الاربعون حديثاً 458

وهناك حديث آخر بهذا المضمون ، وهذا الحفر الوارد في الحديث الشريف هو الالتهابات التي قد تحصل في أصول الأسنان من اللثة التي تدعـى لـدى الأطبـاء بـ ('pyorrhei مرض استسقاء اللثة) والتي توجب التقيح والتعفن ، حيث يختلط القيح الذي ينز منه ، مع الطعام الممضوغ ويسبب أمراضا خطيرة مثل سوء الهضم وغيره ، وفي بعض الأحيان يضطر الطبيب إلى قلع الأسنان حتى يتمكن من القضاء على الأمراض .
فمن الحري بالإنسان أن يواظب على السواك الذي يفيد صحته وينظف أسنانه ، مع قطع النظر عن الأمور الغيبية الباطنية التي أعظمها رضا الله سبحانه ، وأن يستمر على هذه السُنة التي تعد من سُنن المرسلين .
وفي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصاني جبرائيل بالسواك حتى خفت على أسناني (1) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند وضوء كل صلاة) (2) .
وفي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام (قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى العشاء الآخر أمر بوضوئه وسواكه يوضع عند رأسه مخمرا فيرقد ما شاء الله ثم يقو فيستاك ويتوضأ ويصلي أربع ركعات ثم يرقد ثم يقوم فيستاك ويتوضأ ويصلي ثم قـال لقد كـان لكم في رسول الله أسـوة حسنـة) (3) .
وفي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام قال ركعتان بالسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك (4) .
وفي الحديث عن المعلى بن خنيس قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن السواك بعد الوضوء فقال الإستياك قبل أن يتوضأ قلت أرأيت إن نسي حتى يتوضأ قال يستاك ثم يتمضمض ثلاث مرات
.
والأخبار كثيرة في المقام . ومن أرادها فليراجع كتب الأصحاب (5) .

(1) فروع الكافي ، المجلد 6 ، الباب 2 من أبواب السواك من كتاب الزي والتجمل ، ح 8 .
(2) وسائل الشيعة ، المجلد 1 ، الباب 3 من أبواب السواك ، ح 4 .
(3) وسائل الشيعة ، المجلد 1 ، الباب 6 من أبواب السواك ، ح 1 .
(4) وسائل الشيعة ، المجلد 1 ، الباب 5 من أبواب السواك .
(5) وسائل الشيعة ، المجلد 1 ، الباب 1 من أبواب السواك ، الأحاديث من ح 1 ـ ح 40 .
الاربعون حديثاً 459

فصل
في بيان مبادىء محاسن الاخلاق ومساوئها المذكورة في نهاية وصية الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم

إننا وإن شرحنا في هذا الكتاب في مناسبات عديدة ، كثيرا من خُلق النفس ، بصورة مفصلة، وذكرنا حسب الميسور والمناسبة كيفية الاتصاف بالمحامد الخلقية والابتعاد عن مساوئها ومفاسدها ، ولكننا في هذا المقام نستعرض بيانا جامعا في هذا الموضوع .
إعلم أن الخُلق عبارة عن حالة نفسية ، تدفع الإنسان نحو العمل من دون تَروّي وتفكر . فمثلا إن الذي يتمتع بالسخاء ، يدفعه خلقه هذا إلى الجود والإنفاق من دون حاجة إلى تنظيم مقدمات ، وترتيب مرجحات . وكأن هذا الخُلق غدا من الأمور الطبيعية للإنسان مثل النظر والسمع . وهكذا النفس العفيفة التي أصبحت العفة خُلقا لها وجزئا طبيعيا لها ، وما دامت النفس لم تبلغ هذا المستوى من التجذر الخلقي بواسطة التفكر والتدبر والترويض ، لم يكن لها أخلاق وكمال ، ويخشى عليها من زوال الخلق الكريم الذي يعد من الكمالات النفسية ، وتَغلب عليها العادات والخلق السيء . وأما إذا بلغ الخلق مستوى الأفعال الطبيعية في الإنسان ، وغدا من قبيل القوى والآلات ، وظهرت سلطنة الحق وقهره ، لكان زواله مشكلا ونادرا .
وقال علماء الأخلاق أن هذه الحال والخلق النفسية قد تكون في الإنسان طبيعية وفطرية ، ومرتبطة بمزاج الإنسان من دون فرق بين ما هو خير وسعادة أو شر وشقاء . كما هو المشهور من أن بعض الناس منذ نعومة أظفارهم يرغبون في الخير ، وبعضهم ينزع نحو الشر وأن البعض يُثار بأدنى شيء ، ويستوحش من عمل بسيط ، ويفزع من أقل سبب ، وبعض يكون على خلاف ذلك . وقد تحصل بعض هذه الخلق النفسانية من خلال العادات والعِشرة والتدبر والتفكر ، وقد تحصل نتيجة التفكر والتروي حتى يبلغ مستوى الملكة .
وهناك اختلافات كثيرة بين علماء الأخلاق ، لا مجال لذكرها والبحث عنها في هذا الكتاب حيث تمنعنا عن التعمق في الهدف الأساسي . فنحن نستعرض ما يناسب المقام ويجديه فنقول :
لا بد من معرفة أنه ليس المقصود من قولنا إن الخلق النفسية ، طبيعية وفطرية . إنها ذاتية وغير خاضعة للتغيير ، بل إن جميع الملكات والخُلق النفسانية ، قابلة للتبدل والتحول ، ما دامت النفس تعيش في هذا العالم ، عالم الحركة والتغيير ، وتخضع للزمان والتجدد ، وتملك الهيولى والقوة ، ويستطيع الإنسان أن يُغيّر خُلُقه النفسي ويحوّله إلى أضداده . وإضافة إلى

الاربعون حديثاً 460

البراهين والتجربة ، تدل على ذلك أيضا ، دعوة الأنبياء والشرائع الحقة ، الناس ، للتخلق بالصفات الحميدة ، والابتعاد عما يقابلها من الخلق السيء .
ولا بد من معرفة أن علماء الأخلاق أرجعوا كافة الفضائل النفسية ، إلى أمور أربعة هي : الحكمة ، العفة ، الشجاعة ، العدالة ، اعتبروا الحكمة فضيلة للنفس الناطقة التي تُميّز وتفرّق الإنسان عن غيره . والشجاعة من فضائل النفس الغضبية . والعفة من فضائل النفس الشهوية والعدالة ؛ ترعى الفضائل الثلاثة . كما وأن علماء الأخلاق أرجعوا جميع الفضائل والكمالات النفسية إلى هذه الفضائل الأربعة . ولا يتناسب التفصيل في كل واحدة من هذه الفضائل الأربعة مع حجم هذا الكتاب ، ولا مجال لأمثالنا الإسهاب في ذلك . وما يجب فهمه هو أن المستفاد من الحديث الشريف المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (1) إن سبب بعث الأنبياء ، والدافع لدعوة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم ، هو إكمال مكارم الأخلاق . وإن الأخبار الشريفة قد أبدت الاهتمام الكبير ، إجمالا وتفصيلا بمكارم الأخلاق أكثر من أي شيء آخر بعد الاهتمام بالمعارف الإلهية . ونحن سنذكر بعض تلك الأخبار بعون الله ، كما وأن أهمية الفضائل الخلقية أكبر من قدرتنا على شرحها وبسط الحديث فيها ، ولكن لا بد وأن نقول بأن أساس الحياة الأبدية الأخروية ، ورأس مال العيش في تلك النشأة ، الخلق الفاضل ، والاتصاف بمكارم الأخلاق ، وأن الجنة الممنوحة للإنسان من جراء خلقه الكريم المسماة بجنة الصفات ، أفضل بكثير من جنة الأعمال الجسمانية والتي فيها ما طاب ولذ ، بصورة أفضل وأحسن من النعم المادية الجسمانية ، كما أن فيها ظلمات وأهوال نتيجة الأعمال السيئة للإنسان ، أسوأ من أي عذاب أليم .
ويستطيع الإنسان ما دام حيا ، أن ينقذ نفسه من هذه الظلمات ، ويبلغ بها عالم الأنوار . نعم يستطيع البلوغ إلى ذلك ، ولكن لا مع هذه البرودة والخمود والفتور والإهمال الذي أصابنا ، حيث نرى جميعا بأننا منذ أيام الطفولة ننمو على الخلق الذميم والسلوك المنحرف ، الذي أقترفناه من جراء هذه الحالات السيئة من العشرة اللامسؤولة ، والاختلاط غير اللائق ، ونحافظ عليها ، بل نضيف في كل يوم على تلك الصفات البشعة ، جريرة أخرى ، وكأننا لا نعتقد بوجود عالم آخر ونشأة باقية أخرى . نصف بيت شعر :
الوَيل لي إذا كان عقيب هذه الحياة الدنيوية حياة أخرى !
كأن دعوة الأنبياء والأولياء عليهم السلام لا تعنينا ، وعليه لا نعلم إلى أين نصل مع هذه الأخلاق التي نتصف بها ، ومع هذه الأعمال التي نقترفها ؟ وفي أي صورة نحشر يوم القيامة ؟

(1) تفسير مجمع البيان ، المجلد 10 ، ص 333 .
الاربعون حديثاً 461

وعندما نصحو ونستيقظ ، نعرف بأن الفرصة قد فاتتنا ، وأن الحسرة والندامة ستكون من نصيبنا ، ولا نلومن حينئذ إلا أنفسنا .
إن الأنبياء عليهم السلام ، قد وضعوا بين أيدينا طريق السعادة ، ثم قام العلماء والحكماء بتفسير أحاديهم لنا ، وشرح أساليب معالجة الأمراض الباطنية ، وبذلوا أقصى الجهد لتفهيمنا إياها ، ولكننا امتنعنا عن الاستيعاب ، وأعطينا ظهورنا لهذه الإرشادات والكلمات . فلا بد من عود التأنيب إلينا كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث الشريف الذي نشرحه (فإن لم تفعل فلا تلومن إلا نفسك) .
وقد وردت روايات كثيرة لا تحصى تؤكد على مكارم الأخلاق ، وتحذّر من الصفات التي تقابلها ، ونحن ساهون ولاهون عن مراجعة تلك الأحاديث .
فيا أيها العزيز : إن كنت راغبا في دراسة الأخبار والأحاديث ، فراجع الكتب الشريفة للأخبار وخاصة كتاب (أصول الكافي) حتى تعرف مدى اهتمام المعصومين عليهم السلام بالخلق الكريم والفضائل . وإن كنت من التائقين للبيان العلمي وكلمات العلماء فراجع الكتب الأخلاقية ، مثل كتاب (طهارة الأعراق) لابن مُسكَوَيه وكتب المرحوم فيض الكاشاني وكتب المجلسي وكتب النراقيين (1) حتى تستوعب آثار ونتائج مكارم الأخلاق . وإن وجدت نفسك في غنى عن اقتناء الفضيلة ، أو لا تلمس ضرورة في الابتعاد عن الخلق السيء ، فحاول أن تعالج جهلك الذي هو رأس الأمراض .
ونحن ننهي الموضوع بعد أن نتبرك بذكر بعض الأخبار الشريفة في هذا المضمار :
في كتاب من لا يحضره الفقيه : بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «إن الله خص رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم ، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله وارغبوا إليه في الزيادة منها ؛ فذكرها عشرة : اليقين والقناعة والصبر والشكر والحلم وحسن الخلق والسخاء والغيرة والشجاعة والمروّة» (2) .
ونقل هذا الحديث بعدّة طرق . إلا أنه ذكر في كتاب (معاني الأخبار) «الرضا» بدلا عن «الحلم» .

(1) الوالد هو المولى مهدي بن أبي ذر الكاشاني النراقي صاحب كتاب «جامع السادات» المتوفى عام 1209 هـ . والولد هو أحمد بن مهدي صاحب كتاب «معراج السعادة» المتوفى عام 1245 هـ (المترجم) .
(2) كتاب من لا يحضره الفقيه ، المجلد الثالث ، رقم الحديث 4901 .
الاربعون حديثاً 462

وروى الفيض الكاشاني في كتاب «الوافي» هذا الحديث عن كتاب «الكافي» مع اختلاف يسير .
وعن المجالس بإسناده عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال : «عليكم بمكارم الأخلاق فإن الله عز وجل يُحبها وإياكم ومذام الأفعال فإن الله يُبغضها ـ إلى أن قال : وعليكم بحسن الخلق فإنه يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم ـ الحديث» (1) .
الكافي : بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (2) .
وبإسناده عن علي بن الحسين عليهما السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن خلق» (3) .
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق (4) .
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال البر وحسن الخلق يعمّران الديار ويزيدان في الأعمار (5) .
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال إن الله تبارك وتعالى ليُعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيـل الله يغـدو عليـه ويـروح
(6) .
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة في هذا الموضوع .
وكما أن حسن الخلق يوجب كمال الإيمان ، وثقل الميزان ، والدخول في الجنان ، فإن سوء الخلق على العكس من ذلك حيث أنه يفسد الإيمان ، ويلقي بصاحبه في العذاب الأليم . كما أشير إلى ذلك في الأحاديث الشريفة :
الكافي : بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «إن سوء الخُلق ليُفسد الإيمان كما يُفسد الخل العسل» (7) .
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن سوء الخلق ليفسد العمل كما يُفسد الخل العسل (8) .
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أبى الله عز

(1) وسائل الشيعة ، المجلد 11 ، الباب 6 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ح 8 .
(2) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب حسن الخلق ، ح 2 .
(3) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب حسن الخلق ، ح 6 .
(4) و (5) و (6) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب حسن الخلق ح 6 ، 8 ، 12 .
(7) و (8) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب سوء الخلق ح 3 و 1 و 2 و 4 .
الاربعون حديثاً 463

وجل لصاحب الخلق السيء بالتوبة قيل وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : لإنه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه (1) :
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال من ساء خُلُقه عذّب نفسه
(2) .
ومِن المعلوم أن الخُلق السيء يُعذّب الإنسان دائما ، ويبعث أيضا على العذاب والظلمات . كما ذكرنا لدى شرحنا لِبعض الأحاديث . والحمد لله أولا وآخرا .

(1) و (2) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب سوء الخلق ح 3 و 1 و 2 و 4 .
الاربعون حديثاً 464




الاربعون حديثاً 465

الحديث الثلاثون

اقسام القلوب


الاربعون حديثاً 466

بسندي المتصل إلى ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ـ رضوان الله عليه ـ عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن هارون بن الجَهم ، عن المفضل ، عن سعد ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إن القلوب أربعة : قلب فيه نفاق وإيمان وقلب منكوس ، وقلب مطبوع ، وقلب أزهر أجرد . فقلت : ما الأزهر ؟ قال : فيه كهيئة السراج ، فأما المطبوع فقلب المنافق ، وأما الأزهر فقلب المؤمن ، إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر ، وأما المطبوع فقلب المشرك ؛ ثم قرأ هذه الآية : « افمن يمشي مُكبا على وجهه أهدى أمّن يمشي سويّا على صراط مستقيم » فأما القلب الذي فيه إيمان ونفاق فهم قوم كانوا بالطائف فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك ، وإن أدركه على إيمانه نجا » (1) .

(1) أصول الكافي ، كتاب الإيمان والكفر ، باب في ظلمة قلب المنافق ، ح 2 .
الاربعون حديثاً 467

الشرح :


«المنكوس» أي المقلوب يقال : نَكَستُ الشيء أنكُسُهُ نكسا : قَلَبتُهُ على رأسه ، وفي الصحاح الوَلدُ المنكوس : الذي يَخرج رجلاه قبل رأسه ، وقريب إلى هذا المعنى ما في الآية الشريفة« مكبا على وجهه» وقد استشهد عليه الصلاة والسلام بهذه الآية ، لأن الإكباب هو السقوط على الوجه ، وهو كناية عن أن قلوب أهل الشرك ، مقلوبة ، وإن حركتهم وسيرهم تكون على غير الصراط المستقيم ، كما يأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى .
و «المطبوع» : أي المَختوم ، والطبع بالسكون : الخَتم ، وبالتحريك الدَّنس والوَسَخ . فإذا كان بمعنى المختوم كان كناية عن عدم تغلغل كلمة الحق والحقائق الإلهية في قلوبهم ، ورفضها لتقبل تلك الحقائق ، ولا يكون بمعنى أن الحق سبحانه يحجب ألطافه الخاصة عن تلك القلوب ، وإن كان هذا التفسير أيضا صحيحا . ولكن المعنى الأول هو الأنسب .
و «الأزهر» : الأبيض المُستنير كم ا عن «النهاية» . وفي «الصحاح» : (الأزهر : النيّر ويُسمى القمر الأزهر ، قال ابن السكيت : الأزهران ، الشمس والقمر ، ورجل أزهر أي أبيض مُشرق الوجه والمرأة : الزهراء) .
و «الأجرد» : الذي ليس في بدنه شعر . وفي «الصحاح» : الجُرد : فضاء لا نبات فيه . وهذه كناية عن عدم تعلق قلبه بالدنيا أو عن خلوّه من الغل والغش .
ونحن سنذكر ما يتناسب والمقام عند شرحنا للحديث الشريف ، ضمن مقدمة وفصول عديدة .
مقدمة

الترغيب في اصلاح النفس

إعلم أن للقلب في شريعة الإسلام ولدى الحكماء والعرفاء ، معان مختلفة ، وأن بيان

الاربعون حديثاً 468

حقيقة القلب والمصطلحات المختلفة فيه ، ومراتب القلوب ودرجاتها ، خارج عن وظيفة هذا الكتاب ، وغير ناجع لنا كثيرا أيضا . فالأحسن أن نقتصر أيضا على ذلك الغموض الموجود في الروايات الشريفة ، المشتملة على ذكر القلب ونتجاوزه ، كما فعلته تلك الروايات . ونذكر ما هو هام لنا ولازم .
لا بد من معرفة أن السعي في سبيل إصلاح القلب الذي يكون في صلاحه أو فساده أساس السعادة والشقاء ، أهم من البحث عن حقيقة القلب وعن المصطلحات الرائجة فيه (1) ، بل قد يسبّب الانشداد إلى المصطلحات الواردة في القلب ، والابحاث المذكورة من حوله ، والغور فيها ، الغفلة عن القلب نهائيا والتأخر في إصلاحه ، وإنه قد يصير أستاذا في شرح حقيقة القلب وماهيّته والمصطلحات المذكورة من قبل الحكماء والعرفاء في القلب ، ولكن قلبه والعياذ بالله سيكون مقلوبا ومنكوسا . مثل الإنسان الذي يعرف خصائص الأدوية وآثارها الضارة أو النافعة ، ويشرح كل واحد من ذلك بصورة جيدة ، ولكنه لا يكون على حذر من الأدوية الضارة ، ولا ينتفع من الأدوية المجدية ، فمن المسلّم أن مصير إنسان كهذا رغم إلمامه الواسع بالادوية ، الهلاك ، ولن ينقذه علمه أبدا .
إننا ذكرنا سابقا بأن العلوم بأسرها تكون للعمل ، حتى علوم المعارف الإلهية حيث لها انعكاسات علمية أيضا . ونقول هنا بأن علم أحوال القلوب وكيفية صحّتها ومرضها وصلاحها وفسادها ، من العلوم التي تعد مقدمة للعمل ، وأداة لعلاج القلب وإصلاحه . وأما الإحاطة بهذه الأمور واستيعابها لا يعتبر من الكمالات الإنسانية .
إذن لا بد للإنسان أن يركّز انتباهه على إصلاح القلب ، ويجعل مبتغاه ، إكماله حتى ينال منتهى السعادة الروحانية ، والمراتب العالية الغيبية . وإذا ما كان هو أيضا من أصحاب العلوم والدقائق والحقائق لكان همه الوحيد في غضون سيره في الآفاق والأنفس تحسين حالاته النفسية ، فلو كانت من المهلكات لأصلحها ، ولو كانت من المنجيات لبذل الجهد في سبيل تكميلها .


فصل
في بيان مصدر اقسام القلوب ومراتبها

إعلم أن التقسيم المذكور في الحديث الشريف للقلوب ، تقسيم كلي ومجمل ، وإن

(1) إعلم أنه ليس المقصود من هذا العرض عدم جدوى علم الأخلاق ومنجيات النفس ومهلكاتها ، بل المقصود أن يكون مقدمة للعمل وليس بشيء مستقل حتى يستنزف منا الوقت في سبيل تجميع المصطلحات ويمنعنا من بلوغ الهدف (منه عفى عنه) .
الاربعون حديثاً 469

لكل قسم من القلوب الأربعة مراتب ودرجات ، سواء كان من ناحية الشرك والنفاق أو من ناحية الإيمان والكمال . ومن الظاهر أن هذا التقسيم للقلوب يكون على أساس تبلورها وتحركها حسب التحرك المعنوي دون التحرك من منطلق الفطرة والسجيّة ، حتى لا يحصل التهافت والتضارب بين هذه الرواية التي تقسم القلوب ، وبين أخبار الفطرة التي تقول بأن كل مولود يولد على فطرة التوحيد ، وإن الشرك والنفاق طارئان وعرضيان ، وإن كان من الصحيح القول بأن الشرك والنفاق من الفطرة أيضا على ضوء بعض البيانات حيث نجما في ظل ظروف تربوية واجتماعية خاصة من الفطرة من دون أن يؤدي مثل هذا الكلام إلى الجبر المستحيل كما لا يبقى مجال حينئذ للتضارب بين روايات الفطرة وهذه الرواية التي نحن بصدد شرحها .
ولكن الاحتمال الأول ـ مصدر أقسام القلوب التحرك المعنوي ـ هو الأقرب إلى البرهان والأصوب إلى الاعتبار . وقد سبق منا القول بأن الإنسان ما دام موجودا في هذا العالم ـ عالم الهيولى والتغير والتبدل الجوهري والصوري والعرضي ـ يستطيع أن ينقذ نفسه من كل مرتبة من مراتب النقص والشقاء والشرك والنفاق ، ويبلغ بها مراتب الكمالات والسعادات الروحية والروحانية .
ولا يتضارب هذا المعنى المذكور ، مع الحديث المعروف «الشقي شقي في بطن أمّه» (1) لأن الحديث الشريف لا يدل على أن السعادة والشقاء ذاتيان للإنسان غير قابلين للجعل ـ بالجعل المركب ـ بل يدل على معنى ينسجم مع الدليل والبرهان ، حيث ثبت في محله أن الشقاء عائد إلى النقص والعدم ، والسعادة إلى الكمال والوجود ، وإن ما يمت إلى الشجرة الطيبة الوجود فهو من الذات الحق المقدس ، إما على أساس طريقة أفضل المتأخرين ، وأكمل المتقدمين ، نصير الملة والدين خواجة نصير الدين الطوسي قدس الله نفسه ، من تسلسل الأسباب والمسببات . وإما على أساس طريقة أعظم الفلاسفة بصورة مطلقة الشيخ صدر المتألهين من الظاهر والمظهر والوحدة والكثرة . وإن ما يعود إلى النقص والعدم فهو من شؤون الشجرة الخبيثة الماهية التي هي دون مستوى الجعل .
ونستطيع أن نقول بأن المقصود من «بطن الأم» الذي تستند السعادة والشقاء إليه ، حسب ما ورد في الحديث الشريف ، هو عالم الطبيعة المادية ، حيث يكون اُمّا لكل شيء مادي ومشيمة لتربية ما هو من الطبيعة ، ولا نستطيع أن نفسر بطن الأم حسب المتفاهم لدى الناس ـ من رحم الأم ـ لأن الظاهر من الرواية هو السعادة الفعلية في بطن الأم ، مع العلم بأن السعادة التي تعد من الكمالات والفعليات ، لا تتوفر للنفوس الهيولائية على نحو الفعلية فعلا ، وإنما

(1) الجامع الصغير ، ج 2 ، ص 37 .
الاربعون حديثاً 470

تكون على أساس الاستعداد والأهلية والقوة ، وعليه يكون الظاهر من الحديث هو أن السعيد ، يكون في بطن أمه سعيدا بالفعل ، في حين أن الدليل الفلسفي يقودنا إلى السعادة على نحو بالقوة . فلا بد من مخالفة ظاهر الحديث الشريف .
ولمّا كان شرحنا للحديث متطابقا مع البراهين ، كان من المتعين تفسير الحديث الشريف على ضوء ما بيناه أو ما يؤول إليه .
وعلى أي حال إن الإسهاب في هذا الموضوع وعرض الأدلة الوافية ، خارج عن وظيفة هذا الكتاب . ولكن القلم قد يطغى ، ويجرى على خلاف المقصود .

في بيان وجه حصر اقسام القلوب في الاربعة المذكورة في الرواية

قال بعض : إن سبب انحصار أقسام القلوب في الأربعة هو : أن القلوب إما أن تتحلى بالإيمان أولا . وعلى الأول إما أن تتصف القلوب بالإيمان بكل ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو تتصف ببعض ما يعتبر في الإيمان دون بعض ؟ فالأول هو قلب المؤمن والثاني هو القلب المكتنف بالإيمان والنفاق وهو إما يعلن الإيمان ويظهره أو لا ؟ فعلى الأول يكون القلب منافقا وعلى الثاني يكون مشركا .
وهذا التحليل لا ينسجم مع الحديث الشريف الظاهر في أن القلب الواحد قد يؤمن في الحقيقة بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ينافق .
وإذا أراد أحد أن يبرر الأقسام الأربعة ، فالأفضل أن يقول : إن القلب إما أن يؤمن بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لا ؟ وعلى الثاني أما يُظهر إيمانه إما لا ؟ وعلى الأول إما أن يستقر فيه الإيمان من دون تزلزل ، أو يؤمن حينا ، ويتراجع حينا آخر رغم إفصاحه عن الإيمان أيضا .
ويستفاد من ذيل هذا الحديث أن توبة من يتحول من الإيمان إلى الكفر والنفاق تكون مقبولة ، مهما نقض التوبة ، وكرر مثل هذا التراجع والتحول .
وفي حديث آخر في كتاب أصول الكافي بسنده إلى الإمام أبي جعفر عليه السلام (قـال : القلوب ثلاثة : قلـب منكوس لا يعي شيئا من الخيـر وهو قلب الكافر ، وقلب فيـه نكتة سوداء فالخيـر والشر فيـه يعتلجان فأيهمـا كانت منه غلـب عليه ، وقلب مفتوح فيـه مصابيح تزهر ولا يطفأ نوره إلى يوم القيامة وهـو قلب المؤمن» (1) .
ولا تتنافى هذه الرواية مع الحديث الشريف السابق ، لأن القسم الأول من هذه الرواية

(1) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، باب في ظلمة قلب المنافق ، كتاب الإيمان والكفر ، ح 3 .
الاربعون حديثاً 471

يعم قسمين من ذلك الحديث هما : قلب المشرك والمنافق ، لأن قلوب هؤلاء الطوائف الثلاثة : المشرك ، المنافق ، الكافر ، منكوسة ، وهذا لا يتنافى مع كون «النكس» من الصفات الظاهرة لقلب المشرك والكافر وكون «المطبوع» من الصفات الظاهرة لقلب المنافق . ولهذا خص الحديث السابق كلا من المنكوس والمطبوع بقسم من القلوب الأربعة .


فصل
في بيان حالات القلوب

ونحن نقدم الحديث عن قلب المؤمن حتى يتبين وضع القلوب الأخرى عند مقارنتها مع قلب المؤمن .
لا بد من معرفة أنه قد ثبت بكل وضوح في العلوم الفلسفية العالية والمعارف الإلهية الحقة أن حقيقة الوجود ، هي حقيقة النور ، وإنهما عنوانان يحكيان عن حقيقة بسيطة واحدة ، من دون أن يكون هناك تكثّر وتعدّد . وثبت أيضا أن كل ما يعد كمالا وتماما فهو عائد إلى الوجود بعينه . وهذا من المبادئ الأساسية المباركة التي من تشرّف بها واستوعبها ، تنفتح عليه أبواب المعارف . وأما نفوسنا الضعيفة فهي قاصرة وعاجزة حقا عن إدراك تلك الحقيقة اللهم إلا إذا توفرت له نجدة غيبية ، وتوفيق أزلي إلهي .
ومن الواضح أيضا أن الإيمان بالله من نوع العلم ومن الكمالات المطلقة ، وحيث أنه من الكمالات فهو أصل الوجود ، وأصل حقيقة النور والظهور ، وما لا يكون من الإيمان وتوابعه ، فهو خارج عن نطاق الكمالات النفسية الإنسانية ، وملحق بظلمات الأعدام والماهيات .

في بيان ان قلب المؤمن ازهر

إذن : تبين أن قلب المؤمن أزهر . وفي «الكافي» الشريف بسنده إلى أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : قال لنا ذات يوم تجد الرجل لا يُخطئ بلام ولا واو خطيبا مصقعا ولقلبه أشد ظلمة من الليل المظلم ، وتجد الرجل لا يستطيع أن يعبر عما في قلبه بلسانه وقلبه يزهر كما يزهر المصباح (1) .
وإنه أيضا يسلك الصراط المستقيم ، وينتهج في سيره الروحاني الجادة السوية الإنسانية . وذلك :
أولا : لم يخرج قلب المؤمن من الفطرة التي فطرها الله والتي عجنها الحق المتعالي

(1) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الإيمان والكفر ، باب في ظلمة قلب المنافق ، ح 1 .
الاربعون حديثاً 472

بيديه الجمالية والجلالية فترة أربعين صباحا ، وخمّرها ، فيسير لا محالة على ضوء فطرة التوحيد التي هي التوجه والانشداد إلى الكمال المطلق والجمال التام ، ولا محالة يكون هذا السير الروحاني من مرتبة الفطرة المخمّرة حتى منتهى الكمال المطلق من دون أدنى إعوجاج وإنحراف . وهذا هو الطريق الروحاني المستقيم ، والجادة المستوية الغيبية . وأما القلوب الأخرى فهي خارجة عن فطرتها ومجانبة للسبيل المستقيم . وقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه رسم على الأرض خطا مستقيما ثم رسم خطوطا متقاطعة من حول الخط المستقيم ثم قال أن الخط المستقيم هو صراطي ومنهجي .
وثانيا : إن المؤمن يتبع الإنسان الكامل . ولمّا كان الإنسان الكامل مظهرا لجميع الأسماء والصفات ، ومرؤوبا للحق المتعالي بالإسم الجامع ، لم تكن لإسم غلبة على آخر في التصرف في الإنسان الكامل ، وان ـ الإنسان الكامل ـ مثل ربه المتعالي وجودا جامعا من دون تفوق مظهرية اسم على آخر . وإحتوى على مقام الوسيطة والبرزخية الكبرى ، وتم سيره على الصراط المستقيم الطريق الوسط الذي هو الاسم الجامع . وأما الكائنات الأخرى فيكون كل واحد منها مظهرا لإسم من الأسماء المحيطة أو غير المحيطة ، ومتصرفا فيه ، ويكون مبدئه ومعاده نفس ذلك الإسم . وأما الإسم المقابل له ففي الغيب والباطن ، ولا يتصرف في ذلك الكائن إلا من خلال أحدية جمع الأسماء ، ولا يسمح لنا المقام شرح ذلك . فإن الحق المتعالي في مقام الإسم الجامع ورب الإنسان ، على الصراط المستقيم كما ورد في القرآن «إن ربي على صراط مستقيم» (1) بمعنى مقام الوسيطة والجامعية من دون غلبة صفة على أخرى ، وظهور إسم دون آخر .
ويكون مربوب الذات المقدس الموجود في مقام الوسيطة والجامعية على الصراط المستقيم أيضا ، من دون ترجح مقام على مقام ، وشأن على شأن . كما يطلب هذا المربوب ، في معراجه الصعودي الحقيقي ، ولدى منتهى وصوله إلى مقام القرب ، بعد عرضه العبودية على الذات المقدس ، وإرجاع كل عبادة وعبودية من كل عابد إلى الذات المتعالي ، وحصر الإعانة في جميع مقامات القبض والبسط في ذاته جل جلاله بقوله«إياك نبعد وإياك نستعين»يطب هذا المربوب قائلا «إهدنا الصراط المستقيم» . وهذا الصراط هو الصراط الذي يهيمن عليه رب الإنسان الكامل ، على وجه الربوبية والظاهرية ـ الإظهار والخلق ـ ويكون دور الإنسان الكامل ، المربوبية والمظهرية ـ المخلوق ـ .
وأما الموجودات الأخرى ، والسائرون إلى الله ، فلا تنتهج الصراط المستقيم ،بل تنزع

(1) سورة هود ، آية : 56 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي