الاربعون حديثاً 486

فصل
في بيان معنى تفويض الامر الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في هذا الحديث الشريف والاحاديث الكثيرة الاخرى

إعلم أن للتفويض معنى مذكورا في أبحاث الجبر والتفويض وهو أن الحق سبحانه قد عزل نفسه ـ والعياذ بالله ـ عن التصرف القيومي في كل أمر من الأمور من أقصى عالم من عوالم الغيب المجردة حتى منتهى النهايات من عالم الخلق والتكوين ، وفوّض أمر ذلك إلى موجود سواء كان كاملا وتاما وروحانيا وصاحب اختيار وإرادة ، أو كان طبيعيا مسلوب الشعور والإرادة ، يتصرف ـ هذا الموجود ـ بصورة تامة ومستقلة . ومثل هذا التفويض لا يمكن أن يكون لأحد ، لا في عالم التكوين ولا في عالم التشريع وسياسة العباد وتأديبهم ، وذلك من أجل أن هذا التفويض يستلزم النقص والإمكان في الوجود الواجب ، ونفي الإمكان والحاجة في الممكن .
ويقابل التفويض هذا ، الجبر الذي يكون عبارة عن نفي الآثار الخاصة عن مراتب الوجود ونفى الأسباب والمسببات نهائيا ، وإلقاء الوسائط بصورة كلية . وهذا أيضا باطل ومرفوض ومخالف للبراهين المحكمة . وهذا المعنى من الجبر المرفوض لا يختص أيضا بأفعال المكلفين ، بل يعم عالم التكوين والتشريع كما هو المشهور . فإن رفض الجبر والتفويض بهذا المعنى الذي ذكرناه هو سنّة الله الجارية في كافة مراتب الوجود ، ومظاهر عالم الغيب والشهود . والتحقيق في ذلك خارج عن نطاق هذا الكتاب . والروايات التي تنفي الجبر والتفويض إنما تنفيهما حسب المعنى المذكور . وأما الأخبار التي تقر التفويض في بعض الأحكام التشريعية مثل ما نقل عن الكافي بإسناده إلى أبي جعفر عليه السلام قال وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دية العين ودية النفس وحرم النّبيذ وكل مسكر ، فقال له رجل وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يكون جاء فيه شيء ؟ قال : نعم ليعلم من يُطع الرسول ممن يعصيه (1) .
ومثل تلك الروايات الأخرى التي تقول بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أضاف بعض الركعات على الصلوات ، وجعل الصيام في شهر شعبان مستحبا وصيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحبا أو فُوّض إليه صلوات الله وسلامه عليه أمر الخليقة مثل ما نقله الكافي :
بإسناده عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام وأبا عبد الله عليه السلام يقولان : «إن الله عز وجل فوض إلى نبيه أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم ؛ ثم تلا هذه الآية : « ما آتيكم الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا»(2) .

(1) أصول الكافي ، المجلد 1، كتاب الحجة ، باب التفويض إلى رسول الله ، ح 7 .
(2) أصول الكافي ، المجلد 1 ، كتاب الحجة ، باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ح 3 .
الاربعون حديثاً 487

وروايات أخرى مأثورة بهذا المعنى أيضا . وأما هذه الأخبار فقد فسِّرت على وجه آخر غير المعنى المرفوض . وذكر لها علماؤنا الأعلام وجوها :
منها ما نقله المحدث الخبير المجلسي رحمه الله عن ثقة الإسلام الكليني وأكثر المحدثين وهو : (أنه تعالى لما أكمل نبيه بحيث لم يكن يختار من الأمور شيئا إلا ما يوافق الحق والصواب ولا يحل بباله ما يخالف مشيته سبحانه في كل باب ، فوّض إليه تعيين بعض الأمور كالزيادة في ركعات الفرائض وتعيين النوافل من الصلاة والصيام وطعمة الجد وغير ذلك مما سيأتي بعضها في هذا الكتاب ـ مرآة العقول ـ إظهارا لشرفه وكرامته عنده ، ولم يكن أصل التعيين إلا بالوحي ولا الاختيار إلا بالإلهام ثم كان يؤكد ما اختاره صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي)(1) .
وقد ذكر المرحوم المجلسي وجوها أخرى مثل تفويض أمور الخلق إليهم ـ الأنبياء ـ من سياستهم وتأدبيهم وتكميلهم وتعليمهم . ومثل تفويض بيان العلوم والأحكام إليهم بما أرادوا أو رأوا المصلحة فيها بسبب اختلاف عقولهم وأفهامهم أو بسبب التقية(2) .
ولكن لم يتحدث هؤلاء الاجلاء في الوجوه المحتملة التي استعرضوها عن كيفية تفويض الأمور إليهم على أساس قاعدة محدّدة لم تتناف مع الأسس الصحيحة التي ينطلقون منها . كما أنهم لم يشرحوا الفرق بين التفويض الممكن عندهم والتفويض المستحيل . بل يظهر من كلام العلماء وخاصة المرحوم المجلسي رضوان الله تعالى عليه أن الإيمان (بالتفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والأحياء إلى غير الحق سبحانه ، كفر صريح ولا يستريب عاقل في كفر مَن قال به) (3) وجعلوا الكرامات والمعجزات من قبيل استجابة الدعاء وأن الحق سبحانه هو الفاعل لكل هذه الأمور . ولكنهم أجازوا التفويض إليهم في تعليم الناس وتربيتهم وفي منع الناس من الأنفال والخمس أو الدفع إليهم وفي تشريع بعض الأحكام .
وهذا البحث من الدراسات التي يَقل التوغل فيها من قبل الباحثين ، حتى يكون له إطار عام دقيق ، وإن تناولوا غالبا طرفا من البحث وتحدثوا عنه .
وأنا ـ الكاتب ـ ، أيضا مع قصور الباع ، ونقص في العلم والاستعداد ، والقلم المتعثر ، والقرطاس الممزق ، لا أستطيع أن أتوغل في هذه الفلاة المترامية الأطراف بصورة مفصلة . ولكنني مضطر لكي أشير إجمالا إلى هذا الموضوع على شكل نتيجة البرهان ، ولا مهرب من عدم إظهار الحق .

(1) و (2) مرآة العقول ، المجلد 3 ، كتاب الحجة ، باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ح 3 .
(3) مرآة العقول ، المجلد 3 ، ص 143 ، طباعة دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
الاربعون حديثاً 488

في اشارة اجمالية الى معنى التفويض

لا بد من معرفة أنه لا فرق أبدا في التفويض المستحيل المستلزم لمغلولية يد الله وفاعلية قدرة العبد وإرادته بصورة مستقلة بين الأمور العظيمة والحقيرة . كما أن أمر الإحياء والإماتة ، والإيجاد والإعدام ، وتحويل عنصر إلى آخر لا يمكن أن يفوّض لموجود ، حتى أن تحريك قشّة أيضا ، لم يمكن أن يفوّض لا إلى ملك مقرّب ولا إلى نبي مرسل ولا إلى كائن ابتداءا من العقول المجردة القاطنة في الجبروت الأعلى إلى المادة : الهيولى الأولى . وإن ذرات الكائنات بأسرها مسخرة تحت إرادة الحق سبحانه الكاملة ، ولا استقلالية لها في أي عمل أبدا ، وأن جميع الكائنات في وجودها وكمالها وحركاتها وسكناتها وإرادتها وقدرتها وكافة شؤونها محتاجة وفقيرة ، بل هي فقر خالص وخالص فقر . كما أنه لا فرق أبدا في قيّومية الحق ، وعدم استقلال العباد ، وظهور إرادة الله ونفوذها وتغلغلها في كل شيء بين الأمور الكبيرة والصغيرة . وكما إننا العباد الضعاف قادرون على الأعمال البسيطة مثل الحركة والسكون وأفعال أخرى صغيرة ، فإن العباد المخلصين لله سبحانه والملائكة المجردين ، قادرون على أعمال عظيمة من الإحياء والإماتة والرزق والإيجاد والإعدام . وكما أن ملك الموت يقوم بالإماتة ، وعمله هذا لا يكون من قبيل استجابة الدعاء ، وإن إسرافيل موكل بالإحياء ، وإحيائه لا يكون من قبيل استجابة الدعاء أو التفويض الباطل فكذلك الولي الكامل ، والنفوس الزكية القوية ، مثل نفوس الأنبياء والأولياء ، قادرة على الإعدام والإيجاد والإماتة والإحياء ، بقدرة الحق المتعال ، وليس هذا من التفويض المحال ، ويجب أن لا نعتبره باطلا . ولا مانع من تفويض أمر العباد ، إلى روحانية كاملة ، تكون مشيئته فانية في مشيئة الحق ، وإرادته ظلال لإرادة الحق ، ولا يروم إلا ما يريده الحق ، ولا يتحرك إلا إذا كان موافقا للنظام الأصلح ، سواء كان في الخلق والتكوين أو التشريع والتربية ، كما وردت الإشارة إلى ذلك في حديث ابن سنان المذكور في الفصل القادم بعد أسطر .
وملخص الكلام أن التفويض بالمعنى الأول لا يكون جائزا في أي مجال من المجالات وأنه مخالف للبراهين القاطعة . وأما التفويض بالمعنى الثاني فجائز في كافة الأمور بل إن النظام العالم للعالم ، لا يقوم إلا على أساس الأسباب والمسببات «أبى الله أن يُجري الأمور إلا بأسبابها» (1) .
واعلم بأن كل ما بيناه على سبيل الاختصار فهو من ثمار الأدلة والبراهين ومتطابق مع المقاييس الصحيحة الفلسفية ، والمسلك العرفاني ، والأخبار الشريفة والله الهادي .

