الاربعون حديثاً 409

ولا بد أن نعرف بأنه ليس مقصود من أجاز فتح الطريق على لقاء الله ومشاهدة جمال الحق وجلاله ، جواز اكتناه ـ التعرف على الحقيقة والذات ـ ذاته المقدس ، أو إمكان الإحاطة في العلم الحضوري والمشاهدة العينية الروحانية ، على ذاته ، المحيط بكل شيء على الإطلاق ، فإن امتناع الاكتناه لذاته المقدس بالفكر في العلم الكلي ـ الفلسفة ـ وامتناع الإحاطة بالبصيرة في العرفان ، من الأمور البرهانية ، ومتّفق عليه لدى جميع العقلاء ، وأرباب القلوب والمعارف . بل المقصود لدى من يدعي مقام لقاء الله هو : أنه بعد حصول التقوى التامة والكاملة ، وانصراف القلب نهائيا عن جميع العوالم ، ورفض التوجه نحو النشأتين ـ المُلك والملكوت ـ ووطأ الأنانية والإنّية ، والإقبال الكلي نحو الحق المتعالي وأسماء ذاته المقدس وصفاته ، والانصهار في عشق ذاته المقدس وحبّه ، وتحمّل جهد وترويض القلب ، يحصل صفاء في القلب لدى السالك يبعث على تجلّي أسماءه وصفاته ، وتمزّق الحجب الغليظة التي أسدلت بين العبد من جهة والأسماء والصفات من جهة أخرى ، والفناء في الأسماء والصفات ، والتعلق بعزّ قدسه وجلاله والتدلّي التام بذاته . وفي هذا الحال لا يوجد حاجز بين روح السالك المقدسة والحق المتعالي سوى حجاب الأسماء والصفات .
ويمكن أن يرفع الستار النوري للأسماء والصفات لبعض أرباب السلوك أيضا ، وينال التجليات الذاتية الغيبية ، ويرى نفسه متدليا ومتعلقا بالذات المقدس ، ويشهد الإحاطة القيومية للحق والفناء الذاتي لنفسه ، ويرى بالعيان أن وجوده ووجود كافة الكائنات ، ظلا للحق المتعالي .
وكما قامت البراهين على أنه لا حجاب بين الحق سبحانه والمخلوق الأول المجرد عن جميع المواد والتعلقات ، بل البرهان قائم على عدم وجود حجاب بين الحق وكافة المجردات بشكل عام ، فكذلك لا يوجد حجاب بين هذا القلب الذي بلغ في سعته وإحاطته الموجودات المجردة بل اجتازها ووطئ بأقدامه على رؤوسها ، وبين الحق المتعالي . كما في الحديث الشريف المنقول عن (الكافي) و (التوحيد) :
«إن روح المؤمن لأشد اتصالا بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها» (1) وفي المناجاة الشعبانية المقبولة لدى العلماء ، والتي يدل مضمونها على أن هذه المناجاة من الأئمة المعصومين عليهم السلام : «إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك ، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعز قدسك . إلهي واجعلني ممن ناديته فأجابك ولاحظته فصعق لجلالك فناجيته سرا وعمِل لك

(1) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الإيمان والكفر ، باب أخوة المؤمنين ، ح 4 .
الاربعون حديثاً 410

جهرا»
(1) . وفي الكتاب الإلهي الشريف ، لدى حكاية معراج الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم « ثم دنى فتدلّى * فكان قاب قوسين أو أدنى» (2) ولا تتنافى هذه المشاهدة الحضورية الفنائية ، مع البرهان على عدم الاكتناه والإحاطة للذات المقدسة ، ومع الأخبار والآيات التي تدل على تنزيه الحق جلا وعلا من كل عيب ونقص وحدّ . بل يكون مؤكدا ومؤيدا لها .
فانظر الآن ما جدوى هذه التوجيهات والتأويلات البعيدة ؟ هل نستطيع أن نوجه كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي يقول «فهبني صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك» (3) هل أن تحرّق وتألّم أولياء الله ، من فراق حور العين وقصور الجنة ؟ وهل يمكن تفسير هذه الجملة (ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنّتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك عبادة الأحرار) على أن هذا الأنين من جرّاء الفراق عن الجنة وأطعمتها ؟ هيهات أن يكون ذلك ، إنه لكلام غير موزون ، وتوجيه غير مقبول .
هل يمكن القول أن تجلّي جمال الحق سبحانه ليلة المعراج ، والمجلس الذي أقيم في تلك الليلة من دون أن يحضرها أحد من الكائنات أو لم يطلع على أسراره أحد ، حتى أمين الوحي جبرائيل ، بأنه مشاهدة للجنة وقصورها المشيّدة ، وأن أنوار العظمة والجلال هي رؤيته لنعم الحق ؟
هل أن التجليات التي حصلت للأنبياء عليهم السلام ، والتي ورد ذكرها في الأدعية المعتبرة هي من قبيل النعم والمأكول والمشروب أو البساتين والقصور ؟
ومن المؤسف أننا نحن المساكين ، المسجونين في الحجب المظلمة ، والمصفدون بسلاسل الآمال والأمنيات ، لا نفهم إلا المطعومات والمشروبات والمنكوحات وأمثالها ، وإذا أراد فيلسوف أو عارف أن يرفع هذه الحجب ، اعتبرنا سعيه هذا غلطا وخطأ ، وما دمنا مسجونين في البئر المظلم ، عالم المُلك لم نستوعب شيئا من أصحاب المعارف والمشاهدات .
ولكن عزيزي : لا تقارن نفسك مع الأولياء ، ولا تظن بأن قلبك يضاهي قلوب الأنبياء وأهل المعارف . إن قلوبنا ذات غبار التعلق بالدنيا ، وملذاتها وإن انغماسنا في الشهوات يمنع قلوبنا من أن تكون مرآة لتجلي الحق سبحانه ، ومحلا لظهور المحبوب . ومن المعلوم أننا لا نعي شيئا من تجليات الحق وجماله وجلاله عندما نشعر بالأناينة والذاتية والمحورية بل يجب أن نكذب في هذا الحال أحاديث الأولياء وأهل المعرفة ، فإن لم نكذّبها بألسنتنا في الظاهر ،

(1) مفاتيح الجنان ، المناجاة الشعبانية .
(2) سورة النجم ، آية : 8 و 9 .
(3) مفاتيح الجنان ، دعاء كميل .
الاربعون حديثاً 411

كذّبناها في قلوبنا . وإن لم نجد سبيلا للتكذيب ، بأن كانت أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الأئمة المعصومين عليهم السلام ، لفتحنا باب التأويل والتفسير ، وفي النهاية نسد باب معرفة الله .
فنفسر قوله «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله معه وقبله وفيه» على رؤية الآثار . وقوله «لم أعبد ربا لم أره» بالعلم بالمفاهيم الكلية التي تضارع علومنا ، وقوله في آياته الكريمة التي تتحدث عن لقاء الله ، بلقاء يوم الجزاء . وقوله «لي مع الله حالة» بحالة الرقّة في القلب . وقوله «وارزقني النظر إلى وجهك الكريم» وتأوّه الأولياء وتحرّقهم في معاناة الفراق ، بالبعد عن حور العين ، وطيور الجنة . وهذه التفاسير لا تكون إلا نتيجة أننا لا نكون رجال تلك الساحات ، ولا نفهم إلا المتع الحيوانية والجسمانية دون غيرها ، ولهذا ننكر جميع المعارف . والأنكى من كل ذلك ، هذا الإنكار الذي يفضي إلى غلق باب كل المعارف ، ويحجزنا عن السعي والطلب ، ويجعلنا نقتنع بمستوى الحيوانية والبهيمية ، ويحرمنا من عوالم الغيب والأنوار الإلهية . أصبحنا نحن المساكين المحرومين نهائيا من المشاهدات والتجليات في منأى حتى عن الإيمان بهذه المعاني التي هي درجة من الكمال النفسي والتي يمكن أن تسوقنا إلى مرحلة متقدمة . نهرب من العلم الذي قد يكون منطلقا وبذرة للمشاهدات ، ونغلق عيوننا وأسماعنا نهائيا ونضع القطن في آذاننا حتى لا يتطرق كلام الحق إليها . وإذا سمعنا حقيقة من لسان عارف هائم أو سالك حزين أو فيلسوف متأله ، نتصدى فورا نتيجة عدم طاقة آذاننا على استماع تلك الحقيقة ، ونتيجة أن حب النفس يمنعنا من جعل هذه الحقائق اسمى من قدرة استيعابنا لها ونتصدى فورا للطعن فيه ولعنه وتكفيره وتفسيقه ، ولا نأبى من أي غيبة أو تهمة .
إننا نوقف الكتاب ونشترط على كل من يستفيد منه أن يلعن المرحوم الملاّ محسن فيض الكاشاني ـ صاحب كتب الأخبار والأخلاق والكلام والتفسير ـ يوميا مائة مرة . ونرمي صدر المتألهين الذي هو قمة التوحيد بالزندقة ولا نبخل عن إهانته أبدا ، ونقول عنه بأنه صوفي رغم عدم ظهور أي رغبة منه في كل كتبه نحومذهب التصوف ورغم تأليفه لكتاب (كسر اصنام الجاهلية في الرد على الصوفية) .
إننا نترك الذين يستحقون اللعن ، ويكونون ملعونين على لسان الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونلعن من يصرخ بالإيمان بالله ورسوله والأئمة الهادين عليهم السلام . وإنني أعلم بأن هذا اللعن والتوهين لا يسيء إلى مقامهم ، بل قد يضاعف حسناتهم ويرفع من درجاتهم ، ولكنه يسيء إلينا وقد يبعث على الخذلان وسلب التوفيق منا .
يقول شيخنا العارف ـ الشاه آبادي ـ روحي فداه (لا تلعنوا الأشخاص حتى الكافر الذي مات من دون أن تعرفوا على أي دين مات ، إلا إذا أخبر ولي معصوم عن حاله بعد الموت ، إذ

الاربعون حديثاً 412

من الممكن أنه أصبح مؤمنا لدى سكرات الموت ، فإلعنوا بصورة عامة وكلية) .
فكم الفرق بين شخص يملك مثل هذه النفس القدسية التي لا ترضى أن يلعن من مات على الكفر ظاهرا ، لإمكان أنه غدا مؤمنا في اللحظات الأخيرة من حياته ، وشخص آخر من أمثالنا ـ وإلى الله المشتكى ـ يرقى المنبر مع أنه من أهل العلم والفضيلة ويقول أمام العلماء والفضلاء مستغربا (أن فلان رغم أنه فيلسوف ، يتلو القرآن) . وهذا الكلام يشبه ما إذا قلنا (أن فلان رغم كونه نبيا ، يعتقد بالمبدأ والمعاد) .
إنني أيضا لا أعتقد كثيرا بالعلم فقط ، إن العلم الذي لا يفضي إلى الإيمان أراه الحجاب الأكبر ، ولكن لو لم نرد الحجاب ولم نتعلم لما تمكّنا من خرقه .
إن العلوم بذور المشاهدات . وإنه لمن الممكن أن يبلغ الإنسان إلى مقامات شامخة من دون تعلّم حجاب المصطلحات والعلوم ، ولكن هذا خلاف العادة ، وخلاف طبيعة السنن ، وإنه نادرا ما يحصل . فالطريق الطبيعي لمعرفة الله وطلبه هو أن الإنسان يبتدئ أولا بإنفاق وقت في التفكر بالحق سبحانه ، ويحصل على العلم بالله وأسماء ذاته المقدس وصفاته حسب الأساليب المتبعة من التلمذة على يد رجال ذلك العلم ، ثم يتزوّد من المعارف بواسطة الرياضة العلمية والعملية وينتهي بذلك حتما إلى النتيجة المنشودة .
وإن لم يكن الإنسان من أهل المصطلحات ـ العلم ـ يستطيع أن يصل إلى النتيجة من خلال تذكّر المحبوب ، وانشغال القلب بالذات المقدّس . ومن المعلوم أن مثل هذا الإنشغال القلبي والتوجه الباطني سيكون سببا لهدايته وأن الله سبحانه سيعينه في ذلك ، وأن حجابا من الحجب سيرفع له ، وأنه سيتنازل قليلا عن موقفه المُنكر ـ تجاه العرفاء والفلاسفة ـ ولعل الله سبحانه يفتح عليه ببركة عناياته الخاصة ، بابا من المعارف إنه ولي النعم .

فصل
في بيان انكشاف بعض الاحوال الغيبية على الانسان لدى موته

يفهم من هذا الحديث الشريف ، أن حين المعاينة وعند الموت ، تنكشف على الإنسان الذي أوشك على الرحيل بعض مقاماته وأحواله . ويطابق هذا ضربا من البراهين ويوافق مكاشفات أصحاب الكشف والعيان . ويجاري الأحاديث والآثار الأخرى أيضا .
إن الإنسان ما دام يشتغل بتعمير هذا العالم ، ويكون قلبه متّجها نحو هذه النشأة ، وما دام سكر الطبيعة ـ عالم المادة ـ قد أغماه وأفقد وعيه ، والشهوة والغضب المخدرتان قد خدّرتاه وسلبتا لُبّه ، يكون محجوبا نهائيا عن صور أعماله وأخلاقه ، وتكون آثار أعماله وأخلاقه مهجورة في ملكوت قلبه . ولكن عندما تغشاه سكرات الموت وتواجهه صعابها وضغوطها ، ويبتعد قليلا

الاربعون حديثاً 413

عن هذه النشأة ، فإذا كان من أهل الإيمان واليقين ، وكان قلبه متعلقا بهذه العوالم المادية ، اتجه قلبه في نهاية المطاف من حياته إلى ذلك العالم ، والسائقون المعنويون ، وملائكة الله الموكّلون عليه ، يسوقونه جميعا إلى ذلك العالم وبعد هذا السوق ، وذاك الإنصراف ينكشف له نموذج من عالم البرزخ ، وتنفتح عليه من عالم الغيب كُوّة ويتكشّف له حاله ومقامه قليلا كما نقل عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إنه قال : «حرام على كل نفس أن تخرج من الدنيا حتى تعلم أنها من أهل الجنة هي أم من أهل النار» (1) .
وهنا حديث شريف نذكره بتمامه لأن فيه بشارة لأهل الولاء ، بولاية مولى الموالي ، والمتمسكين بذيل عناية أهل بيت العصمة عليهم السلام . وهو حديث نقله الفيض الكاشاني في كتابه علم اليقين . قال : وفي كتاب الحسين بن سعيد الأهوازي ، عن عبّاد بن مروان قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : «منكم والله يُقبل ، ولكم والله يُغفر ، إنه ليس بين أحدكم وبين أن يُغتبط ويرى السرور وقُرّة العين إلا أن تبلُغ نفسه ههنا ـ وأومى بيده إلى حلقه ثم قال عليه السلام ـ إنه إذا كان ذلك واحتضر ، حضره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ والأئمة وجبرئيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام ، فيدنو منه جبرئيل (2)عليه السلام فيقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن هذا كان يُحبكم أهل البيت فأحبه ، فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبرئيل إن هذا كان يُحب الله ورسوله وأهل بيته فأحبه ، فيقول جبرئيل : يا ملك الموت إن هذا كان يحب الله ورسوله وآل رسوله فأحبه وارفُق به .
فيدنو منه ملك الموت عليه السلام فيقول : يا عبد الله أخذت فكاك رقبتك ؟ أخذت أمان براءتك ؟ تمسّكت بالعصمة الكبرى في الحياة الدنيا ؟ فيُوفقه الله فيقول : نعم ، فيقول له : وما ذاك ؟ فيقول : ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام ، فيقول : صدقت ، أما الذي كنت تحذر فقد آمنك الله ، وأما الذي كنت ترجو فقد أدركت ، أبشر بالسلف الصالح مرافقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي والأئمة من ولده عليهم السلام .
ثم يسل نفسه سلا رفيقا ثم ينزل بكفنه من الجنة وحنوطه حنوط كالمسك الأذفر فيُكفن بذلك الكفن ويحنّط بذلك الحنوط ، ثم يكسى حلة صفراء من حلل الجنة . فإذا وُضع في قبره فُتح له باب من أبواب الجنة يدخل عليه من رَوحها وريحانها ثم يقال له : نم نومة العروس على فراشها ، أبشر برَوح وريحان وجنة نعيم ورب غير غضبان .

(1) علم اليقين للفيض الكاشاني ، المجلد الثاني ، ص 853 .
الاربعون حديثاً 414

قال : وإذا حضرت الكافر الوفاة حضره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي والأئمة وجبرئيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام ، فيدنو منه جبرئيل فيقول : يا رسول الله إن هذا كان مبغضا لكم أهل البيت فأبغضه ، فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبرئيل إن هذا يُبغض الله ورسوله وأهل بيت رسوله فأبغضه : فيقول جبرئيل : يا ملك الموت إن هذا يبغض الله ورسوله وأهل بيت رسوله عليهم السلام فأبغضه واعنف عليه .
فيدنو منه ملك الموت فيقول : يا عبد الله أخذت فكاك رقبتك ؟ أخذت براءة أما تمسكت بالعصمة الكبرى في الحياة الدنيا ؟ فيقول : لا ، فيقول له : أبشر يا عدو الله بسخط عذابه والنار ، أما الذي كنت ترجو فقد فاتك ، وأما الذي كنت تحذر فقد نزل بك . ثم يَسُل نفسه سلا عنيفا ،ثم يوكل بروحه ثلاثمائة شيطان يبزُقون في وجهه ويتأذّى بريحه ، فإذا وُضع في قبره فُتح له باب من أبواب النار يدخل عليه من فيح ريحها ولهبها»
(1) .
ولا بد أن تعرف أن عالم برزخ كل شخص ، أنموذج من نشأته يوم القيامة ، والبرزخ عالم يتوسط بين هذا العالم وعالم القيامة ، وتنفتح على هذا العالم كُوّة من الجنة أو النار . كما أشير إليه في نهاية هذا الحديث الشريف ، وفي الحديث النبوي المعروف «القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» (2) .
فتبين أن الإنسان لدى سكرات الموت والاحتضار يشاهد صور أعماله وآثارها ، ويسمع من ملك الموت بشارة الجنة أو الوعيد بالنار . وكما أن هذه الأمور تنكشف عليه قليلا ، كذلك تنكشف عليه الآثار التي تركتها أعماله وأفعاله في قلبه ، من النورانية وشرح الصدر ورحابته أو أضدادها أيضا من الظلام والكدورة والضغط وضيق في الصدر ، فإن كان من أهل الإيمان والسعادة ، يستعد قلبه عند معاينة البرزخ لمشاهدة النفحات اللطيفة اللُطفيّة والجمال ، وتظهر فيه آثار تجليات اللطف والجمال ، فيأخذ القلب في الحب للقاء الله ، وتشتعل في قلبه ، جذوة الاشتياق إلى جمال المحبوب ، إن كان من أهل الحسنى وحب الله والجاذبة الربوبية ، ولا يعرف أحد إلا الله ، مقدار اللذات والكرامات الموجودة في هذا التجلي والاشتياق .
وإن كان من أهل الإيمان والعمل الصالح ، فتغدق عليه من كرامات الحق المتعالي بقدر إيمانه وأعماله ، ويراها لدى الاحتضار ، فيتوق إلى الموت ولقاء كرامات الحق ويرتحل من هذا العالم مع البهجة والسرور والروح والريحان ، ولا تطيق الأعين المُلكية والذائقة المادية ، لرؤية هذه الكرامات ومشاهدة هذه البهجة والفرح .

(1) علم اليقين ، المجلد 2 ، ص 854 ـ 856 .
(2) سنن الترمذي ، المجلد الرابع ، ص 640 باب 26 كتاب صفة القيامة .
الاربعون حديثاً 415

وإن كان من أهل الشقاء والجحود والكفر والنفاق والأعمال القبيحة والأفعال السيئة ، انكشف عليه بقدر نصيبه من دار الدنيا وما وفّره واكتسبه لنفسه منها من آثار السخط الإلهي والقهر ، ونموذجا من دار الأشقياء ، فيدخل الذعر والهلع في نفسه بدرجة لا يكون أبغض شيء عنده ، من التجليات الجلالية والقاهرة للحق المتعالي ويستولي عليه من جرّاء هذا البغض والعداوة الشديدين ، الضغوط والظلام والصعاب والعذاب ، لا يعرف حجمها أحد إلا الذات الحق المقدس ، وهذه المحن تكون لمن كان من الجاحدين والمنافقين ومن أعداء الله وأعداء أوليائه في هذه الدنيا . وينكشف على أهل المعاصي والكبائر ، بقدر أجتراحهم للسيئات ، نموذجا من جهنمهم ، فلا يكون شيء عندهم أبغض من الرحيل من هذا العالم ، فيُرحلون بكل عنف وقسوة وعذاب ، وفي نفوسهم حسرات لا تتحقق في هذه الأحوال .
ويستفاد من هذا البيان أن الإنسان لدى الاحتضار والمعاينة ، يشاهد ما كان فيه وهو غير واقف عليه ، رغم أنه بذر بنفسه هذه المعاينة والمشاهدة في عالم وجوده .
إن الحياة الدنيوية ، كانت ستارا ملقى على عيوبنا ، وحجابا على وجه أهل المعارف ، وعندما يزاح هذا الستار ، ويُخترق هذا الحجاب ، يرى الإنسان أنموذجا ، مما أعدّه ، ومما كان فيه .
إن الإنسان لا يرى في العوالم الأخرى من العذاب والعقاب ، إلا ما وفّره وهيّأه في هذه الدنيا ، ولا يشاهد في العالم الآخر إلا صورة ما أنجزه في هذا العالم من الأعمال الصالحة والخلق الحسن ، والعقائد الصحيحة ، مع رؤيته لما يتفضل عليه الحق المتعالي بلطفه من الكرامات الأخرى .
يروي صاحب كتاب تفسير (الصافي) عن (مجمع البيان) في ذيل الآية المباركة «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ـ الخ» (1) حديثا عن أمير المؤمنين عليه السلام وفيه «هي ـ هذه الآية ـ أحكم آية في القرآن وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمّيها الجامعة» (2) .
فلا بد وأن نعلم بأننا إذا تعلقنا بالحق المتعالي وأوليائه ، ووضعنا في رقابنا حبل طاعة الذات المقدس ، وجعلنا اتجاه القلب إلهيا وربانيا ، لظهرت أمامنا حين النزع ، الحقائق بعينها في صور بهيّة . وعلى العكس إذا كانت قلوبنا ذات صبغة دنيوية ، وانصراف عن الحق ، فمن الممكن أن تُبذر فيها شيئا فشيئا بذور عداوة الحق والأولياء ، وتشتد هذه العداوة ، حين المعاينة ، فتظهر آثارها الغريبة الموحشة كما قد سمعت .

(1) سورة الزلزلة ، آية : 7 .
(2) هذه الرواية منقولة عن عبد الله بن مسعود كما في مجمع البيان المجلد الخامس ص 525 .
الاربعون حديثاً 416

إذن من الأمور الهامة السعي في سبيل تطوير حالة القلب ، وجعلها إلهية ، وتوجيهها نحو الحق المتعالي وأوليائه ودار كرامته ، ويتم هذا قطعا بواسطة التفكر في آلاء الذات المقدس ، ونعمائه والمحافظة على طاعته وعبادته . ولكن يجب أن لا يعتمد الإنسان على نفسه ومساعيه ، بل يستعين بالله على ذلك في جميع الأحوال ، وخاصة في حالات الخلوة مع الله بكل تذلّل وتضرّع وبكاء ، ويطلب منه أن يلقي حبه في قلبه ويضيئه بنور محبته ومعرفته ، ويخرج حب الدنيا وما عدى الله من قلبه ، ومن الواضح أن هذا الدعاء يكون في بدء الأمر من دون لبّ ، ويكون صرف لقلقة لسان ، لأن مطالبة زوال حب الدنيا من القلب مع كونه مفرطا في التعلق بها ، مشكل جدا ، ولكن نرجو بعد التمعّن في ذلك ، فترة من الزمن ، والمراقبة ، وإفهام القلب النتائج الحسنة لمحبة الله ، والنتائج السيئة لحب الدنيا ، أن يتحقق ذلك إنشاء الله تعالى .

فصل
في بيان معنى حب الحق المتعالي وبغضه

إعلم أن نسبة الحب والبغض وأمثالها للحق المتعالي ، الواردة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ، لا تكون بمعناها المتفاهم العرفي ، لأن لازمها الانفعال النفسي الذي يتنزّه الحق سبحانه منه . ولا مجال في هذا المختصر ، للإسهاب في ذلك ، فنقتصر على الإجمال والإشارة .
لا بد من معرفة أن كثيرا من الأوصاف والأحوال ، بعد تنزلها من العوالم الغيبية التجردية ، وحصولها للنشأة المُلكية المادية التي هي عالم الفرق بل عالم فرق الفرق ، تتجلّى في صورة تختلف عن الصور الغيبية المتجردة من الآثار واللوازم . كما أن الأفلاطونيين الذين يعتقدون بأن كافة الموجودات المُلكية ، مظاهر للأرواح الغيبية ، وتنزّلات للحقائق الملكوتية ، وأمثلة للمُثُل الأفلاطونية ، هؤلاء يرون أن العوارض والكيفيات التي تقوم في هذا العالم بغيرها ـ لا بنفسها كما هو شأن الجواهر ، ـ يرون أنها تتجلّى في ذلك العالم صورها الذاتية بوجوداتها من دون حاجة إلى الإرتكاز على الغير ، وعليه نقول أن أمثال هذه الأوصاف والأحوال التي تلازم في عالم المُلك ، التجدد والإنفعال ، تكون موجودة في العوالم الغيبية ، والنشآت التجردية وخاصة في عالم الأسماء ومقام الواحدية ، في صورة منزّهة وبعيد عن جميع النقائص ، ويكون التعبير عن تلك الصور ، حسب النشأة التجردية والصُقع الربوبي مغايرا عن التعبير عنها في هذا العالم .
فمثلا أن التجليات الرحمانية والرحيمية والتي نقول عنها أيضا التجليات الجمالية

الاربعون حديثاً 417

واللطفية والحُبية والأنسية ، إذا ظهرت في هذا العالم ، كانت في صورة الحب والرحمة واللطف ، الملازمة للانفعال والتأثر ، وذلك نتيجة ضيق هذا العالم . ففي الحديث أن للرحمة مائة جزء ، وإن جزءا واحدا منها قد هبط إلى هذا العالم ، وتحقّقت به الرحمة كل الرحمة في هذا العالم ، مثل الرحمة الحاصلة بين الأولاد والأبوين وأمثال ذلك . كما أن التجليات القاهرية والمالكية التي هي من تجليات الجلال ، تظهر في هذا العالم في صورة البغض والغضب المتلازمين للانفعال والتأثر أيضا .
وعلى اي حال إن باطن الحب والبغض والغضب ، الرحمانية والقهّارية وتجلّيات الجمال والجلال ، وتكون تلك التجليات ، موجودة بعين الذات ، ولا تتطرق إليها الكثرة والتجدد والإنفعال . كما أن مظهر الرحمانية والقهارية ، الحب والبغض المتوفران في هذا العالم ، وحيث أن المظهر ـ الحب والبغض ـ يكون فانيا في الظاهر ـ الرحمانية والقهارية ـ والظاهر يتجلى في المظهر ، يصح في بعض المقامات التعبير عن أحدهما بالآخر . وعليه يكون سخط الحق المتعالي لعبده ، ظهورا بالقهّارية والانتقام وظهور حبه له ، بالرحمة والكرامة . والله العالم .

الاربعون حديثاً 418




الاربعون حديثاً 419

الحديث التاسع والعشرون

وصية النبي لعلي بخصال


الاربعون حديثاً 420

بالسند المتصل إلى أفضل المحدثين وأقدمهم محمد بن يعقوب الكليني ـ رضي الله عنه ـ عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن النعمان ، عن معاوية بن عمار قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : «كان في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام أن قال : يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها عني ، ثم قال : اللهم أعنه . أما الأولى فالصدق ولا يخرجنّ من فيك كذبة أبدا . والثانية الورع ولا تجترئ على خيانة أبدا . والثالثة الخوف من الله عز ذكره كأنك تراه . والرابعة كثرة البكاء من خشية الله تعالى يُبنى لك بكل دمعة ألف بيت في الجنة . والخامسة بذلُك مالك ودمك دون دينك . والسادسة الأخذ بسُنتي في صلاتي وصومي وصدقتي ، أما الصلاة فالخمسون ركعة ، وأما الصيام فثلاثة أيام في الشهر : الخميس في أوله والأربعاء في وسطه والخميس في آخره ، وأما الصدقة فجهدك حتى تقول قد أسرفت ولم تُسرف .
وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل ، وعليك بصلاة الزوال وعليك بصلاة الزوال وعليك بصلاة الزوال ، وعليك بتلاوة القرآن على كل حال ، وعليك برفع يديك في صلاتك وتقليبهما ، وعليك بالسواك عند كل وضوء ، وعليك بمحاسن الأخلاق فاركبها ومساوئ الأخلاق فاجتنبها ، فإن لم تفعل فلا تلومنّ إلا نفسك» (1) .


(1) روضة الكافي ، ص 79 ح 33 .
الاربعون حديثاً 421

الشرح :


(الخصال) جمع خصلة ومعناها الفضيلة النابعة من السجية ، كما في (الصحاح) وعليه يكون استعمالها في مطلق الأفعال والخلق ، كما في هذا الحديث الشريف وغيره ، من باب المجاز . ومن الممكن أن تكون الخصلة ، أعم من الفضيلة الراسخة في طبيعة الإنسان ، فيكون استعمالها في مثل هذه الموارد من باب الحقيقة .
قوله عليه السلام (الورع) بفتح الراء و (الرِّعة) مصدران لَورِعَ يَرِع بكسر الراء فيهما . ومعناه التقوى أو شدة التقوى ومنتهى الحذر . ومن المحتمل أن يكون المعنى مأخوذا من ورّعته توريعا ، أي كففته ، لأن الورع في الحقيقة ، كف النفس ، ومنعها من تخطى حدود الشرع والعقل . أو من ورّع بمعنى الرد ، يقال وَرّعت الإبل عن الماء إذا رددتها ، لأن المؤمن يرد نفسه عن الشهوات والولوج فيها .
قوله عليه السلام : (لاتجترئ) يكون من باب الافتعال ، بمعنى الجسارة والشجاعة ، وكثرة الإقدام في الأمور . في الصحاح عن أبي زيد (الجُرأة مثال الجُرعة : الشجاعة) و (في الصحاح) أيضا (الجَريءُ المِقدام) .
قوله عليه السلام (فجُهدُك) الجُهد بضم الجيم وفتحها : الطاقة والمَشقّة ، يُقال : جَهَدَ دابّته وأجهدها ، إذا استعملها أكثر من طاقتها . ويكون الجهد أيضا بمعنى الجدّية والإصرار . وهذه المعاني تتناسب مع هذه الرواية .
قوله عليه السلام : «عليك بصلاة الليل» إن كلمة «عليك» اسم فعل ، وتستعمل بمعنى الفعل المتعدي أو في محل الفعل المتعدي «عليكم أنفسكم» أي الزموا ، وعليه تكون الباء للتأكيد والتأييد لا للتعدية . وقال في مجمع البحرين إذا تعدّت عليك ، بالباء كان معناها استمسك مع إفادة المبالغة .

الاربعون حديثاً 422

ونحن نذكر إنشاء الله معاني الحديث ، ضمن مقدمات وفصول .
مقدمة

يتضح من نواحي عديدة من هذا الحديث الشريف ، أن هذه الوصايا التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، مولانا أمير المؤمنين عليه السلام كانت عنده صلوات الله وسلام عليه مهمة جدا ، وهذه النواحي هي :
احداها : توجيه الوصية نحو أمير المؤمنين عليه السلام مع أنه سلام الله عليه ، أسمى من أن يتساهل في الأحكام الشرعية ، والأوامر الإلهية ، ولكن هذه الأمور لدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت هامّة جدا ، فلم يحجم عن الوصية بها . ومن المتعارف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يوصي بشيء إلا وقد كان يعتنى به ، ويراه مهما ، فلأجل إظهار أهميته ، يوصي به ، حتى لمن يعرف أنه لا يتهاون به .
أما احتمال أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أوصى لأمير المؤمنين عليه السلام حتى يُفهم الآخرين ، من قبيل (إياك أعني وأسمعي يا جارة) فهو بعيد . لأن سياق الحديث يشهد بأن الخطاب متوجه نحو الإمام علي عليه السلام ، وأنه المقصود مباشرة ، كما يستفاد من كلمة (في نفسك) و (احفظها) و (اللهم أعنه) . ثم أن مثل هذه الوصايا كانت متداولة بين الكبار من الناس ، وبين الأئمة الأطهار عليهم السلام من وصية بعضهم البعض الآخر ، وكان الظاهر من سياق كل واحد من مثل هذه العبارات التي وردت من إمام لإمام آخر عليهم السلام ، هو الإمام المخاطب بنفسه . كما ورد في إحدى وصايا الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى ولديه الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام : (أوصيكما وأهل بيتي ومن بلغه كتابي) ومن المعلوم أن الحسنين عليهما السلام كانا داخلين في هذه الوصية ، وتكشف هذه الوصايا عن شدة اهتمام وتعلق المعصومين عليهم السلام بعضهم ببعض . وعلى أي حال إن كون الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مخاطبا بالوصية يكشف عن عظمة الوصية وأهميتها .
ثانيتها : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكد على هذه الوصية بهذا المستوى من التأكيد للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام رغم أنه لن يتجاوز عليه السلام وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قيد أنملة ولم يبد تجاهها وهنا ولا فتورا .
ثالثتهما : نبّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّا بعد أن قال (يا علي أوصيك) على أهمية الوصية قائلا : (فاحفِظها عني) . ولما تمنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على علي عليه السلام أن يأتي بهذه الوصايا المهمة دعا له قائلا (اللهم أعنه) وهكذا بقية التأكيدات التي وردت في كل واحدة من هذه الجمل بصورة مستقلة مثل نون التأكيد ، وتكرار الوصية وغير ذلك مما لا نحتاج إلى تعداده .
الاربعون حديثاً 423

إذن يعلم أن هذه الوصايا من الأمور الهامة . ومن الواضح أنه لا يعود في جميع هذه الوصايا بالفائدة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما تعود المنفعة إلى المخاطب . والإمام عليه السلام وإن كان هو المخاطب بالأصالة ، ولكن التكاليف عامة ومشتركة بين الجميع ، حيث لا تعطل برحيل المخاطب ، بل إنها متواصلة مع الأجيال .
ولا بد من معرفة أن شدة تعلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بالإمام علي عليه السلام تبعث على الفائدة الكبيرة لهذه الوصايا التي بُيّنت بهذا الأسلوب وعلى أهميتها الكثيرة . والله العالم .

فصل
في مفاسد الكذب

من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ملازمة الصدق ، والابتعاد عن الكذب ـ فالصدق ولا يخرجنّ مِن فيك كذبة أبدا ـ ويستفاد من تقديم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الوصية على الوصايا الأخرى ، أن هذه الوصية أهم من كافة الوصايا المذكورة . ونحن نقدم مفاسد الكذب على مصالح الصدق .
واعلم أن هذه الرذيلة من الأمور التي اتفق العقل والنقل على قبحها وفسادها وأنها نفسها من الفواحش والمعاصي الكبيرة ، كما تدل على ذلك الأخبار . وقد تترتب عليها مفاسد أخرى لا تقل عن هذه الموبقة ، بل قد يسقط الإنسان من أعين الناس في الوسط الاجتماعي على إثر كذبة واحدة عندما تُكتشف ، ولا يستطيع إلى نهاية عمره أن يجبرها . فإذا اشتهر إنسان لا قدّر الله بالكذب ، فلعلّه لا يوجد شيء آخر يسيء إلى شخصية الإنسان أكثر من الكذب . ومضافا إلى ذلك فإن مفاسده الدينية وعقوباته الأخروية كثيرة أيضا . ونحن نقتصر على ذكر بعض الأحاديث الشريفة في هذا الموضوع . وحيث أن شناعة الكذب من الأمور الواضحة المعروفة ، نبتعد عن الإسهاب في الحديث عنه .
روي في «الوسائل» عن محمد بن يعقوب بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إن الله عز وجل جعل للشر أقفالا وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب أشر من الشراب» (1) .
والآن تدبر في هذا الحديث الشريف المروي عن عالم آل محمد عليهم السلام ، والمذكور في كتاب يعد مرجعا لجميع علماء الأمة ، ويتلقى بالقبول لدى كافة العلماء رضوان الله عليهم ، وأنظر هل يبقى سبيل للاعتذار ؟ أليس هذا التهاون في الكذب إلا من جراء الضعف

(1) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكذب ، ح 3 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي