الاربعون حديثاً 308

إن ظاهر صلاة علي بن أبي طالب عليه السلام ، وظاهر صلاة المنافق متضاهيان في الاجزاء والشرائط والشكل الظاهري ، ولكن هذا يعرج بعمله الى الله ، ولصلاته صورة ملكوتية اعلى ، وذاك يغور في اعماق جهنم ، ولصلاته صورة ملكوتية سفليّة .
وعند تقديم اهل بيت العصمة عليهم السلام ، للفقير أقراصا من خبز الشعير لوجه الله ، تنزل من عند الله سبحانه آيات كريمة في الثناء عليهم ، ويحسب الانسان الجاهل أن تحمّل الجوع ليومين أو ثلاثة أيام ودفع الطعام الى الفقير أمرا مهما ، رغم أن مثل هذه الاعمال يمكن أن تصدر من كل شخص ، من دون صعوبة . في حين أن أهمية هذا العمل تكمن في القصد الخالص والنية الصادقة . إن روح العمل ، القوية واللطيفة والتي تنبعث من القلب السليم الصافي ، هي مصدر هذه الاهمية القصوى .
انه لا فرق بين المظهر الخارجي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكافة الناس ، ولهذا عندما كان يدخل عليه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ شخص من خارج المدينة ، وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ جالسا مع مجموعة من المسلمين ، يسأل ـ الوافد ـ أيكم النبي ؟ إن الذي يفضّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على غيره ، هو روحه الكبيرة ، القوية ، اللطيفة لا جسمه المبارك وبدنه الشريف . وقد قالوا في العلوم العقلية أن شيئية الشيء بصورته لا بمادته . بل إن الحد التام هو التعريف بالفصل فقط ، أما التعريف بالجنس والفصل فهو من الحد الناقص ، لأن الاختلاط بالغرائب والأجانب ، والتعريف بالمنافي ، يسيء الى حقيقة الشيء وتعريفه وتماميته . والمادة والجنس تعتبران من الغرائب والأجانب بالنسبة الى حقيقة الشيء التي هي عبارة عن الصورة والفعلية والفصل . فإذن تمام حقيقة الاعمال هي صور الاعمال وناحيتها الملكوتية التي هي النية .
ويُستفاد من هذا البيان ان الامام الصادق عليه السلام قد بين في هذا الحديث الشريف ـ الحديث العشرون ـ :
اولا : صور الاعمال وموادها ، وقال ان الجزء الصوري أفضل من الجزء المادي ، وأن النية أفضل من العمل ، كما نقول إن الروح أفضل من الجسم وليس لازم ذلك ـ مقتضى أفعل التفضيل ـ إن العمل من دون نية يكون صحيحا ، وإن الجسم من دون الروح يكون جسما ، بل المعنى أن بعد تعلق النية بالعمل ، والروح بالجسم يتحقق عمل واحد ، وجسم واحد ، وأن كل واحد من الجزء الصوري الملكوتي في هذين المزيجين الخليطين : أحدهما من النية والعمل ، والآخر من الروح والجسم ، الجسم أفضل من الجزء المادي المُلكي . وهذا هو معنى الحديث المشهور «نية المؤمن خير من عمله» (1) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، ح 2 .
الاربعون حديثاً 309

وثانيا : إن العمل يكون فانيا في النية ، والمُلك في الملكوت ، والمظهر في الظاهر وقال عليه السلام «ألا وإن النية هي العمل» ولا يوجد شيء آخر عدا النية ، وأن جميع الاعمال فانية في النية ، ولا استقلالية لها . ثم استشهد بقوله تعالى «قل كل يعمل على شاكلته» وإن الاعمال تابعة لشاكلة النفس ، وشاكلة النفس وإن كانت الهيئة الباطنية للروح ، والملكات المخمرة فيها ، لكن النية هي الشاكلة الظاهرية للنفس .
ونستطيع ان نقول بأن الملكات هي الشاكلة الاولية للنفس ، والنيات هي الشاكلة الثانوية لها ، والاعمال تتبعها ، كما قال الصادق عليه السلام .
ومن هنا يتبين بأن طريق تخليص الاعمال من جميع مراتب الشرك والرياء وغيرها ينحصر في إصلاح النفس وملكاتها ، ويكون ذلك مَعينا لكل الاصلاحات ، ومصدرا لجميع المعارج والكمالات .
فإذا أخرج الانسان حب الدنيا عَبر الترويض العلمي أو العملي من قلبه ، كانت غايته المنشودة شيئا آخر غير الدنيا ، وخلصت اعماله من الشرك الاعظم الذي هو جلب انظار اهل الدنيا وكسب موقع لديهم ، وطهرت نيته ، وتساوى عنده العمل في الجلوة أو الخلوة في السر أو العلن .
وإذا أخرج الانسان من قلبه حب النفس بالرياضة النفسية ، فبالمقدار الذي يفرغ القلب من حب النفس ، يمتليء حبا لله ، وتخلص أعماله من الشرك الخفي ايضا . وما دام حب النفس في القلب ، وما دام الانسان يعيش في البيت المظلم للنفس ، لا يكون مسافرا الى الله تعالى ، بل يعد من المخلّدين في الارض . فإن الخطوة الاولى نحو الله ، تتمثل في ترك حب النفس ، والوطيء بقدمه على الأنانية والذاتية . وهذا هو المقياس في السفر الى الله ..
قال بعض ان هذا هو أحد معاني الآية الكريمة «ومن يخرج من بيته مهاجرا الى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله»(1)أي من يخرج من بيت نفسه ويهاجر الى الحق في الرحلة المعنوية ثم يدركه الفناء التام كان أجره على الله تعالى .
ومن المعلوم أن مثل هذا المسافر لا يستحق أجرا ومكافأة إلا مشاهدة الذات المقدس ، والوصول الى الفناء في حضرته ، كما يقال على السنتهم بيت شعر :
لا يتطرق الى قلوبنا أحد أبدا إلا الحبيب .
فَقَدِّم العالم الى العدو فإننا إقتصرنا على الحبيب .

(1) سورة النساء ، آية : 100 .
الاربعون حديثاً 310




الاربعون حديثاً 311

الحديث الحادي والعشرون

الشُكر


الاربعون حديثاً 312

بالسند المتصل الى حجة الفرقة وامامهم محمد بن يعقوب الكليني ـ كرم الله وجهه ـ عن حميد بن زياد ، عن الحسن بن محمد بن سماعة ، عن وُهَيب بن حفص ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عائشة ليلتها فقالت : يا رسول الله لِم تُتعب نفسك وقد غفرالله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : يا عائشة ألا أكون عبدا شكورا ؟ قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم على اطراف اصابع رجليه فأنزل الله ـ سبحانه وتعالى ـ : «طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى»» (1) .

(1) اصول الكافي ـ المجلد الاول ـ كتاب الايمان والكفر ـ باب الشكر ، ح 6 .
الاربعون حديثاً 313

الشرح :


قد غفر الله لك: اشارة الى قوله تعالى في سورة الفتح :«إنّا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر» (1) .
إعلم ان العلماء ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ ذكروا في تفسير هذه الآية المباركة وجوها لمنع تنافي الآية مع عصمة النبي المكرّم . ونحن نستعرض بعض الوجوه التي نقلها المرحوم العلامة المجلسي رحمه الله تعالى ثم نبيّن بصورة مجملة ما ذكره اهل المعرفة كل حسب ذوقه ومسلكه .
قال المرحوم المجلسي (2) : لأصحابنا فيه وجهان :
(احدهما ان المراد ليغفر لك الله ما تقدم من ذنب أمتّك ، وما تأخّر بشفاعتك ، ونسبة معاصي الأمة الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لشدة الاتصال بين الرسول والأمة . ويؤيده ما رواه المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام قال : سأله رجل عن هذه الآية فقال : والله ما كان له ذنب ولكن الله ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي عليه السلام ما تقدّم من ذنبهم وما تأخّر .
وروى عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل : «ليغغر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر» قال : «ما كان له ذنب ولا هم بذنب ولكن حمّله ذنوب شيعته ثمّ غفرها له» (3) .
يقول الكاتب : لهذا التوجيه على مسلك العرفاء وجه وجيه ، ولا تخلو الاشارة اليه من فائدة . وهي إنه لا بد وأن نعلم كما تقرّر في محله أن العين الثابت للانسان الكامل ، مظهر اسم

(1) سورة الفتح ، آية : 1 ـ 2 .
(2) نقلا عن الطبرسي رحمه الله ، المجلد 17 ، ص 76 .
(3) بحار الانوار ، المجلد 17 ، ص 76 .
الاربعون حديثاً 314

الله الاعظم الذي يكون إمام ائمة الاسماء واما اعيان كافة الموجودات فهي في ظل عين الانسان الكامل في العلم وعالم الاعيان ، متقررة ، وفي عالم العين والتحقق تكون موجودة .
اذن تكون أعيان جميع دائرة الوجود مظهر عين الانسان الكامل في عالم الأعيان ، وتكون جميع الموجودات مظاهر جماله وجلاله في عالم الظهور . ولهذا كل نقص يقع في عالم التحقق ، وكل ذنب يبرز من المظاهر ، سواء كان من الذنوب التكوينية او التشريعية ، ينسب الى الظاهر حقيقة لا مجازا لمكان الظاهر والمظهر . فإن صدق قوله تعالى «ما أصابك من سيئة فمن نفسك» (1) صدق ايضا قوله تعالى «قل كل من عند الله» (2) . والاخبار الكثيرة تشير الى هذا الموضوع . حيث يقول الامام الصادق عليه السلام : (نحن السابقون الآخِرون) (3) ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله : (آدم ومَن دونه تحـت لوائـي يوم القيامة) (4) ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله : (أول ما خلق الله روحي أو نوري) (5) ويقول عليه الصلاة والسلام : (سبّحنا فسبّحت الملائكة ، قدّسنا فقدّست الملائكة) (6) ويقول الامام الصادق عليه السلام : (لولانـا ما عُـرف الله) (7) ويقول عليه السلام : (لولاك لما خَلقت الأفلاك) (8) ويقول عليه السلام : (نحن وجه الله) (9) .
وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول «أنا شجرة وفاطمة فرعها وعلي لقاحها والحسن والحسين ثمرتها ومحبوهم من أمتي ورقها» (10) . فزينة شجرة الولاية الطيبة بمظهرها ، وما يرد من النقص على مظهرها ينعكس على الشجرة الطيبة .
إذن ذنوب كافة الموجودات ، ذنوب الولي المطلق ، والحق المتعالي برحمته التامة ومغفرته الواسعة ، قد رحم النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم ،قائلا «ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر» وبشفاعته تصل كل دائرة الوجود الى سعادته الكاملة ، وآخر مَن يشفع أرحم الراحمين .
وعلى اساس هذا التوجيه ، تندرج هذه الآية المباركة في عدد تلك الآية التي تقول

(1) و (2) سورة النساء ، آية : 79 .
(3) بحار الانوار ، المجلد 24 ، ح 11 ـ ص 4 .
(4) بحار الانوار ، المجلد 16 ، ح 1 ـ ص 402 .
(5) بحار الانوار ، المجلد 15 ، ح 44 ـ ص 25 .
(6) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 263 .
(7) بحار الانوار ، ج 26 ، ح 13 ـ ص 247 .
(8) علم اليقين ، ج 1 ، ص 381 .
(9) توحيد الصدوق ص 150 .
(10) أمالي المفيد ، مجلس 28 ، ح 5 ، ص 245 ، طباعة دار المرتضى .
الاربعون حديثاً 315

«ولسوف يعطيك ربك فترضى»(1) والتي قالوا أنها «أرجى آية في القرآن» (2) . ويمكن أن يكون المقصود من قوله «ما تقدم من ذنبك» بناءا على هذا التفسير ذنوب الأمم السابقة ، لأن جميع الأمم ، أمة هذا الوجود المقدس ، وأن دعوة الانبياء بأسرهم دعوة الى الشريعة الخاتمة ، ومظاهر للولي المطلق وآدم ومن دونه من أوراق شجرة الولاية .
ثانيهما ما ذكره السيد المرتضى قدس الله روحه ان الذنب مصدر والمصدر يجوز اضافته الى الفاعل والمفعول معا ، فيكون هنا مضافا الى المفعول . والمراد ما تقدم من ذنبهم اليك في منعهم إياك عن مكـة وصـدّهم لـك عن المسجـد الحرام(3) .
ومعنى المغفرة على هذا التأويل الإزالة والنسخ لإحكام أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين أي يزيل الله سبحانه ذلك عند فتح مكة ويستر عليك ذلك العار بفتح مكة وأنك ستدخل مكة في القريب العاجل ولهذا جعل المغفرة غرضا من الفتح ووجها له (4) .
قال السيد رحمه الله فاذا أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله «إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك» معنى معقولا ، لأن المغفرة للذنوب لا تعلق لها بالفتح وليس غرضا فيه . فأما قوله «ما تقدّم من ذنبك وما تأخر» فلا يمتنع أن يريد بهما تقدم زمانه من فعلهم القبيح بك وبقومك(5) .
الثالث أن معناه : (لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك) . هكذا والقضية الشرطية لا تستلزم صدق طرفيها وتحققها .
الرابع أنه سمى ترك الندب ذنبا وحسن ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم ممن لا يخالف الأوامر إلا هذا الضرب من الخلاف ولعظم منزلته وقدره جاز أن يسمى بالذنب منه فإذا وقع من غيره لم يسم ذنبا (6) .
الخامس أن القول خرج مخرج تعظيم وحسن الخطاب كما تقول غفر الله لك .
قال المجلسي : «وقد روى الصدوق في العيون بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه السلام فقال له المأمون : يا ابن رسول الله أليس من قولك

(1) سورة الضحى ، آية : 5 .
(2) مجمع البيان ، ج 10 ، ص 505 .
(3) مجمع البيان ، ج 9 ، ص 11 .
(4) بحار الانوار ، المجلد 17 ، ص 75 .
(5) بحار الانوار ، المجلد 17 ، ص 75 .
(6) بحار الانوار ، المجلد 17 ، ص 74 .
الاربعون حديثاً 316

أن الانبياء معصومون ؟ قال : بلى ، قال : فما معنى قول الله« : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر»؟ قال الرضا عليه السلام : لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنبا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما ، فلما جاءهم صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى كلمة الاخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا : «أجَعل الآلهة ألها واحدا إن هذا لشيء عجاب ـ الى قوله : إن هذا الا اختلاق» (1) .
فلما فتح الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قال له : يا محمد «إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر»عند مشركي أهل مكة بدعائك الى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر ؛ لأن مشركي مكة أسلم بعضهم ، وخرج بعضهم عن مكة ؛ ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس اليه . فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم . فقال المأمون : لله درُّك يا أبا الحسن»
(2) .
يقول الكاتب : ان هناك توجيها سادسا للحديث الشريف تجاه تفسير الآية المباركة وحاصله أن المقصود من قوله سبحانه من «ذنبك» ذنوبه صلوات الله عليه في رأي المشركين وحسب زعمهم الفاسد .

فصل
في توجيه عرفاني للآية الشريفة

إعلم أن للآية الشريفة تفسيرا يتبين على أساس ذوق أهل العرفان ومسلك ذوي القلوب ، وعليه لا بد من ذكر الفتوحات الثلاثة الشائعة عندهم . فنقول ان الفتح في مشربهم عبارة عن فتح أبواب المعارف والعوارف والعلوم والمكاشفات على الانسان من قبل الحق سبحانه بعد أن كانت موصدة في وجهه ومغلقة عليه . فما دام الانسان في البيت المُظلَم للنفس ، وأنه مشدود بالتعلقات والرغبات النفسية ، تكون أبواب المعارف والمكاشفات عليه مسدودة ، وعندما يغادر هذا البيت المظلم ببركة ترويض النفس ، وأنوار الهداية ، واجتياز منازل النفس ، تنفتح أبواب قلبه عليها ـ العلوم والمكاشفات ـ وتلقى المعارف في قلبه ، ويصبح من ذوي مقام القلب . ويدعى هذا الفتح «بالفتح القريب» ، لانه أول الفتوحات وأقربها . ويقال بأن الآية المباركة «نصر من الله وفتح قريب» تشير الى هذا الفتح .

(1) سورة ص ، آيات : 5 ـ 7 .
(2) عيون أخبار الرضا ، ج 2 ، باب 15، ص 180 ، طباعة مؤسسة الأعلمي .
الاربعون حديثاً 317

ومن الواضح أن هذا الفتح وكافة الفتوحات تتم بعون الله وإمداده ونور الهداية وجاذبية الذات المقدس سبحانه عز وجل .
وما دام السالك يكون في عالم القلب ، وتكون النقوش والتعيّنات مستحوذة عليه ، كانت أبواب الاسماء والصفات مغلقة ومسدودة عليه فاذا تلاشت تلك الرسوم من عالم القلب ، بواسطة تجليات الاسماء والصفات ، وأفنت تلك التجليات ، صفات القلب وتعيّناته وكمالاته ، تحقق «الفتح المبين» وانفتحت عليه باب الاسماء والصفات ، وارتفعت النقوش المتقدمة النفسية ، والمتأخرة القلبية ، وغُفرت ذنوبه في ظل غفارية الاسماء وستّاريتها . ويقال بان قوله تعالى «إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر»تلويح الى هذا الفتح ومعناه إنا فتحنا عليك عالم الاسماء والصفات فتحا مبينا ، حتى نغفر لك في ظل غفارية الاسماء الالهية ، الذنوب المتقدمة النفسية ، والقلبية المتأخرة . ويكون هذا فتحا لباب الولاية .
وما دام السالك في حجاب كثرات الاسماء ، وتعيّنات الصفات ، تكون أبواب التجليات الذاتية ، مغلقة في وجهه . وحينما تتم التجليات الذاتية الأحدية علٍيه ، وتُباد النقوش الخلقية والأمرية بأسرها من قلبه ، ويغرق العبد في عين الجمع يكون «الفتح المطلق» وغُفران الذنب المطلق وإستتر بواسطة التجلي الاحدي على الذنب الذاتي الذي يكون مصدرا لكل الذنوب «وجودك ذنب لا يُقاس به ذنب» . ويقال بأن قوله تعالى«إذا جاء نصر الله والفتح» اشارة الى هذا الفتح .
فمع «الفتح القريب» تنفتح أبواب المعارف القلبية ، وتغفر الذنوب النفسية . ومع «الفتح المبين» تنفتح أبواب الولاية ، والتجليات الالهية . وتغفر البقايا من الذنوب المتقدمة النفسية ، والذنوب المتأخرة القلبية . ومع «الفتح المطلق» تتكشف التجليات الذاتية الاحدية ، ويغفر الذنب الذاتي المطلق .
ولا بد من معرفة أن «الفتح القريب» و «الفتح المبين» يتيسران للانبياء والاولياء والعرفاء . وأما «الفتح المطلق» فهومن المقامات الخاصة بالمرتبة الختمية ـ خاتم النبيين ـ واذا حصل ذلك لشخص ، فإنما هو بالتبع وبسبب شفاعة النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
وعُلم من البيان السابق أن للذنب مراتب يعد بعضها من حسنات الأبرار وبعضها من سيئات المخلصين . كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (ليُران ـ أو ليُغان ـ على قلبي ، وإني لأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة) (1)وهذا الرّين ـ الغبرة ـ هو الالتفات الى عالم الكثرة ولكنه سرعان ما يزول . وفي الحديث (ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقوم من مجلس وإن

(1) صحيح مسلم ، كتاب الذكر ، ص 41 . وفي الحديث 22 من كتاب اربعين الشيخ البهائي «مائة مرة» .
الاربعون حديثاً 318

خف ، حتى يستغفر الله خمسا وعشرين مرة)
(1) .
فيظهر من هذه الاحاديث بأن الاستغفار لا يختص فقط بالذنوب التي تتنافى مع العصمة ، وأن المغفرة والذنب في الآية لا تكونا من المغفرة والذنب المصطلح عليها عرفا لدى عامة من الناس . ولا تتنافى هذه الآية الشريفة مع المقامات المعنوية من العصمة بل تؤكدها . لأن من لوازم السلوك الروحاني وإجتياز المدارج والوصول الى أوج الكمال الانساني ، هو غفران الذنوب . لأن كل موجود في هذا العالم نتاج هذه النشأة المُلكية والمادة الجسمية ، وله كافة الشؤونات المُلكية الحيوانية والبشرية والانسانية المتوفرة بعضها بالفعل وبعضها بالقوة .
فإذا أراد السفر من هذا العالم إلى عالم آخر ، ومنه الى مقام القرب المطلق ، لا بد من اجتياز هذه المدارج ، والعبور من المنازل الواقعة في الطريق ، وعندما يصل الى مرتبة ، تغفر له ذنوب المرتبة السابقة وهكذا حتى تغفر له جميع الذنوب في ظل التجليات الذاتية الأحدية ، ويستتر الذنب الوجودي الذي هو منشأ كافة الذنوب في ظل الكبرياء الأحدي . وهذه هي غاية عروج كمال الموجود . ويحدث في هذا المقام الموت والفناء التام . ولهذا عندما نزلت الآية الشريفة «إذا جاء نصر الله والفتح» على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن هذه السورة تنبأ بموتى (2) . والله العالم .

فصل
في حقيقة الشكر

إعلم أن الشكر عبارة عن تقدير نعمة المنعم . وتظهر آثار هذا التقدير في القلب في صورة . وعلى اللسان في صورة اخرى ، وفي الافعال والاعمال بصورة ثالثة .
أما آثاره القلبية فهي من قبيل الخضوع والخشوع والمحبة والخشية وأمثالها . وأما آثاره على اللسان ، فالثناء والمدح والحمد ، وأما آثاره في الاعضاء فالطاعة واستعمال الجوارح في رضا المنعم وأمثاله .
ونقل(3)عن الراغب (الشكر تصور النعمة واظهارها . قيل وهو مقلوب عن الكشر أي الكشف ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها ، ودابة شكور مُظهربسمنه إسداء صاحبه إله . وقيل أصله من عَين شَكري : أي ممتلئة ، فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه . والشكر ثلاثة أضرب : شكر بالقلب وهو تصور النعمة . وشكر باللسان وهو الثناء على المنعم .

(1) سفينة البحار ، المجلد الثاني ، ص 322 .
(2) تفسير نور الثقلين ـ المجلد الخامس ص 689 .
(3) بحارالانوار، المجلد 71 ، ص 22 .
الاربعون حديثاً 319

وشكر بسائر الجوارح وهومكافأة النعمة بقدر استحقاقها) انتهى .
وقال العارف المحقق الخواجة الانصاري (الشكر اسم المعرفة والنعمة ، لأنها طريق لمعرفة المنعم) .
وقال الشارح المحقق (إن تصور النعمة من المنعم ، ومعرفة أن هذه النعمة منه ، هو الشكر بعينه كما روي عن النبي داوود عليه السلام أنه قال : يا رب كيف أشكرك مع أن الشكر نعمة أخرى ، وتستدعي شكرا آخر ؟ فأوحى الله تعالى عليه ، يا داوود عندما عرفت بأن كلّ نعمة نازلة عليك ، تكون مني ، فقد شكرتني) .
يقول الكاتب : إن ما ذكره المحققون في الشكر مبني على المجاز والمسامحة ، لأن الشكر لا يكون نفس المعرفة بالقلب ، والاظهار باللسان ، والعمل بالاعضاء والجوارح ، بل هو حالة نفسية ناجمة عن معرفة المنعم والنعمة وأن هذه النعمة من المنعم ، وتُنتج من هذه الحال الاعمال القلبية والقالبية ـ العمل بالجوارح ـ . كما ذكر للشكر بعض المحققين معنى يقترب من هذا المعنى ، رغم أن كلامهم ايضا لا يخلو من المسامحة .
وقال المحقق (1) الطوسي قدس سره : الشكر أشرف الاعمال وافضلها واعلم ان الشكر مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية وله أركان ثلاثة :
الاول معرفة المنعم وصفاته اللائقة به ، ومعرفة النعمة من حيث إنها نعمة ولا تتم تلك المعرفة الا بأن يعرف أن النعم كلها جليّها وخفيّها من الله سبحانه وأنه المنعم الحقيقي وأن الخلق كلهم منقادون لحكمه مسخرون لأمره .
الثاني الحال التي هي ثمرة تلك المعرفة ، وهي الخضوع والتواضع والسرور بالنعم ، من حيث إنها هدية دالة على عناية المنعم بك ، وعلامة ذلك أن لا تفرح من الدنيا إلا بما يوجب القرب منه .
الثالث العمل الذي هو ثمرة تلك الحال فإن تلك الحال اذا حصلت في القلب حصل فيه نشاط للعمل الموجب للقرب منه ، وهذا العمل يتعلّق بالقلب واللسان والجوارح .
أما عمل القلب فالقصد الى تعظيمه وتحميده وتمجيده ، والتفكر في صنائعه وأفعاله وآثار لطفه ، والعزم على ايصال الخير والاحسان الى كافة خلقه ، وأما عمل اللسان فإظهار ذلك المقصود بالتحميد والتمجيد والتسبيح والتهليل ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر الى غير ذلك ، وأما عمل الجوارح فاستعمال نعمه الظاهرة والباطنة في طاعته وعبادته ، والتوقّي من

(1) بحارالانوار ، المجلد 71 ، ص 22 .
الاربعون حديثاً 320

الاستعانة بها في معصيته ومخالفته كاستعمال العين في مطالعة مصنوعاته ، وتلاوة كتابه ، وتذكر العلوم المأثورة عن الانبياء والاوصياء عليهم السلام وكذا سائر الجوارح . انتهى كلامه .

فصل
في كيفية الشكر

اعلم أن شكر نعم الحق المتعالي سبحانه الظاهرية والباطنية ، من المسؤوليات اللازمة للعبودية ، حيث يجب على كل شخص حسب قدرته المتيسرة أن يشكر ربه ، رغم أن أحدا من المخلوقين لا يستطيع أن يؤدي حق شكره تعالى . ويكون منتهى الشكر في معرفة الانسان عجزه عن النهوض بحق شكره سبحانه . كما أن غاية العبودية تكون في معرفة الانسان عجزه عن القيام بحق العبودية له تعالى . ومن هذا المنطلق اعترف الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالعجز ، مع أن شخصا لم يشكر ربه ولم يعبده ، بمثل شكر ذلك الوجود المقدس وعبوديته ، لأن كمال الشكر ونقصه يتبعان التعرف الكامل على المنعم واحسانه ، والتعرف الناقص على المنعم وجميله . ولهذا لم يستطع أحد من النهوض بحق شكره . لأن أحدا لم يعرفه حق معرفته .
إنما العبد يكون شكورا ، اذا علم ارتباط الخلق بالحق ، وعلم انبساط رحمة الحق من اول ظهوره الى ختامه ، وعلم ارتباط النعم بعضها مع بعض وعلم بداية الوجود ونهايته على ما هو عليه . ومثل هذه المعرفة لا تحصل الا للخلّص من أولياء الله الذين كان أشرفهم وأفضلهم ، الذات المقدس خاتم الانبياء صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن كافة الناس محجوبون عن بعض مراتب هذه المعرفة بل عن أكثر مراتبها واعظمها . بل ما دامت حقيقة سريان ألوهية الحق لم تنتقش في قلب العبد بعد ولم يؤمن بأنه (لا مؤثر في الوجود الا الله) ولا تزال غبرة الشرك والشك عالقة في قلبه ، لا يستطيع أن يؤدي شكر الحق المتعالي كما يجب أن يكون . ان الذي يلتفت الى الاسباب ، ويرى تأثير الموجودات بصورة مستقلة ، ولا يُرجع النعَم الى ولي النعم ومصدرها ، يكون كافرا بنعم الحق المتعالي . انه قد نحت اصناما وجعل لكل واحد منها دورا مؤثرا . إنه قد ينسب الاعمال الى نفسه ، بل يجعل شخصه متصرفا في الامور . وقد يتحدث عن فعالية طبائع عالم الكون . وقد يرى الناس بأن النعم من الارباب الظاهريين الصوريين ، ويجرّدون الحق من التصرف ، ويقولون بأن يد الله مغلولة«غلّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا» (1) . إن يد الحق مبسوطة وأن كل دائرة الوجود منه في الواقع والحقيقة ، ولا مجال للآخرين فيها . بل إن العالم بأسره مظهر قدرته ونعمته ، وأن رحمته وسعت كل شيء وأن جميع النعم منه ، وليست لأحد نعمة حتى يُعد منعما . بل إن وجود العالم منه ، وغيره لا وجود له حتى يصدر عنه شيء ،

(1) سورة المائدة ، آية : 64 .
الاربعون حديثاً 321

ولكن العيون عمياء ، والآذان صمّاء والقلوب محجوبة . نصف بيت شعر :
«ابحث عن عين تثقب الاسباب الظاهرية كي ترى السبب الحقيقي» .
الى متى والى أي مستوى تكفر قلوبنا الميتة بنعم الحق سبحانه ، وتتعلق بهذا العالم وظروفه وأشخاصه ؟ إن هذه التعلقات والتوجهات ، كفران لنعم ذاته المقدس وإسدال ستار على رحمته .
ومن هنا يعلم أن النهوض بحق شكره لا يكون في مستطاع أي شخص ، كما يقول الحق المتعالي جل جلاله «وقليل من عبادي الشكور» (1) فإن القليل من العباد يعرفون كما ينبغي نعم الحق . ولهذا فإن القليل من العباد يؤدون الشكر للحق جل جلاله كما يستحق .
ولا بد من معرفة أنه كما تختلف مستويات معرفة العباد ، كذلك تختلف مراتب شكرهم . وأيضا أن مراتب الشكر مختلفة ، لأن الشكر هو الثناء على النعم التي وهبها المنعم . فإذا كانت النعم من قبيل النعم الظاهرية كانت لها مرتبة من الشكر ، وإذا كانت من النعم الباطنية كانت لها مرتبة أخرى . وإذا كانت من نوع العلوم والمعارف كان شكرها من نوع آخر ، وإن كانت من تجليات الاسماء ، كان لها شكر وإن كانت من قبيل التجليات الذاتية الأحدية كان هناك شكر آخر . وحيث أن جميع مراتب النعم متوفرة لقليل من العباد ، كان النهوض بأداء الشكر على جميع المستويات لقليل من العباد ، وهم الخُلّص من الاولياء الجامعين لجميع الحضرات ، والذين هم برزخ البرازخ ، والحافظين لكل المراتب الظاهرة والباطنة ، ولهذا يكون شكرهم مع جميع الألسنة الظاهرة والباطنة والسرية .
والشكر وإن قالوا إنه من المقامات العامة ـ لأنه مقرون بدعوى مكافأة المنعم على أنعامه . فيعد هذا من إساءة الأدب للمنعم ـ ولكن هذه المقارنة تكون لغير الاولياء خصوصا الكامل منهم ، الجامع للحضرات ، والحافظ لمقامي الكثرة والوحدة . ولهذا قال الشيخ العارف الخواجة الانصاري ، رغم قوله بأن الشكر من المقامات العامة : «والدرجة الثالثة أن لا يشهد العبد إلا المنعم فإذا شهد المنعم عبودية استعظم منه النعمة ، وإذا شهده حبا استحلى منه الشدة ، وإذا شهده تفريدا لم يشهد منه نعمة ولا شدة» .
توضيحه : إن الدرجة الثالثة من الشكر هو مشاهدة العبد لجمال المنعم والتأمل فيه وله مقامات ثلاثة :
الاول : أن يشاهد جمال المنعم مشاهدة العبد الذليل لمولاه ، ويغفل عن نفسه ويستغرق

(1) سورة سبأ ، آية : 13 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي