخر ، لا يسمح لنفسه أن يترك أعماله إلى يوم القيامة . فهذه الأخبار في الحقيقة تحفز الإنسان على التمسك بالإيمان ، والمحافظة عليه . كما ورد في كتاب «الكافي» عن الصادق عليه السلام قال : قال موسى للخضر عليه السلام قد تحرّمت بصُحبتك فأوصين قال له الزم ما لا يضرك معه شيء كما لا ينفعك مع غيره شيء (3) .
ومن ذلك ما رواه بإسناده عن محمد بن ريّان بن الصّلت ، رفعه عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه السلام كثيرا ما يقول في خُطبته : يا أيها الناس دينكم دينكم ، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره ، والسيئة فيه تُغفر والحسنة في غيره لا تُقبل»
(4) .

(1) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الإيمان لا يضر معه سيئة ، ح 4 .
(2) مرآة العقول ، المجلد 11 ، ص 396 .
(3) و (4) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب أن الإيمان لا يضر معه سيئة ح 2 و 6 .
الاربعون حديثاً 510

ويدل هذا الحديث الشريف وأمثاله من الأخبار التي ترغّب على ملازمة الديانة الحقة ، على أن خطايا المؤمنين وذي الدين الحق ، تؤول إلى المغفرة كما قال الله سبحانه «إن الله يغفر الذنوب جميعا» (1) . ولهذا نستطيع أن نقول بأن سيئات المؤمنين أفضل من حسنات الآخرين التي لا تقبل أبدا ، بل لعل الحسنات التي لا تحتوي على شرائط القبول مثل الإيمان والولاية ، تنطوي على ظلمات أكثر من الظلمات الموجودة في سيئات المؤمنين الذين يعيشون في حال الخوف والرجاء نتيجة نور الإيمان المشع في قلوبهم . وعلى أي حال لا يدل هذا الحديث على أن أهل الإيمان لا يحاسبون على سيئاتهم كما هو ظاهر .
ومن الأحاديث المشهورة التي يقال أنها مشهورة بين الفريقين الحديث القائل : «حب علي حسنة لا يضر معها سيئة ، وبُغضه سيئة لا ينفع معها حسنة» (2) .
وهذا الحديث الشريف من قبيل الأحاديث المذكورة التي وردت في الإيمان ومعناه اما ما ذكره المرحوم المجلسي في تلك الأخبار من أن المقصود من الضرر المنفي هو الخلود في النار أو الدخول فيها ، فيكون المعنى أن حب علي عليه السلام الذي هو أساس الإيمان وإكماله وإتمامه يوجب بواسطة شفاعة الشافعين ، التخلص من النار . وعليه كما قلنا لا يتنافى هذا الاحتمال مع ألوان العذاب في عالم البرزخ . وقد ورد في ذلك عن الصادق عليه السلام (والله ما أخاف عليكم إلا البرزخ فأما إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم) . أو ما ذكرناه من أن حب الإمام علي عليه السلام يبعث على نور وإيمان يجنّبان صاحبهما عن الآثام ، ويدفعانه إلى التوبة والإنابة إذا إبتلى بالمعصية من دون أن يفسح المجال أمامه للتمادي في الغي والعصيان .
ومن تلك الأحاديث ، الأخبار الواردة في تفسير الآيات الشريفة المذكورة في سورة الفرقان . قال الله تعالى :
« والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويَخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يُبدّل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما» (3) .
ونحن نقتصر على ذكر واحدة من تلك الأخبار ، لأنها جميعا متقاربة في المضمون والمعنى :
عن الشيخ في أماليه بإسناده عن محمد بن مسلم الثقفي قال : «سألت أبا جعفر محمد بن علي

(1) سورة الزمر ، آية : 53 .
(2) كتاب مناقب ابن شهرآشوب ، المجلد 3 ، ص 197 .
(3) سورة الفرقان ، آية 68 ـ 70 .
الاربعون حديثاً 511

عليهما السلام عن قول الله عز وجل : « فأولئك يُبدّل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما »، فقال عليه السلام : يُؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتى يُقام بمَوقف الحساب ، فيكون الله تعالى هو الذي يتولّى حسابه لا يُطلع على حسابه أحد من الناس ، فيُعرّفه ذنوبه حتى إذا أقر بسيّئاته قال الله عز وجل للكَتَبَة : بدّلوها حسنات وأظهروها للناس ، فيقول الناس حينئذ : ما كان لهذا العبد سيّئة واحدة ! ثم يأمر الله به إلى الجنة ، فهذا تأويل الآية ، وهي في المُذنبين من شيعتنا خاصّة»
(1) .
والباعث على ذكر الآيات الكريمة بأسرها وإطالة الكلام هنا ، هو أن البحث مهم ، وأن كثيرا من الخطباء قد شوّهوا معنى هذه الأخبار للناس ، وأن ربط الخبر بالآية لا يكون مفهوما إلا إذا ذكرنا الآية نفسها فلهذا اعتذر من إطالة الأحاديث المملة .
ومن يقرأ الآيات المذكورة الثلاثة من أولها إلى آخرها ، يفهم بأن الناس جميعا مطوّقون بأعمالهم ويحاسبون على قبائحها ، إلا الذين آمنوا ، وتابوا من جرائرهم ، وعملوا عملا صالحا فكل من توفرت فيه هذه الأمور الثلاثة ، فاز وشملته ألطاف الله سبحانه وأصبح مكرّما أمام ساحة قدسه ، فتتحول سيئاته وآثامه إلى حسنات . وقد فسر الإمام الباقر عليه السلام الآية المباركة بهذا التفسير أيضا ، وجعل كيفية حساب هؤلاء الأشخاص وموقفهم يوم القيامة على الشكل الذي ذكرناه .
ومن المعلوم أن هذا الأمر يختص بشيعة أهل البيت ، ويحرم عنه الناس الآخرون . لأن الإيمان ولا يحصل إلا بواسطة ولاية علي وأوصيائه من المعصومين الطاهرين عليهم السلام ، بل لا يقبل الإيمان بالله ورسوله من دون الولاية ، كما نذكر ذلك في الفصل التالي .
إذن لا بد من اعتبار هذه الآية المباركة والأخبار التي وردت في تفسيرها ، من الطائفة الأولى من الروايات ، لأنها تدل على أن الشخص إذا كان مؤمنا ولم يحاول القضاء على سيئاته بالتوبة والعمل الصالح لما شملته الآية الكريمة .
فيا أيها العزيز لا يغرنك الشيطان ، ولا تخدعنّك الأهواء النفسية ، ومن المعلوم أن الإنسان الخامل المبتلي بالشهوات وحب الدنيا والجاه والمال مثل الكاتب يبحث عن مبرّر على خموله ، ويقبل على كل ما يوافق شهواته ، ويدعم رغباته النفسية وأوهامه الشيطانية ، وينفتح بكل وجوده على مثل هذه الأخبار ، من دون أن يفحص عن مغزاها ، أو يتأمل في الأخبار الأخر التي تعارضها وتقابلها . إن هذا المسكين يظن أن مجرد إدعاء التشيع وحب التشيع وحب أهل بيت الطهارة والعصمة ، يسوّغ له ـ والعياذ بالله ـ اقتراف كل محرّم من المحظورات الشرعية ، ويرفع عنه قلم التكليف . إن هذا السيء الحظ لم ينتبه بأن الشيطان قد البس الأمر عليه ،

(1) كتاب أمالي الشيخ الطوسي ، المجلد 1 ، ص 70 .
الاربعون حديثاً 512

ويُخشى عليه في نهاية عمره إن تُسلب منه هذه المحبة الجوفاء التي لا تجدي ولا تنفع ، ويحشر يوم القيامة صفر اليدين وفي صفوف نواصب أهل البيت عليهم السلام . إن إدعاء المحبة من دون دليل وبيّنة ، لا يكون مقبولا . إنه لا يمكن أن أكون صديقك وأضمر لك الحب والإخلاص ، وأقوم بكل ما هو مناقض لرغباتك وأهدافك . إن شجرة المحبة تنتج وتثمر في الإنسان المحب ، العمل حسب درجة المحبة ومستواها ، وإن لم تحمل تلك الشجرة هذه الثمرة فلا بد من معرفة أنها لم تكن محبة حقيقية وإنما هي محبة وهمية .
إن النبي الأكرم وأهل بيته العظام صلوات الله عليهم ، قد بذلوا حياتهم في نشر الأحكام الشرعية والعقائد والأخلاق ، وأرادوا في ذلك البلوغ إلى منشودهم الوحيد وهو إبلاغ أحكام الله وإصلاح الإنسان وتهذيبه ، واستساغوا في هذا السبيل الشريف أنواع السلب والقتل والإذلال والإهانة ، ولم يتوانوا في ذلك . فمحب أهل البيت ، وشيعتهم ، هو الذي يشاركهم في أهدافهم ، ويعمل على ضوء أخبارهم وآثارهم . إن ما ذكر في الأخبار الشريفة من أن الإقرار باللسان والعمل بالأركان من دعائم الإيمان ، فهو بيان لسر طبيعي ، ولسنة الله الجارية ، لأن حقيقة الإيمان ، تلازم العمل والتنفيذ . إن العاشق في جوهر طبيعته ، يظهر العشق تجاه المعشوق ويتغزّل به ، وإن المؤمن إذا لم يعمل بمتطلبات الإيمان وما تستدعيه محبة الله وأوليائه ، لما كان مؤمنا ومحبّا . وإن هذا الإيمان الشكلي والمحبة الجوفاء ، من دون جوهر ومضمون ، ينتفي ويزول أمام حوادث بسيطة وضغوط يسيرة ، وينتقل هذا المحب إلى دار جزاء الأعمال ، صفر اليدين .


فصل
في بيان ان ولاية اهل البيت شرط لقبول الاعمال

إن ما مر في ذيل الحديث الشريف من أن ولاية أهل البيت ومعرفتهم شرط في قبول الأعمال ، يعتبر من الأمور المُسلّمة ، بل تكون من ضروريات مذهب التشيع ، المقدس . وتكون الأخبار في هذا الموضوع أكبر من طاقة مثل هذه الكتب المختصرة على استيعابها ، وأكثر من حجم التواتر . ويتبرك هذا الكتاب بذكر بعض تلك الأخبار .
عن الكافي : بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : «ذِروة الأمر وسَنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورِضى الرحمن الطاعة للإمام بَعد معرفته ... أما لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيُواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان» (1) .

(1) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر باب دعائم الإسلام ، ح 5 .
الاربعون حديثاً 513

وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «من لم يأت الله عز وجل يوم القيامة بما أنتم عليه ، لم يُتقبّل منه حسنة ولم يُتجاوز له سيئة» (1) .
وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال : «والله لو أن إبليس ـ لعنه الله ـ سجد لله بعد المعصية والتكبر عُمر الدنيا ما نفعه ذلك ولا قبله الله ما لم يسجد لآدم كما أمره الله عز وجل أن يسجد له ،وكذلك هذه الامّة العاصية المفتونة بعد تركهم الإمام الذي نصبه نبيّهم لهم ، فلن يقبل الله لهم عملا ولن يرفع لهم حسنة حتى يأتوا الله من حيث أمرهم ويتولَّوا الإمام الذي أمرهم الله بولايته ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله ورسوله لهم ـ الحديث»
(2) .
والأخبار في هذا الموضوع وبهذا المضمون كثيرة ، ويستفاد مجموعها أن ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في قبول الأعمال عند الله سبحانه ، بل هو شرط في قبول الإيمان بالله والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم . ولا يستفاد كونها شرطا في صحة الأعمال كما يقول بذلك بعض الأعلام ، بل الظاهر أنها ليست بشرط في صحة الأعمال . كما يستفاد ذلك من الروايات الكثيرة مثل الرواية المذكورة في باب عدم وجوب قضاء المخالف عبادته إذا استبصر عن أبي عبد الله عليه السلام ـ في حديث ـ قال : (كل عمل عمله وهو في حال نُصبه وضلالته ، ثم منّ الله عليه وعرّفه الولاية فإنّه يَؤخَر عليه إلا الزكاة فإنه يُعيدها ، لأنه وضعها في غير موضعها ، لأنها لأهل الولاية ، وأمـا الصلاة والحـج والصيام فليـس عليه قضـاء) (3) .
وفي رواية أخرى عن محمد بن حكيم قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه كوفيّان كانا زيديَّين فقالا إنا كنا نقول بقول وإن الله منّ علينا بولايتك فهل يقبل شيء من أعمالنا فقال أما الصلاة والصوم والصدقة فإن الله يتبعكما ذلك ويلحق بكما واما الزكاة فلا لأنكما أبعدتما حق امرء مسلم وأعطيتماه غيره
(4) .
وفي بعض الروايات (تعرض أعمال الناس في كل يوم خميس على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فيؤجل النظر فيها حتى يوم عرفه ، وفي ذلك اليوم يلقي صلوات الله وسلامه عليه نظره عليه ويجعل أعماله هباءا منثورا . قيل أعمال أي شخص تتحول كذلك ؟ قال صلوات الله عليه أعمال مبغضينا ومبغضي شيئا) . وهذه الرواية تدل على أن الولاية شرط في صحة الأعمال كما هو واضح . وعلى أي حال يكون هذا البحث خارجا عن مسؤوليتنا والحمد لله أولا وآخرا .

(1) و (2) وسائل الشيعة ، الباب 69 ، من أبواب مقدمة العبادات ، ح 3 و 5 .
(3) و (4) وسائل الشيعة ، الباب 31 ، من أبواب مقدمة العبادات ، ح 1 و 5 .
الاربعون حديثاً 514


السابق السابق الفهرس التالي التالي