(1) نجد في كتاب أصول الكافي ، المجلد الأول ، كتاب الحجة ، باب معرفة الإمام والرد إليه ، ح 7 من الأحاديث ما يكون مرادفا لهذا الكلام .
الاربعون حديثاً 489

فصل
في الاشارة الى مقام الائمة عليهم السلام

إعلم أن لأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام مقاما روحانيا شامخا ، في السير المعنوي إلى الله ، يفوق قدرة استيعاب الإنسان حتى من الناحية العلمية ، وأسمى من عقول ذوي العقول وأعظم من شهود أصحاب العرفان . كما يستفاد من الأحاديث الشريفة ، أنهم صلوات الله عليهم يشاركون الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في مقام الروحانية وأن أنوارهم المطهرة كانت تسبح وتقدس للذات المتعال قبل خلق العالم .
الكافي : بإسناده عن محمد بن سنان قال : «كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فأجريت اختلاف الشيعة فقال : يا محمد ، إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفردا بوحدانيته ، ثم خلق محمدا وعليا وفاطمة فمكثوا ألف دهر ، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوّض أمورها إليهم ، فهم يُحلّون ما يشاؤون ويحرّمون ما يشاؤون ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله تعالى .
ثم قال : يا محمد ، هذه الديانة التي من تقدّمها مرق ، ومن تخلّف عنها مُحق ، ومن لزمها لَحق ، خذها إليك يا محمد» (1) .
وبإسناده عن المُفضّل قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : «كيف كنتم حيث كنتم في الأظلة ؟ فقال : يا مفضّل ، كنا عند ربنا ، ليس عنده أحد غيرنا في ظلة خضراء ، نسبّحه ونقدّسه ونهلّله ونمجّده ، وما من ملك مقرّب ولا ذي روح غيرنا حتى بدا له في خلق الأشياء فخلق ما شاء كيف شاء من الملائكة وغيرهم ، ثم أنهى علم ذلك إلينا»
(2) .
إن الأحاديث المأثورة في طينة أبدانهم ، وخلق أرواحهم ونفوسهم ، وفيما منحوا من الاسم الأعظم ، والعلوم الغيبية الإلهية من علوم الأنبياء والملائكة ، ومما هو أعظم مما لا يخطر على بال أحد ، وهكذا الأخبار المنقولة في فضائلهم في مختلف الأبواب من الكتب المعتبرة وخاصة كتاب أصول الكافي ، إن مثل هذه الأخبار كثيرة بقدر تبعث على تحير العقول ، ولم يقف أحد على حقائقهم وأسرارهم عليهم الصلوات إلا أنفسهم . وهذا الحديث الشريف الذي بين أيدينا يحتوي على إيمائة لفضيلة واحدة من فضائلهم ، وهذه الفضيلة هي آية التطهير التي نزلت حسب الأخبار المتواترة المنقولة عن طرق العامة والخاصة في أهل بيت العصمة عليهم السلام ، والمقصود من أهل البيت في آية « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت » المباركة

(1) و (2) أصول الكافي ، المجلد الأول ، كتاب الحجة ، باب مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ح 5 و 7 .
الاربعون حديثاً 490

على ضوء اتفاق الشيعة والأخبار المستفيضة أو المتواترة المأثورة في تفسيرها ، هم آل بيت العصمة والطهارة الذين هم يكونون من قبيل توضيح الواضحات .

في بيان حقيقة العصمة

لقد فُسر «الرجس» في هذا الحديث الشريف وأحاديث أخرى ، بالشك ، وفي بعض الأحاديث بالعيوب بأسرها فهم مطهرون عنها . وتبين من الشرح لبعض الأحاديث السابقة ، إن نفي الشك يستلزم ، نفي العيوب القلبية والقالبية ، بل يستلزم العصمة ، لأنها ـ العصمة ـ أمر على خلاف الإرادة والاختيار ، وإنها لا تكون من الأمور الطبيعية والجبلّية ، بل هي حالة نفسية ، وأنوار باطنية تتفجّر من نور اليقين الكامل والاطمئنان التام .
إن مصدر جميع الخطايا والمعاصي التي تصدر من الإنسان ، هو النقص في اليقين والإيمان ، وإن مراتب اليقين والإيمان مختلفة على مستوى لا يمكن عدّها وبيانها . وإن اليقين الكامل للأنبياء والاطمئنان التام الذي يحظون به ، الحاصلان من المشاهدة الحضورية هو الذي يعصمهم من الآثام . إن يقين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد أبلغه إلى مستوى يقول (والله لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته) (1) .
وملخص الحديث أن زوال الشرك والشك والتطهير من أرجاس عالم الطبيعة وخبائثها ومن ظلمات التعلق بغير الحق تعالى شأنه ، وكدر الإنية ، والحجاب الغليظ للأنانية وللتوجه إلى غير الحق سبحانه . إن هذا الزوال ، يجعل صاحبه بواسطة الإرادة الأزلية ، من الأنوار القدسية الإلهية ، والآيات التامة الربوبية ، والخالصين المخلصين لله سبحانه ، كما أنه ـ هذا الزوال ـ يحقق مقاما رفيعا لا يمكن إخضاعه للوصف والبيان ، ولا تنال أيادي الآمال قمة جلاله مثله مثل مُغرب (2) غيب الهوية . نصف بيت شعر :
أيها الصياد ، إسحب الفخ فإن أحدا لا يستطيع أن يصطاد العنقاء .


فصل
في بيان ان الايمان لا يوصف

اعلم أن الإيمان أيضا من الكمالات الروحية ، التي قلما يدرك أحد حقيقتها النورية ،

(1) نهج البلاغة ، الخطبة 224 . (الشيخ صبحي الصالح) .
(2) العنقاء المُغرب ، وعنقاء مُغرب ومُغربة على النعت ، وعنقاء مُغرب على الإضافة ، طائر معروف الاسم ، مجهول الجسم (أقرب الموارد ـ مادة عنق ـ المترجم) .
الاربعون حديثاً 491

حتى أن المؤمنين لم يعرفوا شيئا عن نورانية إيمانهم ، والكرامات التي تنتظرهم لدى ساحة قدسه المتعالي ، ما داموا في عالم الدنيا ، وظلام الطبيعة .
إن الإنسان نتيجة عيشه في هذا العالم ، واندماجه مع الظروف السائدة ، وأنسه بالعادات الجارية يقارن جميع نعم وكرامات ذلك العالم أو عذابه وخذلانه مع آلاء وآلام هذا العالم المُلكي ، فيقيس الكرامات التي وعد الحق المتعال المؤمنين ، والعطايا التي ذخرها لهم ، حسب ما حدّث عنها الأنبياء عليهم السلام ، بهدايا السلاطين والأجلاء ، إلى الناس أو يعتبرها أحسن وافضل بقليل ، ويفترض تلك النعم الأخروية مثل نعم هذا العالم أوألطف وأمتع بقدر يسير . ومع أن هذه المقارنة من القياس الباطل .
إننا لا نستطيع أن نتصور نعم ذلك العالم ورَوحه وريحانه ، ولم يخطر على قلوبنا مثيلها . إننا لا نتمكن أن ندرك بأن جرعة من ماء الجنة تحتوي على كل اللذات المنظورة الممكنة ، وأن كل لذة تفترق عن لذة أخرى ، كما أن كيفية كل لذة لا تضاهي اللذات الموجودة هنا .
وفي هذا الحديث الشريف ، ذكر لكرامة من كرامات المؤمنين التي لا تقاس لدى أصحاب المعرفة وأرباب القلوب ، بأي شيء آخر ، ولا تدخل في أي ميزان ومقياس ، وهي : «وإن المؤمن ليلقى أخاه فيُصافحه ، فلا يزال الله ينظر إليهما» .
وفي الروايات الكثيرة إشارة أيضا إلى هذا المضمون ففي الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا ، أقبل الله تعالى عليهما بوجهه وتساقطت عنهما الذنوب كما يتساقط الورق من الشجر» (1) .
إن الله سبحانه وتعالى يعلم ما ينجم من توجه الحق المتعالي وإقباله سبحانه بوجهه الكريم على المؤمن عند مصافحته لأخيه المؤمن من النور والكرامة ، ومن ارتفاع الحجب التي بين العبد المؤمن ونور جمال ذاته المقدس ، ومن العنايات الربانية التي تنزل على المؤمن وتنجده . لكن لا بد من معرفة السر الواقعي والنكتة الحقيقية التي تبعث على هذه الكرامات وعدم الغفلة عنها كي ينتبه القلب إليها ويصير عمله كاملا ونورانيا بها ، وتُنفخ في العمل الروح والنفخة الإلهية . وتلك ، النكتة الحقيقية والسر الواقعي هو : تحكم الود والمحبة في الله ، وتجديد عهد الأخوة في الله . كما أبدت أحاديث مباركة اهتماما كبيرا بهذا السر . وقد أشير إلى هذا الموضوع في الأحاديث الواردة في المصافحة أيضا . ففي الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إن المؤمنين إذا التقيا وتصافحا ، أدخل الله يده بين أيديهما فصافح أشدهما حبا لصاحبه» (2) .

(1) و (2) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الإيمان والكفر ، باب المصافحة ، ح 4 و ح 2 .
الاربعون حديثاً 492

وفي رواية أخرى عن إسحاق بن عمار قال : دخلت على أبي عبد الله عليه السلام ـ إلى أن قال ـ أو ما علمت أن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أنزل الله عز وجل الرحمة عليهما فكانت تسعة وتسعين لأشدهما حبا لصاحبه فإذا توافقا غمرتهما الرحمة (1)والحمد لله أولا وآخرا .

(1) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الإيمان والكفر ، باب المصافحة ، ح 14 .
الاربعون حديثاً 493

الحديث الثاني والثلاثون

الرزق


الاربعون حديثاً 494

بالسند المتصل إلى محمد بن يعقوب الكليني ، عن الحسين بن محمد ، عن المُعلّى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشّاء ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «من صحّة يقين المرء المسلم أن لا يُرضي الناس بسخط الله ، ولا يلومهم على ما لم يؤته الله ، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره ؛ ولو أن أحدكم فر من رزقه كما يفرّ من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت . ثم قال : إن الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا ، وجعـل الهـم والحزن في الشـك والسخـط» (1) .

(1) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الإيمان والكفر ، باب فضل اليقين ، ح 2 .
الاربعون حديثاً 495

الشرح:


قال الجوهري أن السَخَط على وزن الفرس ، والسُخط على وزن قُفل معناه خلاف الرضا . وقد سخط أي غضب فهو ساخط .
القِسط : بكسر القاف بمعنى العدل ويكون عطفه على العدل في قوله (إن الله بعدله وقِسطه) من العطف التفسيري .
الرَوح والراحة : هما بمعنى واحد وهو الاستراحة ، كما يقول الجوهري فيكون عطف الراحة على الروح عطفا تفسيريا . أو أن «الرَوح» بمعنى راحة القلب و «الراحة» بمعنى استراحة البدن . كما يقول المجلسي .
والهم والحُزن : قال الجوهري أنهما بمعنى واحد فيكون عطف الثاني على الأول عطفا تفسيريا . قال المجلسي «الهمّ اضطراب النفس عند تحصيله . والحزن جزعها واغتمامها بعد فواته» (1) .
فصل

قوله عليه السلام : «ولا يلومهم على ما لم يؤته الله» في هذه العبارة احتمالان :
«احدهما : لا يذمهم ـ الناس ـ ولا يشكرهم على ترك صلتهم إياه بالمال وغيره فإنه لعلم صاحب اليقين أن ذلك شيء لم يقدره الله له ولا يرزقه إياه لعدم كون صلاحه فيه مطلقا أو في كونه بيد هذا الرجل وبتوسطه ، بل يوصله إليه من حيث لا يحتسب فلا يلوم أحد بذلك» (2) .

(1) مرآة العقول ، المجلد 7 ، ص 359 ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
(2) مرآة العقول ، المجلد 7 ، ص 356 ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
الاربعون حديثاً 496

لقد ابدى المحقق الفيض الكاشاني رحمه الله هذا الاحتمال . وأيّده أيضا المحدث الخبير المجلسي .
ثانيهما : ما احتمله أيضاً الفيض رحمه الله وهو : «أنه لا يلومهم ـ الناس ـ على ما لم يؤته الله إياهم فإن الله خلق كل واحد على ما هو عليه وكل ميسر لما خلق له فيكون كقوله عليه السلام لو علم الناس كيف خلق الله هذا الخلق لم يَلُم أحد أحدا» (1) .
قال المحدث المجلسي رحمه الله «ولا يخفى بعده لا سيما بالنظر إلى التعليل بقوله فإن الرزق لا يسوقه» (2) .
يقول الكاتب أن الاحتمال الثاني أفضل بكثير من الاحتمال الأول ، خاصة بالنسبة إلى التعليل المذكور ـ فإن الرزق لا يسوقه ـ لأنه يصح تأنيب الناس على فقرهم وعسر معيشتهم فيما إذا تمكنوا باختيارهم تحصيل الرزق ، وتمكنوا من خلال السعي وبذل الجهد ، الترفيه على النفس والتوسعة عليها ، فيصح حينئذ أن يخاطب المرء صاحبه قائلا : إنني سعيت وجاهدت ، ولكنك لم تتحرك ولم تجهد فأصبت بالضائقة المعيشية : ولكن أهل اليقين يعلمون بأن الحرص والإكتساب لا يجلبان الرزق ، فلا يلومونهم على ما لم يؤته الله .
ولا بد من معرفة أن أمثال هذه الأحاديث الشريفة الظاهرة في ان الرزق مقسوم ومقدّر ، كما هو المستفاد من الآيات القرآنية المباركة ، هذه الأحاديث لا تتنافى مع الأخبار التي تحث على طلب الرزق وتؤكد على الكسب والتجارة ، والتي ترى كراهة شرعية في ترك العمل والإحجام عن تحصيل الرزق ، وتلوم على التخلي عن الكسب ، وجاعلة التارك للاشتغال بالعمل التجاري ممن لا يستجاب دعاءه ، ولا يبعث الله رزقه . والأحاديث بهذا الصدد كثيرة . ونحن نقتصر على حديث واحد منها :
عن محمد بن الحسن شيخ الطائفة ـ قدس سره ـ بإسناده عن علي بن عبد العزيز قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : «ما فعل عمر بن مسلم ؟ قلت : جُعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة . فقال : وَيحه ، أما عَلم أن تارك الطلب لا يُستجاب له دعوة ؟ إن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا نزلت « ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب »أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا : قد كُفينا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل إليهم فقال : ما حملكم على ما صنعتم ؟ فقالوا : يا رسول الله تكفّل الله بأرزاقنا فاقبلنا على العبادة ، فقال : من فعل ذلك لم يُستجب له ، عليكم بالطلب» (3) .

(1) مرآة العقول ، المجلد 7 ، ص 356 ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
(2) مرآة العقول ، المجلد 7 ، ص 357 ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
(3) وسائل الشيعة ، المجلد 12 ، الباب 5 ، من أبواب مقدمات التجارة ، ح 7 .
الاربعون حديثاً 497

ووجه عدم المنافاة بين الأخبار هو أن طلب الرزق ، من الإنسان ، وأما بعده من الأرزاق والأمور الأخرى التي تحف بالرزق ففي يد قدرة الحق المتعالي ولا يكفي طلبنا لوحده مستقلا في جلب الرزق ، فإن طلب الرزق من ظيفة العباد ، وأما تنظيم الأمور وترتيب الأسباب الظاهرية وغير الظاهرية التي تخرج عن اختيار العباد غالبا فيكون بتقدير من الباري تعالى .
فالإنسان الذي يتمتع بيقين صحيح ، والذي يكون واقفا على مجاري الأمور ، يجب عليه في اللحظة التي لا يفتر فيها عن طلب الرزق ، بل ينهض بوظائفه العقلية والشرعية في الاكتساب ، ولا يوصد أبواب الطلب على نفسه ، يعرف إن كل شيء من الذات المقدس الحق المتعالي ، وأنه لا يؤثر موجود آخر في الوجود ولا في كمالات الوجود ، إن الطالب والطلب والمطلوب ، منه سبحانه . وأما ما ورد في هذا الحديث الشريف «ولا يلومهم على ما لم يؤته الله» فمعناه إذا كان هناك طلب بالقدر المتعارف فلا يلومهم على ما لم يؤته الله ، وهذا لا يتنافى مع رجحان توبيخ طائفة وملامتهم إذا تقاعسوا عن الطلب حتى يدفعهم نحو الرزق ، كما ورد مثيله في الأخبار المباركة .
وملخّص الكلام أن هذا الموضوع من فروع بحث الجبر والتفويض ، فمن تضلّع في ذلك البحث ، يستطيع أن يقف ويطلع على المغزى والجوهر من هذا الموضوع . وتفصيله أوسع من مسؤوليتنا ووظيفتنا هنا .


فصل
في علامات حجة اليقين

جعل الإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث الشريف ، علامتين على صحة اليقين وسلامته هي :
أحدهما : لا يُرضي الناس بسخط الله .
الآخر : لا يلوم الناس على ما لم يؤته الله .
وهاتان العلامتان من نتائج كمال اليقين . كما أن ما يقابلهما يكون من آثار ضعف اليقين وسقم الإيمان ومرضه .
ونحن قد أتينا في هذا الكتاب ، لدى المناسبات المختلفة ، على شرح الإيمان ، واليقين ، وثمارهما ، حسب القدر المستطاع . كما واننا نأتي الآن أيضا بصورة مختصرة على ذكر هاتين العلامتين على صحة اليقين وسلامته وما يقابلهما الدالان على سقم اليقين وضعفه .
لا بد وأن نعلم بأن الراغب في تحصيل رضا الناس ، والباذل جهد للهيمنة على قلوبهم

الاربعون حديثاً 498

وعقولهم ، إنما يقوم بهذه المحاولات لأجل أنه مقتنع بأن لهؤلاء دورا إيجابيا ومؤثرا في مطمعه ومطمحه ، فالذين يحبون المال ويعبدون الدينار يخضعون أمام أصحاب الثروات ويتذللون بين أيديهم ويتزلفون لهم . والذين يطلبون الرئاسة والاحترامات الظاهرية ، يتملقون أمام الرؤساء ، ويتواضعون لهم تحسّبا منهم بأن هذه الاساليب نستميلهم وتبعث على كسب قلوبهم ، وهكذا تدور هذه العجلة ، فالمستضعفون يستذلون ويتملقون بين يدي أرباب الرئاسة ، وطالبوا الزعامة والوجاهة يخضعون ويتزلفون أمام الطبقة المستضعفة ، ويخرج من هذه الدائرة التي تدور بين الرؤساء والمرؤوسين ، خصوص الذين هذّبوا نفوسهم من خلال ترويض النفس في كل من الجانبين وبذلوا ما في وسعهم لأجل تحصيل رضا الحق سبحانه ، ولم يتزلزلوا أمام الدنيا وزخارفها بل كانوا يفتشون في فترة رئاستهم عن رضا الحق جل وعز ، ويبحثون عن الحق والحقيقة أيام مرؤوسيتهم .
وعلى أي حال فإن الناس ينقسمون في هذه الدنيا إلى هاتين الطبقتين :
إما يقودهم يقينهم إلى الاعتقاد بأن الأسباب الظاهرية ، والمؤثرات الشكلية مسخرة تحت الإرادة الأزلية الكاملة الوجوبية ، فلا يجدون دورا لغير الحق ، ولا يلتمسون من غيره شيئا . آمنوا بأنه المالك والمؤثر في الدنيا والآخرة ، واعتنقوا بكل إيمان ويقين غير مشوب بالنقص والترديد ، آية من الآيات المباركة القرآنية وهي : «قل اللهم مالك المُلك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء» (1) حيث يرون بأن الله سبحانه هو مالك ملك الوجود ، وأن جميع العطايا من ذاته المقدس ، وأن القبض والبسط في الوجود وكمالاته منه سبحانه حسب ترتيب النظام والمصالح الكامنة .
ومن البديهي أن أبواب المعارف تنفتح على هؤلاء الأشخاص ، وتتحوّل قلوبهم إلى قلوب إلهية ، لا يعبأون برضا الناس ولا بسخطهم ، ولا يرومون إلا رضا الحق المتعالي ، ولا يطمعون إلا فيه ولا يطلبون إلا منه ، ولا تترنم قلوبهم إلا بهذا الكلام : إلهي إن أعطيتني فمن ذا الذي يمنعني ؟ وإن منعتني فمن ذا الذي يُعطيني ؟ إنهم يغمضون أعينهم عن الناس وعطاياهم ودنياهم ، ويحدّقون في الحق جل جلاله بكل حاجة وفقر ، وهؤلاء الأشخاص لا يبيعون رضا العالم بأسره ، بسخط الحق المتعالي . كما قال أمير المؤمنين عليه السلام .
وفي نفس الوقت الذي لا يعبأون بأحد غير الحق المتعالي ، ويرون أن الكائنات بأسرها فقيرة إلى الله ، ينظرون إلى كل شيء بعين ملؤها العظمة والرحمة والحنان ، ولا يلومون أحدا على شيء إلا من أجل إصلاح وضعه وتربيته . كما أن الأنبياء عليهم السلام كانوا كذلك ، لأنهم

(1) سورة آل عمران ، آية : 26 .
الاربعون حديثاً 499

يعتبرون الناس من المرتبطين بالحق ومن مظاهر جماله وجلاله ، ولا يسمحون لأنفسهم إلا بالنظر إلى عباد الله بكل لطف ومحبة . ولا يؤنبون في قلوبهم أحدا على نقصه أو فتوره ، وإنما كانا يلومونه بألسنتهم للمحافظة على المصالح العامة وإصلاح أحوال العائلة البشرية . وهذا من نتائج وثمرات الشجرة الطيبة لليقين والإيمان ، والمعرفة بالحدود والشريعة الإلهية .
وأما الطائفة الثانية فهم لا يعرفون عن الحق شيئا ، وإذا علموا شيئا لكانت معرفتهم ناقصة وإيمانهم غير تام ، وحيث أن انتباههم إلى الكثرات والأسباب الظاهرية قد أغفلهم عن مسبّب الأسباب ، فظلّوا يسعون لكسب رضا المخلوق ، وقد ينتهي بهم الأمر إلى شراء رضا المخلوق الضعيف جدا ، بسخط وغضب الله سبحانه : بأن يعلنوا موافقتهم لمعصية العصاة ، أو يتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوقت المناسب للأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر ، أو يفتوا بالباطل ، أو يدعموا من ليس بأهل للتأييد أو يكذّبوا من ليس من شأنه الدجل والكذب . أو يغتابوا المؤمنين ويَفتروا عليهم لأجل كسب مودة أهل الدنيا ، ورعاية أصحاب المناصب الظاهرية . بل كل ذلك ينشأ من ضعف الإيمان ، بل إنه مرتبة من مراتب الشرك . وتُفضى مثل هذه المواقف بالإنسان إلى المهالك الكثيرة التي منها ما ورد في هذا الحديث الشريف من إساءة نظر مثل هذا الإنسان إلى عباد الله ومعاداتهم وتأنيبهم وملامتهم على أعمالهم إلى غير ذلك .


فصل
في نقل كلام المعتزلة والاشاعرة واشارة الى مذهب الحق سبحانه

إعلم : لقد عقد المحدث المجلسي رحمه الله في كتابه (مرآة العقول) عند هذا الحديث فصلا للبحث عن أن الرزق المقسوم ، من قبل الحق المتعالي هل يعم الحلال والحرام أو أنه يختص بالحلال ؟ ونقل رضوان الله تعالى عليه عن كتاب (تفسير الفخر الرازي) اختلاف الأشاعرة والمعتزلة في ذلك ، مع نقله للأحاديث والأخبار التي تمسك بها كل واحد من الطرفين على وجهة نظره ، وجعل موقف الإمامية متطابقا مع المعتزلة في عدم كون الرزق المقسوم من الحرام بل يختص بالحلال . ونقل أدلة المعتزلة على موقفهم ذلك من ظواهر الآيات والأخبار ، وظاهر كلمة الرزق حيث تكون هذه الأمور مصدر الاحتجاج للطرفين . واختار رحمه الله موقف المعتزلة ، لأنه موافق مع المذهب المشهور للإمامية ، وارتضى براهينهم على ذلك ، ولكن لا بد من معرفة أن هذه المسالة من فروع بحث الجبر والتفويض الذي لا يتوافق مذهب الإمامية فيه مع كل واحد من المعتزلة والأشاعرة ، بل أن كلام المعتزلة أوهى وأوهن من كلام الأشاعرة . وإذا نزع بعض المتكلمين من الإمامية رضوان الله تعالى عليهم نحو رأي المعتزلة ، فإنه نتيجة الغفلة عن حقيقة الحال والمآل . وقد قلنا قبل قليل بأن مسألة الجبر والتفويض المطروح على

السابق السابق الفهرس التالي التالي