الاربعون حديثاً 251

قال : «من ابتُلي مـن المؤمنين ببلاء فصبـر عليه كـان له مثل اجر الف شهيد» (1) .
ووردت احاديث كثيرة في هذا المضمار . ونحن سنذكر بعضها في الفصل القادم . واما ان للصبر صورة بهية برزخية ، فمضافا الى انها تتطابق مع بعض الادلة نجد الاحاديث الشريفة ايضا تتحدث عنها . كما في الكافي الشريف عن الامام الصادق عليه السلام قال : «اذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر مطل عليه ويتنحى الصبر ناحية ، فاذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبر : دونكم صاحبكم فان عجزتم منه فانا دونه» (2) .

فصل
في درجات الصبر

اعلم ان للصبر درجات حسب ما يفهم من الاحاديث الشريفة . ويختلف الاجر والثواب عليه على ضوء مراتبه . كما في الكافي الشريف مستندا الى مولى المتقين الامام امير المؤمنين عليه السلام : «قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الصبر ثلاثة : صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية . فمَن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها ، كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة الى الدرجة كما بين السماء والارض ، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة الى الدرجة كما بين تُخوم الارض الى العرش ، ومن صبر على المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة الى الدرجة كما بين تُخوم الارض الى منتهى العرش» (3) .
ويفهم من هذا الحديث بأن الصبر على المعصية افضل من كل مراتب الصبر حيث تكون درجاته اكثر ، والفاصل بين درجة واخرى كبير جدا . ويفهم ايضا بأن مساحة الجنة اوسع مما في اوهامنا نحن المحجوبين والمقيدين . ولعل ما ورد في تحديد الجنة من قوله تعالى«عرضها السموات والارض» (4) عائد الى جنة الاعمال ، وما ورد في هذا الحديث الشريف ، جنة الاخلاق ، والمقياس في جنة الاخلاق ، قوة الارادة وكمالها ، وهي غير محدودة بحد .
وقال بعض بأن المقصود في الحديث الشريف تحديد الجنة من جهة العلو والارتفاع ، وفي الآية المباركة من جهة العرض ، ولا تنافس بينهما ، اذ انه من الممكن ان يتّحدا من ناحية العرض ويختلفان من ناحية الارتفاع .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الصبر ، ح 17 .
(2) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الصبر ، ح 8 .
(3) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الصبر ، ح 15 .
(4) سورة آل عمران ، آية : 133 .
الاربعون حديثاً 252

وهذا بعيد ، لان الظاهر من «العرض» المساحة لا ما يقابل الطول . كما انه ليس للسماوات والارض عرضا بالمعنى المقابل للطول حسب المتفاهم العرفي واللغوي ، وان كان لهما عرض بمعنى البعد الثاني في مصطلح الطبيعيين ، والقرآن الكريم لا يتكلم على اساس المصطلحات العلمية .
وفي الكافي الشريف مستندا الى الامام الصادق عليه السلام قال : «قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : سيأتي على الناس زمان لا يُنال فيه المُلك الا بالقتل والتجبّر ، ولا الغنى الا بالغضب والبخل ، ولا المحبة الا باستخراج الدّين واتباع الهوى ، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز اتاه الله ثواب خمسين صدّيقا ممن صدّق بي» (1) .
ونقل حديث آخر ايضا عن الامام امير المؤمنين عليه السلام بهذا المضمون وعلى اي حال فان الاحاديث في هذا الموضوع كثيرة . ونحن نكتفي بهذا القدر من الاحاديث الشريفة .

فصل
في بيان درجات صبر اهل المعرفة

اعلم ان ما ذكرناه الى هنا ، يعود الى عامة الناس والمتوسطين كما ذكرت في اول فصل من هذه الفصول ـ المذكورة ـ من ان الصبر قد عُد من مقامات المتوسطين من الناس . ولكن للصبر درجات اخرى ترجع الى اهل السلوك والعرفاء والكُمّلين والاولياء . حيث ان منها : (الصبر في الله) وهو الثبات في المجاهدة وترك ما هو متعارف لدى الناس ومألوف عندهم . بل ترك نفسه في سبيل الحبيب . وهذا المقام عائد لاهل السلوك .
والمرتبة الاخرى (الصبر مع الله) وهو لاهل الحضور ومشاهدي الجمال حين الخروج من جلباب الانسانية ، والتجرد عن ملابس الافعال والصفات ولدى تجلي القلب بتجليات الاسماء والصفات ، وتوارد واردات الاُنس والهيبة ، وحفظ النفس من التلونات ، والغياب عن مقام الانس والشهود .
والمرتبة الثالثة (الصبر عن الله) وهو من درجات العشاق والمشتاقين من اهل الشهود والعيان عندما يعودون الى عالَمهم ويرجعون الى عالم الكثرات والصحو . وهذا من اصعب مراتب الصبر واقسى المقامات . وقد اشار الى هذه المرتبة مولى السالكين وامام الكُملين وامير المؤمنين عليه السلام في الدعاء الشريف الموسوم بدعاء الكميل : «فهبني يا الهي وسيدي ومولاي صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك» .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الصبر ، ح 12 .
الاربعون حديثاً 253

وروي أنّ شابا من المحبين سأل الشِّبلي عن الصبر فقال : اي الصبر اشد ؟ فقال : الصبر لله . فقال : لا . فقال : الصبر بالله . فقال : لا . فقال : الصبر على الله . فقال : لا . فقال : الصبر في الله . فقال : لا . فقال : الصبر مع الله . فقال : لا . فقال : ويحك فأي ؟ فقال : الصبر عن الله فشهق الشِّبلي وخرّ مغشيا عليه (1) .
والمرتبة الرابعة (الصبر بالله) وهو لأهل التمكين والاستقامة حيث يحصل بعد الصحو والبقاء بالله وبعد التخلّق بأخلاق الله ، ولا نصيب الا للكملين .
وحيث انه لا حظ لنا في هذه المراتب ولا نصيب ، لم نتطرق في هذه الاوراق للبحث المفصل عن ذلك .
والحمد لله اولا وآخرا وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .

(1) شرح منازل السائرين ، باب الصبر ، ص 88 .
الاربعون حديثاً 254




الاربعون حديثاً 255

الحديث السابع عشر

التوبة


الاربعون حديثاً 256

بالسند المتصل الى الامام الاقدم حجة الفرقة ورئيس الاُمة ، محمد بن يعقوب الكليني ـ رضي الله عنه ـ عن محمد بن يحيى ، عن احمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن معاوية بن وهب قال : سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول : «اذا تاب العبد توبة نصوحا احبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة . فقلت : وكيف يستر عليه ؟ قال : يُنسى ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ، ثم يوحى الى جوارحه : اكتمي عليه ذنوبه ويوحى الى بقاع الارض : اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب . فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب» (1) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب التوبة ، ح 1 .
الاربعون حديثاً 257

في حقيقة التوبة
الشرح :


اعلم ان التوبة من المنازل المهمة الصعبة . وهي عبارة عن الرجوع من عالم المادة الى روحانية النفس ، بعد ان حُجبت هذه الروحانية ونور الفطرة ، بغشاوات ظلمانية من جراء الذنوب والمعاصي .
وتفصيل هذا الاجمال بايجاز هو : ان النفس في بدء فطرتها خالية من كل انواع الكمال والجمال والنور والبهجة ، كما انها تكون خاليه ايضا من اضداد هذه الصفات ـ المذكورة الاربعة ـ فكأن النفس صفحة نقية من كل رسم ونقش ، لا توجد فيها الكمالات الروحية ولا تتصف بالنعوت المضادة لها . ولكن قد اودع فيها نور الاستعداد والاهلية لنيل اي مقام رفيع او وضيع ، وأنشأت فطرتها على الاستقامة ، وعجنت طينتها بالانوار الذاتية . وعندما تجترح سيئة ، تحصل في القلب ظلمة وسواد ، وكلما ازدادت المعاصي تضاعفت الظلمة والسواد ، الى ان يغشى الظلام والسواد القلب كله ، وينطفئ نور الفطرة ويبلغ مرتبة الشقاء الابدي . فاذا انتبه الانسان قبل ان يستوعب الظلام القلب كله ، ثم اجتاز منزل اليقظة ودخل على منزل التوبة واستوفى حظوظ هذا المنزل حسب الشرائط التي سنأتي على ذكرها اجمالا في هذه الصفحات ، زالت الحالات الظلمانية والكدورات الطبيعية وعاد الى الحالة الفطرية النورية الاصلية والروحانية الذاتية وكأنها تنقلب ـ النفس ـ الى صفحة خالية من جميع الكمالات واضدادها . كما ورد في الحديث الشريف المشهور «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (1) .
فتبين ان حقيقة التوبة هي الرجوع من عالم الطبيعة وآثارها ومضاعفاتها الى عالم الروحانية والفطرة . كما ان حقيقة الإنابة رجوع من الفطرة والروحانية الى الله والسفر والهجرة

(1) اصول الكافي ، كتاب الايمان والكفر ، باب التوبة ، ح 10 .
الاربعون حديثاً 258

من بيت النفس نحو بيت القصيد . فمنزل التوبة سابق ومقدم على منزل الإنابة ، ولا يناسب تفصيل ذلك في هذا المقال .

فصل
نقطة هامة

على سالك طريق الهداية والنجاة ، الانتباه الى نقطة هامة : هي ان التوفيق الى التوبة الصحيحة الكاملة مع توفير شرائطها ـ التي سنذكرها ـ من الامور الصعبة ، وقليلا ما يستطيع الانسان ان يصل الى هذا المقصد . بل ان اقتراف الذنوب وخاصة المعاصي الكبيرة يجعلان الانسان غافلا عن ذكر التوبة نهائيا . وإذا ما اثمرت وقويت شجرة المعاصي في مزرعة قلب الانسان وتحكّمت جذورها ، ستكون لها نتائج وخيمة : منها حثّ الانسان على الانصراف كليا عن التفكير في التوبة ، واذا تذكرها احيانا تكاسل في اجرائها واجّلها وقال : «اليوم او غدا وهذا الشهر او الشهر المقبل ، ويخاطب نفسه قائلا انني اتوب آخر العمر وأيام الشيخوخة توبة صحيحة» . وانه يغفل عن ان هذا مكر مع الله «والله خير الماكرين» (3) . لا يتوقع الانسان انه بعد ان تقوى جذور الذنوب في نفسه ، يستطيع ان يتوب او يقوم بتوفير شروط التوبة . ان افضل ايام التوبة وربيعها هي فترة ايام الشباب . لان الذنوب اقل وشوائب القلب وظلمات الباطل اخف ، وشروط التوبة اسهل وايسر . وقد يكثر في سن الشيخوخة حرص الانسان وطمعه وحبه للمال ويزداد طول امله وقد اثبتت التجربة ذلك .
والحديث النبوي الشريف افضل شاهد على هذه المقولة . واذا افترضنا ان الانسان يستطيع القيام بهذا العمل (التوبة) في سن الشيخوخة . فما هو الضمان للوصول الى سن الشيخوخة وعدم ادراكه الاجل المحتوم ايام الشباب على حين غرة ، وهو مشغول بالذنوب والعصيان ؟ ان انخفاض عدد المسنين ، دليل على ان الموت اقرب الى الشباب منه الى الشيخ . اننا في المدينة التي تحتوي على خمسين الف نسمة لم نجد خمسين شيخا يناهز عمر كل منهم ثمانين عاما .
فيا ايها العزيز كن على حذر من مكائد الشيطان ولا تمكر على الله ولا تحتال عليه بأن تقول اعيش خمسين عاما او اكثر مع الأهواء ، ثم استغفر ربي لدى الموت واستدرك الماضي ، لان هذه افكار واهية .
اذا سمعت او علمت من الحديث الشريف ان الله سبحانه وتعالى قد تفضل على هذه الامة بتقبل توبتهم قبل مشاهدة اثار الموت او عند الموت فذلك صحيح ، ولكن هيهات ان

(1) سورة آل عمران ، آية : 54 .
الاربعون حديثاً 259

تتحقق التوبة من الانسان في ذلك الوقت .
هل تظن ان التوبة مجرد كلام يقال ؟ ان القيام بالتوبة لعمل شاق . ان الرجوع الى الله والعزم على عدم العودة الى الذنب يحتاج الى رياضة علمية وعملية ، اذ نادرا ما يحدث للانسان ان يفكر لوحده بالتوبة او يتوفق اليها او يتوفق الى توفير شرائط صحة التوبة وقبولها او الى توفير شرائط كمالها . اذ من الممكن ان يدركه الموت قبل التفكير في التوبة او انجازها وينقله من هذه النشأة مع المعاصي التي تنوء بالانسان ومع ظلمات الذنوب اللامتناهية . وفي ذلك الوقت يعلم الله وحده المصائب والمحن التي سوف يواجهها ! .
ليس من السهل ان يجبر الانسان في العالم الآخر معاصيه ، اذا كان من اهل النجاة وممن عاقبة امره سعيدة : اذ لا بد من متاعب وضغوطات ونيراناً حتى يصبح الانسان اهلا لرحمة ارحم الراحمين .
اذا ايها العزيز ! عجل في شد حيازيمك ، واحكام عزيمتك وقوتك الحاسمة وانت في ايام الشباب او على قيد الحياة في هذه الدنيا وتب الى الله ، ولا تسمح لهذه الفرصة التي انعم الله بها عليك ان تخرج من يدك ، ولا تعبا بتسويف الشيطان ومكائد النفس الامارة .
نقطة هامة

ويجب الانتباه الى نقطة هامة اخرى : هي ان الشخص التائب بعد توبته لا يستعيد الصفاء الداخلي الروحاني والنور الخالص الفكري السابق كما انك لو سوّدت صفحة بيضاء ثم حاولت ان تعالج السواد وتزيله عنها لم تعد الصفحة الى حالتها الاولى من البياض الناصع ، وكذلك الاناء المكسور اذا اصلحناه فمن الصعب ان يعود الى حالته السابقة . انه لبون شاسع بين خليل يكون مخلصا مع الانسان طوال العمر ، وصديق يخونك ثم يعتذر عن تقصيره .
فضلا عن ان قليلا ما ترى شخصا يستطيع القيام بوظائف التوبة بشكل صحيح .
اذا ، يجب على الانسان ان يتجنب ما امكن ارتكاب المعاصي والذنوب ، لأن اصلاح النفس بعد افسادها من الاعمال الشاقة ، واذا تورط لا سمح الله في مصيبة وجب عليه بشكل عاجل ان يفكر في العلاج لان اصلاح الفساد القليل يتم اسرع وبكيفية احسن .
ايها العزيز ! لا تمر على هذا المقام من دون مبالاة ولا اهتمام . فكر في حالك وعاقبة امرك ، وراجع كتاب الله واحاديث خاتم الانبياء وائمة الهدى ـ سلام الله عليهم اجمعين ـ وكلمات علماء الامة واحكام العقل الوجدانية . افتح على نفسك هذا الباب الذي يعد مفتاح الابواب الاخرى ، وادخل في هذا المقام الذي يعتبر من اهم المنازل الانسانية ، بالنسبة الينا وكن مهتما فيه وواظب عليه واطلب من الله عز وجل التوفيق في الوصول الى المطلوب ،

الاربعون حديثاً 260

واستعن بروحانية الرسول الاكرم وأئمة الهدى ـ سلام الله عليهم ـ والتجئ الى ولي الامر وناموس الدهر امام العصر ـ عجل الله فرجه ـ وبالطبع انه ينجّي الضعفاء والعجز ويعين المحتاجين .

فصل
في اركان التوبة

اعلم ان للتوبة الكاملة اركانا وشروطا . ولولا تحققها لما تحققت التوبة الصحيحة . ونحن نذكر الاركان وشرائطها الهامة :
ان من اهم الشروط الذي يعتبر ركنا ركينا للتوبة هو الندامة على الذنوب والتقصير في اداء التكاليف الشرعية . ومنها : العزم على عدم العودة الى الذنوب نهائيا . وفي الحقيقة ان هذين الامرين يحققان حقيقة التوبة ويعتبران من مقوماتها الذاتية . والعمدة في هذا الباب تحصيل هذا المقام وانجاز هذه الحقيقة على نحو يتذكر الانسان تاثير معاصيه في روحه وعواقبها في عالم البرزخ ويوم القيامة كما هو مقرر في المعقول والمنقول ومبرهن عليه لدى اهل العلم والمعرفة ، وماثور في اخبار اهل بيت العصمة ـ عليهم السلام ـ من ان للمعاصي في عالم البرزخ والقيامة صورا تتناسب معها وهذه الصور في ذلك العالم تكون ذات حياة وارادة حيث تعذّب الانسان المذنب وتسيء اليه عن شعور وارادة . ان نار جهنم ايضا تحرق الانسان عن ارادة ووعي لان تلك النشأة نشأة الحياة .
ففي ذلك العالم صورا تحشر معنا من جراء اعمالنا الحسنة او القبيحة . وقد ورد في القرآن الكريم والاحاديث الشريفة صراحة وتلويحا ذكر لهذا الموضوع .
ويتطابق مع مسلك الحكماء الاشراقيين ، وذوق اهل السلوك ومشاهدات اصحاب العرفان . وكذلك تترك كل معصية في الروح اثرا عبّر عنه في الاحاديث الشريفة بالنقطة السوداء وهي ظلام ظهر في القلب والروح وتزداد هذه النقطة ثم تسوق الانسان الى الكفر والزندقة والشقاوة الابدية . وقد فصّلنا ذلك في الفصول السابقة . فالانسان العاقل لو انتبه لهذه المعاني واعتنى بكلام الانبياء والاولياء ـ عليهم السلام ـ والعرفاء والحكماء والعلماء ـ رضوان الله عليهم ـ بقدر اعتنائه بقول طبيب معالج ، لابتعد لا محالة عن المعاصي ولم يقترب منها ابدا . واذا ابتلي بالمعصية لا سمح الله ابدى بسرعة تبرمه وضجره منها وندم عليها وظهرت صورة ندمه في قلبه وتكون نتيجة هذه الندامة عظيمة جدا ، وآثارها حسنة وكثيرة ثم يحصل من جراء ندمه العزم على ترك المعصية وترك مخالفة رب العالمين . وعندما يتوفر هذان الركنان ـ الندم على اقتراف المعصية والعزم على عدم العودة اليها ـ يتيسّر عمل سالك طريق الآخرة ،

الاربعون حديثاً 261

وتغشاه التوفيقات الالهية ليصبح حسب النص القرآني «ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» (1) وهذه (2) الرواية الشريفة محبوبا لله تعالى اذا كان مخلصا في توبته . انه يجب على الانسان بالرياضة العلمية والعملية وبالتفكر والتدبر اللائق ان يسعى في سبيل تحقيق التوبة ويجب عليه ان يفهم بأن المحبوبية عند الله لا تقدر في حساب . والله يعلم بأن صورة حب الحق في تلك العوالم من أي نوع من الأنوار المعنوية والتجليات الكاملة تكون ؟ وان الله سبحانه كيف يتعامل مع محبوبه ؟ ايها الانسان كم انت ظلوم وجهول ؟ ! ولا تقّدر نعم وليّ النعم . انك تعصي وتعادي سنين وسنين وليّ نعمك الذي وفّر لك كل وسائل الرفاه والراحة من دون ان تعود منها عليه ـ والعياذ بالله ـ بجدوى وفائدة ، وطيلة هذه الفترة قد هَتكت حرمته وطَغيت عليه ولم تخجل منه ابدا ولكنك اذا ندمت على ما فعلت ورجعت اليه ، احبك الله وجعلك محبوبا له «ان الله يحب التوابين» فما هذه الرحمة الواسعة والنعم الوافرة ؟ .
الهي ! نحن عاجزون عن شكر آلائك ، وألسِنَة البشر وجميع الاحياء في هذا الكون مصابة باللكنة ـ تجاه الحمد والثناء عليك ـ ولا يسعنا الا ان ننكّس رؤوسنا ونعتذر على عدم حيائنا منك . مَن نحن حتى نستحق رحمتك ؟ ولكن سعة رحمتك وشمول نعمتك اوسع من تقديرنا لها «انت كما اثنيت على نفسك» (3) .
وايضا ، يجب على الانسان ان يقوي في قلبه صورة الندامة كي يحترق القلب ان شاء الله تعالى . وذلك بأن يفكّر في الآثار الموحشة للمعاصي وعواقبها . ويعمل على تقوية الندامة في قلبه ويضرم النار في قلبه على غرار«نار الله الموقدة» ويحرق قلبه في نار الندامة حتى تحترق مع نار الندامة جميع المعاصي وتزول الكدورة عن القلب وصدئه . وليعلم انه اذا لم يضرم بنفسه هذه النار ـ الندامة ـ ولم يفتح في وجهه باب جهنم هذه التي تكون بذاتها الباب الرئيسي لأبواب الجنة ، فعندما ينتقل من هذا العالم تهيأت له لا محالة في ذلك العالم نار عاتية ، وتفتح في وجهه ابواب جهنم وتوصد في وجهه ابواب الجنة والرحمة .
الهي الهمنا صدرا محترقا واقذف في قلوبنا جذوة من نار الندامة واحرقه مع هذه النار «الندامة» الدنيوية ، وأزل عن قلوبنا الكدر والغبرة ، واخرجنا من هذا العالم من دون مضاعفات المعاصي انك ولي النعم وعلى كل شيء قدير .

(1) سورة البقرة ، آية : 222 .
(2) رواية السابع عشر المذكورة .
(3) راجع معجم الاحاديث النبوية ج 1 ص 304 .
الاربعون حديثاً 262

فصل
في شروط التوبة

ذكرنا في الفصل السابق اركان التوبة . وسوف نذكر شروط قبولها وشروط كمالها مرتبا . ثم ان عمدة شروط القبول امران كما ان عمدة شروط الكمال امران ايضا .
ونحن نذكر في هذا الفصل الكلام الشريف لمولى الموالي الذي هو في الواقع من جوامع الكلام ، ومن كلام الملوك وملوك الكلام .
روي في نهج البلاغة ان قائلا قال بحضرته عليه السلام : استغفر الله ، فقال له : «ثكلتك امك اتدري ما الاستغفار ؟ ان الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معان : اولها الندم على ما مضى . الثاني العزم على ترك العود اليه ابدا . والثالث ان تؤدي الى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله سبحانه املس ليس عليك تبعة . الرابع ان تعمد الى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقها . والخامس ان تعمد الى اللحم الذي نبت على السّحت فتذيبه بالاحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد . والسادس ان تذيق الجسد الم الطاعة كما اذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول استغفر الله» (1) .
يشتمل هذا الحديث الشريف على ركنين من اركان التوبة هما : الندامة والعزم على العودة وعلى شرطين مهمين للقبول : هما ارجاع حقوق المخلوق لأهلها ورد حقوق الخالق لله سبحانه . ولا تقبل التوبة من الانسان بقوله استغفر الله . ان على الانسان التائب ان يرد كل ما اخذه من الناس من دون حق الى اصحابه واذا وجد حقوقا اخرى للناس في ذمته واستطاع ان يؤديها الى اصحابها او يطلب السماح منهم ، يجب ان لا يتوان في ذلك . وان يقضي كل الفرائض الالهية او يؤديها . واذا تعذر عليه انجاز ذلك ادى المقدار الميسور منه . وليعلم ان لكل هذه الحقوق اصحاب سيطالبونه بها في النشأة الاخرى بأشق الاحوال وليس له في ذلك العالم وسيلة لاداء هذه الحقوق ، الا ان يتحمل ذنوب الآخرين ، ويدفع اليهم اعماله الحسنة فيصير حينذاك عاجزا وشقيا ولا يملك طريقا للخلاص وملجأ للاستخلاص . ايها العزيز اياك ان تسمح للشيطان والنفس الامارة بالهيمنة عليك والوسوسة في قلبك فيصوران لك العملية جسيمة وشاقة ويصرفانك عن التوبة . اعلم بأن انجاز الشيء القليل من هذه الامور يكون افضل . ولا تيأس من رحمة الله ولطفه ، حتى وان كانت عليك صلاة كثيرة وصيام غير قليل ، وكفارات عديدة ، وحقوق الهية كثيرة ، وذنوب متراكمة ، وحقوق الناس لا تعد ، والخطايا لا تحصى .
لأن الحق المتعالي يسهّل عليك الطريق عندما تقوم بخطوات مستطاعة لديك في

(1) نهج البلاغة ـ قصار الحكم ـ الرقم 417 ـ (الشيخ صبحي الصالح) .
الاربعون حديثاً 263

اتجاهه ، ويهديك سبيل النجاة . واعلم بان اليأس من رحمه الحق من اعظم الذنوب ، ولا اظن ان هناك ذنب أسوأ وأشد تأثيرا في النفس من القنوط من رحمة الله . فان الظلام الدامس اذا غشي قلب الانسان اليائس من الرحمة الالهية ، لما امكن اصلاحه ، ولتحول الى طاغية ، لا يوجد سبيل للهيمنة عليه . فإياك ان تغفل من رحمة الحق عز وجل ، وإياك ان تستعظم الذنوب وتبعاتها . ان رحمة الحق سبحانه اعظم واوسع من كل شيء . نصف بيت شعر :
«ان عطاء الحق غير مشروط بقابليّة المعطى اليه» .
ماذا كنت في بدء الامر ؟ كنت في غياهب العدم ولا توجد فيك القابلية والاهليّة ، ولكن الحق جل وعلا ، قد وهبك نعمة الوجود وكمالاته وبسط مائدة النعم اللامحدودة ، والرحمة اللامتناهية ، وسخر لك كافة الموجودات ، من دون استحقاق واستعداد ومن دون سؤال ودعاء مسبق .
ثم انك في هذا اليوم لا يكون وضعك أسوأ ، من اليوم الذي كنت فيه عدما صرفا ، ولا شيخا بحتا . ان الله قد وعد بالرحمة والمغفرة . تقدم الى الامان خطوة واحدة ، باتجاه عتبة قدسه ، فانه سيأخذ بيدك مهما كلف الامر . انك ان لم تستطع ان تؤدي حقوقه ، فهو سيتنازل عنها . وان لم تستطع ان تدفع حقوق الناس ، فانه سيجبرها .
هل سمعت قصة الشاب الذي كان ينبش القبور في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؟
ايها العزيز ان طريق الحق سهل وبسيط ، ولكنه يحتاج الى انتباه يسير ، فيجب العمل ، لان التباطئ والتسويف ، ومضاعفة المعاصي في كل يوم ، تبعث على صعوبة الامر ، وأمّا الاقبال على العمل ، والعزم على اصلاح السلوك والنفس ، فيقرّب الطريق ويسهّل العمل .
جرّبه ، واعمل في الاتجاه المذكور ، فاذا حصلت على النتيجة تبين لك صحة الموضوع . وان لم تصل الى النتيجة المتوخاة فان طريق الفساد مفتوح ويد المذنب طويلة . وأما الامران الآخران ـ الخامس والسادس المذكوران في الرواية المنقولة عن نهج البلاغة المتقدمة ـ اللذان ذكرهما الامام امير المؤمنين عليه السلام ، فهما من شروط كمال التوبة ، والتوبة الكاملة ، لان التوبة لا تتحقق ولا تقبل من دونهما ، بل ان التوبة من دونهما ليست بكاملة .
اعلم ان لكل منزل من منازل السالكين مراتب ودرجات تختلف حسب اختلاف حالات قلوبهم . وان التائب اذا اراد البلوغ الى مرتبة الكمال ، فلا بد من تدراك ما تركه ، وتدارك الحظوظ ايضا ، يعني لا بد من تدارك الحظوظ النفسانية التي لحقت به ايام الآثام والمعاصي

الاربعون حديثاً 264

وذلك بالسعي لمحو كل الآثار الجسمية والروحية التي حصلت في مملكة جسمه ونفسه من جراء الذنوب حتى تعود النفس مصقولة كما كانت في بدء الامر ، وتعود الفطرة الى روحانيتها الاصيلة . وتحصل له الطهارة الكاملة .
لقد علمت بأن لكل معصية ومتعة انعكاس وأثر في الروح ، كما قد يحصل اثر من بعض الذنوب واللذائذ في الجسم ، فلا بد للتائب ان ينتفض ويستأصل تلك الآثار ويقوم بالرياضة البدنية والروحية حتى تزول منهما كل تبعات ومضاعفات الخطايا والآثام ، كما أمرنا الامام علي عليه الصلاة والسلام .
فعن طريق ممارسة الرياضة الجسمية من الامساك عن أكل المقويات والمنشطات والصيام المستحب او الواجب اذا كان في ذمته صيام واجب ، يذيب اللحوم التي نشأت على جسمه من الحرام والمعصية او ايام الخطايا والآثام .
وعن طريق الرياضة الروحية من العبادات والمناسك يتدارك الحظوظ الطبيعية ، لان صورة اللذات الطبيعية لا تزال مائلة في ذائقة النفس ، وما دامت عالقة بها ترغب اليها النفس ، ويعشقها القلب ويُخشى من لحظة طغيان النفس وتمرّدها على صاحبها ـ والعياذ بالله ـ . فلا بد على السالك لسبيل الآخرة والتائب عن المعاصي ان يُذيق الروح الم الرياضة الروحية ومشقّة العبادة . فاذا سهر ليلة في المعصية تداركها بليلة من العبادة . واذا عاش يوما واحدا من اللذائذ الطبيعية تداركه بالصوم والمستحبات المناسبة حتى تطهر النفس من كل آثار المعاصي وتبعاته التي هي عبارة عن تعلق حب الدنيا بالنفس ورسوخه فيها ، وتتطهر من كل ذلك .
نعم تكون التوبة في هذه الصورة اكمل ، ويعود النور الى فطرة النفس ، ويستمر في غضون اشتغاله بهذه الامور التفكر والتدبر في نتائج المعاصي وشدة بأس الحق المتعالي ، ودقة ميزان الاعمال وشدة عذاب عالم البرزخ والقيامة . وليعلم وليلقّن النفس والقلب ، بأن كل ذلك نتاج وصور هذه الاعمال القبيحة والمخالفة مع مالك الملوك . ونأمل بعد هذا العلم والتمعن ان تنفر النفس عن المعاصي ، وترتدع بشكل كامل ونهائي ، وينتهي بالتوبة الى النتيجة المطلوبة ، وتتم توبته وتكمل .
فهذان المقامان من المتممات والمكملات لمنزل التوبة . والانسان في بدء الامر عندما يريد ان يدخل مقام التوبة ويتوب الى الله لا يظن بأن المطلوب منه المرتبة الاخيرة من التوبة حتى يجد الطريق صعبا وعملية التوبة شاقة فينصرف عنها ويتركها .
ان كل مقدار يساعد عليه حال السالك ، في سلوكه لطريق الآخرة ، يكون مطلوبا ومرغوبا فيه ، وعندما تطأ قدماه الطريق ييسر الله تعالى له الطريق . فلا بد ان لا تحجز صعوبة الطريق ،

الاربعون حديثاً 265

الانسان عن الهدف الاصيل ، لانه مهم جدا وعظيم جدا . واذا انتبهنا الى جلال الهدف وعظمته ، تذلّلت جميع الصعاب من اجله . واي شيء اعظم من النجاة الابدية والروح والريحان الدائميان ؟ واي بلاء اعظم من الهلاك الدائمي والشقاء السرمدي ؟ ومع ترك التوبة والتسويف والتأجيل قد يبلغ الانسان الى الشقاء الابدي والعذاب الخالد والهلاك الدائم . وعند الورود على مقام التوبة قد يتحول الانسان الى سعيد مطلق ، ومحبوب للحق سبحانه . فاذا كان الهدف جليلا على هذا المستوى ، فلا بأس من المعاناة والآلام لايام يسيرة .
واعلم ان الدخول في مقام التوبة بالمقدار الممكن والميسور مهما كان قليلا فهو مجد وناجع . قارن امور الآخرة بالامور الدنيوية فان العقلاء اذا لم يستطيعوا ان يحققوا مبتغاهم الاعلى والارفع ،لم يتركوا الهدف الاقل ، واذا لم يستطيعوا من تحصيل الهدف الكامل المنشود فانهم لم يغضوا الطرف عن المطلوب الناقص .
وانت ايضا اذا لم تستطع ان تحقق التوبة الكاملة ، فلا تعدل عن التوبة ولا تعرض عنها وحاول ان تحققها بالمستوى المستطاع والممكن .

فصل
في نتيجة الاستغفار

من الامور الهامة التي لا بد للتائب ان يقدم عليها ، اللجوء الى مقام غفارية الله تعالى وتحصيل حالة الاستغفار ، والطلب من الحق جل جلاله ومن مقام غفارية ذاته المقدس بلسان مقاله وحاله وفي السر والعلن وفي الخلوات . الطلب منه بكل مذلة ومسكنة وتضرّع وبكاء بأن يستر عليه ذنوبه ومضاعفاته . نعم ان مقام الغفارية والستارية للذات المقدس يستدعي ستر العيوب وغفران تبعات الذنوب ، لان الصور الملكوتية للاعمال بمثابة وليد الانسان ، بل ألصق من ذلك . وان حقيقة التوبة وكلمات الاستغفار بمثابة اللعان ونفى الولد .
ان الحق تبارك وتعالى بسبب غفاريته وستّاريته يقطع الصلة بين وليد الانسان ـ الصور الملكوتية للاعمال المحرمة ـ والانسان ، بواسطة لعان المستغفر . ويحجب عن تلك المعصية كل الكائنات التي اطّلعت على احوال الانسان من الملائكة ، وكتّاب صحائف الجرائم ، والزمان والمكان واعضاء نفس الانسان وجوارحه ، وينسيهم جميعا تلك المعصية . كما اشير اليه في الحديث الشريف حيث يقول «يُنسى مَلكَيه ما كتبا عليه من الذنوب» ومن المحتمل ان يكون المقصود وحيه تعالى للاعضاء والجوارح وبقاع الارض ، بكتمان المعاصي الوارد في الحديث الشريف هو انساء المعاصي . كما يحتمل ان يكون المقصود من وحيه ، الامر بعدم الادلاء بالشهادة . ويمكن ان يكون المقصود رفع الآثار التي تركتها المعاصي على الاعضاء والتي بها تتم الشهادة التكوينية .

السابق السابق الفهرس التالي التالي