الاربعون حديثاً 236

الشريف الذي شرحناه عندما يقول : «وذلك ـ السبب في ابتلاء المؤمن بالبليات ـ ان الله لم يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن ولا عقوبة لكافر» هنا ـ عالم الدنيا ـ دار تكليف ، ومزرعة الآخرة ، وعالم الكسب . وهناك ـ عالم الآخرة ـ دار جزاء ومكافأة وثواب وعقاب .
ان الذين يتوقعون من الحق سبحانه ان ينتقم في هذا العالم من كل مرتكب معصية او فاحشة او جور او اعتداء ، بأن يضع ـ عز وجل ـ حدا له ، فيقطع يده ويقلع العاصي من الوجود انهم غافلون بأن مثل هذا العقاب خلاف النظم والسنة الالهية التي أقرّها الله سبحانه . ان هذه الدار ، دار امتحان وتفريق بين الشقي والسعيد والمطيع والعاصي ، وعالم ظهور الفعليات وليس بدار تبيّن نتائج الاعمال والملكات . واذا انتقم الحق المتعالي من ظالم نادرا ، لامكننا القول بأن عناية الحق عز وجل قد شملته . واذا ترك اهل الموبقات والظلم في ضلالهم وغيّهم ، كان ذلك استدراجا . كما يقول سبحانه :7«سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * واُملي لهم ان كيدي متين» (1) .
ويقول :
«ولا يحسبن الذين كفروا أنما نُملي لهم خير لانفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين» (2) .
وفي مجمع البيان عن الامام الصادق عليه السلام : انه قال : «اذا احدث العبد ذنبا جُدد له نعمة فيَدَع الاستغفار فهو الاستدراج» (3) .

فصل
ان شدة المعاناة الروحية توازي شدة الادراك

يظهر من نهاية الحديث الشريف ـ المذكور في بداية الموضوع ـ «ومن سخف دينه وضعف عقله ، قل بلاؤه» ان البلية تعم الجسمانية والروحانية ، فان الاشخاص الضعاف في عقولهم وادراكهم في امان من المعاناة الروحية والانزعاجات العقلية ، على خلاف من يتمتع بالعقل الكامل والادراك الحذق ، حيث تزداد معاناته ومصائبه . ومن المحتمل ان يعود الى هذا المعنى كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القائل : «ما اوذي نبي مثل ما اوذيت» (4) لأن كل من يدرك جلال الرب وعظمته اكثر ، ويقف على المقام المقدس للحق جل وعلا بشكل اعمق ،

(1) سورة القلم ، آيات : 54 ـ 55 .
(2) سورة آل عمران ، آية : 178 .
(3) مجمع البيان ، المجلد الخامس ، ص 340 .
(4) الجامع الصغير ، المجلد الثاني ، ص 144 .
الاربعون حديثاً 237

يتألم ويتعذب من جراء عصيان العباد وهتكهم للحرمة اكثر . وايضا كل من كانت رحمته وعنايته وشفقته على عباد الله اكثر ، تاذى من اعوجاج العباد وشقائهم اكثر .
وقطعا كان خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم في كل هذه المقامات والمنازل الكمالية ، اكمل من جميع النبيين والاولياء وبني الانسان فتكون محنه وآلامه اعمق .
وايضا هناك توجيه آخر ـ لكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا يتناسب مع هذا المقام . والله العالم وله الحمد .

الاربعون حديثاً 238




الاربعون حديثاً 239

الحديث السادس عشر

الصبر


الاربعون حديثاً 240

بأسانيدنا المتصلة الى ثقة الاسلام والمسلمين ، فخر الطائفة الحقة ومقَدّمهم محمد بن يعقوب الكليني ـ رضي الله عنه ـ عن عدة من اصحابنا ، عن احمد بن محمد بن خالد ، عن ابيه ، عن علي بن النعمان ، عنه عبد الله بن مسكان ، عن ابي بصير قال : «سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول : ان الحر حر على جميع احواله ، ان نابته نائبة صبر لها ، وان تداكّت عليه المصائب لم تكسره ، وان اسر وقهر ، واستبدل باليسر عسرا ، كما كان يوسف الصدّيق الامين لم يضرر حريته ان استُعبد وقَهُر ، واُسِرَ ولم تضرره ظلمة الجب ووحشته وما ناله ان منّ الله عليه فجعل الجبار العاتي له عبدا بعد اذ كان [له] مالكا ، فارسله ورَحِم به امة وكذلك الصبر يعقِّب خيرا فاصبروا ووطّنوا انفسكم على الصبر تؤجَروا» (1) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الصبر ، ح 6 .
الاربعون حديثاً 241

الشرح :


الـ «نائبة» مفرد وجمعها نوائب وهي الحوادث والكوارث النازلة . وفي الصحاح انها المصيبة . و «دكّ» بمعنى دقّ . وفي الصحاح : (وقد دككت الشيء ادكّه دكا اذا ضربته وكسرته حتى سويته بالارض . انتهى) . وتداكّت عليه اي تداقت واستعملت ايضا بمعنى الاجتماع والازدحام . كما نقل عن كتاب «النهاية» حديثا عن الامام امير المؤمنين عليه السلام «ثم تداككتم علي تداكك الابل الهيم على حياضها» (1) اي ازدحمتم . ونقل عن النهاية ايضا ان اصل دك بمعنى الكسر وان استعماله في هذا الحديث بالمعنى الاول ـ الاجتماع ـ انسب لمكان «لم تكسره» وان كان المعنى الثاني ـ الكسر ـ ايضا مناسبا . وكلمة (إن) في «وإن اُسر» وصلية وقوله «وقَهر واستَبدل» معطوفان على «اُسر» . وقال المجلسي رحمه الله ان في بعض النسخ «واستبدل بالعسر يسرا» ـ بتقديم العسر على اليسر ـ وعليه تكون جملة (واستبدل) معطوفة على «لَم تَكسره» فيتبين بذلك منتهى الصبر .
وجملة «أن استُعبِد» مبني على المفعول وفاعل لقوله «لم يضرر» . وفي نسخة مرآة العقول «استبعد» بتقديم الباء على العين المهملة . وفي كتاب وسائل الشيعة «استعبد» بتقديم العين على الباء ، ولكن المظنون ان نسخة مرآة العقول من سهو الكاتب وان كان معناه ـ استبعد ـ لا يخلو عن الصحة . ولكن المناسب مع المقام ومع الحديث الشريف هو ما ورد في نسخة وسائل الشيعة .
وقوله «وما نالَه» معطوف على ظلمة الجب اي لم يضرره ما ناله من اخوته ومن ظلمة الجب والوحشة والبليات .
وقوله «ان منّ الله» الاظهر انه بتقدير الى ـ حرف الجر ـ ومتعلق بـ «لم تضرر» (فالظرف

(1) نهاية ابن الاثير ، المجلد الثاني ، ص 128 .
الاربعون حديثاً 242

متعلق بلم يُضرر في الموضعين ـ ما ناله وان استعبد ـ على سبيل التنازع) (1) .
واورد المرحوم المجلسي احتمالات كثيرة في ذلك ـ ان منّ الله ولم تُضرر ـ لا يخلو ذكرها عن التطويل (2) . والمقصود من قوله «عبدا بعد اذ كان مالكا» انه أطاعه .

فصل
في بيان ان اسر الشهوة مصدر لكل اسر

اعلم ان الانسان اذا اصبح مقهورا لهيمنة الشهوة والميول النفسية ، كان رقُّه وعبوديته وذلته بقدر مقهوريته لتلك السلطات الحاكمة عليه ، ومعنى العبودية لشخص هوالخضوع التام له واطاعته . والانسان المطيع للشهوات المقهور للنفس الأمارة يكون عبدا منقادا لها . وكلما توحي هذه السلطات بشيء أطاعها الانسان في منتهى الخضوع ، ويغدو عبدا خاضعا ومطيعا امام تلك القوى الحاكمة ، ويبلغ الامر الى مستوى يفضل طاعتها على طاعة خالق السماوات والارض ، وعبوديتها على عبودية مالك الملوك الحقيقي ، وفي هذا الحال تزول عن نفسه العزة والكرامة والحرية ويحل محلها الذل والهوان والعبودية ، ويخضع لأهل الدنيا ، وينحني قلبه امامهم وامام ذوي الجاه والحشمة ، ولأجل البلوغ الى شهواته النفسية يتحمل الذل والمنة ، ولأجل الترفيه عن البطن والفرج يستسيغ الهوان ، ولا يتضايق من اقتراف ما فيه خلاف الشرف والفتوة والحرية عندما يكون اسيرا لهوى النفس والشهوة . وينقلب الى اداة طيّعة امام كل صالح وطالح ، ويقبل امتنان كل وضيع عنده لمجرد احتمال نيل ما يبتغيه حتى اذا كان ذلك الشخص احط واتفه انسان ، وذلك الاحتمال موهوما ، حيث يزعمون ان الوهم في دائرة الاطماع حجة .
ان عبيد الدنيا وعبيد الرغبات الذاتيه ، والذين وضعوا رسن عبودية الميول النفسية في رقابهم ، يعبدون كل من يعلمون ان لديه الدنيا او يحتملون انه من ذوي الدنيا ، ويخضعون له ، واذا تحدثوا عن التعفف وكبر النفس كان حديثهم تدليسا محضا ، وان اعمالهم واقوالهم تكذّب حديثهم عن عفة النفس ومناعتها .
وهذا الاسر والرق من الامور التي تجعل الانسان دائما في المذلّة والعذاب والنَصَب . ويجب على الانسان ذي النبل والكرامة ان يلتجأ الى كل وسيلة لتطهير نفسه منها . ويتم التطهير من هذه القذارات ، والتحرير من كل خفة وهوان ، بمعالجة النفس ، وهي لا تكون الا بواسطة العلم والعمل الناجع .

(1) و (2) بحار الانوار ، المجلد 71 ص 70 .
الاربعون حديثاً 243

أما العمل فيكون بالرياضة الشرعية وبمخالفة النفس فترة يتم فيها الوازع للنفس تجاه حبها المفرط للدنيا والشهوات والاهواء حتى تتعوّد النفس على الخيرات والكمالات .
واما العلم فيتم بتلقين النفس وابلاغ القلب : بأن الناس الآخرين يضاهونه في الفقر والضعف والحاجة والعجز ، وانهم يشبهونه ايضا في الاحتياج الى الغني المطلق القادر على جميع الامور الجزئية والكلية ، وانهم غير قادرين على انجاز حاجة احد ابدا ، وانهم اتفه من ان تنعطف النفس اليهم ، ويخشع القلب امامهم ، وان القادر الذي منحهم العزة والشرف والمال والوجاهة ، قادر على المنح لكل احد .
ومن العار حقيقة على الانسان ان يتذلل وينحط في سبيل بطنه وشهوته ، ويتحمل الامتنان من مخلوق فقير ذليل لا حول له ولا علم ولا وعي .
اذا اردت ـ ايها الانسان ـ ان تقبل المنة فلتكن من الغني المطلق وخالق السماوات والارض ، فانك اذا وجهت وجهك الى الذات المقدسة ، وخشع في محضره قلبك تحررت من العالَمين ـ ما سوى الله ـ وخلعت من رقبتك طوق العبودية . «العبودية جوهرة كُنهها الربوبية» (1) .
ونتيجة لعبودية الحق والانتباه الى نقطة واحدة مركزية ، وافناء كل القوى والسلطات ـ النفس واهوائها ـ في السلطة الالهية المطلقة ، تنجم حالة في القلب تقهر العوالم الاخرى وتستولي عليها ، وتظهر للروح حالة من الشموخ والعظمة تأبى الطاعة الا امام الرب سبحانه وامام من تكون طاعتهم طاعة ذات الحق المقدس ، واذا كان من جراء الظروف الطارئة محكوما لأحد ، لما تزلزل قلبه منه ولحافظ على حرية نفسه واستقلالها ، كما كان الشأن في النبي يوسف ولقمان حيث لم تنعكس سلبا عبوديتهما الظاهرية على حرية وانطلاقة نفسيهما .
كم من اصحاب القدرة والسلطة الظاهرية لم يستنشقوا نسمة حرية النفس الشخصية والاعتداد بها ويكونون اذلاء وعبيد للنفس واهوائها ، ويتزلفون نحو المخلوق التافه ؟ .
نقل عن الامام علي بن الحسين عليهما السلام انه قال في حديث «اني لآنف ان اطلب الدنيا من خالقها فكيف من مخلوق مثلي» (2) .
ايها العزيز ان لم تشعر بالنقص في طلب الدنيا ، فعلى الاقل لا تطلبها من انسان ضعيف مثلك . وافهم بانه لا حول للمخلوق في اعمال دنياك . فلو فرضنا بأنك استطعت مع الذل والامتنان المتكرر ان تكسب رأيه ـ الانسان الذي تطلب منه اعمار دنياك ـ ولكن ارادته لا تكون فاعلة في مُلك الحق سبحانه . اذ لا يوجد احد يتصرف في مملكة مالك الملوك . فلا تتملق

(1) مصباح الشريعة ، الباب المائة ، في حقيقة العبودية .
(2) علل الشرائع ، المجلد الاول ، باب 165 ، العلة التي من اجلها سمّي علي بن الحسين زين العابدين .
الاربعون حديثاً 244

لتأمين حياتك الدنيوية المعدودة ، وشهواتك المحدودة ، تجاه مخلوق معدم . ولا تغفل عن إلهك ، وحافظ على حريتك ، وارفع اغلال العبودية والاسر عن رقبتك ، وكن حرا في جميع حالاتك كما ورد في الحديث الشريف «ان الحر حر على جميع احواله» .
واعلم ان الغنى ـ غنى النفس ـ وان عدم الحاجة من حالات الروح ، وغير مرتبطة بأمور خارجة عن الانسان . وانني رأيت اناسا من اهل الثراء والمال والجاه يتفوهون بكلمات يندى لها الجبين ولا يقولها المستجدي المتهتك . انه المسكين الذي ضُربت على روحه الذلة والمسكنة .
ان شعب اليهود بالنسبة الى عددهم يعدون من اغنى الشعوب القاطنين على ظهر الارض كافة ولكنهم يعيشون طيلة حياتهم في الشقاء والتعاسة والشدة والهوان ، وتبدو على ملامحهم الحاجة والفقر والذل والمسكنة ، ولا يكون ذلك الا من وراء الفقر النفسي والذل الروحي . ورأينا في اصحاب الزهد وذوي الحياة البسيطة ـ الدراوشة ـ اشخاصا قلوبهم مفعمة بالغنى والكفاف ، ويلقون نظرة اللامبالاة على الدنيا وكل ما فيها ، ولا يجدون احدا اهلا للاستنجاد به الا الحق المقدس المتعالي . وانت ايضا تمعّن وابحث في احوال اهل الدنيا وذوي الرغبة في الرئاسة ، كي ترى ذلهم وتزلفهم للناس وخضوعهم امامهم اكثر من الآخرين . ان ادعياء الارشاد والتوجيه ، يتحملون الذل تلو الذل ويبدون الخضوع إثر الخضوع في سبيل ترفيه بطونهم وفروجهم . ان خضوع الحالة القلبية للمراد ـ المربّي ـ الطالب للدنيا ، تجاه المُريد ـ المربّي ـ اكثر من خضوع قلب المُريد تجاه المُراد ، رغم البون الشاسع بين نوعية الارادتين . فان ارادة المريد روحانية والهية حتى اذا كان على خطا واشتباه ـ من جهة متعلق الارادة ـ في حين ان ارادة المراد دنيوية وشيطانية . ان ما ذكرناه بأسره ، هو الذل الدنيوي والمفاسد الدنيوية . فاذا ارتفعت الحجب تتجلى الصورة الملكوتية للأسر في اغلال الشهوات ، وسلاسل الرغبات النفسانية وانها كيف تكون ؟ .
ولعل هذه السلسلة التي طولها سبعون ذراعا والتي اخبر عنها الله تعالى والتي تكون اصفادا واغلالا لنا في يوم الآخرة هي الصورة الملكوتية لهذا الاسر والرق في ظل اوامر القوة الشهوية والغضبية . يقول الله تعالى «ووجـدوا ما عمِلـوا حاضـرا» (1) ويقول «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» (2) .
فما يصل الينا في ذلك العالم هو صور اعمالنا . فمزق سلاسل الشهوة والاهواء المتعرجة

(1) سورة الكهف ، آية : 49 .
(2) سورة البقرة ، آية : 286 .
الاربعون حديثاً 245

بعضها على بعض ، وحطم اصفاد القلب ، وأخرج من قيود الاسر ، وكن حرا في هذا العالم ، حتى تكون حرا في ذلك العالم . ولولا ذلك لوجدت الصورة الملكوتية لهذا الأسر حاضرة في ذلك العالم ، واعلم بانها مؤلمة جدا .
ان اولياء الله رغم تحررهم التام من الاسر والرق ، وبلوغم الحرية المطلقة فان قلوبهم كانت مضطربة وكانوا يجزعون وينحبون بدرجة تثير دهشة العقول .
فصل

ان ابحاث هذه الاوراق وان كانت من الامور الرائجة الشائعة ومن المكررات ، ولكن لا بأس في ذلك فان تذكير النفس وتكرار قول الحق ، امر مطلوب . ولهذا يستحب تكرار الاذكار والاوراد والعبادات والمناسك . والسبب الرئيسي هو تعويد النفس وترويضها . فلا تضجر يا عزيزي من التكرار . واعلم انه ما دام الانسان يرزح في قيود النفس والشهوات ، وما دامت سلاسل الشهوة والغضب الطويلة على رقبته لا يستطيع ان يبلغ المقامات المعنوية والروحانية ، ولا تظهر فيه السلطة الباطنية للنفس وارادتها الثاقبة ، ولا يحصل له مقام استقلال النفس وعزتها ، الذي هو أرقى مقام لكمال الروح ، بل ان هذا الاسر والرق يقيّده ولا يسمح له بالتمرد على النفس في جميع الاحوال . ولما قويت هيمنة النفس الامارة والشيطان في الباطن ، وانقادت القوى جميعها لهما في العبودية والطاعة وأبدت لهما الخضوع والتسليم التأمين ، لما اقتصرتا على المعاصي بل دفعتا بالانسان من المعاصي الصغيرة رويدا رويدا الى المعاصي الكبيرة ، ومنها الى ضعف في العقائد ثم الى الافكار المظلمة ثم الى الطريق المغلق للجحود ثم الى بغض وعداوة الانبياء والاولياء . وحيث ان النفس مضطهدة وتعيش حالة الرق ، لا تستطيع ان تخرج على رغباتها . وعليه تكون عاقبة امر الطاعة والتقيّد ـ للنفس الامارة ـ وخيمة جدا ، وستدفع بالانسان الى اماكن خطيرة ومخيفة .
ان الانسان العاقل الرؤوف بنفسه لا بد له من السعي واللجوء الى كل سبيل لانقاذ نفسه من الاسر ، والنهوض امام النفس الامارة والشيطان الباطني ، ما دامت الفرصة سانحة ، وقواه الجسدية سالمة وما دام انه على قيد الحياة وفي صحة موفورة وفتوّة موجودة ، وان قواه لم تتسخر كليا ، ثم يراقب حياته فترة من الوقت ، ويتأمل في احوال نفسه واحوال الماضين ، ويتمعن في سوء عاقبة بعضهم . ويُفهم نفسه ان هذه الايام القليلة ، تبلى ، ويوقظ قلبه ويفهمه الحقيقة التالية المنقولة عن الرسول الاكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حيث خاطبنا قائلا : «الدنيا مزرعة الآخرة» (1) فلو اننا لم نزرع في هذه الايام المعدودة ، ولم نعمل عملا صالحا ، لفاتتنا

(1) إحياء العلوم للغزالي ، المجلد الرابع ، ص 14 . كنوز الحقائق (المطبوع على هامش كتاب الجامع الصغير) ج 1 ص 133 .
الاربعون حديثاً 246

الفرصة ، واذا غشينا الموت ، وحل العالم الآخر ، لانقطعت اعمالنا جميعا وذهبت آمالنا نهائيا . واذا جاء ملك الموت ونحن لا نزال عبيد الشهوات واسارى قيود اهواء النفس المتشعبة ـ والعياذ بالله ـ لكان من الممكن للشيطان ان يسرق ايماننا الذي هو غايته القصوى وان يحتال ويتراءى امام قلبنا بصورة نخرج من الدنيا ونحن اعداء الحق المتعالي والانبياء والاولياء . والله سبحانه يعرف ماذا وراء هذا الحجاب من الشقاوات والظلمات والوحشة ؟ .
فيا ايتها النفس الدنيئة ويا ايها القلب الساهي استيقظا وانهضا امام هذا العدو الذي ألجمكما منذ سنين وربطكما بإغلال الأسر وقادكما الى كل جهة حيث يريد ، ودفع بكما الى كل عمل قبيح وسلوك بشع واجبركما عليه . وحطّما هذه القيود ، وكسّرا هذه السلاسل ، وكن ايها الانسان حرا ، وادفع عن نفسك الذل والهوان ، وضع في رقبتك طوق العبودية للحق ـ جل جلاله ـ حتى تتحرر من كل عبودية وترقى الى السلطة الالهية في العالمين .
ايها العزيز على الرغم من ان هذا العالم ليس بدار الجزاء والمكافاة وليس بمحل لظهور سلطة الحق المتعالي ، وإنما هو سجن المؤمن ، فلو تحررت من أسر النفس ، واصبحت عبدا للحق المتعالي ، وجعلت القلب موحدا ، واجليت مرآة روحك من غبار النفاق والاثنينيّة ، وارسلت قلبك الى النقطة المركزية للكمال المطلق ، لشاهدت بعينك آثار ذلك في هذا العالم ، ولتوسع قلبك بقدر يغدو محلا لظهور السلطنة التامة الالهية حيث تصير مساحتها اوسع من جميع العوالم «لا يسعني ارضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن» (1) ولشعرت غنى واضحا في النفس ، حيث لم تعبأ بكل العوالم الغيبية والمادية ، ولأصبحت ارادتك قوية ، حيث لم تفكر في عالمي المُلك والملكوت ، ولم تجد لهما اللياقة لاحتضانك . بيت شعر :
هل رايت تحليق الطير ؟ .
انسلخ من اغلال الشهوة حتى ترى تحليق الانسان ! .

فصل
معنى الصبر وانه نتيجة التحرر من قيود النفس

من النتائج الكبيرة والثمار العظيمة لتحرر الانسان من عبودية النفس ، الصبر في البلايا والنوائب . وعلينا ان نشرح معنى الصبر بصورة مختصرة مع ذكر اقسامه ونتائجه ، وارتباطه بالتحرر من اسر النفس .
قال محقق الطائفة الحقة ومدقق الفرقة المحقة ، الكامل في العلم والعمل نصير الدين

(1) غوالي اللئالي ، المجلد الرابع ، ص 7 .
الاربعون حديثاً 247

الطوسي ـ قدس الله نفسه القدوسية ـ في تعريف الصبر : انه كف النفس عن الجزع عند حلول مكروه . وقال العارف المحقق المشهور في كتاب «منازل السائرين» انه : امتناع النفس عن الشكوى على الجزع المستور . (انتهى) .
واعلم ان الصبر يعتبر من مقامات المتوسطين ، لان النفس ما دامت تكره المصائب والبليات ، وتجزع منها ، يكون مقام معرفته ناقصا . كما ان مقام الرضا بالقضاء ، والابتهاج من اقبال المصائب عليه ، مقام ارقى من مقام الصبر ، رغم كون مقام الرضا من مقامات المتوسطين ايضا . وهكذا يكون الصبر على المعصية والطاعة ، من جراء نقص المعرفة بأسرار العبادة وصور المعاصي والطاعات . فان الانسان اذا ادرك حقيقة العبادة وآمن بصورها البهيّة البرزخية ، وكذلك آمن بالصور البرزخية الموحشة للمعاصي لما كان للصبر على الطاعة او المعصية وقع . بل الامر يغدو معكوسا . فانه اذا واجه ابتهاجا وراحة او افضى به الامر الى ترك عبادة او فعل معصية ، لأصبحت هذه الامور مكروهة عنده وكان جزعه الباطني ـ النفسي ـ اكثر من جزع ذوي الصبر في البليات والمصائب .
نقل عن العبد الصالح ، العارف بوظائف العبودية وصاحب المقامات والكرامات علي بن طاووس ـ قدس الله نفسه ـ انه كان يحتفل في كل عام يوم ذكرى بلوغه للتكليف الشرعي ، ويتخذه عيدا وينثر الهدايا على الاصدقاء والاهل ، وذلك لِما شرّفه الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم بالاذن في فعل العبادات والطاعات .
هل ان فعل الطاعات يعدّ لهذا الروحاني من الصبر على المكروهات الكامنة في اعماق الانسان ؟ أين نحن وأين هؤلاء العباد المنقادون للحق تبارك وتعالى ؟ نحن نحسب بأن الحق تبارك وتعالى قد كلفنا وشدد علينا ، ونعتبر الاحكام الشرعية كلفة وازعاجا . واذا بذل احدنا الجهد في اول الوقت لأداء الفريضة ، لقال انه المفروض عليّ ، ويجب في أقرب وقت ان ارتاح منه ! كل هذه التعاسة من جهلنا وقلة علمنا ونقص او فقدان ايماننا .
وعلى اي حال فالحقيقة ان الصبر هو الامتناع عن الشكوى على الجزع الكامن . وما ورد في ائمة الهدى او الانبياء العظام من نعتهم بالصبر ، فمن المحتمل انه من الصبر على الآلام الجسدية التي تسبب الانفعال والتأثر ـ حسب طبيعة الانسان ـ او من الصبر على فراق الأحبة وهو حينئذ من المقامات الكبيرة للمحبين فيصح الحديث عنه في تراجم حياتهم . واما الصبر على الطاعات او المعاصي او النوائب عدا ما ذكرنا ـ الآلام الجسمية ـ فلا معنى لها في حقهم ولا في حق شيعتهم .
يقول العارف المعروف كمال الدين عبد الرزاق الكاشاني في كتابه شرح المنازل : ان هدف خواجة الانصاري من قوله ان الصبر كف النفس عن الشكوى . هو الشكوى الى المخلوق

الاربعون حديثاً 248

واما الشكوى عند الحق المتعالي واظهار الجزع والفزع امام قدسيته فلا تتنافى مع الصبر . كما اشتكى النبي ايوب عند الحق سبحانه قائلا : «أني مسني الشيطان بنصب وعذاب» (1) رغم ان الله تعالى اثنى عليه بقوله «انا وجدناه صابرا نعم العبد انه اوّاب» (2) . وقال النبي يعقوب «انما اشكوا بثّي وحزني الى الله» (3) مع انه كان من الصابرين . بل ان ترك الشكوى الى الحق المتعالي اظهار للجلادة وللدعوى (انتهى) .
ويبدو من تراجم حياة الانبياء العظام والائمة المعصومين ـ صلوات الله عليهم اجمعين ـ رغم ان مقاماتهم كانت ارفع من مقام الصبر ومقام الرضا والتسليم ، انهم لم يمتنعوا من الدعاء والتضرع والعجز امام المعبود ، وكانوا يسألون حاجاتهم من الحق سبحانه . وهذا لا يكون مغايرا للمقامات الروحية ، بل ان تذكر الحق جل وعلا والخلوة والمناجاة مع المحبوب واظهار العبودية والذل امام عظمة الكامل المطلق ، غاية آمال العارفين وثمرة سلوك السالكين .

فصل
في نتائج الصبر

اعلم ان للصبر نتائج كثيرة التي منها ترويض النفس وتربيتها : اذا صبر الانسان حينا من الوقت على المفاجئات المزعجة ونوائب الدهر ، وعلى مشاق العبادات والمناسك وعلى مرارة ترك الملذات النفسية امتثالا لأوامر ولي النعم ، وتَحمّل الصعاب مهما كانت شديدة ومؤلمة ، تروضت النفس شيئا فشيئا ، واعتادت وتخلت عن طغيانها ، وتذللت صعوبة تحمل المشاق ، عليها ، وحصلت للنفس ملكة راسخة نورية ، بها يتجاوز الانسان مقام الصبر ليبلغ المقامات الاخرى الشامخة . بل ان الصبر على المعصية يبعث على تقوى النفس ، والصبر على الطاعة يسبب الاستيناس بالحق عز وجل ، والصبر على البلايا يوجب الرضا بالقضاء الالهي ، وكل ذلك من المقامات الشامخة لأهل الايمان، بل لأهل العرفان . وقد ورد في الاحاديث الشريفة عن اهل بيت العصمة ثناء بليغ على الصبر . كما في الكافي الشريف عن الامام الصادق عليه السلام :
قال : «الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد فاذا ذهب الرأس ، ذهب الجسد ، وكذلك اذا ذهب الصبر ، ذهب الايمان» (4) .

(1) سورة ص ، آية : 41 .
(2) سورة ص ، آية : 44 .
(3) سورة يوسف ، آية : 86 .
(4) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الصبر ، ح 2 .
الاربعون حديثاً 249

وفي حديث آخر عن الامام السجاد علي بن الحسين عليهما السلام : قال : «الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا ايمان لمن لا صبر له» (1) .
والاحاديث كثيرة في هذا الباب . ونحن سنأتي على ذكر بعضها عند توفر المناسبة .
ان الصبر مفتاح ابواب السعادات ، وباعث للنجاة من المهالك بل الصبر يهوّن المصائب ، ويخفف الصعاب ، ويقوي العزم والارادة ، ويبعث على استقلالية مملكة الروح . واما الفزع والجزع فمضافا على انه عيب ، وكاشف عن الضعف في النفس ، يجعل الانسان مضطربا ، والارادة ضعيفة والعقل موهونا .
يقول المحقق الخبير الخواجة نصير الدين الطوسي :
«وهو ـ اي الصبر ـ يمنع الباطن عن الاضطراب ، واللسان عن الشكاية ، والاعضاء عن الحركات الغير المعتادة» .
وعلى العكس فان الانسان غير الصابر ، قلبه مضطرب ، وباطنه موحش ونفسه قلقة ومهزوزة . وهذا بنفسه بليّة فوق جميع البلايا ، ومصيبة من اعظم المصائب التي تحل بالانسان ، وتسلب منه الراحة والقرار . واما بالصبر فتخف الرزية ، ويتغلب القلب على النوائب والبلايا ، وتنتصر ارادة الانسان على المصائب . ولذا نجد الانسان غير الصابر ، يشكو عند من هو اهل للشكاية ، ومن هو ليس بأهل للشكاية ، وهذا الامر زائدا على انه يؤدي الى الفضيحة لدى الناس . والاشتهار بالضعف بينهم وعدم الجلادة ، فانه يسقطه من اعين الناس ويحط من كرامته لدى ملائكة الله ، وامام جلال القدس الربوبي .
ان العبد الذي لا يتحمل مصيبة واحدة نازلة عليه من الحق المتعالي والحبيب المطلق والذي اذ واجه بلية واحدة رفع صوته بالشكوى من ولي نعمه امام المخلوق ، رغم نزول البركات عليه وتلقّيه آلاف آلاف النعم ، مثل هذا العبد اي ايمان له ؟ واي تسليم له امام المقام القدسي للحق ؟ فيصح ان يقال : من لا صبر له لا ايمان له . لو كنت مؤمنا بالحضرة الربوبية ، ورايت بأن مجاري الامور بيد قدرته الكاملة ، ولا يكون لأحد يد في الحوادث والامور ، لما اشتكيت من حوادث الايام والبليات امام غير الحق تعالى ، بل لاستقبلتها بكل حفاوة وتكريم وشكرت نعم الحق سبحانه .
فكل الاضطرابات النفسية والشكاوى اللسانية والحركات الغير اللائقة والغير المعتادة للاعضاء ، تشهد باننا لسنا من ذوي الايمان ، فما دامت النعمة موفورة ، شكرنا ربنا شكرا ظاهريا لا لبّ له ، بل يكون لأجل طمع الزيادة ، وحينما تواجهنا مصيبة واحدة او يحل بنا ألم

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الصبر ، ح 4 .
الاربعون حديثاً 250

ومرض ، اشتكينا من الحق المتعالي لدى الناس وغمزنا فيه ، واعترضنا عليه ، وابدينا الشكوى امام كل من هو اهل ومن هو ليس بأهل وتتحول الشكاوى والجزع والفزع في النفس الى بذور البغض تجاه الحق والقضاء الالهي ، ثم ينمو شيئا فشيئا ويشتد حتى يتحول الى ملكة ، بل ـ لا سمح الله ـ تتحول الصورة الداخلية للذات صورة البغض لقضاء الحق ، والعداء للذات المقدس . وحين ذلك يفلت الزمام من اليد ، ويزول الاختيار عن الانسان ، ولا يستطيع ان يفعل شيئا لتحسين الوضع وضبط الأوهام ، ويتلون الظاهر والباطن بلون العداء للحق سبحانه وتعالى ، وينتقل من هذا العالم وهو قطعة من البغض والعداء لمالك النعم ، فيبتلي بالشقاء الابدي والظلام الدائم . واعوذ بالله من سوء العاقبة والايمان المستعار المستودع . فيكون كلام المعصوم عليه السلام صحيحا حيث يقول : عندما يذهب الصبر يذهب الايمان .
فيا ايها العزيز ان الموضوع خطير ، والطريق محفوف بالمخاطر ، فابذل من كل وجودك الجهد واجعل الصبر والثبات من طبيعتك ، امام حوادث الايام وانهض امام النكبات والرزايا ، ولقّن النفس بأن الجزع والفزع مضافا الى انه عيب فادح ، لا جدوى من ورائه للقضاء على المصائب والبليات ، ولا فائدة من الشكوى على القضاء الالهي وعلى ارادة الحق عز وجل امام المخلوق الضعيف الذي لا حول له ولا قوة .
كما اشير الى ذلك في الحديث الشريف المنقول في الكافي :
«محمد بن يعقوب باسناده عن سماعة بن مهران ، عن ابي الحسن ـ عليه السلام ـ قال : قال لي : ما حبسك عن الحج ؟ قال : قلت : جُعلت فداك ، وقع عليّ دَين كثير وذهب مالي ، ودَيني الذي قد لزمني هواعظم من ذهاب مالي ، فلولا ان رجلا من اصحابنا اخرجني ما قدرت ان اخرج ، فقال لي : ان تصبر تُغتبط وإلاّ تصبر يُنفذ الله مقاديره راضيا كنت ام كارها»(1) .
فاعلم بأن الجزع والفزع لا يجديان ، بل لهما اضرار مخيفة ومهالك تنسف الايمان . واما الصبر والجلادة فلهما الثواب الجزيل والأجر الجميل والصورة البهيّة البرزخية الشريفة كما ورد في ذيل الحديث الشريف الذي نحن بصدد شرحه حيث يقول : «وكذلك الصبر يُعقّب خيرا فاصبروا ووطّنوا انفسكم على الصبر تؤجَروا» . فعاقبة الصبر الى خير في هذه الدنيا كما يستفاد من التمثيل بالنبي يوسف عليه السلام ـ في الحديث المذكور ـ ويبعث على الاجر والثواب في يوم الآخرة .
وفي الحديث الشريف المنقول في الكافي بسنده الى ابن حمزة الثمالي ـ رحمه الله ـ

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الصبر ، ح 10 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي