الاربعون حديثاً 395

تشمله الهداية الإلهية ، ويحصل في قلبه قدرا من تجليات الأفعال بالعيان والشهود ، ثم يتكامل حتى يصبح القلب كليا مرآة للتجليات ، ويحصل للسالك الصعق والفناء . وهذه هي المرتبة الأخيرة للحضور ، التي تنتهي إلى فناء الحاضر في تجليات الأفعال . وكثير من أهل السلوك يبقون في هذا الصعق إلى الأبد ولا يصحون .
وإذا كان قلب السالك مؤهلا لأكثر من ذلك من جراء إشعاع الفيض الأقدس في عالم الأزل ، يصحو السالك من الصعقة ، ويحصل له الانس ويعود إلى عالمه ويكون موردا لتجليات الأسماء ، ويطوي تلك المراتب الأربعة ، ويصل إلى مرحلة الفناء في الصفات ، وبمناسبة عينه الثابتة يفنى في اسم من الأسماء الإلهية . وإن كثيرا من أهل السلوك يبقون في هذا الفناء الأسمائي ولا يصحون . ولعل الكلمة القائلة «إن أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري» (1) إشارة إلى هؤلاء الأولياء .
وإذا كان هناك استعداد أكثر من جراء تجلي الفيض الأقدس في عالم الأزل ، يحصل للسالك بعد الصعقة والفناء ، الانس أيضا ويصحو ، ويصير محلا للتجليات الذاتية ويطوي المراحل الأربعة حتى مرتبة الفناء الذاتي ، والصعق الكلي فينتهي السير إلى الله ويحصل الفناء التام .
قال بعض أن الآية الكريمة«ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله» (2) تشير إلى هذه الطائفة من أولياء الله والسالكين إليه وأجرهم لا يكون إلا على الذات المقدس تبارك وتعالى .
وقد يتفق أن يفيق السالك من فنائه فينهض حسب استعداده ، وقدر إحاطة عينه الثابتة ، لهداية الناس«يا أيها المدثر * قم فأنذر» (3) . وإن كانت عينه الثابتة تابعة للاسم الأعظم ، لاختتمت به دائرة النبوة ـ كما اختتمت بالنبي المعظم الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يوجد شخص آخر من الأولين والآخرين ومن الأنبياء والمرسلين ، تكون عينه الثابتة ، تابعة للاسم الأعظم ولم يكن ظهور ذاته بجميع الشؤون ـ ولهذا حصل له صلى الله عليه وآله وسلم ظهور بجميع الشؤون وحصلت الغاية من الظهور في الهداية ، وتم الكشف الكلي ، واختتمت النبوة بوجوده المقدس .
وإذا فرضنا أن شخصا من أولياء الله تبعا لذات النبي المقدس وهدايته سبحانه ، بلغ نفس

(1) أخبار العلوم ، المجلد الرابع ، ص 256 .
(2) سورة النساء ، آية : 100 .
(3) سورة المدثر ، آيات : 1 و 2 .
الاربعون حديثاً 396

المقام المقدس ، لكان كشفه عين النبي ، إذ لا يجوز التكرار في التشريع . فإذن انتهت دائرة النبوة في وجوده المقدس ، صلى الله عليه وآله وسلم ووضع اللبنة الأخيرة في دائرة النبوة ، كما ورد في الحديث .
ولا بد من معرفة أن العبادات والكيفيات المعنوية لها ، تختلف كثيرا لدى كل واحد من أصحاب هذه المقامات المذكورة وتتفاوت ، ولكل واحد منهم حظ ونصيب من المناجاة مع الحق المتعالي ، لا يكون لغيره الذي لم يبلغ ذلك المقام . ومن الواضح أن ما حصل للإمام الصادق عليه السلام لدى العبادة لا يمكن أن يحصل للآخرين .
لقد نقل عن كتاب (فلاح السائل) للسيد ابن طاووس قدس الله سره ـ أنه قال : «فقد روي أن مولانا جعفر بن محمد الصادق عليه السلام كان يتلو القرآن في صلاته فغشي عليه ، فلما أفاق سُئل : ما الذي أوجب ما انتهت حالك إليه ؟ فقال ما معناه : ما زلت أكرّر آيات القرآن حتى بلغت إلى حال كأنني سمعتها مشافهة ممن أنزلها على المكاشفة والعيان ، فلم تقم القوة البشرية بمكاشفة الجلالة الإلهية» (1) .
والحال التي كانت تحصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لم تحصل لأحد من الكائنات كما ورد في الحديث المشهور (لي مع الله حال لا يسعه ملك مقرّب ولا نبي مرسل) (2) . وعليه أترك هذا الموضوع الذي لا حظ لي فيه إلا الألفاظ . ولكن المهم لأمثالنا هو أننا المحرمون من مقامات الأولياء . إن لا نجد هذه المقامات بل نسلّم بها فإن في التسليم لأمر الأولياء فوائد كثيرة وفي الإنكار والعياذ بالله مفاسد اللهم إني مسلم لأمرهم ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ .
فصل

إعلم أنه لا يتم حضور القلب في العبادات ، إلا بعد تفهيم القلب لأهمية العبادات ، وهو لا يتيسر إلا عند استيعاب أسرارها وحقائقها ، ومن الواضح أن ذلك لا يتم لنا ، ولكنني أذكر منها بالمقدار الذي يتناسب مع فهم أمثالي مستفيدا من أخبار أهل بيت العصمة عليهم السلام ، ومن كلمات أهل المعرفة ، بالمقدار الذي ينسجم مع حجم هذا الكتاب .
إعلم ـ كما أشرنا مرّات ـ أن لكل من الأعمال الحسنة والأفعال العبادية صورة باطنية ملكوتية ، وأثر في قلب العابد ، أما الصورة الباطنية فهي التي تعمر العوالم البرزخية والجنة

(1) فلاح السائل ص 107 .
(2) كتاب أحاديث المثنوى .
الاربعون حديثاً 397

الجسمانية ، لأن أرض الجنة قاع خالية من كل شيء كما ورد في الحديث ، وأن الأذكار والأعمال مواد إنشاء وبناء لها . كما ورد في الحديث . وإن الآيات الكثيرة من الكتاب الشريف الإلهي ، تدل على تجسّم الأعمال مثل قوله تعالى «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره» (1) ومثل قوله تعالى :«ووجدوا ما عملوا حاضرا» (2) .
والأخبار الدالة على تجسم الأعمال والصور الغيبية الملكوتية مذكورة في الأبواب المختلفة . ونحن نكتفي بذكر بعضها :
روي الصدوق ـ قدّس سره ـ بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «من صلى الصلوات المفروضات في أول وقتها وأقام حدودها ، رفعها الملك إلى السماء بيضاء نقية تقول : حفظك الله كما حفظتني ، استودعني ملك كريم . ومن صلاها بعد وقتها من غير علة ولم يُقم حدودها ، رفعها الملك سوداء مظلمة وهي تهتف بـه ضيّعتني ضيّعـك الله كمـا ضيّعتني ولا رعاك الله كما لـم ترعني» (3) .
ويستفاد من هذا الحديث الشريف مضافا إلى تحقق الصورة الملكوتية للعمل ، حياة الصورة الملكوتية وشؤونها الحياتية أيضا ، وهذا ضرب من البرهان على تجسم الأعمال . والأخبار تدل على أن لجميع الموجودات حياة ملكوتية ، وأن عالم الملكوت كله حياة وعلم .«وإن الدار الآخرة لهي الحيوان»(4) .
وفي الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل : «إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يَقدم أمامه ، كلما يرى المؤمن هولا من أهوال يوم القيامة قال له المثال : لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عز وجل ، حتى يقف بين يدي الله عز وجل فيحاسبه حسابا يسيرا ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه ، فيقول له المؤمن : يرحمك الله نعم الخارج ، خرجت معي من قبري وما زلت تُبشّرني بالسرور والكرامة من الله حتى رأيت ذلك ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا ، خلقني الله عز وجل منه لأبشّرك»
(5) .
وفي هذا الحديث الشريف أيضا دلالة واضحة على تجسم الأعمال في نشأة الآخرة . كما ذكر الشيخ الأجل بهاء الدين قدس سره أيضا إثر ذكره لهذا الحديث : (وقد ورد في بعض الأخبار تجسم الاعتقادات أيضا فالأعمال الصالحة والاعتقدات الصحيحة تظهر صورا نورانية مستحسنة موجبة لصاحبها كمال السرور والابتهاج . والأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة تظهر

(1) سورة الزلزلة ، آيات : 7 ـ 8 .
(2) سورة الكهف ، آية : 49 .
(3) وسائل الشيعة ، المجلد الثالث ، الباب الثالث من أبواب المواقيت ، ح 17 ، ص 90 .
(4) سورة العنكبوت ، آية : 64 .
(5) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الإيمان والكفر ، باب إدخال السرور على المؤمنين ، ح 8 .
الاربعون حديثاً 398

صورا ظلمانية مستقبحة توجب غاية الحزن والتألم كما قاله جماعة من المفسرين في قوله تعالى « يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا» ويرشد إليه قوله تعالى « يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره» ومن جعل التقدير ليروا جزاء أعمالهم ولم يرجع ضمير يره إلى العمل فقد بعدعن الحق) (1) . انتهى كلامه رفع مقامه الشريف .
وفي هذا المقام كلام غريب صدر من بعض المحدثين الأجلاّء والأولى عدم ذكره ، وهو ينبع من توهم المنافاة بين القول بتجسم الأعمال ، والقول بالمعاد الجسماني مع أن هذا الكلام ـ تجسّم الأعمال ـ يؤكد المعاد الجسماني وكلمة «تمثّل» في هذا الحديث الشريف تعطي نفس معنى التمثل المذكور في قوله تعالى :
« فتمثّل لها بشرا سويا» (2) والذي هو التمثل بالصورة الجسمانية حقيقة ، وليس بمعنى الوهم والخيال والرؤيا في المنام . وليس من المستحسن صرف أمثال هذه الآيات والروايات عن ظاهرها لأجل عدم انسجام مضمونها مع عقولنا ، رغم مطابقتها للبرهان القاطع المذكور في محله ، وموافقته لمذهب الحكماء والفلاسفة . فإن من أفضل الأمور التسليم أمام ساحة قدس الحق المتعالي والأولياء المعصومين والإذعان إلى الآيات الشريفة والروايات المباركة .
فعلم أن لكل عمل مقبول لدى ساحة قدس الحق المتعالي صورة بهية حسنة تتناسب معه من الحور أو القصور أو الجنان العالية أو الأنهار الجارية . ولا يوجد كائن على صفحة الوجود جزافا ، بل هناك ارتباطات عقلية بينها لا يدركها إلا الكمّلين من الأولياء . وعلى أي حال إن هذا الموضوع يتطابق مع مقاييس العقل والبراهين الفلسفية .
ثم بعد أن عُلم بأن الحياة في عالم الآخرة ولذّاتها ترتبط بأعمال تنتقل صورها الكمالية إلى ذلك العالم ، وإن تلك الأعمال عبادات قد اكتشفها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبر أمّته بها ، وأن كمال العبادة وحسنها منوط بالنية وتوجه القلب والمحافظة على شرائطها ، وأنه إذا فقدت العبادة هذه الأمور أو بعضها ، سقطت عن الاعتبار ، بل كانت لها صورة بشعة مشوّهة يلقاها الإنسان في عالم الآخرة ، كما يستفاد ذلك من الأخبار والأحاديث .
بعد أن علمت هذه الأمور ، على كل إنسان مؤمن بعالم الغيب وبأحاديث الأنبياء والأولياء وأهل المعرفة ، وذوي الرغبة في الحياة الأبدية ، أن يصلح أعماله مهما كلفت من مشقة وجهد وترويض للنفس حيث يجب عليه بعد موافقة ظواهر أعماله للقواعد الاجتهادية أو فتوى الفقهاء

(1) أربعين الشيخ البهائي ص 200 ، شرح حديث 33 عن مرآة العقول ج 9 ص 94 .
(2) سورة مريم ، آية : 17 .
الاربعون حديثاً 399

رضوان الله عليهم السعي في سبيل إصلاح سيرته وباطنه ، وبذل الجهد حتى يأتي بالفرائض على الأقل مع توجه القلب ، ويجبر عيوبها بالنوافل . كما ورد في الأحاديث الشريفة ، أن النوافل تجبر الفرائض وتبعث على قبولها .
في العلل : بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : «إنما جُعلت النافلة ليتم بها ما يفسد من الفريضة» (1) .
وروى الشيخ ـ قدس سره ـ بإسناده عن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : «يُرفع للرجل من الصلاة رُبعها أو ثمنها أو نصفها أو أكثر بقدر ما سَها (2) ، ولكن الله تعالى يُتم ذلك بالنوافل»
(3) .
ومن هذا القبيل روايات كثيرة . ومن المعلوم أننا لا نخلو من السهو والنسيان وتشويش في الحواس والأمور الأخرى التي تتنافى مع الصلاة أو مع كمالها ، وقد شرّع الله بلطفه الكامل النوافل حتى تجبر نقيصتها ، ومن اللازم وبقدر الإمكان أن لا نغفل عن هذا الأمر ولا نترك النوافل .
وعلى أي حال أيها العزيز ، أفق قليلا من الغفلة ، وتأمل في أمرك ، وانظر في صحيفة أعمالك ، واخش من أعمال تظن أنها صالحة مثل الصلاة والصوم والحج وغيرها ، في حين أنها تكون سبب عنائك وذُلّك في ذلك العالم . فحاسب نفسك ما دامت الفرصة مؤاتية ، وزن عملك بيدك ، وزنه في ميزان شريعة أهل البيت وولايتهم ، وتبين من صحته وفساده وكماله ونقصه ، وأجبره ما دامت الفرصة سانحة ، والمُهلة باقية . وإن لم تحاسب نفسك هنا ولم تصحّح أعمالك فستحاسب هناك ، ويوضع ميزان الأعمال أمامك ، فتواجه مصائب عظمى . إتق الله في ميزان عدله ، ولا تغتر بشيء ، ولا تترك الجد والاجتهاد ، وراجع صحيفة أعمال أهل البيت عليهم السلام المعصومين من الخطأ ، وتأمل فيها ، حتى تعرف بأن الأمر صعب والطريق ضيق ومظلم .
أنظر إلى هذا الحديث الشريف وانتبه إلى تفاصيل الأمور من خلال هذا الإجمال .
عن فخر الطايفة وسنادها وذخرها وعمادها محمد بن النعمان المفيد ـ رضوان الله عليه ـ في الإرشاد : عن سعيد بن كلثوم ، عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام قال : «والله ما أكل

(1) وسائل الشيعة ، المجلد الثالث ، الباب 17 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، ح 10 .
(2) قوله (بقدر ما سها) أن المقصود من هذا الحديث الشريف كما هو في الروايات الأخرى ، هو أنه يرتفع من الصلاة ويقبل منها بقدر توجه القلب . فقوله (بقدر ما لها) لأجل بيان أصل النسبة وليس لبيان القدر المرفوع . ويحتمل أن يكون السهو بمعنى سكون القلب ولينه لأن السكون قد يكون بمعنى اللين كما ذكره الجوهري . (منه عفى عنه) .
(3) وسائل الشيعة ، المجلد الثالث ، الباب 17 من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ، ح 12 .
الاربعون حديثاً 400

علي بن أبي طالب عليه السلام من الدنيا حراما قط حتى مضى لسبيله ، وما عرض له أمران كلاهما لله رضا إلا أخذ بأشدهما عليه في بدنه (دينه ـ خ ل) وما نزلت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نازلة قط إلا دعاه ثقة به ، وما أطاق أحد عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الامة غيره ، وإن كان ليعمل عمل وجل كان وجهه بين الجنة والنار يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب هذه .
ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله والنجاة من النار مما كد بيديه ورشح منه جبينه . وإنه كان ليقوت أهله بالزيت والخل والعجوة ، وما كان لباسه إلا كرابيس إذا فضل شيء عن يده دعا بالجلم فقصّه .
وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين عليهما السلام ، ولقد دخل أبو جعفر عليه السلام ابنه عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فرآه قد اصفر لونه من السهر وومضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته وإنخرم أنفه من السجود وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة .
وقال أبو جعفر عليه السلام : فلم أملك حين رأيته بتلك الحال . إلا البكاء فبكيت رحمة له فإذا هو يفكر ، فالتفت إلي بعد هنَيئة من دخولي فقال : يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام ، فأعطيته فقرأ فيها شيئا يسيرا ثم تركها من يده تضجّرا وقال : من يقوى [على] عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام» (1) .
وعن أبي جعفر عليه السلام : «كان علي بن الحسين عليهما السلام يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ، وكان الريح تميّله مثل السنبلة»
(2) .
عزيزي : فكّر قليلا في هذه الأحاديث الشريفة ، وانظر إلى الإمام الباقر عليه السلام المعصوم الذي بكى من شدة وكيفية عبادة أبيه . وإلى الإمام السجاد عليه السلام رغم شدة محافظته على العبادة وكمالها والتي بعثت على بكاء ابنه الإمام الباقر عليه السلام ، أنه صلوات الله عليه قرأ شيئا يسيرا من صحيفة عمل جده علي بن أبي طالب عليه السلام ، وأظهر عجزه . ومن المعلوم أن الجميع عاجزون عن عبادة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، وأن الناس عاجزون عن عبادة المعصومين عليهم السلام ، ولكن لا يجوز للإنسان العاجز عن نيل المقام العالي أن يترك العبادات نهائيا .
لا بد من معرفة أن هذه العبادات ـ والعياذ بالله ـ لا تكون عبثا ، بل إن إبداء أهل المعرفة الحقيقيين العجز والذل وإلحاحهم في الدعاء والمسألة ، من أجل أن الطريق ضيق ومحفوف

(1) الإرشاد ، ص 255 ـ ص 256 .
(2) الإرشاد ، ص 256 .
الاربعون حديثاً 401

بالمخاطر ، وأن مضاعفات الموت والقيامة ، صعبة للغاية . إن هذه اللامبالاة التي نعيشها تكون نتيجة ضعف إيماننا ووهن عقيدتنا وجهلنا .
إلهي أنت واقف على حقيقتنا ، وعالم بقصورنا وتقصيرنا ، وضعفنا وعجزانا.
أنت غمرتنا برحمتك قبل أن نسألها . وابتدأتنا بنعمك ، وتفضّلت علينا من دون طلب والتماس . نحن نعترف بتقصيرنا وكفرنا لآلائك اللامتناهية ، ونجد أنفسنا من المستحقين لعذابك الأليم ، ودخول الجحيم ولا نملك شيئا يسعفنا ووسيلة تعيننا ، إلا ما عرفتنا به على لسان أنبيائك من التفضّل والترحّم وسعة جودك ورحمتك ، فقد عرفناك بهذه الصفات حسب فهمنا واستيعابنا . فماذا تصنع مع حفنة تراب إن لم ترحمه وتتفضل عليه ؟
أين رحمتك الواسعة ؟ أين أياديك الشاملة ؟ أين فضلك العميم ؟ أين كرمك يا كريم ؟

فصل
في بيان ان التفرغ في العبادة يوجب الغنى في القلب

لا بد من معرفة أن الغنى من الأوصاف الكمالية للنفس ، بل يكون من الصفات الكمالية للموجود بما أنه موجود ، ولهذا ، يكون الغنى من الصفات الذاتية للذات الحق المقدس جل وعلا ، وإن الثروة والأموال لا توجب الغنى في النفس ، بل نستطيع أن نقول إن من لا يملك غنى في النفس ، يكون حرصه تجاه المال والثراء والمنال أكثر ، وحاجته أشد . ولمّا لم يكن أحد غنيا حقيقيا أمام ساحة الحق جل جلاله المقدسة الغنى بالذات ، وكانت الموجودات كلها من أدنيها وهو التراب إلى ذُروة الأفلاك ، ومن الهيولى الأولى إلى الجبروت الأعلى ، فقيرة ومحتاجة ، لهذا كلما كان تعلق القلب إلى غير الحق ، وتوجه الباطن نحو تعمير المُلك والدنيا أشد ، كان الفقر والحاجة أكثر ، أما الحاجة القلبية ، والفقر الروحي ، فواضح جدا ، لأن نفس التعلق والتوجه فقر . وأما الحاجة الخارجية التي تؤكد بدورها الفقر القلبي ، فهي أيضا أكثر ، لأن أحدا لا يستطيع النهوض بأعماله بنفسه ، فيحتاج في ذلك إلى غيره . والأثرياء وإن ظهروا في مظهر الغنى ولكنهم بالتمعن يتبين أن حاجتهم تتضاعف على قدر تزايد ثرواتهم . فالأثرياء فقراء في مظهر الأغنياء ، ومحتاجون في زيّ من لا يحتاج .
وكلما اتجه القلب نحو تدبير الأمور وتعمير الدنيا أكثر ، وكان تعلقه أشد ، كان غبار الذل والمسكنة عليه أوفر ، وظلام الهوان والحاجة أوسع ، وعلى العكس كلما رَكَل بقدميه التعلق بالدنيا ، ووجّه وجه قلبه إلى الغنى المطلق ، وآمن بالفقر الذاتي للموجودات ، وعرف بأن أحدا من الكائنات لا يملك لنفسه شيئا ، وأن جميع الأقوياء والأعزاء والسلاطين قد سمعوا بقلوبهم أمام ساحة الحق المقدسة من الهاتف الملكوتي ، واللسان الغيبي ، الآية الكريمة «يا

الاربعون حديثاً 402

أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد»
(1) كلما استغنى الإنسان عن العالمين أكثر ، وبلغ مستوى استغنائه درجة لا يرى لمُلك سليمان قيمة ، ولا يأبه بخزائن الأرض عندما توضع بين يديه مفاتيحها . كما ورد في الحديث أن جبرائيل قد هبط من قبل الله تعالى بمفاتيح خزائن الأرض لخاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم ، فتواضع صلوات الله وسلامه عليه ورفض قبولها وافتخر بفقره .
ويقول علي بن أبي طالب عليه السلام لابن عباس «وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها» (2) ويقول الإمام علي بن الحسين عليه السلام «إستنكف أن أطلب الدنيا من خالقها فكيف بطلبها من مخلوق مثلي» .
وفي كتاب (سلسلة الرعية الكبرى) لنجم الدين ، بعد الإيمان المغلظة : «لو خيروني بين ثروة الدنيا وجاهها مع الجنة وحورها وقصورها من جهة ، وأرادوا مني مجالسة الأغنياء ، وبين البؤس في الدنيا والشقاء في الآخرة وأرادوا مني مجالسة الفقراء من جهة أخرى ، لاخترت الفقراء وابتعدت عن عار مجالسة الأغنياء والنار خير من العار . نعم إن أهل الحق يعرفون بأن التوجه نحو خزائن الدنيا والمال والجاه والمجالسة مع أهلها يسبّب أي نوع من الكدورة والظلام في القلب ؟ وكيف يبعث على الوهن والفتور في العزيمة ، ويوجب الفقر والحاجة لدى القلب وفقره ، ويرفه عن الانتباه إلى النقطة المركزية الكاملة بصورة مطلقة ؟ ولكن عندما أعطيت ـ أيها العزيز ـ القلب إلى أهله والبيت إلى صاحبه وأعرضت عن غيره ولم تدفع البيت إلى الغاصب ، تجلى فيه صاحبه . ومن المعلوم أن تجلي الغني المطلق ، يدفع إلى الغنى المطلق ، ويغرق القلب في حر العزة والغنى ، فيمتلأ من الغنى وعدم الاحتياج «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» (3) وينهض صاحب البيت بإدارة أموره ، ولم يترك الإنسان إلى نفسه ، وإنما يتدخل ويتصرف في جميع شؤون عبده ، بل يصبح هو سمعه وبصره ويده ورجله ، وتحصل ثمرة التقرب بالنوافل ، كما ورد في الحديث الشريف عن الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام في حديث : وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها ـ الحديث » (4) فتوصد باب فقر العبد وفاقته نهائيا ويستغني عن العالمين .
ومن المؤكد أنه يرتفع من وراء هذا التجلي الخوف من جميع الكائنات ، ويحل الخوف

(1) سورة فاطر ، آية : 15 .
(2) الخطبة 224 من نهج البلاغة .
(3) سورة المنافقون ، آية : 9 .
(4) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من أذى المسلمين ، ح 8 .
الاربعون حديثاً 403

من الحق المتعالي محله . وتملأ القلب عظمة الحق وهيبته ، ولا يرى لغير الحق عظمة واحتشاما وتصرفا ، ويدرك حقيقة (لا مؤثر في الوجود إلا الله) بكل قلبه . وقد أشير في هذا الحديث الشريف إلى بعض هذه المطالب التي ذكرناها (تفرغ لعبادتي املأ قلبك غنى ـ الخ) وهذا التفرغ القلبي لأجل العبادة يسمو بالإنسان رويدا رويدا إلى أعلى مراتب حضور القلب للعبادة .
هذه نبذة من الآثار التي تترتب على العبادة كما ذكرناها .
فلو أن القلب غفل عن الاشتغال بالحق وأهمل التفرغ في التوجه نحوه لغدت هذه الغفلة أساس كل الشقاء ، وينبوع جميع النقائص ومبعث كافة الأمراض النفسية ، وبسبب هذه الغفلة يحول بين القلب والحق المتعالي ظلام داكن وكدورة شديدة وحجب غليظة تمنع من تغلغل نور الهداية فيه ، وتحرمه من التوفيقات الإلهية ، وينعطف القلب مرة واحدة إلى الدنيا وملذاتها من تعمير البطن والفرج . ويغشاه حجاب الأنانية والإنية ، وتطغى النفس ، ويكون تحرك صاحب هذه النفسية من خلال الترفع والأنانية ، ويبدو ذله الذاتي وفقره الحقيقي ويبتعد في كل حركاته وسكناته عن ساحة الحق المتعالي ، ويكون نصيبه الخذلان . كما تولى الحديث الشريف بيانه : (وأن لا تفرغ لعبادتي أملأ قلبك شغلا بالدنيا ثم لا أسد فاقتك وأكلك إلى طلبك) .


تنبيه :

لا بد من معرفة أن المقصود من إيكال الأمر إلى العبد ـ أكِلك إلى طلبك ـ ، ليس بمعنى تفويض الأمر إليه ، لأن هذا المسلك لدى العرفاء والفلاسفة ومذهب الحق باطل وممتنع . إذا لا يوجد كائن خارج عن نطاق تصرف الحق سبحانه ، وحيطة قدرة ذاته المقدس ، ولا يوكل إليه شيء من تدبير أموره . لكن العبد لمّا ينصرف عن الحق ويتوجه إلى الدنيا وتتحكم فيه الطبيعة وتتغلب عليه الأنانية ويبرز فيه العجب والذاتية والمحورية ، يُعبر عن ذلك بإيكال الأمر إلى العبد . وأما الإنسان الذي يولي وجهه نحو الحق والملكوت الأعلى ، ويغمر جوانب قلبه نور الحق ، فلا محالة تكون تصرفاته حقا ، بل يتحول في بعض المراحل وجوده إلى وجود الحق . كما أشير إلى بعض هذه المقامات في الحديث الشريف المذكور في الكافي عند عرضه لبعض آثار التقرب إلى الله بالنوافل . والله العالم .

الاربعون حديثاً 404




الاربعون حديثاً 405

الحديث الثامن والعشرون

لقاء الله


الاربعون حديثاً 406

بالسند المتصل إلى ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ـ رحمه الله ـ عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن خالد ؛ والحسين بن سعيد جميعا ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الصمد بن بشير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «قلت : أصلحك الله مَن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومَن أبغض لقاء الله أبغض الله لقاءه ؟ قال : نعم قلت : فوالله إنا لنكره الموت : فقال : ليس ذلك حيث تذهب ، إنما ذلك عند المعاينة إذا رأى ما يُحب فليس شيء أحب إليه من أن يَقدم على الله ، والله تعالى يُحب لقاءه وهو يُحب لقاء الله حينئذ ، وإذا رأى ما يَكره فليس شيء أبغض إليه من لقاء الله والله يُبغض لقاءه» (1) .

(1) «فروع الكافي» المجلد الثالث ، ص 134 .
الاربعون حديثاً 407

الشرح :


«أصلحك الله» دعاء في الخير ، ولا يلزم في الدعاء أن يكون المدعو له فاقدا لمضمون الدعاء ، بل الدعاء مستحب حتى وإن كان مضمونه حاصلا في المدعو له . فيكون الدعاء للإمام الصادق عليه السلام بالصلاح والسداد ضمن الحدود المتعارفة .
كما أن جملة «غفر الله لك» و «عفا الله عنك» من الأدعية التي يصلح أن ندعو بها لتلك الذوات المقدسة . وقد حمل بعض الآية الكريمة «ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر» (1) على هذا المعنى المذكور ، وقالوا إن هذه الآية المباركة بمثابة أن يقال «غفر الله لك» ولا يجب أن يكون الطلب من أجل تحقق مضمونه . ولكن هذا التفسير في الآية المباركة بعيد . ونحن قد بيّنا ذلك في شرح حديث من الأحاديث السابقة (2) وعلى كل حال فإن الصحيح هوعدم توقع حصول المضمون من هذه الإنشاءات والأدعية من المدعو له غالبا .
«اللقاء» بفتح اللام وكسره ، مصدر لقي على وزن رضي ، كما أن لِقاءة ولقاية ولقيّا ولقيانا ولِقيانة بكسر اللام في جميع ذلك ولُقيا ولُقى ولُقيانا ولُقية ولُقيانة بضم اللام في جميع ذلك ، مصدر لقي أيضا ، ومعناه لرؤية واللقاء . ويأتي بيان معنى لقاء الله حسب ما يتناسب وحجم هذا الكتاب .
و «أبغض» من باب الافعال ، و «بَغُضَ» مثل ـ كَرُم ، ونَصَر وفَرِح ـ بَغاضَة فهو بَغيض ، بمعنى ضد الحب . و «بغضَة وبَغضاء» شدة البغض . وعلى أي حال فإن الحب والبغض من الصفات النفسية المتقابلة ، ومعناهما واضح لدى الوجدان ، مثل وضوح كافة المعاني الوجدانية والصفات النفسية التي تكون حقيقتها أوضح من الإدلاء بمعانيها . وسيأتي معنى نسبة الحب

(1) سورة الفتح ، آية : 2 .
(2) شرح الحديث الواحد والعشرون .
الاربعون حديثاً 408

والبغض إلى الذات الحق المقدس ، وإنها بأي اعتبار تكون ، إنشاء الله تعالى .
قوله «إنا لنكره الموت» ولمّا تصوّر الراوي الموت ملازما مع لقاء الله أو كان مقصوده من لقاء الله نفس الموت . اعتبر كره الموت كرها للقاء الله تعالى ، فسأل هذا السؤال ، فأجاب الإمام عليه السلام بأنه ليس المقياس كراهية الموت بصورة مطلقة بل الميزان كراهية الموت لدى نزع الروح عندما يرى آثار الملكوت والعوالم الأخرى .
وقوله عليه السلام «ليس ذلك حيث تذهب» . يستعمل كثيرا في اللغة العربية مثل هذا التعبير ، ويقصدون منه ذهاب الوهم ، بل التعبير المتداول في الذهاب ومشتقاته ، هو ذهاب الوهم والعقيدة وأمثالها . كما أن المذهب يكون بهذا المعنى . وهذا يبتنى على الاستعارة لأنه مأخوذ من الذهاب الخارجي .
قوله عليه السلام «عند المُعاينة» ، المعاينة مصدر من باب المفاعلة وعايَنتُ الشيء عيانا إذا رَأيته بِعَينك . ويسمى حين النزع والاحتضار بالمعاينة ، لأن الميّت يشاهد آثار عالم الآخرة بعينه ، حيث تنفتح عيونه الغيبية الملكوتية ، وتنكشف عليه نبذة من أحوال الملكوت ، ويعاين بعض آثار وأعمال وأحوال نفسه .
ونحن نذكر ما يحتاج من الحديث الشريف إلى الشرح والبيان في خلال فصول . وعلى الله التُكلان .

فصل
في لقاء الله وكيفيته

إعلم أن الآيات والأخبار الواردة في لقاء الله صراحة أو كناية وإشارة ، كثيرة لا يسع هذا المختصر الخوض في ذلك مفصلا . ولكننا نشير إلى بعضها بصورة مختصرة . ومن أراد التفصيل في ذلك أكثر فعليه مراجعة كتاب (لقاء الله) للمرحوم العارف بالله ، الحاج ميرزا جواد التبريزي قدس سره ، حيث جمع إلى حد كبير الأخبار الماثورة في هذا الموضوع .
اعلم بأنه قد ذهب بعض العلماء والمفسرين إلى سد باب السبيل إلى (لقاء الله) نهائيا ، والجحود للمشاهدات العينية والتجليات الذاتية والأسمائية ، زاعمين بذلك أنهم ينزهون الذات المقدس ، ومفسرين جميع آيات لقاء الله وأحاديثها ، بلقاء يوم الآخرة ، ولقاء الجزاء والثواب والعقاب .
وهذا التوجيه ليس ببعيد كثيرا ، بالنسبة إلى مطلق اللقاء وإتجاه بعض الآيات والروايات ، ولكنه بالنسبة إلى بعض الأدعية المعتبرة والأحاديث المأثورة في الكتب المعتبرة ، والأحاديث المشهورة التي ارتكز عليها علماؤنا العظام ، موهون وبعيد جدا .


السابق السابق الفهرس التالي التالي