الاربعون حديثاً 447

بالصلاة إلى تركها . ومن الطبيعي أن الإنسان إذا لم يبد اهتماما بشيء لسقط من عينه ولانتهى إلى النسيان .
إننا قلّما يعترينا النسيان تجاه أمر دنيوي سيّما في الأمور المهمة منها ، وذلك لاستعظام النفس لها ، وتعلّقها بها ، وتذكّرها الدائم ، ومن الطبيعي أن لا يُنسى مثل هذا الأمر . فإذا قال لك شخص صادق في وعوده ، إنني لدى الظهر من يوم كذا ، أدفع لك مبلغا كبيرا مهما عندك ، فإنك لا تنسى ذلك اليوم والموعد بل تحصي الساعات والدقائق حتى يقترب الوقت لكي تستقبل الموعد بكل توجه وحضور قلب ، كل ذلك نتيجة أن حب النفس لذلك الشيء وإكبارها له ، قد شغلك به ، فلا تتهاون فيه أبدا . وهكذا يتم الاهتمام من جانب الإنسان في كل الأمور الدنيوية حسب وضعه وشؤونه ، وأما إذا كان الشيء تافها لدى الإنسان ، لتوجهت النفس لحظة واحدة، ثم غفلت عنه .
إذن : هل تعرف المسّوغ لفتورنا هذا في الأمور الدينية ؟ إنه لأجل عدم إيماننا بالغيب ، وأن مرتكزات عقائدنا واهية ، وإيماننا بالوعود الإلهية والأنبياء مهتزا ومتزلزلا ، وتكون النتيجة أن جميع الأمور الدينية والشرائع الإلهية عندنا تافهة وموهونة ، ويفضي هذا الوهن شيئا فشيئا إلى الغفلة فإما أن هذه الغفلة تهيمن علينا ، وتخرجنا كليا من هذا الدين الشكلي الصوري الذي نعتنقه ، أو تبعث على الغفلة لدى أهوال نزع الروح وشدائد اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان .
إن من الأمورالمهمة التي تتوفر في هذه الصلوات الخمسة التي تعتبر عمود الدين ، والقاعدة الصلبة للإيمان والتي لا يرقى إلى مستواها شيء في الأهمية بعد الإيمان ، وبعد التوجهات النورية الباطنية ، والصور الغيبية الملكوتية ، حيث لا يعلم أحد عظمتها إلا الحق سبحانه والخواص من عباده . إن من الأمور المهمة التي تتواجد في الصلاة ، هو تكرار تذكر الحق في حالات من الأدب الخاص الروحاني الإلهي ، الذي يدفع بالإنسان إلى توثيق الأواصر بينه من جهة والحق المتعالي والعوالم الغيبية من جهة أخرى . ويبعث على ملكة الخضوع لله سبحانه في الفؤاد ، ويقوي الشجرة الطيبة التي هي التوحيد والتفريد ، ويجذّرها في النفس على نحو لا يمكن اقتلاعها . كما أنه يفلح في الاختبار العظيم الذي يحصل له من قبل الحق المتعالي لدى سكرات الموت وأهوال المطّلع ومشاهدة شيء من عالم الغيب ، ويوجب استقرار دينه وثباته ، من دون أن يكون مستودعا وقابلا للزوال حتى يصاب بالنسيان ، لدى أقل ضغط .
فيا أيها العزيز : إياك ثم إياك والله معينك في أوليك وأخراك إن تتهاون في أمورك الدينية وخاصة الصلوات الخمسة ، وتبدي الفتور والاهمال تجاهها . ويعلم الله بأن الأنبياء والأولياء

الاربعون حديثاً 448

وأئمة الهدى عليهم السلام قد دفعوا بالناس نحو الصلوات وحذّروهم من التخلف عنها ، نتيجة العطف والحنان منهم على العباد ، إذ أنهم لا ينتفعون من إيماننا ولا تجديهم أعمالنا شيئا .

فصل
في فضل تلاوة القرآن

إن من وصايا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بتلاوة القرآن (وعليك بتلاوة القرآن على كل حال) وإن عقلنا القاصر لا يستوعب فضيلة تلاوة القرآن وحمله وتعلمه والتمسك به وملازمته والتدبر في معانيه وأسراره . وما نقل عن أهل بيت العصمة عليهم السلام في ذلك أكثر من طاقة هذا الكتاب على استيعابه . ونحن نقتصر على ذكر بعضها :
الكافي : بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية» (1) .
وبإسناده عن الزُّهري قال : سمعت علي بن الحسين عليهما السلام يقول : «آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر فيها» (2) .
والمستفاد من هذين الحديثين أنه حرّي بقرّاء القرآن التدبر في آياته والتفكر في معانيه ، وأن التمعن والتأمل في الآيات الكريمة الإلهية ، واستيعاب المعارف والحِكَم والتوحيد من القرآن العظيم ، لا يكون من التفسير بالرأي المنهي عنه الذي يلتجأ إليه أصحاب الرأي والأهواء الفاسدة ، الذين لا يتمسكون برأي أهل بيت الوحي المخاطبين بالكلام الإلهي ، كما ثبت ذلك في محله ، ولا داعي للولوج في هذا الموضوع والإسهاب فيه . ويكفينا قوله تعالى : «أفلا يتدبـرون القرآن أم علـى قلـوب أقفالهـا» (3) .
ووردت أحاديث كثيرة تأمرنا بالرجوع إلى القرآن والتعمق في آياته . فقد نقل عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : (ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر) (4) .
وبإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «من قرأ عشر آيات في ليلة لم يُكتب من الغافلين ، ومن قرأ خمسين آية كُتب من الذاكرين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية كُتب من الخاشعين ، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين ، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من بر ، القنطار خمسة عشر ألف

(1) و (2 ) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب فضل القرآن ، باب في قراءته ح 1 و 2 .
(3) سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، آية : 24 .
(4) بحار الأنوار ـ المجلد 92 ص 211 .
الاربعون حديثاً 449

مثقال من ذهب ، والمثقال أربعة وعشرون قيراطا أصغرها مثل جبل اُحد وأكبرها ما بين السماء والأرض»
(1) . وجاء في الأحاديث الكثيرة أن قراءة القرآن تتمثّل في صورة بهيّة جميلة تشفع لأهله وقرّائه . وقد أعرضنا عن ذكرها .
وفي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام قال من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن إختلط القرآن بلحمه ودمه وجعله الله عز وجل مع السفرة الكرام البررة وكان القرآن حجيزا عنه يوم القيامة يقول يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي فبلّغ به أكرم عطاياك قال فيكسوه الله العزيز الجبار حُلّتين من حلل الجنة ويوضع على رأسه تاج الكرامة ، ثم يُقال له هل أرضيناك فيه ؟ فيقول القرآن يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا فيُعطي الأمن بيمينه والخُلد بيساره ثم يدخل الجنة فيُقال له إقرأ واصعد درجة ثم يقال له هل بلغنا به وأرضيناك فيقول نعم (2) .وفي نفس الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام (ومن قرأه كثيرا وتعاهده بمشقّة من شدة حفظه أعطاه الله عز وجل أجر هذا مرتين) (3) .
ويتبين من هذا الحديث الشريف أن المطلوب من تلاوة القرآن الكريم هو تأثيره في أعماق قلب الإنسان ، وصيرورة باطنه صورة كلام الله المجيد ، وتحويل ما هو ملكة القلب من القرآن الكريم إلى التحقق والفعلية وذلك حسب ما ورد في الحديث المذكور (من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه) حيث يكون كناية عن استقرار صورة القرآن في فؤاده ، بدرجة يتحول باطن الإنسان حسب استعداده وأهليته ، إلى كلام الله المجيد والقرآن الكريم .
وفي حَمَلَة القرآن من تحوّل تمام باطنه إلى حقيقة الكلام الجامع الإلهي ، والقرآن الجامع والفرقان القاطع ، وذلك مثل الإمام علي بن أبي طالب والمعصومين من أولاده الطاهرين عليهم السلام ، حيث يكون وجودهم آيات طيبات إلهية وآيات الله العظمى ، والقرآن التام والتمام . بل إن هذا هو المطلوب من جميع العبادات وأنه من الأسرار الهامة للعبادات ، وأن تكرار الصلاة من أجل تحقيق هذه الحقائق العبادية ، وتحويل ذات الإنسان وقلبه إلى صورة العبادة .
وفي الحديث (أن عليا عليه السلام صلاة المؤمنين وصيامهم) (4) .

(1) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب فضل القرآن ، باب ثواب قراءة القرآن ، ح 5 .
(2) و (3) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب فضل القرآن ، باب فضل حامل القرآن ، ح 4 ص 603 .
(4) يضاهي هذا الحديث ما ورد في البحار ، المجلد 24 ، ح 14ص 303 ، عن داوود بن كثير قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام ، أنتم الصلاة في كتاب الله عز وجل وأنتم الزكاة وأنتم الحج ؟ فقال يا داوود نحن الصلاة في كتاب الله عز وجل ونحن الزكاة ونحن الصيام و...
الاربعون حديثاً 450

في بيان ان العبادة تؤثر في الشباب

ويتم بالقرآن الكريم التأثر القلبي والتحول الباطني بصورة أفضل فترة الشباب ، لأن قلب الفتى لطيف وبسيط وذو نقاء وصفاء أكثر . وأن وارداته قليلة ، وتضارب الأفكار وتهافتها فيه قليل . فيكون شديد الانفعال والتأثر وسريع التقبّل .
إذن يجب على الشباب حتى إذا كانت قلوبهم مطمئنة بالإيمان ، أن ينتبهوا إلى كيفية تفاعلهم وعشرتهم مع الآخرين ، ويتورّعوا عن الاختلاط مع السيئين . بل أن الصداقة والاختلاط مع العصاة وذوي الخلق الفاسد والسلوك المنحرف مسيء لجميع الناس من أي طبقة كانوا ، ويجب أن لا يكون أحد مطمئنا بنفسه ومغرورا بإيمانه أو أخلاقه وأعماله . كما ورد في الأحاديث الشريفة الأمر بالابتعاد عن معاشرة أهل المعصية .

في اداب تلاوة القرآن

وملخص القول أن المبتغى من خلال تلاوة القرآن هو ارتسام صورة القرآن في القلب ، وتأثير الأوامر والنواهي فيه ، وتثبيت الأحكام والتعاليم الإلهية . ولا يتحقق هذا إلا في ظل مراعاة آداب القراءة . وليس الهدف من الآداب ما هو المعروف لدى بعض القراء من الاهتمام البالغ بمخارج الألفاظ ، وأداء الحروف ، هذا الاهتمام الباعث مضافا إلى الغفلة عن المعاني والتدبر فيها ، إبطال التجويد بعض الأحيان ، فإن كثيرا من الكلمات القرآنية نتيجة مثل هذا التجويد ، تفقد صورتها الخلاّبة الأصيلة ، وتتحول إلى صورة أخرى ، ذات صورة ومادة تختلف عما أرادها الله تعالى . إن هذا يُعتبر من مكائد الشيطان حيث يلتهي الإنسان المؤمن إلى آخر عمره بألفاظ القرآن ، وينسى نهائيا استيعاب سر نزول القرآن ، وحقيقة الأوامر والنواهي ، والدعوة إلى المعارف الحقة ، والخلق الفاضل الحسن ، بل ينكشف لديه بعد مضي خمسين عاما أنه من جرّاء تغليظ بعض الحروف ، والتشديد فيها ، قد أخرج صورة بعض الكلمات كليا عن حالتها الطبيعية وأصبحت ذات صورة غريبة .
بل الهدف المنشود من وراء آداب قراءة القرآن ، تلك الآداب التي وردت في الشريعة المقدسة والتي يعد من أفضلها وأعظمها التفكر والتدبر في آيات القرآن كما تقدمت الإشارة إلى ذلك .
في الكافي الشريف بسنده إلى الإمام الصادق عليه السلام قال : «إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى ، فليجل جال بصره ويفتح للضياء نظره ، فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشى المستنير في الظلمات بالنور» (1) .

(1) أصول الكافي ، المجلد 2 ، كتاب فضل القرآن ، ح 5 .
الاربعون حديثاً 451

وفي المجالس بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام في كلام طويل في وصف المتقين : «وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وأبصارهم فاقشعرّت منها جلودهم ووجلت قلوبهم فظنوا أن صهيل جهنم وزفيرها وشهيقها في أصول آذانهم ، وإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا وتطلّعت أنفسهم إليها شوقا وظنوا أنها نصب أعينهم» (1) .
ومن الواضح أن من يتمعن ويتدبر في معاني القرآن الكريم ، يتأثر قلبه ، ويبلغ مقام المتقين شيئا فشيئا . وإن حظي بتوفيق وسداد من الله ، لتجاوز هذا المقام ولتحول كل عضو وجارحة وقوة منه إلى آية من الآيات الإلهية ، ولعل جَذَوات خطاب الله وجذباته ، ترفعه وتبلغ به إلى مستوى إدراك حقيقة «اقرأ واصعد» (2) في هذا العالم ووصل إلى مرحلة سماع الكلام من المتكلم من دون واسطة ، وتحول إلى موجود لا يسع الإنسان فهمه واستيعابه .

الاخلاص في القراءة

ومن الآداب اللازمة في قراءة القرآن ، والتي لها دور أساسي في التأثير في القلب والتي لا يكون من دونها لأي عمل أهمية وشأن ، بل يعتبر ضائعا وباطلا وباعثا على السخط الإلهي . هو الإخلاص ، فإنه ركن أصيل للانطلاق إلى المقامات الأخروية ، ورأس مال في التجارة الأخروية .
وقد ورد في هذا الباب أيضا أخبار كثيرة من أهل بيت العصمة عليهم السلام : منها ما حدثنا الشيخ الكليني رضوان الله تعالى عليه :
بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : «قرّاء القرآن ثلاثة : رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس . ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده وأقامه إقامة القدح ، فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن . ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عـن فراشه ، فبأولئـك يدفع الله العزيز الجبـار البلاء ، وبأولئك يُديـل الله من الأعداء ، وبأولئك ينـزل الله الغيث من السماء ، فو الله لهـؤلاء في قرّاء القرآن أعـز من الكبريت الأحمـر» (3) .
وعن «عقاب الأعمال» بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم السلام قال : «من قرأ القرآن يأكل به الناس جاء يوم القيامة ووجهه عظم لا لحم فيه» (4) .


(1) وسائل الشيعة ، المجلد 4 ، الباب 3 من أبواب قراءة القرآن ، ح 6 .
(2) أصول الكافي ، المجلد الثاني كتاب فضل القرآن ، باب فضل حامل القرآن ، ح 4 .
(3) أصول الكافي ، المجلد 2 ، ص 604 ، كتاب فضل القرآن باب النوادر ، ح 1 ص 627 .
(4) وسائل الشيعة ، المجلد 4 ، ص 837 .
الاربعون حديثاً 452

وبإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قال : «من تعلم القرآن فلم يعمل به وآثر عليه حب الدنيا وزينتها استوجب سخط الله وكان في الدرجة مع اليهود والنصارى الذين ينبذون كتاب الله وراء ظهورهم.
ومن قرأ القرآن يريد به سمعة والتماس الدنيا لقي الله يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم وزج القرآن في قفاه حتى يُدخله النار ويهوي فيها مع من هوى .
ومن قرأ القرآن ولم يعمل به حشره الله يوم القيامة أعمى فيقول : «يا رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ، قال : كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى» فيُؤمر به إلى النار .
ومن قرأ القرآن ابتغاء وجه الله وتفقها في الدين كان له من الثواب مثل جميع ما أعطي الملائكة والأنبياء والمرسلون .
ومن تعلم القرآن يريد به رياء وسمعة ليُماري به السفهاء ويُباهي به العلماء ويطلب به الدنيا بدّد الله عظامه يوم القيامة ولم يكن في النار أشد عذابا منه ، وليس نوع من أنواع العذاب إلا سيُعذب به من شدة غضب الله عليه وسخطه .
ومن تعلم القرآن وتواضع في العلم وعلّم عباد الله وهو يريد ما عند الله لم يكن في الجنة أعظم ثوابا منه ولا أعظم منزلة ولم يكن في الجنة منزل ولا درجة رفيعة ولا نفيسة إلا وكان له فيها أوفر النصيب وأشرف المنازل» (1) .

في معنى الترتيل

ومن آداب قراءة القرآن الكريم الذي يبعث على التأثير في النفس ، ويجدر بالقارئ أن يراعيه ، هو الترتيل في التلاوة ، وهو كما في الحديث عبارة عن الحد الوسط بين السرعة والعجلة من جهة ، والتأني والفتور المفرطين الموجبين لتفرّق الكلمات وانتشارها من جهة أخرى .
عن محمد بن يعقوب بإسناده عن عبد الله بن سليمان قال : «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تعالى : « ورتل القرآن ترتيلا »قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : تبيّنه تبيانا (تبيينا ـ خ ل) ولا تهُدّه هد الشعر ولا تنثُره نثر الرمل ولكن أفرغوا قلوبكم القاسية ولا يكن هَمّ أحدكم آخر السورة» (3) (أي لا يكن هدفكم ختم القرآن في أيام معدودة أو الإسراع في قراءة السورة والبلوغ إلى آخرها) .

(1) وسائل الشيعة ، المجلد 4 ، الباب 9 من أبواب تكبيرة الإحرام ـ ح 7 و 11 ص 727 .
(2) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، ص 614 .
الاربعون حديثاً 453

فالإنسان الذي يريد أن يتلو كلام الله ، ويداوي قلبه القاسي ، ويشفي أمراضه القلبية من خلال قراءته للكلام الجامع الإلهي ، ولكي يطوي مع نور هداية هذا الصباح الغيبي المنير ، وهذا النور على النور السماوي ، طريق الوصول إلى المقامات الأخروية والمدارج الكمالية ، لا بد له من توفير الأسباب الظاهرية والباطنية والآداب والصورية والمعنوية . أما أمثالنا عندما نقرأ القرآن بعض الأحيان ، فمضافا إلى أننا نغفل نهائيا عن معاني الآيات الكريمة ، وأهدافها السامية وأوامرها ونواهيها ووعظها وزجرها ، وكأن آيات الجنة ونعيمها ، وآيات جهنم والعذاب الأليم ، لا تعنينا ، بل ـ نعوذ بالله ـ يكون انتباهنا وتوجه قلوبنا عند قراءة الكتب القصصية أكثر من توجهنا حين تلاوتنا للآيات المجيدة ، مضافا إلى ذلك فإننا في غفلة حتى عن الآداب الظاهرية لقراءة القرآن الكريم .
وقد ورد في الأحاديث الشريفة ، الأمر بقراءة القرآن بصوت حزين وجميل (وعن أبي الحسن عليه السلام قال ذكرت الصوت عنده فقال إن علي بن الحسين عليهما السلام كان يقرأ فرُبما مر به المار فصعق من حسن صوته ، وأن الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما إحتمله الناس من حُسنه) (1) ونحن عندما نريد أن نُري للناس صوتنا الحسن وأنغامه الجميلة ، نلتجأ إلى قراءة القرآن أو الآذان ، ومن دون أن نستهدف تلاوة القرآن والعمل بهذا الاستحباب . وعلى كل حال إن مكائد الشيطان وأضاليل النفس الأمارة كثيرة ، وغالبا يلتبس الحق بالباطل ، والحسن بالقبيح ، فيجب أن نلوذ إلى الله سبحانه ونعوذ به من هذه الأشراك والأفخاخ .


فصل
في بيان رفع اليدين في الصلاة وتقليبهما

إن ما ورد في هذا الحديث الشريف من قوله (وعليك برفع يديك في صلاتك وتقليبهما) ظاهر في رفع اليدين لدى التكبيرات أثناء الصلاة . وأن المقصود من تقليب اليدين يحتمل أن يكون جعل باطن الكفين نحو القبلة ، فإن من المستحبات هو رفع اليدين لدى التكبير ، ويحتمل أن يكون المقصود منه رفع اليدين لدى القنوت ، فيجعل باطن الكفين نحو المساء ، كما أفتى باستحباب ذلك الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم ، وناقشوا في دليل ذلك ، رغم أنه لا حاجة إلى دليل آخر بعد السيرة القطعية المتشرعة على القنوت المتعارف من رفع اليدين نحو السماء وعدم فهمهم منه إلا هذه الطريقة الشائعة لدى المصلين في القنوت ، وعدم اكتفائهم برفع اليدين بصورة مطلقة . وعلى أي حال فإن الأظهر من هذه الرواية الشريفة ، هو الاحتمال الأول .
واعلم أن المشهور بين الفقهاء رضوان الله عليهم استحباب رفع اليدين عند التكبير في

(1) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، باب ترتيل القرآن ، ح 4 .
الاربعون حديثاً 454

الصلاة . وذهب بعض إلى الوجوب مستندا إلى بعض الأوامر والأخبار التي وردت في تفسير الآية الشريفة «فصل لربك وانحر» (1) بأن المقصود من النحر هو رفع اليدين عند التكبير (2) .
ولكن هناك شواهد كثيرة في الأحاديث تدل على استحباب رفع اليدين دون وجوبه ، مثل التعليل الوارد في الأخبار ، وخاصة حديث فضل بن شاذان المروي عن الإمام الرضا عليه السلام (3) مضافا إلى أن صحيحة علي بن جعفر ، صريحة في عدم وجوب رفع اليدين (4) .
وتكون هذه الأخبار ـ بعض الأخبار الواردة في تفسير « فصل لربك وانحر » ـ مع قطع النظر عن القرائن الصارفة ، ظاهرة في وجوب رفع اليدين لدى التكبير في الصلاة . ومقتضى الجمع بين الروايات الظاهرة في الوجوب بقطع النظر عن القرائن والروايات الصريحة في الاستحباب ، هو حمل الروايات جميعها على الاستحباب تحكيما للنص على الظاهر .
ويحتمل أن تكون رواية علي بن جعفر دالة على وجوب رفع اليد على خصوص الإمام دون المأموم . ويحتمل أن تكون بصدد بيان حال الإمام والمأموم في صلاة الجماعة وإيثار الصمت تجاه من يصلي فرادى . ولا منافاة في وجوب رفع اليدين على الجميع : الإمام والمأموم ومن يصلي فرادى ، ولكن رفع يد الإمام يجزي عن رفع يد المأمومين كما أن قراءة الإمام تجزيء عن قراءة المأمومين .
وبناءا على هذا الاحتمال وهو أظهر الاحتمالات في الرواية ، لا ترد مناقشة بعض

(1) سورة الكوثر ، آية : 2 .
(2) عن أبي جعفر في قوله « فصل لربك » قال الصلاة « وانحر» قال يرفع يديه أول ما يُكبر في الإفتتاح . وعن عمر بن يزيد قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في قوله « فصل لربك وانحر» هو رفع يديك جذاة وجهك . تفسير الميزان ، المجلد 20 ، ص 374 . (المترجم) .
(3) عن الفضيل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال إنما تُرفع اليدان بالتكبير لأن رفع اليدين ضرب من الإبتهال والتبتّل والتضرع فأحب الله عز وجل أن يكون العبد في وقت ذكره له متبتلا متضرعا مبتهلا ولأن في رفع اليدين إحضار النية وإقبال القلب على ما قال (1) (المترجم) .
(4) عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال : قال : على الإمام أن يرفع يده في الصلاة ليس على غيره أن يرفع يده في الصلاة (2) . (المترجم)
وسائل الشيعة ، المجلد 4 ، الباب 9 من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح 11 .
وسائل الشيعة ، المجلد 4 ، باب 9 من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح 7 .
(1 ـ 2) وسائل الشيعة ـ كتاب الصلاة ـ الباب التاسع من أبواب تكبيرة الإحرام المجلد ـ 4 ـ ص 727 ج 11 وص 726 ح 7 .
الاربعون حديثاً 455

المحققين المتأخرين ، حتى يستلزم حمل المطلق على المقيّد ، فتكون النتيجة أن رفع اليدين لدى التكبير واجب على الإمام خاصة دون غيره . ولكن مع ذلك فإن عدم القول بالفصل بين الإمام فيجب عليه رفع اليدين حين التكبير ، دون غيره ، ومذهب المشهور من العلماء قديما وحديثا ، وجميع القرائن الخارجية والداخلية ، كل ذلك يدل على استحباب رفع اليدين ، ولا مجال للبحث في ذلك . وهذا القدر من البحث قد فاض عن حجم هذا الكتاب .
ورغم أن رفع اليدين حين التكبير يكون مستحبا ، فلا ينبغي ترك هذا المستحب مهما أمكن ، وخاصة أن هناك من العلماء من يقول بوجوبه . ويكون مقتضى الاحتياط هو عدم ترك هذا المستحب .

في بيان سر رفع اليدين

وعلى أي حال فإن رفع اليدين لدى التكبير في الصلاة ، يعد من زينة الصلاة ، كما أن صلاة جبرائيل عليه السلام ، وملائكة السماوات السبع ، تكون على هذا الغرار ، كما ورد عن الأصبغ بن نباته عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال لمّا نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم « فصل لربك وانحر » قال يا جبرائيل ما هذه النحيرة التي أمر بها ربي ؟ قال يا محمد إنها ليست بنُحَيرة ، ولكنه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة في السماوات السبع وأن لكل شيء زينة وإن زينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة (1) .
ونقل عن الإمام الرضا عليه السلام كما في كتابي (علل الشرائع) و (عيون الأخبار) قال : (إنما ترفع اليدان بالتكبير لأن رفع اليدين ضرب من الإبتهال والتبتّل والتضرع فأحب الله عز وجل أن يكون العبد في وقت ذكره له متبتّلا متضرعا مبتهلا ولأن في رفع اليدين إحضار النية وإقبال القلب) (2) وهذا الكلام يتطابق مع ما يقول بعض أهل المعرفة في فلسفة رفع اليدين لدى التكبير من إلقاء غير الله وراء ظهره ، واقتلاع أشواك طريق الوصول إلى الحبيب ، وجعل نفسه منقطعة عن الغير وخالصة مخلصة له ـ من دون أدنى توجه إلى الغير والغيرية الذي يعد في مذهب العشاق والمحبين شركا لله سبحانه ـ ثم يبدأ معراجه الحقيقي الروحاني ، والسفر إلى الله . وهذا السفر والمعراج لا يمكن أن يتحقق من دون رفض الغير والغيرية وترك الذات والأنانية . كما أن مع التكبيرات السبعة الافتتاحية نخرق الحجب السبعة الملكية والملكوتية نهائيا . ففي كل تكبيرة من التكبيرات السبعة من صلاة الأولياء خرق لحجاب ، ورفض لعوالم ذلك الحجاب وللقاطنين

(1) وسائل الشيعة ، المجلد 4 ، الباب 9 من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح 13 و 14 .
(2) وسائل الشيعة ، المجلد 4 ، الباب 9 من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح 11 .
الاربعون حديثاً 456

فيها . ثم ينكشف عليهم حجاب آخر ، ويتجلى لهم على قلوبهم ، تجليا تقييديا ، فبالتكبير اللاحق يجتث الأشواك من الطريق ، ولا يلتهي بعالم ما وراء الحجاب وساكنيه ، وكأن باطن قلوبهم يهتف : الله أكبر من أن يتجلى تجليا تقييديا ، كما هتف بذلك شيخ الأولياء والمخلصين ، خليل الرحمن في ذاك السفر العرفاني الشهودي ، والتجليات التقييدية . فالسالك إلى الله ، والمسافر إلى ساحة الحبيب ، والمجذوب لطريق الوصول إلى المعشوق ، يخرق الحجب واحدا بعد آخر ، حتى ينتهي إلى التكبير الأخير ، فيخرق به الحجاب السابع ، ويرفض الغير والغيرية ويقول :«وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين» (1) كما قاله النبي إبراهيم خليل الرحمن . ثم تنفتح عليه الأبواب ، وتنكشف له سبحات الجلال ، فيستعيذ من الشيطان الرجيم ، ويبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم .
لقد أشار إلى ذلك محمد بن علي بن الحسين ـ رضوان الله عليه ـ بإسناده عن أبي الحسين عليه السلام أنه روى لذلك علة أخرى وهي : «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا اُسري به إلى السماء قطع سبع حجب فكبّر عند كل حجاب تكبيرة فأوصله الله عز وجل بذلك إلى منتهى الكرامة» (2) .
وفي حديث آخر قريب إلى هذا المضمون عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال قلت له لأي علة صار التكبير في الإفتتاح سبع تكبيرات أفضل (إلى أن قال) قال يا هُشام إن الله خلق السماوات سبعا والأرضين سبعا والحُجُب سبعا ، فلمّا أسرى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان من ربه كقاب قوسين أو أدنى رفع له حجاب من حُجُبه فكبّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعل يقول الكلمات التي تُقال في الإفتتاح ، فلّما رفع له الثاني كبّر فلم يزل كذلك حتى بلغ سبع حُجُب فكبّر سبع تكبيرات ، فلتلك العلة يُكبّر للإفتتاح في الصلاة سبع تكبيرات (3) .
وهذا الحديث ينسجم مع الذوق والمشرب العرفاني أكثر من الحديث السابق ، لأن مع رفع كل يد لدى التكبير ، خرق لحجاب ، وإزاحة لستار ، وظهور نور من أنوار الكرامة ، وحيث أن هذا النور قيد من الحجب النورانية ، فمع رفع اليدين يحطم هذا القيد ويزيح الحجاب ويُنَحي وهكذا حتى يتجلى الذات ويتم الوصول إلى منتهى الكرامة ، الذي هو غاية آمال الأولياء . ونستطيع أن نفسر الرواية السابقة على ضوء هذه الرواية .
وعلى أي حال إننا محرومون من استيعاب هذه المعاني ، فكيف بمشاهدتها أو الوصول إليها . ومشكلتنا أننا نجحد كل هذه المقامات والدرجات ، ونعتقد بأن صلاة الأولياء ومعراجهم

(1) سورة الأنعام ، آية : 79 .
(2) وسائل الشيعة ، المجلد 4 ، الباب 7 من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح 5 .
(3) وسائل الشيعة ، المجلد 4 ، الباب 7 من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح 7 .
الاربعون حديثاً 457

مثل صلاتنا ومعراجنا ، ونجعل كمال عملهم مضاهيا لكمال عملنا ، غاية الأمر أننا نتصور بأن صلاتهم تتفوق على صلواتنا من جهة حسن القراءة وإنجاز الآداب والشرائط ، وأنها خالية من الشرك والرياء والعُجب ، أو أن عبادة الأولياء لا تكون خشية من النار أو طمعا في الجنة ولا نتصور شيئا وراء ذلك ، في حين أن لصلاتهم ومعراجهم الروحاني مقامات سامية أخرى ، لا ترقى إليها أوهامنا .

في التنبيه الى مكيدة من مكائد الشيطان

وملخص الكلام في هذا المقام ـ الذي انتهينا إليه من دون قصد ـ أنه يجب أن ننتبه إلى أن أسوأ الأشواك في طريق الكمال والوصول إلى المقامات الروحانية ، والذي يُعد من إبداع الشيطان القطاع للطريق ، هو إنكار المقامات والمدارج الغيبية الروحية ، ويعتبر هذا الجحود رأس مال كل الأضاليل والجهالات ، وسبب للوقوف والخمود عن الحركة والتقدم ، وإماتة لروح الشوق التي هي مركب الوصول إلى كل الكمالات ، وإطفاء لهب العشق الذي يكون واسطة المعراج الروحاني الباعث على كمال الإنسان ، فيُمنى بالتقاعس والإحجام عن الطلب .
على العكس إن الإنسان إذا آمن بالمقامات الروحانية والمعارج العرفانية فمن الممكن أن هذا الإيمان يُلهب جذوة العشق الفطري الهامد تحت رماد الرغبات النفسية ، ويشعل نور الشوق في القلب ، فيندفع شيئا فشيئا نحو الطلب والنهوض بالجهاد ، فيصبح مشمولا لهداية الحق ، ونجدة الذات المقدس المتعالي له والحمد لله .


فصل
في فضل السواك

إعلم أن من الآداب المستحبة الشرعية بشكل مطلق السواك الذي أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث الشريف (وعليك بالسواك عند كل وضوء) ويتأكد في بعض الحالات الخاصة مثل قبل الوضوء وقبل الصلاة وعند قراءة القرآن وحين السحر ولدى القيام من النوم . وقد أكدت الأخبار الشريفة على ذلك ، وذكرت له آثار كثيرة . ونحن نقتصر على ذكر بعضها في هذا الكتاب .
الكافي : بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «في السواك اثنتا عشرة خصلة : هو من السنة ومطهرة للفم ومجلاة للبصر ويُرضي الرب ويذهب بالبلغم ويزيد في الحفظ ويبيّض الأسنان ويُضاعف الحسنات ويذهب بالحفر ويشد اللثة ويُشهّي الطعام ويفرح به الملائكة
.

(1) فروع الكافي ، المجلد 6 ، كتاب الزي والتجمل ، باب السواك ، ح 6 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي