الاربعون حديثاً 221

دون ان يُعِد الاسباب ، ومَثل الفلاّح الذي ينتظر الزرع من دون ان يبذر الارض او يهتم بها وبإروائها او يقضي على موانع الزرع . ان مثل هذا الانتظار لا يسمى بالرجاء ، بل هو بله وحماقة . وان مَثل من لم يُصلح اخلاقه او لم يبتعد عن المعاصي فينهض باعمال راجيا تزكية نفسه ، مَثل من يودع البذر في اراضي سبخة ، ومن الواضح ان هذا الزرع لا يثمر النتيجة المتوخاة .
فالرجاء المستحسن والمحبوب هو تهيأة كافة الاسباب التي يمتلكها الانسان كما امر الله بها واستغلالها حسب القدرة التي زوده بها الحق المتعال بعنايته الكاملة ، وحسب هدايته ـ عز وجل ـ اياه الى طرق الصلاح والفساد ، ثم ينتظر ويرجو الحق المتعال ان يتم عنايته السابقة تجاه الاسباب التي وفّرها من قبل ، ويحقق الاسباب التي لا تدخل تحت ارادته واختياره من بعد ، ويزيل الموانع والمفاسد .
فاذا نظف العبد ارض قلبه من اشواك الاخلاق الفاسدة واحجار الموبقات وسباختها ، وبذر فيها بذور الاعمال ، وسقاها بماء العلم الصافي النافع والايمان الخالص ، وخلصها من المفسدات والموانع مثل العجب والرياء وامثالها التي تعد بمثابة الاعشاب الضارة العائقة لنمو الزرع ، ثم انتظر ربه المتعالى ورجاه ان يثبّته على الحق ، ويجعل عاقبة امره الى خير ، كان هذا الرجاء مستحسنا . كما يقول الحق المتعالي :
«ان الذين آمنوا والذين هاجروا في سبيل الله اولئك يرجون رحمة الله»(1) .

فصل
في سبب تعادل الخوف والرجاء

ورد في نهاية هذا الحديث الشريف ـ الحديث الرابع عشر ـ انه لا بد من تعادل الخوف والرجاء وعدم تفوق احدهما على الآخر ، كما ورد هذا المضمون في مرسلة ابن ابي عمير عن الامام الصادق عليه السلام ايضا .
ان الانسان عندما يدرك منتهى قصوره في النهوض بالعبودية ، ويرى صعوبة وضيق طريق الآخرة ، يتولد فيه الخوف بأعلى درجة ، وعندما يجد ذنوبه ويفكر في أناس كانت عاقبة امرهم الموت من دون ايمان وعمل صالح ، رغم حسن احوالهم في بدء الامر ولكنهم انتهوا الى سوء العاقبة ، يشتد فيه الخوف . ففي الحديث الشريف في الكافي عن الامام الصادق عليه السلام :
قال : «المؤمن بين مخافتين ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك فهو لا يصبح الا خائفا ولا يصلحه الا الخوف» (2) .

(1) سورة البقرة ، آية : 218 .
(2) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الخوف والرجاء ح 12 .
الاربعون حديثاً 222

ونقل الكافي في حديث آخر عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ خطبة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بهذا المضمون .
وعلى اي حال يرى الانسان نفسه في منتهى النقص والتقصير ، ويرى الحق في منتهى العظمة والجلال ، وسعة الرحمة والعطاء ، ويعيش العبد بين هاتين النظرتين دائما في حال متوازية بين الخوف والرجاء . وحيث ان الاسماء الجلالية والجمالية تتجليان في قلب السالك بصورة متعادلة لا يترجح كل من الخوف والرجاء على الآخر .
وقال (1) بعض ان الخوف في بعض الاحيان انفع للانسان مثل ايام الصحة والعافية ، حتى يجهد الانسان نفسه في كسب الكمال والعمل الصالح ، وفي بعض الاحيان الرجاء افضل مثل ايام ظهور علامات الموت ، حتى يلاقي الانسان الحق المتعالي مع حال مفضلة اكثر عنده ـ سبحانه ـ .
ولكن هذا الكلام لا يتطابق مع الكلمات السابقة والاحاديث المذكورة ، لان الرجاء المحبوب يدفع الانسان ايضا نحو العمل واكتساب الآخرة ، والخوف من الحق سبحانه محبوب لديه ـ عز وجل ـ ولا يتنافى مع الرجاء المؤكد .
وقال بعضهم (2) ان الخوف لا يعتبر من الفضائل النفسية والكمالات العقلية في عالم الآخرة وانما يعدّ من الامور النافعة في دار الدنيا التي هي دار العمل ، حيث يحرص الانسان على فعل العبادات وترك المعاصي وينتهي دوره بعد الخروج من هذه الدنيا . في حين ان الرجاء لا ينقطع ويستمر حتى في عالم الآخرة . لان العبد كلما نال رحمة الله اكثر ، ازداد طمعه نحو فضل الحق المتعالي اكثر ، لان خزائن رحمة الحق الجليل لا تتناهى . فالخوف ينقطع بالموت ويبقى الرجاء حتى الى ما بعد الموت .
يقول (3) المحدث المحقق المجلسي ـ رحمه الله تعالى ـ «والحق ان العبد ما دام في دار التكليف لا بد له من الخوف والرجاء وبعد مشاهدة امور الآخرة يغلب عليه احدهما لا محالة بحسب ما يشاهده من احوالها» .
يقول الكاتب : ان ما قيل من غلبة الخوف والرجاء في عالم الآخرة ، لا يتلاءم مع ما ذكر من معنى الرجاء . وعلى فرض صحة الكلام المذكور فهو صحيح بالنسبة الى المتوسطين حيث يكون خوفهم ورجاؤهم عائدين الى الثواب والعقاب .
واما حال الخواص والاولياء فيختلف الامر عما ذكروا ، لان الخوف والرجاء الناجمان عن
(1) بحار الانوار ، المجلد 70 ، باب الخوف والرجاء ص 355 .
(2) و (3) بحار الانوار ، المجلد 70 ، باب الخوف والرجاء ص 355 .
الاربعون حديثاً 223

مشاهدة عظمة وجلال وتجلي اسماء اللطف والجمال ، والحاصلان في القلب لا يزولان بمشاهدة امور الآخرة . ولا يترجح احدهما على الآخر ، بل ان آثار الجلال والعظمة وتجليات الجمال واللطف في عالم الآخرة اكثر ، فيصبح الخوف الحاصل من عظمة الحق من اللذائذ الروحانية ، ولا يتنافى هذا مع الآية الكريمة :«الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»(1) كما يتبين ذلك بالتمعن في الآية المباركة . وما نقل ـ قبل اسطر ـ من ان الخوف ليس بفضيلة نفسية ، ليس هو الخوف من الجلال والعظمة ، لان مثل هذا الخوف يكون كمالا ومن صفات الكاملين والمكملين . كما ان خوف غيرهم يكون اكثر . والحمد لله على جماله وجلاله والصلاة على محمد وآله .

الاربعون حديثاً 224




الاربعون حديثاً 225

الحديث الخامس عشر

البلاء


الاربعون حديثاً 226

بسندنا المتصل الى سلطان المحدثين محمد بن يعقوب الكليني ـ رضوان الله عليه ـ عن علي بن ابراهيم ، عن ابيه ، عن ابن محبوب ، عن سماعة ، عن ابي عبد الله عليه السلام قال : ان في كتاب علي عليه السلام : «ان اشد الناس بلاء النبيون ثم الوصيون ثم الامثل فالامثل وانما يبتلى المؤمن على قدر اعماله الحسنة ، فمن صح دينه وحسن عمله ، اشتد بلاؤه وذلك ان الله تعالى لم يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن ولا عقوبة لكافر ومن سخف دينه وضعف عقله ، قل بلاؤه وان البلاء اسرع الى المؤمن التقي من المطر الى قرار الارض» (1) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن ، ح 29 .
الاربعون حديثاً 227

الشرح :


قال بعض بأن المقصود من الناس في امثال هذا الحديث الشريف ، الكاملون من قبيل الانبياء والاولياء والاوصياء ، فانهم الناس حقا . واما عامة الناس فهم النسناس كما ورد في الاحاديث .
ولكن لا مرجح لهذا الكلام ، بل المناسب في المقام ارادة عموم البشر وهو واضح تماما ، ويكون ـ هذا المعنى ـ مستفادا من الاحاديث الموجودة في هذا الباب من كتاب الكافي . واذا عثرنا في حديث على كلمة «الناس» وكان المقصود منها الكاملين ، فليس ذلك مبررا لارادة هذا المعنى من هذه اللفظة حيثما وردت .
ان «البلاء» هو الاختبار والامتحان ، في الحسن والقبح . كما صرح بذلك اهل اللغة . يقول الجوهري في الصحاح (والبلاء الاختبار يكون بالخير والشر ، يقال ابلاه الله بلاءا حسنا وابتلاه معروفا) ويقول الحق المتعال «بلاء حسنا» (1) .
وعلى اي حال ان كل ما يمتحن به الحق ـ جل جلاله ـ عباده يدعى بلاء او ابتلاء سواء كان بالامراض والاسقام والفقر والذل وادبار الدنيا بما يقابل هذه الامور ، كأن يُختبر بكثرة الجاه والاقتدار والمال والمنال وبالزعامة والعزة والعظمة . ولكن متى ما ذكر البلاء او البلية او الابتلاء بصورة مطلقة انصرف ـ انسبق الى الذهن من اللفظ ـ البلاء من القسم الاول .
و «أمثَل» بمعنى افضل واشرف يقال : هذا امثل من هذا اي افضل وادنى الى الخير . واماثل الناس ، خيارهم . فمعنى «ثم الامثل فالامثل» هو ان من كان افضل واحسن ـ بعد الائمة

(1) سورة الانفال ، آية : 16 .
الاربعون حديثاً 228

الاوصياء عليهم السلام ـ فبلاؤه اشد من الآخرين . ومَن كان ـ من غير الفئة المذكورة ـ افضل فبلاؤه اكثر من غيره من الناس . فمراتب الابتلاء على قدر درجات الفضل ـ عند الله سبحانه ـ . ولا يوجد مثل هذا التعبير ـ الامثل فالامثل ـ في الادب الفارسي حتى اذكره .
والـ «سُخف» هو ضعف العقل وخفته ، كما ورد في الصحاح وغيره من الكتب اللغوية .
والـ «قَرار» هو المستقر والمكان ، كما يستفاد من معاجم اللغة . وفي ـ كتاب ـ قاموس اللغة : «القرار والقرارة ما قر فيه والمطمئن من الارض» ووجه الشبه ـ بين المؤمن التقي وقرار الارض ـ هو ان الارض محل الامطار ومستقرها ، حيث تهطل قطرات السماء عليها وتستقر ، وكذلك المؤمن حيث تهجم عليه البلايا ، وتستقر عنده ولا تفارقه .
ونحن ان شاء الله سنشرح ما يحتاج اليه الحديث الشريف في غضون فصول عدة .

فصل
في بيان معنى الامتحان واثاره وكيفية نسبته الى الحق المقدس المتعالى

اعلم ان النفوس البشرية منذ ظهورها وتعلقها بالاجساد ، وهبوطها الى عالم المُلُك ـ عالم المادة ـ تكون على نحو القوة ـ الاهلية والقابلية ـ تجاه جميع العلوم والمعارف والملكات ـ الحالات الراسخة المتمركزة في الانسان ـ الحسنة والسيئة ، بل تجاه جميع الادراكات والفعليّات ـ الحاضرة التي هي ذات آثار ـ ثم تتدرج بعناية الحق ـ جل جلاله ـ نحو الفعلية شيئا فشيئا ، فتبدو اولا الادراكات الضعيفة الجزئية مثل حاسة اللمس والحواس الظاهرية الاخرى الاخس فالاخس ثم تظهر ثانيا الادراكات الباطنية متدرجة ايضا . ولكن الملكات لا تزال موجودة بالقوة ، فان لم تتأثر بعوامل تفجر فيها الطاقات الخيرة وتركت لوحدها لانتصرت الخبائث وتحققت الملكات الفاسدة وانعطفت نحو القبائح والمساوئ ، لان الدواعي الداخلية الباطنية كالشهوة والغضب وغيرها يسوقان الانسان الى الفجور والتعدي والظلم وبعد انقياده لهما يتحول في فترة قصيرة الى حيوان عجيب وشيطان غريب .
ولما كانت عناية الحق تعالى ورحمته قد وسعت بني الانسان في الازل ، جعل لهم سبحانه حسب تقدير دقيق نوعين من المربي والمهذب ، بمثابة جناحين يطير بهما من حضيض الجهل والنقص والقباحة والشقاء الى اوج العلم والمعرفة والكمال والجمال والسعادة ويحرر نفسه من ضغط ضيق عالم الطبيعة الى الفضاء الرحب الملكوتي الاعلى . وهما :
المربي الباطني المتجسد في العقل والقدرة على التمييز بين الحسن والقبيح . والمربي الخارجي المتمثل في الانبياء والأدلاّء لطرق السعادة والشقاء . وكل منهما لا يؤدي دوره بدون الآخر ، اذ ان العقل البشري عاجز عن معرفة طرق السعادة والشقاء واكتشاف الطريق الى عالم

الاربعون حديثاً 229

الغيب ، ونشأة الآخرة ، كما ان هداية الانبياء ، وارشادهم لا تكون مؤثرة بدون ادراك العقل والقدرة على التمييز .
فالحق ـ تبارك وتعالى ـ منحنا هذين النوعين من الموجّه لكي نجعل الطاقات المكتنزة والاستعدادات الكامنة في النفوس تتحرك من القوة الى الفعلية والظهور . وقد وهبنا الحق المتعالي هاتين النعمتين الكبيرتين لنا امتحانا واختبارا ، لان الانسان يتميز افراده بعضهم عن بعض ، ويتم الفصل بين السعيد والشقي والمطيع والعاصي والكامل والناقص . كما قال ولي المؤمنين عليه السلام : «والذي بعثه بالحق لَتُبَلبَلُنّ بلبلةً و لتغربلنّ غَربلة»(1) .
وفي كتاب الكافي الشريف في باب التمحيص والامتحان عن ابن ابي يعفور عن الامام الصادق عليه السلام : «لا بد للناس من ان يمحَّصوا ويُميّزوا ويُغَربلوا ويُستخرج في الغربال خلق كثير»(2) .
وباسناده عن منصور قال : قال لي ابو عبد الله عليه السلام : «يا منصور ان هذا الامر لا يأتيكم الا بعد إياس ولا والله حتى تُميَّزوا ولا والله حتى تُمحَّصوا ولا والله حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد» (3) .
وفي حديث آخر عن ابي الحسن عليه السلام قال : «يُخلَّصون كما يُخلَّص الذهب» (4) .
وفي كتاب الكافي الشريف في باب الابتلاء والاختبار بسنده الى الامام الصادق عليه السلام قال : «ما من قبض ولا بسط الا ولله مشيئة وقضاء وابتلاء» (5) .
وفي حديث آخر عنه عليه السلام قال : «انه ليس شيء فيه قبض او بسط مما امر الله او نهى عنه الا وفيه لله عز وجل ابتلاء وقضاء» (6) .
و «القبض» في اللغة الامساك والمنع والاخذ ، و «البسط» بمعنى النشر والعطاء : فكل عطاء وتوسعة ومنع امتحان للانسان ، كما ان كل امر ونهي وتكليف يكون للامتحان ايضا . فان بعث الرسل ونشر الكتب السماوية لغربلة الناس ، ولفصل الاشقياء عن السعداء ، والمطيعين عن العاصين . ومعنى امتحان الحق المتعالي للناس واختبارهم هو الفصل الحقيقي الواقعي على صعيد الخارج ـ للناس بعضهم عن بعض ، لا العلم بالفصل ، لان علم الحق جل جلاله أزلي ومتعلق ومحيط بكل شيء قبل ايجاده .

(1) نهج البلاغة : خطبة 16 (الشيخ صبحي الصالح) .
(2) و (3) و (4) اصول الكافي ، المجلد الاول ، كتاب الحجة ، باب التمحيص والامتحان ، ح 2 ، ح 3 ، ح 4 .
(5) و (6) اصول الكافي ، المجلد الاول ، كتاب الحجة ، باب الابتلاء والاختبار ، ح 1 و ح 2 .
الاربعون حديثاً 230

والحكماء قد اسهبوا الحديث في معنى الابتلاء والامتحان ، ولا يتناسب نقله مع هذا الكتاب . فنتيجة الاختبار بصورة مطلقة ـ ورغم ان الامرين المذكورين من اهم نتائجه ـ هو فصل السعيد عن الشقي على صعيد الخارج الواقعي .
وتتم في هذا الامتحان والتمحيص حجة الله على خلقه ايضا ، وتكون تعاسة وسعادة وهلاك وحياة كل شخص عن حجة وبينة ، ولا يبقى لاحد مجال للاعتراض ، فمن سعى في طريق السعادة والحياة الابدية ، كان سعيه توفيقا من الله وهداية له ، لانه سبحانه قد وفر جميع اسباب هذا السبيل . ومن جد في طريق الشقاء ووجه وجهه نحو الهلاك ومتابعة الهوى والشيطان مع توفر كل طرق الهداية وأسباب السعادة ، فقد اختار بنفسه الهلاك والتعاسة رغم نهوض الحجة البالغة للحق تبارك وتعالى على خلاف ما ارتآه «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» (1) .

فصل
في بيان فلسفة شدة ابتلاء الانبياء والاوصياء والمؤمنين

اعلم وقد سبق منا الحديث بان كل عمل يصدر من الانسان ، بل كل ما يقع منه في عالم مُلك الجسم ، وكان مدرَكا للنفس ، يترك اثرا لدى النفس ، من دون فرق بين الاعمال الحسنة او السيئة ، ومن دون فرق بين ان يكون العمل من نوع الافراح او نوع الاتراح . وقد عُبّر عن هذا الاثر في الاخبار بنقطة بيضاء ونقطة سوداء مثلا : ان كل لذة مما يلتذ الانسان به من المطعومات او المشروبات او المنكوحات او غيرها ، يترك اثرا في النفس ، ويحصل تعلقا ومحبة في عمق الروح تجاهه ـ الشيء الذي تمتع فيه ـ ويزداد توجه النفس اليه . وكلما توغل في اللذائذ والمشتهيات اكثر ، ازداد تعلق النفس وحبها لهذا العالم اكثر . وغدا ركونهه واعتماده على هذا العالم اكبر ، فتتربى النفس وترتاض على التعلق بالدنيا . وكلما كانت المتع في ذائقته احلى ، كانت جذور محبة الدنيا في قلبه اكثر . وكلما توفرت وسائل العيش والعشرة والراحة بشكل اوفى ، اصبحت دوحة التعلق بالدنيا اقوى وكلما اقبلت النفس على الدنيا اكثر ، كلما كانت غفلته عن الحق وعالم الآخرة اكثر . فان نفس الانسان اذا ركنت الى الدنيا كليا وصار توجهها ماديا ودنيويا ، انصرف عن الحق المتعال ودار الكرامة نهائيا و «اخلـد الـى الارض واتبـع هواه» (2) .
فالانهماك في بحر اللذائذ والمشتهيات يصرف الانسان الى حب الدنيا من دون اختيار ،

(1) سورة البقرة ، آية : 286 .
(2) سورة الاعراف ، آية : 176 .
الاربعون حديثاً 231

وحب الدنيا يوجب النفور عن غيرها ، والاقبال على المُلُك ـ الماديات ـ يسبب الغفلة عن الملكوت ـ عالم الغيب ـ . وكذلك العكس فلو ان الانسان استاء من شيء وشعر ببشاعته ، استدعت صورة ذلك الشيء الكراهية والنفور ، وكلما كانت تلك الصورة في النفس اقوى كان النفور والانزجار اكثر .
فمثلا : اذا دخل شخص على بلد وابتلى بأسقام وآلام فيه وعانا من ورائه مشاكل داخلية وخارجية لكرهه وتنفّر منه وكلما كانت معاناته اكثر كان هروبه ونفوره منه اكثر واذا وجد مدينة افضل منه لأقبل عليها وان لم يستطع التحرك نحوها ، لإشتاق اليها وتوجّه قلبه نحوها .
فالانسان اذا عاش هموم الدنيا وآلامها واسقامها ومشاكلها وعنائها وشعر بأن امواج الفتن والمحن تزحف نحوه ، خفّ تعلقه بها ـ اي الدنيا ـ وقل ركونه اليها ونفر قلبه منها . واذا اعتقد بوجود عالم آخر ، وفضاء رحب فارغ من جميع انواع الشقاء والتعاسة ، ارتحل اليه . واذا لم يتمكن من السفر بجسمه لذهب بروحه وبعث بقلبه الى ذلك العالم .
وواضح جدا ان المفاسد الروحية والخلقية والسلوكية بأسرها تنجم عن حب الدنيا والغفلة عن الله سبحانه وعالم الآخرة ، وان حب الدنيا رأس كل خطيئة .
في حين ان الصلاح الروحي والخلقي والسلوكي ينبعث من التوجه نحو الحق ، ودار الكرامة ـ عالم الآخرة ـ ومن اللامبالاة بالدنيا وعدم الانبهار بزخارفها .
اذاً ، علمنا من هذا التمهيد بأن لطف الحق تبارك وتعالى وعنايته كلما شملت لشخص اكثر ، ووسعته رحمة الذات المقدسة بصورة اوفى ، كلما ابعده سبحانه عن هذا العالم وزخرفه اكثر ، ودفع عنه امواج المحن والفتن اكثر ، حتى تنقلع رغبته في الدنيا وزركشتها ، ووجّه وجهه حسب مستوى ايمانه الى عالم الآخرة وارتبطت روحه بذلك العالم .
وان لم تكن جدوى من احتمال شدائد المحن الا هذه الجهة ـ الانزجار والاعراض عن الدنيا والاقبال نحو الآخرة ـ لوحدها ، لكفى .
وفي الاحاديث الشريفة اشارة الى هذا المعنى :
محمد بن يعقوب باسناده عن ابي جعفر عليه السلام قال : «ان الله تعالى ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل اهله بالهدية من الغَيبة ويَحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض» (1) .
ونقل هذا المعنى في حديث آخر . ولا يحسبن احد ان محبة الحق وشدة عناية ذاته الاقدس ، لبعض عباده جزاف ومن دون جهة ـ والعياذ بالله ـ بل كل خطوة يخطوها مؤمن وعبد

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب شدة ابتلاء المؤمن ، ح 17 .
الاربعون حديثاً 232

من عباده ، غمرته رحمة الحق المتعالي واقبل على عبده قدر ذراع .
ان مَثَل الايمان وتوفير بواعث التوفيق ، مَثَل الانسان قد حمل مصباحا وسلك طريقا مظلما فكلما تقدم خطوة ، اضاء امامه واهتدى للخطوة اللاحقة . فكلما رفع الانسان قدما نحو عالم الآخرة ، اتضح السبيل اكثر ، وغمرته عنايات الحق بصورة اكبر ، وتوفرت عوامل التوجه الى عالم القرب ـ الآخرة ـ والانزعاج عن عالم البعد ـ الدنيا ـ . والعنايات الأزلية للحق المتعالي انما تسع الانبياء والاولياء لعلمه ـ سبحانه ـ الازلي بطاعتهم ايام التكليف .
كما انكم لو علمتم ايام طفولة ولديكم بأن احدهما سيطيعكم ويسعى في تأمين رضاكم وثانيهما يبعث على سخطكم وامتعاضكم ، فمن المعلوم ان ألطافكم ستشمل المطيع اكثر من الثاني منذ الايام الاولى .
ومن فوائد شدة ابتلاء الخواص من العباد ، ان هؤلاء من خلال المحن والمعاناة يذكرون الحق ويناجونه ويتضرعون على اعتباه المقدسة في ساحة ذاته الاقدس ويعيشون مع ذكره وفكره .
ومن الطبيعي ان نوع بني الانسان يتشبث حين الشدة بكل ما يرجو فيه النجاة ، وعند الرخاء والراحة يغفل عنه . ولما كان الخواص من العباد ، لا يعرفون ملجأ الا الحق ، توجهوا نحوه ، وانقطعوا الى مقامه المقدس ، وان الحق المتعال يوفر لهم سبب الانقطاع اليه من خلال عنايته الخاصة بهم .
ولا تستساغ هذه الفائدة ـ من الابتلاء ـ بل الفائدة السابقة ، لدى الانبياء والاولياء الكُمَّلين ، لتنزّه مقامهم الشامخ عن ذلك ، وعدم انعطاف قلوبهم تجاه الدنيا ، ولا تتبدل في الانقطاع الى الحق من جراء تغير الاحوال .
ويمكن ان يكون ايثار الانبياء والاولياء للفقر على الغنى ، والابتلاء على الراحة ، والمعاناة على غيرها نتيجة انهم وقفوا من خلال النور الباطني والمكاشفات الروحانية على ان الحق المتعالي لا ينظر بعين اللطف الى هذا العالم ولا الى زخارفه ، ولا يكون للدنيا وما فيها موقع امام ساحته المقدسة الا الذل والهوان . والاحاديث الشريفة شاهدة على ذلك . ففي الحديث ان جبرائيل قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه مفاتيح خزائن الارض وقال لو اخترتها لما هبط من درجاتك الاخروية ، شيء ابدا . ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد امتنع عن القبول تواضعا للحق سبحانه ، فاختار الفقر .
وفي الكافي الشريف في حديث بسنده عن الامام الصادق عليه السلام قال : «ان الكافر

الاربعون حديثاً 233

ليهون على الله لو سأله الدنيا بما فيها اعطاه ذلك» (1) وذلك من جراء هوان الدنيا في عين الحق الكبير المتعالي . وفي حديث ان الحق جل وعلا منذ ان خلق العالم المادي لم ينظر اليه نظرة لطف وعناية .
ومن فوائد شدة ابتلاء المؤمنين حسب ما اشير اليها في الإخبار ، ان لهم درجات لا ينالونها الا من وراء المصائب والاسقام والآلام . ويحتمل ان تكون هذه الفوائد صورة ـ غيبية ـ للإعراض عن الدنيا والإقبال على الحق المتعالي . ويمكن ان تكون صورة ملكوتية لهذه المحن حيث لا تبلغ الا بعد حصولها ـ البليات ـ في عالم المُلك وابتلاء الانسان بها ، كما ورد في الحديث الشريف المأثور في الكافي بسنده الى الامام الصادق عليه السلام قال : «انه ليكون للعبد منزلة عند الله فما ينالها الا باحدى الخصلتين اما بذهاب ماله او ببلية في جسده » (2) .
وفي رواية شهادة الامام ابي عبد الله الحسين عليه السلام انه رأى جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام واخبره بـ (ان لك درجة في الجنة لا تنالها الا بالشهادة) (4) .
ومن المعلوم ان الصورة الملكوتية للشهادة في سبيل الله لم تحصل الا بعد وقوع الشهادة في عالم المُلُك ـ عالمنا الحاضر ـ كما برهن على ذلك في العلوم العالية . وورد في الأخبار المذكورة ان لكل عمل في هذا العالم صورة في عالم آخر .
وفي الكافي عن الامام الصادق عليه السلام : «قال : ان عظيم الاجر لمع عظيم البلاء وما احب الله قوما الا ابتلاهم» (3) .

فصل


يقول المحدث الكبير المجلسي ـ عليه الرحمة ـ (في هذه الاحاديث ـ احاديث ابتلاء الانبياء ـ الواردة من طرق الخاصة والعامة ، دلالة واضحة على ان الانبياء والاوصياء عليهم السلام في الامراض الحسية والبلايا الجسمية كغيرهم بل هم اولى بها من الغير تعظيما لأجرهم الذي يوجب التفاضل في الدرجات ولا يقدح ذلك في رتبتهم بل هو تثبيت لأمرهم وانهم بشر اذ لو لم يصبهم ما اصاب سائر البشر مع ما يظهر في ايديهم من خرق العادة لقيل فيهم ما قالت النصارى في نبيهم) انتهى(5) .
وقال المحقق المدقق الطوسي والحكيم العظيم القدوسي ـ عطّر الله مرقده ـ في كتاب التجريد في بحث ما يجب كونه في كل نبي (... وكلمـا ينفـر عنـه الحـق ...) (6) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب شدة ابتلاء المؤمن ، ح 28 .
(2) و (3) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب شدة ابتلاء المؤمن ، ح 23 و ح 3 .
(4) و (5) و (6) بحار الانوار ، المجلد 67 ، ص 250 .
الاربعون حديثاً 234

وقال علامة علماء الاسلام ـ رضوان الله عليه ـ في شرح هذه الجملة : (وان يكون منزها عن الامراض المنفّرة نحو الاُنبَة وسلس الريح والجذام والبرص لأن ذلك كله مما ينفر عنه فيكون منافيا للغرض من البعثة)(1) .
يقول الكاتب : ان درجة النبوة وان كانت تابعة للكمالات النفسية والدرجات الروحانية ، ولا علاقة لها بالجسم . وان النقائص الجسمانية وامراضها لا تسيء الى المقام الروحاني للانبياء . وان الامراض المنفرة لا تقلل شيئا من علو شأنهم وعظمة رتبتهم ، ان لم تؤكد كمالاتهم وتدعم درجاتهم ، كما أشير اليها . ولكن ما ألمح اليه المحققان لا يخلو عن وجه ، لأن عوام الناس لا يفرقون بين المقامات ـ الجسمية والروحية ـ ويحسبون ان النقص الجسماني نتيجة النقص الروحاني او ملازم له ، ويعتبرون ان من عناية الحق سبحانه ان لا يصيب الانبياء اصحاب الشريعة والمبعوثين بالرسالة ، بأمراض تسبب نفرة الطباع واستيحاش الناس . فعدم ابتلائهم لا يكون نتيجة ان هذه المصائب والبلايا تحط من مقام النبوة ، بل لأجل فائدة هي اكمال التبليغ والارشاد . وعليه لا مانع من ابتلاء بعض الانبياء الذين لم يحظوا بالشريعة ، وابتلاء الاولياء الكبار والمؤمنين بمثل هذه المحن . كما كان النبي ايوب والمؤمن حبيب النجار مبتليين . وقد وردت احاديث كثيرة في ابتلاء النبي ايوب عليه السلام :
فمن ذلك ما روي عن تفسير علي بن ابراهيم ، عن ابي بصير ، عن ابي عبد الله عليه السلام في حديث طويل قال : «فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه فنفخ فيه ابليس فصار قرحة واحدة من قَرنه الى قدمه فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره حتى وقع في بدنه الدود وكانت تخرج من بدنه فيردها ويقول لها ارجعي الى موضعك الذي خلقك الله منه ونتن حتى اخرجه اهل القرية من القرية وألقوه في المزبلة خارج القرية»(2) .
وفي الكافي باسناده عن ابي بصير ، عن ابي عبد الله عليه السلام قال : «قلت له : «فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * انه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون» . فقال : «يا ابا محمد يسلَّط والله من المؤمن على بدنه ولا يسلَّط على دينه ، قد سُلّط على ايوب فشوه خلقه ولم يسلّط على دينه وقد يسلـط من المؤمنيـن على ابدانهـم ولا يسلط على دينهـم» (3) .
وباسناده عن ناجية قال : «قلت لابي جعفر عليه السلام : ان المغيرة يقول : ان المؤمن لا يُبتلى بالجذام ولا بالبرص ولا بكذا ولا بكذا ، فقال : ان كان لغافلا عن صاحب ياسين انه كان مكنّعا ـ ثم رَد

(1) بحار الانوار ، المجلد 67 ، ص 250 .
(2) بحار الانوار ، ح 12 ص 342 .
(3) روضة الكافي ص 288 ح 433 .
الاربعون حديثاً 235

اصابعه ـ فقال : كأني انظر الى تكنيعه ، أتاهم فأنذرهم ثم عاد اليهم من الغد ، فقتلوه . ثم قال : ان المؤمن يبتلى بكل بلية ويموت بكل بلية الا انه لا يَقتل نفسه» (1) .
ان «صاحب ياسين» هو حبيب النجار و «التكنيع» مع النون كما هو في اكثر النسخ بمعنى التشنج والمُثلة كما في البحار . قال المجلسي «كأنه كان الجذام سببا لتكنيع اصابعه» (2) وفي هذا الكلام تأمل .
ويستفاد من هذه الاحاديث والروايات الاخرى ان الانبياء والمؤمنين قد يصابون بأمراض منفرة لأجل بعض المصالح . وتقابل هذه الاخبار ، احاديث اخرى تنفي تشويه جسم النبي ايوب عليه السلام بسبب الامراض ، وانبعاث الرائحة الكريهة من جسده المبارك . ولا جدوى في الجمع بين هذه الروايات واطالة البحث فيها .
وملخص الحديث ان مثل هذه الامراض لا تسيء الى المؤمنين ولا تعد نقصا لهم ولا للانبياء عليهم السلام ، بل تبعث على رفعة درجتهم وعلو شأنهم والله تعالى اعلم بالصواب .

فصل
في بيان ان الدنيا ليست محلا لثواب الحق المتعالي وعقابه

اعلم ان هذا العالم الدنيوي لما فيه من النقص والقصور والضعف لا يكون دار كرامة ولا محلا لثواب الحق سبحانه ولا محلا لعذابه وعقابه ، لان دار كرامة الحق عز وجل عالم تكون نعمه خالصة وغير مشوبة بالنقم ، وراحته غير مخلوطة بالشقاء والتعب ، ومثل هذه النعم غير متوفرة في هذا العالم ، لانه دار التزاحم والصراع . وان كل نعمة من نعم هذا العالم محفوفة بأنواع من العذاب والآلام والمحن . بل قال الحكماء ان لذات هذا العالم هي دفع للآلام ونستطيع ان نقول ان لذاته تبعث على الآلام لان اثر كل لذة ، شقاء ونصب والم ، بل ان مادة هذا العالم تتمرد على قبول الرحمة الخالصة والنعمة المحضة غير المشوبة بالمكارة . وهكذا العذاب والشقاء والالم والتعب في هذا العالم لا يكون خالصاً، بل يكون كل ألم وتعب محفوفاً بنعمة او نعم ، وكل واحد من الآلام والأسقام والشقاء والمحن في هذا العالم لا يكون محضاً وغير مشوب بنعمة ورحمة : فإن مادة هذا العالم تتمرّد على قبول العذاب الخالص المطلق .
ان دار عذاب الحق سبحانه ودار عقابه ، دار فيها العذاب المحض والعقاب الخالص ، وان آلامها واسقامها لا تضاهى بآلام واسقام هذا العالم كأن يمس العذاب عضوا دون عضو ، او يكون عضو سالما وفي راحة والآخر في تعب وشقاء . وقد اشير الى بعض ما ذكرنا في الحديث

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب شدة ابتلاء المؤمن ، ح 12 .
(2) البحار ، المجلد 67 ص 250 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي