الاربعون حديثاً 266

كما انه لو لم يتب لأمكن ان يشهد كل عضو بلسان مقاله او حاله على افعاله الأثيمة .
وعلى اي حال كما ان مقام الغفّارية والستّارية اقتضى الآن ونحن في هذا العالم ان لا تشهد اعضائنا وجوارحنا ضدنا وان يستر الزمان والمكان افعالنا المشينة ، كذلك يقتضي ستر اعمالنا في العوالم الاخرى عندما نتوب توبة صحيحة ونستغفر استغفارا خالصا ونرحل من هذا العالم ، او ان الناس يحجبون عن اعمالنا . ولعل مقتضى كرامة الحق ـ جل جلاله ـ هو الثاني حتى لا يكون الإنسان التائب مطأطأ رأسه ومفضوحا امام الآخرين والله العالم .

فصل
في تفسير التوبة النصوح

اعلم ان هناك تفسيرات مختلفة في بيان المقصود من التوبة النصوح . ومن المناسب ان نذكرها هنا بصورة مجملة . ونحن نكتفي بنقل كلام المحقق الجليل الشيخ البهائي قدس الله نفسه .
نقل المحدث الخبير المجلسي ـ رحمه الله ـ(1) عن الشيخ البهائي انه قال :
«ثم اعلم ان المفسرين اختلفوا في تفسير التوبة النصوح على اقوال :
منها : ان المراد توبة تنصح الناس اي تدعوهم الى ان يأتوا بمثلها لظهور آثارها الجميلة في صاحبها او ينصح صاحبها فيقلع عن الذنوب ثم لا يعود اليها ابدا .
ومنها ان النصوح ما كانت خالصة لوجه الله سبحانه من قولهم عسل نصوح اذا كان خالصا من الشمع ، بأن يندم على الذنوب لقبحها ، وكونها خلاف رضى الله تعالى لا لخوف النار مثلا .
وحكم المحقق الطوسي في التجريد بأن الندم من الذنوب للخوف من النار ، ليس بتوبة» ومنها ان النصوح من النصاحة وهي الخياطة لأنها تنصح من الدين ما مزقته الذنوب او يجمع بين التائب وبين اوليائه واحبائه كما تجمع الخياطة بين قطع الثوب .
ومنها ان النصوح وصف للتائب واسناده الى التوبة من قبيل الاسناد المجازي اي توبة تنصحون بها انفسكم بأن تاتوا بها على أكمل ما ينبغي ان تكون عليه حتى تكون قالعة لآثار الذنوب من القلوب بالكلية . ويكون ذلك بذوب النفوس بالحسرات ومحو ظلمات القبائح بنور الاعمال الحسنة .

(1) بحار الانوار ـ المجلد 16 ص 17 ـ الطباعة الحديثة .
الاربعون حديثاً 267

تكميل
في بيان ان جميع الموجودات ذات علم وحياة

اعلم ان للتوبة حقائق ولطائف واسرار ، ولكل واحد من اهل السلوك الى الله توبة خاصة تتناسب مع مقامه . وحيث ان لا حظ ولا نصيب لنا في تلك المقامات ، فلا يناسب شرحها و الإسهاب فيها في هذا الكتاب . والافضل ان ننهي الحديث بذكر فائدة دقيقة تستكشف من الحديث الشريف ـ المذكور في اول فصل التوبة ـ وتتفق مع ظاهر الكتاب الكريم والاحاديث الكثيرة المأثورة في الابواب المتفرقة .
وتلك الفائدة هي ان لكل واحد من الموجودات علم وحياة ومعرفة ، بل ان جميع الموجودات تحظى بالمعرفة لمقام الحق المقدس جل وعلا . فان الوحي الى الاعضاء والجوارح وبقاع الارض ، بالكتمان ، واطاعتها للامر الالهي ، وتسبيح الموجودات بأسرها الذي نص عليه القرآن الكريم (1) وأوردته الاحاديث الشريفة كثيرا ، كل ذلك دليل على علم وشعور حياة الموجودات ، بل دليل على الارتباط الخاص بين الخالق والمخلوق ، لا يطلع عليه احد الا ذاته المقدس جل وعلا ومن ارتضى من عباده .
وهذه الفائدة الدقيقة احدى المعارف التي لمّح اليها القرآن الكريم واحاديث الائمة المعصومين ، وتتطابق مع برهان الفلاسفة الاشراقيين وذوق اهل العرفان ومشاهدات اصحاب السلوك والرياضة الروحانية .
وقد ثبت في ابحاث ما وراء الطبيعة من الفلسفة ان حقيقة الوجود عين الكمالات والاسماء والصفات ، وعندما يظهر في كل مرتبة ـ من مراتب الوجود ـ الوجود ، ويتجلى في مرآة للأعين ، يكون ظهوره مع جميع الشؤون والكمالات ـ لان الوجود عين هذه الكمالات السبعة ـ من الحياة والعلم وبقية الامهات السبعة . ولكل من مراحل تجلي حقيقة الوجود ومراتب تنزلات نور الجمال الكامل للمعبود تعالى شأنه ، ارتباط خاص مع مقام الاحدية ، ومعرفة كامنة خفية مع مقام الربوبية . كما تقول الآية الكريمة «ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها» (2) وقالوا انّ (هو) اشارة الى مقام غيب الهوية . و«آخذ بالناصية» هو الربط الاصيل الغيبي السري الوجودي الذي لا محال لأحد في معرفته .

(1) يسبح لله ما في السماوات وما في الارض الملك القدوس العزيز الحكيم ـ الجمعة الآية : 1 .
(2) سورة هود ، آية : 56 .
الاربعون حديثاً 268




الاربعون حديثاً 269

الحديث الثامن عشر

الذكر


الاربعون حديثاً 270

بالسند المتصل الى فخر الطائفة وذخرها محمد بن يعقوب الكليني ـ رضوان الله عليه ـ عن محمد بن يحيى ، عن احمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان ، عن ابي حمزة الثمالي ، عن ابي جعفر عليه السلام قال : «مكتوب في التوراة التي لم تغيَّر ان موسى عليه السلام سأل ربه فقال : يا رب اقريب انت مني فأناجيك ، ام بعيد فأناديك ؟ فأوحى الله عز وجل اليه : يا مسى انا جليس من ذكرني . فقال موسى : فمن في سترك يوم لا ستر الا سترك . فقال : الذين يذكرونني فاذكرهم ويتحابّون فيّ فأحبّهم فأولئك الذين اذا أردت ان اصيب اهل الارض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم» (1) .

(1) اصول الكافي ، المجلد كتاب الثاني ، الدعاء ، باب ما يجب من ذكر الله في كل مجلس ، ح 4 .
الاربعون حديثاً 271

الشرح :


يفهم من هذا الحديث الشريف بأن التوراة الرائجة بين اليهود محرّفة ومزورة . وان محتوى التوراة الصحيحة يتواجد عند اهل البيت ـ عليهم السلام ـ . ويعرف ايضا من منطويات التوراة والانجيل المتداولين ـ لتدني مستواهما على جميع الاصعدة ـ انهما ليسا بحديث انسان عادي ، بل انه حديث ينسجم مع اوهام بعض اهل الشهوات وذوي الاهواء النفسية .
يقول المحدث المحقق المرحوم المجلسي : «كان الغرض من السؤال عن آداب الدعاء مع علمه بانه اقرب إلينا من حبل الوريد بالعلم والقدرة والعليّة أي أتحب أن أناجيك كما يناجي القريب او اناديك كما ينادي البعيد؟ وبعبارة أخرى إذا نظرت إليك فأنت أقرب من كل قريب ، وإذا نظرت إلى نفسي أجدني في غاية البعد عنك فلا أدري في دعائي أنظر إلى حالي أو إلى حالك؟.
ويحتمل ان يكون السؤال للغير او من قبلهم كسؤال الرواية» (1) . انتهى كلامه .

في الاحاطة القيّّومية لله تعالى

من المحتمل ان النبي موسى عليه السلام ـ في الحديث المذكور ـ يعرض عجزه عن كيفية دعائه لله تعالى فيقول : الهي انت منزّه من الاتصاف بالقرب والبعد حتى ادعوك دعاء من يكون دانيا او قاصيا ، فأنا متردد في امري ولا اجد دعاءاً يليق بعظمتك وجلالك . فاسمح لي ان أناديك ، وعلّمني كيفية ندائك واهدني الى ما يتناسب ومقام قدسك في هذا المجال .
فأتى الجواب من مصدر الجلال والعزة : بأنني حاضر حضور القيومية في جميع النشآت وان هذه العوالم بأسرها حاضرة لدي . انا جليس من يذكرني ونديم من يتحدث معي .

(1) مرآة العقول ، المجلد 12 ، ص 122 .
الاربعون حديثاً 272

وبالطبع ان ذاته المقدس لا يتصف بالقرب والبعد وأنّ له احاطة قيومية ، وسعة وجودية تعمّ جميع دائرة الوجود وكافة سلسلة الموجودات .
وما ورد في الآيات الشريفة من الكتاب الالهي الكريم من توصيف الحق المتعالي بالقرب مثل قوله تعالى : «واذا سالك عبادي عني فإني قريب» (1) وقوله ـ عز من قائل ـ «نحن اقرب اليه من حبل الوريد» (2) وغيرها من الآيات فمن باب المجاز والاستعارة . لأن ساحته المقدسة تتنزه عن القرب والبعد الحسيان والمعنويان . اذ يستلزم ذاك ـ القرب والبعد الحسيان والمعنويان ـ نوع من التحديد والتشبيه ، والحق المتعالي منزه عن ذلك ، بل ان حضور قاطبة الموجودات امام وجوده المقدس ، حضور تعلّقي ، واحاطة ذاته المتعالية لكل دقائق الكائنات وسلسلة الموجودات ، احاطة قيّوميّة وهذا الحضور وهذه الاحاطة يختلفان عن الحضور الحسي والمعنوي وعن الاحاطة الظاهرية والباطنية .
ويستفاد من هذا الحديث وبعض الاحاديث الاخرى رجحان الذكر ـ ذكر الله ـ الخفي ، واستحباب الذكر السري والقلبي ، كما يقول الله سبحانه ايضا في الآية المباركة «واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة» (3) .
وجاء في الحديث الشريف انه لا يعلم احد ثواب ذكر الله سبحانه ، الا الله تعالى لعظمته وكِبَره . وقد يكون الاجهار في الذكر واظهاره راجحا في بعض الحالات والمقامات ولدى طروّ بعض العناوين ، مثل الذكر لدى اهل الغفلة لكي ينتبهوا .
ففي الحديث الشريف من الكافي قال ابو عبد الله عليه السلام الذاكر لله عز وجل في الغافلين ، كالمقاتل في المحاربين (4) .
ونقل عن عدة الداعي للشيخ ابن فهد : «قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : مَن ذكر الله في السوق مخلصا عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه كتب الله له الف حسنة وغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر» (5) .
وكذلك يستحب الاجهار بالذكر في اذان الاعلام والخطبة وغيرها .

(1) سورة البقرة ، آية : 186 .
(2) سورة ق ، آية : 16 .
(3) سورة الاعراف ، آية : 205 .
(4) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الدعاء ، باب ذكر الله عز وجل في الغافلين ، ح 1 .
(5) عدة الداعي ، ص 242 .
الاربعون حديثاً 273

فصل

يستفاد من هذا الحديث الشريف ، ان لذكر الله والتحاب بين الاشخاص في سبيل الله ، خصائص : احداها ـ وهي الاهم ـ ان ذكر العبد لله ، يبعث على ذكر الله لعبده ، كما نطقت بهذا المضمون احاديث اخرى ايضا . ويقابل هذا الذكر النسيان ، الذي قال سبحانه وتعالى عن الناسي في القرآن «كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى» (1) .
فكما ان نسيان الآيات والعمى الباطني عن رؤية مظاهر جمال الحق وجلاله يسبب عمى في العالم الآخر ، يكون التذكر للآيات والاسماء والصفات وتذكر الحق سبحانه وجماله وجلاله باعثا على حدة في البصيرة ، وازاحة للحجب ، بقدر قوة التذكر ونورانيته .
هذا وان تذكر آيات الحق سبحانه ، وصيرورته ـ هذا التذكر ـ ملكة ـ راسخة ـ في الانسان يجعل لبصيرته قوة ، يرى من خلال الآيات ، جمال الحق . وان تذكّر الاسماء والصفات يبعث على مشاهدة الحق في تجليات اسمائه وصفاته . وان تذكر الذات عز شأنه من دون حجاب الآيات والاسماء والصفات ، يوجب رفع الحجب بأسرها ومشاهدة الحبيب من دون غشاء وحجاب .
ويعتبر هذا ـ التفسير ـ واحدا من التوجيهات والتفسيرات للفتوحات الثلاثة التي هي قرة عين العرفاء والاولياء وهي :
الفتح القريب . الفتح المبين . الفتح المطلق . الذي هو فتح الفتوح .
وكما ان التذكرات الثلاثة ـ المذكورة ـ تزيل الحجب الثلاثة ، كذلك التحاب بين الناس في الله سبب لمحبة الله ، وتكون نتيجته رفع الحجب حسب ما يقوله العرفاء الشامخون .
ومن الواضح ان للتحاب بين الناس مراتب ودرجات ، كما ان للحب في الله من جهة الخلوص والخلوّ من الشوائب مراتب كثيرة ودرجات عديدة ايضا ، والحب الخالص التام هو الحب المحض الفارغ من شوب كثرات الاسماء والصفات ، وهو الموجب لحصول الحب التام . والمحبوب المطلق في شريعة العشاق ، لا يكون محجوبا عن الوصال ، ولا يبقى بينه وبين محبوبه حجابا .
وبهذا البيان نستطيع ان نوفّق بين سؤالي النبي موسى عليه السلام ، لأنه ـ عليه السلام ـ عندما سمع من حضرته تعالى بأنه ـ عز وجل ـ جليس من ذكره ، وسمع من محبوبه ، اُمنيّته من الوعد بالوصال والوصول الى الجمال ، اراد ان يستقصي اهل الوصال حتى ينهض بالمسؤولية

(1) سورة طه ، آية : 126 .
الاربعون حديثاً 274

مع كافة الشؤون المتوجبة عليه ، فقال : «فمن في سترك يوم لا ستر الا سترك لي ؟ ومن يكون في سترك ، بعد ان تخلّص من التعلّق بغيرك ، وحطّم قيود الحجب ، ووصل الى جمالك الجميل ؟» . فقال هم طائفتان : الذين يذكرونني ابتداءا ، والذين يتحابّون لأجلي حيث يكون تذكرا في مظهر جمالي التام ، الذي هو الانسان . انهما ـ الطائفتان ـ في مأمني وجلسائي وأنا جليسهم .
فتبين ان لهذين الطائفتين خصلة واحدة عظيمة ، ولها نتاج عظيم آخر ، اذ انهم يذكرون الله فينقلبوا ـ بذكرهم له ـ محبوبين للحق المتعالي ونتيجته انهم يستقرون في ستره سبحانه وملجأه يوم لا ستر فيه ، ويختلي بهم الحق عز وجل في المحل الارفع .
ومن خصال هاتين الطائفتين ان الله سبحانه يرفع لكرامتهم ، العذاب عن عباده بمعنى انه ما دامت الطائفتان تعيشان بين العباد ، لا يُنزل الله سبحانه العذاب على الناس .

فصل
في الفرق بين مقام التفكر والتذكر

اعلم ان التذكر من نتائج التفكر ، ولهذا يعتبرون مقام التفكر مقدما على مقام التذكر . يقول العارف عبد الله الانصاري «التذكر فوق التفكر ، فإن التفكر طلب والتذكر وجود» اذ ان التفكر طلب للمحبوب والتذكر حصول للمطلوب . فما دام الانسان يطلب ويبحث يكون محجوبا عن مطلوبه وعندما يصل الى محبوبه يتحرر من عناء البحث والتفتيش .
ان قوة التذكر وكماله ، يرتبطان بقوة التفكر وكماله . والتفكر الذي يفضي الى التذكر التام للمعبود . لا يساوي الاعمال الاخرى ولا يقاس في الفضيلة بها . ففي الاحاديث الشريفة ان تفكر ساعة افضل من عبادة سنة واحدة او ستين عاما او سبعين عاما . ومن الواضح ان الغاية من العبادات وثمرتها المهمة ، حصول المعرفة والتذكر للمعبود الحق . وستحصل على هذه الخاصية من التفكر الصحيح ، احسن من الحصول عليها عن طريق العبادة .
اذ لعلّ تفكر ساعة واحدة ، يفتح ابوابا من المعارف على السالك ، لا تفتحها عبادة سبعين سنة ، او ان في تفكر ساعة واحدة تذكّر للانسان بحبيبه سبحانه ، ما لا يحصل من المشاق والمساعي المجهدة فترة سنين عديدة مثل هذا التذكر .
واعلم ايها العزيز ان تذكر الحبيب ، والتفكر فيه دائما ، يثمر نتائج كثيرة لكافة الطبقات .
اما الكُمّلون والاولياء والعرفاء فان تذكر الحبيب في نفسه ، غاية آمالهم وفي ظله يبلغون جمال حبيبهم . هنيئا لهم .
واما عموم الناس والمتوسطين منهم ، فهو افضل مصلح للاخلاق والسلوك وللظاهر والباطن .

الاربعون حديثاً 275

اذا عاش الانسان مع الحق سبحانه وتعالى في جميع الاحوال وكافة المستجدات ، وشاهد نفسه امام الذات المقدس عز شأنه ، لأحجم عن الامور التي تسخط الله ، وردع نفسه عن الطغيان . ان المشاكل والمصائب المنبثقة من النفس الامارة والشيطان الرجيم قد نشأت عن الغفلة عن ذكر الحق وعذابه وعقابه . ان الغفلة عن الحق تضاعف كدورة القلب ، وتمكّن النفس والشيطان من التحكم في الانسان وتسبب زيادة المفاسد على مرّ الايام .
وان التذكر للحق جل شأنه يبعث على صفاء النفس وصقلها ، ويجعلها مظهرا للمحبوب ويصفي الروح وينقّيه ، ويحرر الانسان من اغلال الأسر ، ويُخرج حب الدنيا الذي هو رأس الخطايا ومصدر السيئات من القلب ، ويجعل الهموم هما واحدا ، والقلب نظيفا وطاهرا لورود صاحبه ـ الحق جل وعلا ـ .
فيا ايها العزيز مهما تتحمل من الصعاب في سبيل الذكر والتذكر للحبيب ـ الحق سبحانه ـ كان ذلك قليلا . روّض قلبك على التذكر للمحبوب ، لعل الله يجعل صورة القلب ، صورة لذكر الحق ، و كلمة لا اله الا الله الطيبة ، الصورة النهائية والكمال الاقصى للنفس ، فانه لا زاد افضل منه للسلوك الى الله ، ولا مصلح احسن منه لعيوب النفس ، ولا رفيق اجدى منه في المعارف الالهية .
فاذا كنت طالبا للكمالات الصورية والمعنوية ، وسالكا لطريق الآخرة ومهاجرا ومسافرا الى الله ، اجعل قلبك معتادا على تذكر المحبوب ، واعجن قلبك مع ذكر الحق تبارك وتعالى .

فصل
في بيان ان الذكر التام هو الذكر البالغ الى كل اطراف المملكة ـ جسم الانسان ـ

ان ذكر الحق والتذكر لذاته المقدس من صفات القلب ، وان القلب اذا تذكر ترتبت عليه ـ القلب ـ جميع الفوائد المذكورة للذكر ، ولكن الافضل ان يعقب الذكر القلبي ، الذكر اللساني . وان افضل وأكمل مراتب الذكر كافّة هو الذكر الساري في نشآت مراتب الانسانية ، والجاري على ظاهر الانسان وباطنه ، سرّه وعلنه .
فيكون الحق سبحانه مشهودا في سر الوجود ، وتكون الصورة الباطنية للقلب والروح ، صورة تذكر المحبوب . ويطغى على الاعمال القلبية والقالبية ـ الظاهرية ـ التذكر لله سبحانه . وتنفتح الاقاليم السبع الظاهرية ، والممالك الباطنية ، على ذكر الحق ، وتتسخّر لتذكر الجميل المطلق . بل لو ان حقيقة الذكر تحوّلت الى صورة باطنية للقلب ، وانفتحت مملكة القلب على يديه ـ الذكر ـ لجرى حكمه في كل الممالك والاقاليم ـ القوى الجسمية الظاهرية والباطنية ـ

الاربعون حديثاً 276

ولكانت حركة وسكون العين واللسان واليد والرجل ، وافعال كل القوى والجوارح مع ذكر الحق . ولم تقم ـ القوى الظاهرية والباطنية في جسم الانسان ـ بإنجاز ما يخالف الوظائف الشرعية المقررة . فتكون حركاتها وسكناتها مبدوّة ومختومة بذكر الحق ، وتنفُذ«بسم الله مجريها ومرسيها»(1) في جميع اطراف المملكة ـ جسم الانسان بما فيه القوى الظاهرية والباطنية ـ .
وفي النتيجة يتحول الانسان الى حقيقة الاسماء والصفات ، بل الى صورة اسم الله الاعظم ، ومظهره . وهذه هي الغاية القصوى لكمال الانسان ومنتهى رجاء اهل الله . وكلما حصل انخفاض عن هذا المستوى الرفيع ، وقلّ نفوذ الذكر ـ في الانسان ـ انتقص وبنفس النسبة من كمال الانسان ، وأثر نقصان كل من الظاهر والباطن ، في الآخر ، لأن نشآت وجود الانسان مترابطة ومتأثرة بعضها ببعض .
ومن هنا يعلم ان ذكر الحق بالنطق واللسان الذي يعد من اقل مراتب الذكر ، يكون مجديا ونافعا ايضا لأنه :
اولا : قام اللسان بوظيفته بواسطة ذكره وان كان هذا الذكر قالبا لا روح له . وثانيا : يمكن ان يصير هذا التذكر ـ الذكر باللسان ـ سببا لتفتّح لسان القلب ايضا بعد فترة من المواظبة على الذكر والاستمرار عليه بشروطه .
قال شيخنا الكامل العارف الشاه آبادي ـ روحي فداه ـ يجب ان يكون الانسان الذاكر مثل المعلم الذي يريد ان يعلم الطفل الصغير الذي لم ينطق بعد الكلمات ، حيث يكرّر الكلمة ، حتى ينفتح لسان الطفل وينطق الكلمة ، ثم نرى المعلم يداعب الطفل ويردد الكلمة بمثل ما سمعها من الطفل فيزول تعب المعلم وكأن مددا يبلغه من الطفل . كذلك الذاكر يجب ان يعلّم قلبه الذكر اذا لم ينفتح لسانه ـ القلب ـ على الذكر . وسبب تكرار الذكر هو انفتاح لسان القلب على الذكر . وآية انفتاحه ـ لسان القلب ـ ان لسان الفم يتبع القلب ، فيزول نَصَب تكرار الذكر وعنائه . في البدء كان اللسان ذاكرا والقلب استمد الذكر منه ، وبعد انفتاح لسان القلب بالذكر ، يتبعه لسان الفم ، ويستمد اللسان منه ـ القلب ـ الذكر ، او من الغيب .
ولا بدّ من معرفة ان الاعمال الظاهرية الصورية لا تليق بمقام الغيب ، ولا تحشر في عالم الملكوت ، الا اذا بلغها من باطن الروحانية ولُباب القلب مددا ، ووهبها حياة ملكوتية ، ولا يكون ذلك الا بالنفخة الروحية التي هي بمثابة الروح والباطن ، لصورة خُلوص النية ، والنية الخالصة ، وبتبعها يحشر الجسم في عالم الملكوت ويعتبر لائقا للقبول في مقام الغيب القدسي . ولهذا أورد في الروايات الشريفة ان قبول الاعمال على قدر توجه القلب . ومع كل

(1) سورة هود ، آية : 41 .
الاربعون حديثاً 277

ذلك ايضا يكون الذكر باللسان محبوبا ومستحبا ، ويقود الانسان في نهاية المطاف الى الحقيقة . ومن هذا المنطلق ورد في الاحاديث الشريفة مدح عظيم للذكر اللساني . وقليلا ما تجد موضوعا يشتمل على احاديث كثيرة مثل موضوع الذكر . وقد اثنت ايضا الآيات الكريمة كثيرا على ذكر الله باللسان . وان كانت هذه الآيات غالبا ما تتحدث عن الذكر القلبي او الذكر مع الروح ، ولكن تذكر الحق في كل مرتبة محبوب ومطلوب . ونحن نختم الكلام في هذا المقام بعرض بعض الاحاديث الشريفة للتيمّن والتبرك .

فصل
في ذكر بعض الاحاديث في فضل ذكر الله

في الكافي بسند صحيح عن الفُضَيل بن يسار قال : قال ابو عبد الله عليه السلام : «ما من مجلس يجتمع فيه ابرار وفجار فيقومون على غير ذكر الله عز وجل الا كان حسرة عليهم يوم القيامة» (1) .
من الواضح ان الانسان عندما تنكشف عليه يوم القيامة ، النتائج العظيمة لذكر الله ، ويرى نفسه بعيدا عنها ، ويعلم بانه قد حرم من نعم كثيرة ، ولا يستطيع تداركها ، تستولي عليه الحسرة والندامة . فيجب على الانسان ان يغتنم الفرصة ولا يُخلي مجالسه ومحافله من ذكر الله .
الكافي بسند موثق عن ابي جعفر عليه السلام : «من أراد ان يكتال بالمكيال فيقل اذا اراد ان يقوم من مجلسه. «سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين»» (2) .
نُقل عن الامام الصادق عليه السلام بأن امير المؤمنين عليه السلام قال : من أراد ان يكون يوم القيامة كيله تامّا من الثواب فليتلوا هذه الآيات المباركة ـ سبحان ربك الى آخره ـ في دبر كل صلاة (3) .
وعن الصادق عليه السلام مرسلا ، كفارات المجالس أن تقول عند قيامك منها « سبحان ربك رب العزة عما يصفون* وسلام على المرسلين* والحمد لله رب العالمين» (4) .
الكافي باسناده عن ابن فضّال رفعه قال : «قال الله عز وجل لعيسى عليه السلام : يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي واذكرني في ملإك أذكرك في ملأ خير من ملأ الآدميين . يا عيسى ألِن لي قلبك واكثر ذكري في الخلوات واعلم ان سروري ان تُبَصبِص إليّ وكن في ذلك حيا ولا تكن ميتا»
(5) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الدعاء ، باب ما يجب من ذكر الله في كل مجلس ، ح 1 .
(2) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الدعاء ، باب ما يجب من ذكر الله في كل مجلس ، ح 3 .
(3) جامع الاحاديث ، كتاب الصلاة ، ح 3487 .
(4) وسائل الشيعة ، المجلد 15 ، ح 28901 .
(5) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الدعاء ، باب ذكر الله في السر ، ح 3 .
الاربعون حديثاً 278

«التبصبص» هو حركة ذنب الكلب نتيجة الخوف او الطمع . وهذا كناية عن شدة الالتماس والمسكنة . و (كن في ذلك حيا ولا تكن ميتا) بمعنى انتباه القلب وحضوره .
الكافي بإسناده عن ابي عبد الله عليه السلام : قال : «ان الله عز وجل يقول : من شُغل بذكري عن مسألتي اعطيته أفضل ما اعطي من سألني» (1) .
عن احمد بن فهد في عدة الداعي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : «... واعلموا ان خير أعمالكم [عند مليككم] وأزكاها وارفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله سبحانه وتعالى فإنه اخبر عن نفسه فقال : أنا جليس من ذكرني» (2) .
ان الاحاديث المأثورة في فضل ذكر الله وكيفيته وآدابه وشرائطه تفوق استيعاب هذه الصفحات . والحمد لله اولا وآخرا وظاهرا وباطنا .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الدعاء ، باب الاشتغال بذكر الله ، ح 1.
(2) عدة الداعي ، ص 238 .
الاربعون حديثاً 279

الحديث التاسع عشر

الغِيبة


الاربعون حديثاً 280

بسندي المتصل الى ثقة الاسلام والمسلمين محمد بن يعقوب الكليني ـ رضوان الله تعالى عليه ـ عن علي بن ابراهيم ، عن ابيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن ابي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «الغيبة اسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه» .
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «الجلوس في المسجد انتظار الصلاة عبادة ما لم يُحدث . قيل : يا رسول الله وما يُحدث قال : الاغتياب» (1) .


(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغيبة والبهت ، ح 1 .
الاربعون حديثاً 281

الشرح :


الغيبة كما في اللغة مصدر «غاب» ، واسم مصدر لـ «اغتياب» . قال الجوهري : «اغتابه اغتيابا ذا وقع فيه ، والاسم الغيبة ، وهو ان يتكلّم خلف انسان مستور بما يغمّه لو سمعه ، فإن كان صدقا سمي غيبة ، وان كان كذبا سمي بهتانا . انتهى» (1) .
قال المحقق المحدث المجلسي عليه الرحمة : هذا بحسب اللغة (2) انتهى . ولكن يبدو بان صاحب الصحاح ـ الجوهري ـ ذكر المعنى الاصطلاحي لا اللغوي . لأن المعنى اللغوي لِـ غاب واغتاب وجميع مشتقاته ليس بذلك . وانما هو معنى اعم من ذلك ، وقد يكتب اللغويون المعنى الاصطلاحي او الشرعي للكلمة في كتبهم . وينقل عن صاحب القاموس ان غاب بمعنى عاب . وعن المصباح المنير : «اغتابه اذا ذكره بما يكرهه من العيوب وهو حق» .
وحسب اعتقاد الكاتب ان هذه المعاني المذكورة لا تمت الى المعنى اللغوي بشيء ، بل في كل منها قيود تداخلت مع المعنى المصطلح . وعلى اي حال لا جدوى في البحث عن المعنى اللغوي ، فإن المهم هو الوصول الى الموضوع الشرعي الذي اصبح متعلقا للتكليف الشرعي ـ الحرمة ـ . وحسب الظاهر يكون لهذا الموضوع ـ الغيبة ـ قيود شرعية لا يرقى اليها الفهم العرفي والمعنى اللغوي . ونتطرق للبحث في ذلك بعد قليل .
والأكلة كفرحة ، داء في العضو يأتَكل منه كما في القاموس وغيره وقد يقرء بمدّ الهمزة على وزن فاعلة اي العلة التي تأكل اللحم والاول اوفق باللغة كذا قال المجلسي (3) .
وعلى اي حال فالمقصود هو ان مرض الأكلة عندما يحل في العضو وخاصة الاعضاء اللطيفة من الجسم مثل الباطن منه يأكله بسرعة ويقضي عليه ، كذلك الغيبة تأكل دين الانسان

(1) و (2) بحار الانوار ، المجلد 75 ، ص 221 .
(3) بحار الانوار ، المجلد 75 ، ص 220 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي