الاربعون حديثاً 473

إما نحو جانب اللطف والجمال ، أو نحو جانب القهر والجلال .
وأما المؤمنون فلما كانوا تابعين في مسيرتهم للإنسان الكامل وواضعين خطاهم في موضع أقدامه وسائرين على ضوء نور هدايته ومعرفته ، ومستسلمين للذات المقدس للإنسان الكامل ، غير معتمدين على أنفسهم خطوة واحدة في سيرهم الروحاني إلى الله ، فلما كان المؤمنون كذلك يسلكون أيضا الصراط المستقيم ، ويكون حشرهم مع الإنسان الكامل ، ووصولهم تبعا لوصول الإنسان الكامل ، شرط محافظتهم على صفاء قلوبهم من تصرّف الشياطين والإنية والأنانية ، بل ويستسلمون في المسير كليا للإنسان الكامل ومقام الخاتميّة .

في بيان مكائد الشيطان

ومن التصرفات الخبيثة للشيطان ، إضلال القلب وإزاغته عن الصراط المستقيم وتوجيهه نحو فاتنة أو شيخ مرشد . ومن إبداع الشيطان الموسوس في صدور الناس ، الفريد من نوعه ، هو أنه مع بيان عذب ومليح ، وأعمال مغرية ، قد يعلق بعض المشائخ بشحمة أذن فاتنة جميلة ويبررهذه المعصية الكبيرة بل هذا الشرك لدى العرفاء ، بأن القلب إذا كان متعلقا بشيء واحد ، استطاع أن يقطع علاقاته مع الآخرين بصورة أسرع ، فيركّز كل توجهه أولا على الفتاة الجميلة بحجة أن القلب ينصرف عن غيرها وأنه منتبه إلى شيء واحد ثم يقطع هذا الارتباط الوحيد ويركّز قلبه على الحق المتعالي . وقد يدفع الشيطان بإنسان أبله نحو إنسان أبله ، نحو محيّا مرشد مكّار وحش ، بل شيطان قاطع للطريق ويلتجئ في تبرير هذا الشرك الجلي إلى أن هذا المرشد هو الإنسان الكامل ، وإنه لا سبيل للإنسان في الوصول إلى مقام الغيب المطلق إلا بواسطة الإنسان الكامل المتجسد في المرآة الأحدية للمرشد ، ويلتحق كل منهما بعالم الجن والشياطين . ذاك ـ المرشد ـ بالتفكير في جمال معشوقه ومفاتنه إلى نهاية عمره ، وهذا ـ الإنسان البسيط ـ بالانتباه الدائم إلى محيا مرشده المنكوس حتى آخر حياته . فلا تنسلخ العلقة الحيوانية عن المرشد ، ولا يبلغ الإنسان الأبله الأعمى إلى منشوده ومبتغاه .
ولا بد من معرفة أن المؤمن لمّا كان سره في هذا العالم معتدلا ، وقلبه سويا ، وتوجّهه نحو الله وصراطه مستقيما ، كان في ذلك العالم أيضا صراطه مستقيما وواضحا ، وجسمه معتدلا وصورته وسيرته وظاهره وباطنه في صورة الإنسان وهيئته . وعند مقارنة القلب المشرك مع قلب المؤمن ، نستطيع أن نفهم موقع قلب المشرك ومصيره ، فحيث أن قلبه قد خرج عن الفطرة الإلهية ، وانحرف عن النقطة المركزية للكمال ، وعن بحبوحة النور والجمال ، وابتعد عن التبعية للهادي المطلق والولي الكامل ، وانشغل بأنيته وأنانيته بالدنيا وزخارفها ، لم يحشر المشرك في العوالم الأخرى في سيرة الإنسان وصورته المعتدلة ، وإنما يحشر في صورة حيوان

الاربعون حديثاً 474

منكوس الرأس ، لأن الهيئة والصورة في ذلك العالم تتبع القلوب ، وأن الظاهر هناك ظل لباطن الإنسان هنا ، وأن القشر انعكاس للبّ وأن مواد ذلك العالم لا تأبى الأشكال الملكوتية الغيبية ، كما هو شأن المواد في هذا العالم التي لا تقبل الأشكال المختلفة . وقد ثبت كل ذلك في محله بالدليل والبرهان .
فالقلوب التي أعرضت عن الحق والحقيقة ، وخرجت عن فطرتها المستقيمة وأقبلت على الدنيا ، ألقت بظلالها على ذلك العالم حيث يخرج أصحابها هناك من الاعتدال ويكونون منكوسين ، ومتجهين نحو عالم الطبيعة والدنيا التي تعتبر أسفل السافلين . فمن المحتمل أن يمشي بعض مكبا على وجهه وتكون ساقاه نحو الأعلى ويمشي بعض على بطنه ، وبعض على يديه ورجليه ، كما كان اتجاهه في هذا العالم «أفمن يمشي مُكبّا على وجهه أهدى أم من يمشي سويّا على صراط مستقيم» (1) فمن الممكن أن هذا الاستعمال المجازي في هذا العالم المجازي ، يتحول إلى واقعية وحقيقة في عالم الحقائق والظهور للروحانيات والغيبيات .
لقد فسرت الأحاديث الشريفة : «الصراط المستقيم» المذكور في نهاية هذه الآية المباركة بالإمام أمير المؤمنين عليه السلام والأئمة المعصومين عليهم السلام :
عن الكافي بإسناده عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال : «قلت : « أفمن يمشي مُكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم »؟ قال : إن الله ضرب مثلا ، من حاد عن ولاية علي عليه السلام كمن يمشي على وجهه لا يهتدي لأمره ، وجعل من تبعه سويّا على صراط مستقيم ، والصراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السلام» (2) .
وعن الفضيل قال : دخلت مع أبي جعفر عليه السلام المسجد الحرام وهو متّكئ علي فنظر إلى الناس ونحن على باب بني شيبة فقال يا فُضَيل هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية لا يعرفون حقا ولا يدينون دينا يا فضيل أنظر إليهم مُكبّين على وجوههم لعنهم الله من خلق مسخهم ربهم مُكبّين على وجوههم ثم تلا هذه الآية «أفمن يمشي ـ الخ» مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم يعني عليا عليه السلام والأوصياء عليهم السلام (3) .
ونحن قد ذكرنا بأن الإنسان الكامل يمشي في سيره الباطني الغيبي على الصراط المستقيم ، وأما بيان أن الإنسان الكامل بنفسه يكون صراطا مستقيما ، فهو خارج عن مقصدنا وهدفنا فعلا .

(1) سورة الملك ، آية : 22 .
(2) أصول الكافي ، المجلد الأول ، كتاب الحجة ، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية ، ح 91 .
(3) روضة الكافي ، ح 434 .
الاربعون حديثاً 475

تتميم
في بيان قلب المنافق ، واختلافه مع قلب المؤمن

تبيّن من الفصل السابق وضع قلب المؤمن والمشرك بل الكافر أيضا . وتبيّن حال قلب المنافق لدى المقارنة مع قلب المؤمن أيضا . فإن قلب المؤمن لم يخرج من فطرته النقية الناصعة الطاهرة ، وكلما يُلقى عليه من الحقائق الإيمانية والمعارف الحقة يتلقّاها بالقبول ، ويبقى الإنسجام بين الطعام والمتغذي ، بين المدرك ـ بفتح الراء ـ والمدرك ـ بكسر الراء ـ من المعارف والحقائق من جهة ومقام الفطرة للقلب من جهة أخرى . ولهذا عبر عن قلب المؤمن في حديث آخر منقول في كتاب «الكافي» الشريف بـ«المفتوح» (1) وهذا الفتح وإن أمكن أن يكون إشارة إلى إحدى الفتوحات الثلاثة ، ولكنه أيضا يتناسب مع هذا المعنى الذي ذكرناه .
وأما قلب المنافق ، فبما أنه قدعلقت فيه الأقذار والظلمات التي تتنافى مع فطرة الإنسان مثل التعصّب الجاهلي ، والخلق الذميم ، وحب النفس والجاه وغير ذلك مما لا تتناسب مع الفطرة ، غدا مختوما ومغلقا ومطبوعا ورافضا لتقبل كلام الحق نهائيا ، ومضاهيا لصفحة سوداء لا تجدي النقوش معها والرسوم عليها ، مع العلم بأن تمسكه بالديانة والتظاهر بها ، وسيلة شيطانية لتسيير أموره وتطوير دنياه .
ولا بد من معرفة أن قلب المشرك والمنافق منكوس ومطبوع ، كما هو واضح ، ولكن اختصاص كل من القلبين بأحدهما من أجل أن المشرك لدى عبادته يخشع قلبه لغير المعبود الحقيقي ولغير الكمال المطلق ، فيكون لقلبه خاصيتان وخصوصيتان أحداهما الخضوع الصادق المتمثل في العبادة ثانيتهما أنه لمّا كان هذا الخضوع للناقص والمخلوق ، كان سببا للنقص والكدر في القلب ، فيكون قلبه منكوسا ، وهذه صفة بارزة للمشرك . وأما المنافق فهو في الحقيقة قد يكون مشركا فيساوى المشركين في انتكاس قلبه ، ويمتاز عليهم أيضا بخصوصية أخرى ـ تذكر بعد قليل ـ . وقد يكون المنافق كافرا وجاحدا في الواقع ، لجميع الشرائع ، فهو أيضا منكوس القلب ، ولن تتوفر فيه خصوصية أخرى بارزة أكثر هي أنه يصغي إلى الحق بحسب الظاهر ويعيش مع أهل الحق ، وتطرق سمعه أحاديث الحق كما تطرق سمع المؤمنين كلمات الحق ولكن المؤمنين لصفاء باطنهم تكون قلوبهم مفتوحة فيتلقونها بالقبول التام ، وأما المنافقون فلأجل الكدر والظلمات المحيطة بقلوبهم تكون قلوبهم مطبوعة ومختومة فترفض تلك الكلمات وتجحدها .

(1) وقلب مفتوح فيـه مصابيح تزهر . أصول الكافـي ، المجلد الثانـي ، كتاب الإيمان والكفـر ، باب في ظلمة قلب المنافـق ، ح 3 ص 423 .
الاربعون حديثاً 476

ثم إن تعرّض الحديث لخصوص صفتين من صفات المؤمن (إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر) من أجل أن لهاتين الصفتين من صفات المؤمنين خصائص ومزايا لا تتواجد في غيرها من الصفات ، فإنهما من أمهات الصفات الجميلة ، وتتفرع منهما صفات جميلة أخرى . ونحن قد ذكرنا شيئا قليلا منهما عند شرحنا لبعض الأحاديث المتقدمة .
ومن أجل أن هاتين الصفتين ـ أيضا ـ من صفات الجلال والجمال ، القهر واللطف ، المتجلّيتان بالعطاء والابتلاء . فإن الابتلاء وإن كان من صفات اللطف والجمال ، ولكنه حيث يكون ظاهرا بالقهر ، جعل منه . كما ذكر في بحث أسماء الحق وصفاته . والمؤمن ينهض دائما بالعبودية بين هذين التجلّيين .


ختام
في بيان ان الغفلة عن الحق المتعالي تبعث على انتكاسة القلب

تبيّن من العرض المتقدم أن النفوس المنكبّة على الدنيا ، والملتهية بتعميرها والمنصرفة عن الحق ، تكون منكوسة ، رغم أنها تعتنق الإيمان بالمبدأ والمعاد ، لأن المقياس في انتكاس القلوب ، هو الغفلة عن الحق والانشغال بالدنيا وتعميرها . وهذا الإيمان بالمبدأ والمعاد إما لا يعد إيمانا وعقيدة كما ذكر في شرح بعض الأحاديث السابقة ، أو أن الإيمان يكون ناقصا وبسيطا جدا ، وعليه لا يتنافى مع انتكاس القلب ، بل أن من يظهر الإيمان بالغيب والحشر والنشر ، ولا يخشى من ذلك ، وأن إيمانه لا يدفع به إلى عمل الجوارح والأركان ، يكون مثل هذا الإنسان منافقا ولا يكون مؤمنا . ويمكن أن يكون مَثَل هؤلاء المؤمنين الشكليين ، مَثَلَ قوم كانوا بالطائف ـ كما ورد في الحديث إن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك وإن أدركه على إيمانه نجا ـ ونعوذ بالله من زوال هذا الإيمان الذي ليس له لبّ وجوهر ولا هيمنة له في مُلك الجسم ، ومن انتقال الإنسان من هذه الدنيا على النفاق ، وحشره مع المنافقين . وهذا من الأمور الهامة التي لا بد أن تذعن لها نفوسنا الضعيفة ، ونهتم بها ونكون حريصين على تعميق الإيمان في الظاهر والباطن والسر والعلن ، وكما ندّعي الإيمان في قلوبنا نجهد أنفسنا على هيمنة الإيمان على الظاهر أيضا ، حتى يتجذر الإيمان في القلب ولا يزول أمام أي عائق ومانع أو أي تغيير وتبديل ، إلى أن يتم تسليم هذه الأمانة الإلهية ، والقلب الطاهر الملكوتي الذي تخمر بالفطرة الإلهية إلى الذات المقدس من دون أن تمتد إليه يد الشيطان والخيانة والحمد لله أولا وآخرا .

الاربعون حديثاً 477

الحديث الحادي والثلاثون

ان الله عز وجل لا يوصف


الاربعون حديثاً 478

بالسند المتصل إلى الشيخ الجليل أفضل المحدّثين محمد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد ، عن ربعي ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : سمعته يقول : «إن الله عز وجل لا يوصف ، وكيف يوصف وقال في كتابه :«وما قدروا الله حق قدره» فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك . وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يوصف ، وكيف يوصف عبد احتجب الله عز وجل بسبع وجعل طاعته في الأرض كطاعته في السماء فقال : « وما أتيكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا »ومن أطاع هذا فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني ، وفوّض إليه . وإنا لا نوصف ، وكيف يوصف قوم رفع الله عنهم الرجس وهو الشك . والمؤمن لا يوصف وإن المؤمن ليَلقى أخاه فيصافحه فلا يزال الله ينظر إليهما والذنوب تتحات عن وجوههما كما يتحات الورق عن الشجر» (1) .

(1) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الإيمان والكفر ، باب المصافحة ، ح 16 .
الاربعون حديثاً 479

الشرح :


قوله عليه السلام : و «ما قدروا الله» يقول الجوهري : (القدر كون الشيء مساويا لغيره بلا زيادة ولا نقصان وإن «قَدَر» بفتح الدال وسكونها مصدر ومعناها واحد . يقول الله سبحانه «ما قدروا الله حق قدره» (1) أي ما عظّموا الله حق تعظيمه) . انتهى .
يقول الكاتب الظاهر أن القدر بمعنى كون الشيء مساويا لغيره ، وهو كناية عن عدم القدرة على توصيف الله وتعظيمه كما يجدر به سبحانه ، و(قدره) وإن كان وصفا ولكنه موصوف في صياغة الوصف ، وسنشير إلى أن هذا التعبير من غير الحق المتعالي فبالنسبة إلى ذاته المقدس غير ميسور ولا جائز .
قوله عليه السلام : «فلا يوصَف بِقَدر» قال المرحوم المجلسي رحمه الله «كان خص القدرة بالذكر لأنها التي يمكن أن تعقل في الجملة من صفاته سبحانه أو هو على المثال ويمكن أن يقرأ بالفتح أي بَقَدر كما ورد في حديث آخر وهو أصوب» (2) وفي كتاب «الوافي» «بقُدرَة» ولعله يكون بِقَدَرِه مع الهاء ، كما ورد في بعض النسخ . وأما «بقُدرَة» مع التاء فمن المظنون بل المقطوع به أنه من الأغلاط المطبعية ، وذلك لعدم صيرورة المعنى سلسا ، ولعدم صحتها ـ القدرة ـ حسب ألفاظ الحديث حيث يعود إليها الضمير المذكر ، وتأويل ذلك على خلاف القاعدة . وإنما التجأ المرحوم المجلسي إلى ما نقلنا عنه ، لكونه من باب ضيق الخناق ، مع أنه لا وجه للتفرقة بين إمكان تعقل قدرة الحق إجمالا حيث قال «لأنها التي يمكن أن تعقل في الجملة من صفاته سبحانه» (3) وعدم إمكان تعقل بقية صفاته سبحانه . ولهذا نرى بأن مثل هذا

(1) سورة الأنعام ، آية : 91 .
(2) مرآة العقول ، المجلد 9 ، ص 70 ، ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
(3) مرآة العقول ، المجلد 9 ، ص 70 ـ 71 ط : دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
الاربعون حديثاً 480

التبرير للتفرقة لم يكن موجها حتى عنده أيضا . قال «وقد مر هذا الجزء من الخبر من كتاب التوحيد وفيه بقدر وهو أصوب» (1) .
قوله عليه السلام «تتحاتّ» قال الجوهري في الصحاح : الحتّ : حك الورق من الغصن» وقال «تَحاتّ الشيء : تناثَر» .
ونحن نشرح ما يتناسب مع هذا الحديث الشريف في فصول عدة .


فصل
في بيان المقصود من عدم توصيف الحق المتعالي

إعلم أن ما ورد في هذا الحديث الشريف : «إن الله عز وجل لا يوصف» إشارة إلى أوصاف وصف بها ، بعض أهل الجهل والجدل من المتكلمين ، الحق المتعال . واستدعت هذه الأوصاف التحديد والتشبيه ، بل التعطيل كما أشير إلى ذلك في الحديث بقوله تعالى « وما قدروا الله حق قدره» .
وفي باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى من كتاب «الكافي» المبارك روايات تدلّ على ذلك :
بإسناده عن عبد الرحيم بن عتيك القصير قال : «كتبت على يدَي عبد الملك بن أعيَن إلى أبي عبد الله عليه السلام : إن قوما بالعراق يصفون الله بالصورة وبالتخطيط (بالتخاطيط ـ خ ل) فإن رأيت جعلني الله فداك أن تَكتُب إلي بالمذهب الصحيح في التوحيد . فكتب إلي : سألت إلي رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قِبَلك ، فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، تعالى عما وصفه الواصفون المُشبّهون الله بخَلقه المفترون على الله .
فاعلم ـ رحمك الله ـ أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله تعالى ، فانف عن الله البُطلان والتشبيه ، فلا نفيَ ولا تشبيه ، هو الله الثابت الموجود ، تعالى عما يصفه الواصفون ، ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان (التبيان ـ خ ل)» (2) .
وبعد التدبر في صدر هذا الحديث الشريف وذيله ، يفهم بأنه ليس المقصود من نفي توصيف الحق سبحانه عدم التفكر في صفات الحق المتعالي ، وعدم توصيفه بصورة مطلقة ، كما قال به بعض المحدثين الأجلاّء ، إذ ورد في هذا الحديث وفي غيره من الروايات الأخرى الأمر بنفي التعطيل والتشبيه عنه سبحانه ، وهذا النفي لا يكون إلا بعد الوقوف على الصفات

(1) مرآة العقول ، المجلد 9 ، ص 70 ـ 71 ط : دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
(2) أصول الكافي ، كتاب التوحيد ، باب النهي عن الصفة ، ح 1 .
الاربعون حديثاً 481

واستيعابها . بل المقصود لدى أبي عبد الله عليه السلام ، هو عدم توصيفه بما لا يليق بذاته المقدس الحق المتعالي ، مثل إثبات الصورة والتخطيط وغيرها من صفات المخلوقين ، التي تلازم الإمكان والنقص . تعالى الله عنه .
وأما توصيف الحق المتعالي ، بما يليق ويجدر بذاته المقدس ، والذي أقيمت عليه البراهين الصحيحة في العلوم العالية الفلسفية ، فهو أمر مطلوب ، فإن كتاب الله سبحانه وسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وأحاديث أهل البيت عليهم السلام مشحونة من ذلك . كما أن الإمام الصادق عليه السلام لمّح في هذا الحديث الشريف إلى أن المقياس ـ في إثبات الأوصاف للحق سبحانه ـ هو البرهان الصحيح ويكون البحث في ذلك بعيد عن مقصدنا .
وما أمر به الإمام الصادق عليه السلام في توصيف الحق سبحانه ، من لزوم عدم الخروج عما في القرآن الكريم بقوله «إن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله» ، توجيه لمن لا يستوعبون المقياس من صفات الله سبحانه ، وليس بمنع توصيف الله سبحانه بصفات لم تذكر في كتاب الله ، ولهذا نرى بأن الإمام صلوات الله عليه الذي أمر عبد الله بن علي بعدم توصيفه بوصف غير مذكور في كتاب الله ، هذا الإمام بنفسه ينعت الحق بصفتين لم يعهد بهما في القرآن الكريم وهما الثابت والموجود .
نعم إذا أراد شخص أن يصف الحق المتعالي بوصف من وحي عقله القاصر المشوب بالأوهام ، من دون أن يستنير بنور المعرفة والسداد الغيبي ، فيسقط إما في ضلال التعطيل والبطلان ، وإما في هلاك التشبيه . فعلى أمثالنا الذين أسدلت على قلوبهم ستائر وحجب غليظة من الجهل والأناينة والعادات البشعة والخلق الغليظ الفظ ، أن لا نتطرق إلى عالم الغيب ، ولا ننعت إلها على ضوء إدراكنا ، لأن ما يخطر ببالنا لا يكون إلا مخلوقا لنا .
ولا يخفى بأن المقصود من منع أمثالنا التطرق إلى عالم الغيب ، ليس هو الإبقاء في عالم الجهل والأنانية أو والعياذ بالله دعوة الناس إلى الإلحاد باسماء الله «وذروا الذين يُلحدون في أسمائه» (1) أو المنع من الوقوف على المعارف الإلهية التي هي عين الأولياء ومصباحهم وأساس الديانات وقاعدتها . بل إن نفس هذا الكلام ـ الكف عن التطرق لعالم الغيب ـ دعوة لإزالة هذه الحجب الغليظة ، والانتباه إلى أن الإنسان ما دام ساقطا في شباك حب الجاه والمال والدنيا والنفس ، ويكون مَثَلُه ، مَثَل الكاتب الواقع خلف حجب الجهل والضلال والعُجب والأنانية التي هي أغلظ الحجب ، يكون بعيدا عن المعارف حقة، ومحروما من الوصول إلى هدفه ومبتغاه . وإذا لم تصله ـ والعياذ بالله ـ نجدة غيبية من الحق المتعالي أو أوليائه الكاملين ،

(1) سورة الأعراف ، آية : 180 .
الاربعون حديثاً 482

لا يعرف أحد المصير والنهاية لهذا المسير والحركة . اللهم إليك الشكوى وأنت المستعان .
إلهنا : نحن التائهين في عالم الجهل ، والمتحيرين في وادي الضلال ، والمثقلّين بالعجب والأناينة ، نحن الذين قدمنا على عالم المُلك والمادة ، عالم الظلام ، من دون أن نفتح أعين بصيرتنا ، ونشهد جمالك المنير في مرائي الصغار والكبار ، ونرى بصيصا من نورك الظاهر في أقطار السموات والأرضين ، ثم عشنا أيام حياتنا بعيون عُمى ، وقلوب مهجورة ، وأمضينا عمرنا في جهل وغفلة .
إلهنا إن لم تسعفنا وتسعنا رحمتك الواسعة ، وعنايتك اللامتناهية ، وإن لم تلقِ في قلوبنا حرارة الحب وفي صدورنا العشق وفي أعماقنا الجذبات الروحية ، لبقينا إلى الأبد في هذه الحيرة ، ولم نستطع أن نشق طريقنا ولكن «ما هكذا الظن بك» إنك قد ابتدأت بالنعم وإن رحمتك قديمة لا مثيل لها .
إلهنا : تفضّل علينا وكن في عوننا ، وأهدنا إلى أنوار جمالك وجلالك ، وانر قلوبنا بضياء أسمائك وصفاتك .
في بيان أن العلم بحقيقة الأسماء والصفات غير ميسور

لا يخفى على أن أحد بأن استيعاب حقيقة أوصاف الحق ، والإحاطة بها وبكيفياتها ، من المسائل التي تكون يد البرهان قاصرة عن الوصول إلى قممها ، وآمال العارفين مقطوعة عن البلوغ إلى مغزاها . وما ذكر من البراهين والآراء الدقيقة على يد علماء الحكمة والفلسفة أو في أبحاث الأسماء والصفات لأرباب المصطلحات العرفانية ، يكون صحيحا حسب مسلكهم ومبادئهم التي ينطلقون منها ، ولكن نفس العلم حجاب غليظ ، فإذا لم يخرق هذا الحجاب بتوفيق من الله سبحانه في ظل التقوى الكاملة والترويض المجهد للنفس ، والانقطاع التام لله والمناجاة الصادقة معه ، لم تُشرق في قلب السالك أنوار الجمال والجلال ، ولم يشهد قلب المهاجر إلى الله ، المشاهدات الغيبية ، ولم يتمتع بالحضور العيني لتجليات الأسماء والصفات ، فضلا عن الحظوة بالتجليات الذاتية . وهذا المعنى يجب أن لا يُحجم الإنسان عن البحث والطلب الذي هو تذكر للحق سبحانه . إذ أن من النادر جدا ، غرس الشجرة الطيبة للمعرفة في القلب أو إنعاشها ونضارتها من دون بذر علوم حقة مع كافة شرائطها المعهودة ، فالإنسان لا بد وأن يواظب في بدء الأمر على الرياضة العلمية مع النهوض بجميع شرائطها ومتمّماتها ، ولا يسحب يده منها حيث قالوا : «العلوم بذر المشاهدات» . وإن لم تنتج العلوم في هذا العالم لأجل العوائق ، نتيجة مجدية وتامة ، لأثمرت في عوالم أخرى ثمرات طيبة ، ولكن المهم هو النهوض بشرائطها ومقدماتها .
وقد تحدثنا عن بعض الشرائط والمقدمات لدى شرحنا بعضا من الأحاديث المتقدمة .

الاربعون حديثاً 483

فصل
في بيان ان العلم بحقيقة روحانية الانبياء والاولياء لا يمكن ان يتم بالفكر والبرهان

إعلم أنه لا يمكن معرفة روحانية ومقام خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، والأنبياء العظام والأولياء المعصومين عليهم السلام عامة مع التفكر والتدبر وسير الآفاق والأنفس لأن هؤلاء الأجلاء ، من الأنوار الغيبية الإلهية ، والمظاهر التامة ، للجلال والجمال ، وآياتهما الباهرة . وقد بلغوا في سيرهم المعنوي ، وسفرهم إلى الله الغاية القصوى ، والفناء في الذات ، ومنتهى العروج : (قاب قوسين أو أدنى) ، رغم أن صاحب المقام بالأصالة هو النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الأنبياء الآخرين السالكين لطريق العروج يتبعون الذات المقدس للنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم .
ونحن لسنا بصدد بيان كيفية سير خاتم الأنبياء ، وبيان الفارق بين معراجه الروحاني ومعراج جميع الأنبياء والأولياء عليهم السلام . وإنما نكتفي بذكر رواية واحدة تتحدث عن نورانيتهم ، لأن إدراك نورانيتهم ، يفتقر أيضا إلى نورانية باطنية وجذبة إلهية .
الكافي : بإسناده عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «سألته عن علم العالم ، فقال لي : يا جابر ، إن في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح : روح القُدُس وروح الإيمان وروح الحيوة وروح القوة وروح الشهوة . فبروح القدس ـ يا جابر ـ عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى . ثم قال : يا جابر ، إن هذه الأربعة أرواح يُصيبها الحدثـان إلا روح القـدس . فإنهـا لا تلهو ولا تلعـب» (1) .
وبإسناده عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى « وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان »، قال : «خلق من خلق الله تبارك وتعالى أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُخبره ويُسدّده وهو مع الأئمة من بعد صلوات الله عليهم»
(2) .
يفهم من الحديث الأول ، أن للإنبياء والأوصياء عليهم السلام مقاما شامخا من الروحانية يدعى بـ (الروح القدس) ومن خلاله يتمتعون بالإحاطة العلمية القيّومية لجميع الكائنات حتى ذرّاتها الصغيرة جدا ، ولا توجد فيها الغفلة والنوم والسهو والنسيان وكافة الحوادث والتغيّرات والنقائص المُلكية ، بل تكون من عالم الغيب المجرد ، والجبروت الأعظم . كما يستفاد من

(1) أصول الكافي ، المجلد الأول ، كتاب الحجة ، باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة عليهم السلام ، ح 2 .
(2) الكافي ، المجلد الأول ، كتاب الحجة ، باب الروح التي يسدد الله ... ح 1 .
الاربعون حديثاً 484

الحديث الثاني ، أن تلك الروح المجردة الكاملة ، أعظم من جبرائيل وميكائيل عليهما السلام رغم أنهما أعظم القاطنين في مقام قرب الجبروت .
نعم إن الأولياء ، الذين تخمّرت طينتهم على يدي قدرة الجمال والجلال للحق المتعالي ، وتجلّى سبحانه في مرآتهم الكاملة ، لدى التجلي الذاتي الأول بجميع الأسماء والصفات ومقام أحدية الجمع ، وتعلّموا حقائق الأسماء والصفات في مقام غيب الهوية . إن مقام هؤلاء الأولياء أسمى وأرفع من أن تنال آمال أهل المعرفة أطراف كبرياء جلالهم وجمالهم ، وأن تبلغ خطوات معرفة أهل القلوب ذروة كمالهم . وفي الحديث النبوي الشريف «علي ممسوس في ذات الله تعالى» (1) والكاتب قد وضع كتابا متواضعا في الأيام السابقة باسم (مصباح الهداية) .
وصف فيه نبذة من مقام النبوة والولاية . مثل وصف الخفاش الشمس المضيئة للعالم .
فصل

هناك احتمالات في هذه الجملة المذكورة في الحديث الشريف «كيف يوصف عبد احتجب الله عز وجل بسبع» نذكر بعضها :
الاحتمال الأول : ـ ما ذكره بعض العارفين ـ المحدث العارف الكامل المرحوم فيض الكاشاني رحمه الله تعالى ـ أنه : (قد ورد في الحديث أن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره . وعلى هذا فيحتمل أن يكون معنى قوله عليه السلام «احتجب الله بسبع» أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد ارتفعت الحجب بينه وبين الله تعالى حتى بقي من السبعين ألف ، سبع) (2) .
وبناء على هذا الاحتمال يكون التقدير هكذا «احتجب الله عنه بسبع» فيكون اسم الجلالة فاعلا لفعل (إحتجب) . وهذا الاحتمال وإن كان أفضل الاحتمالات ولكنه لا يخلو من المناقشة . أما بحسب اللفظ فالمناسب في مقام التوصيف والتعريف هو التعبير عن مقصوده هذا بقوله «ما احتجب عن الله إلا بسبع» أو «ما احتجب الله عنه إلا بسبع» وبعبارة أخرى بناء على مقصوده ذاك أن كمال النبي وعدم جواز توصيفه (وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يوصف) يكون بعدم وجود الحجب الأخرى وليس بوجود الحجب السبعة ، فكان من المناسب أن ينفي الحجب مع أنه لم يفعل ذلك .
وأما بحسب المعنى فالظاهر أن هذه الحجب التي (احتجب الله عز وجل بسبع) من

(1) بحار الأنوار ، المجلد 39 ، ص 313 .
(2) مرآة العقول ، المجلد 9 ، ص 71 طباعة دار الكتب الإسلامية ـ طهران .
الاربعون حديثاً 485

حجب النور والظلمة أي من الحجب الخلقية أقرب من نور الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الطاهر ، مع أنه قد ثبت أن ذاته صلى الله عليه وآله وسلم هو الحجاب الأقرب والمخلوق الأول وإنه لا يوجد له حجب الأسماء والصفات ، كما تقرر ذلك في محلّه . وأما مقامات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولطائفة السبعة لا تكون أيضا حجبا له .
الاحتمال الثاني : ما نقله المحدث الخبير المرحوم المجلسي أعلى الله في القدس مقامه عن بعض الأعلام ورآه وجيها (من أن هذه الجملة تمهيد لما بعدها أي احتجب الله عن الخلق بسبع سماوات وجعله خليفة في عباده ، وأناط طاعته بطاعته ، وفوض إليه أمور خلقه بمنزلة ملك جعل بينه وبين رعيته سبعة حجب وأبواب لم يمكنهم الوصول إليه بوجه ، وبعث إليهم وزيرا ونصب عليهم حاكما وكتب إليهم كتابا تضمن وجوب طاعته وإن كل من له حاجة فليرجع إليه فإن قوله قولي ، وأمره أمري وحكمه حكمي ، فاحتجابه بالسبع كناية عن عدم ظهور وحيه وأمره ونهيه وتقديراته إلا من فوق سبع سماوات وإنما يظهر لنا جميع ذلك ببيانه صلى الله عليه وآله وسلم .
وهذا وجه وجيه خطر ببال القاصر سالفا وإن وافقني على بعضه بعض) (1) .
ولا ترد على هذا الاحتمال المناقشة المتقدمة على معنى الرواية ، كما يستبعد أيضا ورود المناقشة على ألفاظ الرواية ، بل تكون أبعد من ورود المناقشة اللفظية على الاحتمال الأول .
وهناك احتمال ثالث يتمتع بالصحة والقبول لدى النفس ويتناسب مع الموضوع أيضا ، ولكن صحته تتوقف على أحد أمرين :
إما أن نعتبر أن «احتجب» استعمل بمعنى «حَجَب» ويكون متعدّيا . وأما أن نجوّز تعدية «إحتَجَب» بالباء الجارة ويكون المفعول على كلا الإحتمالين مقدّرا محذوفا . ويكون هذا الاحتمال الثالث مع فرض صحة أحد الأمرين هو : كيف يوصف عبد ، احتجبه الحق المتعالي بحجب سبعة ، وجعل سبحانه لإبراز جمال عبده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم وروحانيته ، حجبا سبعة ابتداءا من الطبيعة وانتهاء بالمشيّة المطلقة ، أو ابتداءا من عالم مُلكه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وطبيعته ، حتى مقام غيب هويته ، وذلك منسجما مع عالم المشية .
ولكننا لم نجد في اللغة العربية وفي مجالات استعمال كلمة «احتجب» أنها استعملت متعدية رغم تصريح بعض علماء الأدب بجواز تعدية «احتَجَبَ» بالباء .والعلم عند الله «ولعلّ الله يُحدِث بعد ذلك أمرا» .

(1) مرآة العقول ، المجلد 9 ، ص 71 ـ دار الكتب الإسلامية ـ طهران .

السابق السابق الفهرس التالي التالي