الاربعون حديثاً 206

بالسند المتصل الى الشيخ الجليل ثقة الاسلام محمد بن يعقوب عن عدة من اصحابنا ، عن احمد بن محمد بن خالد ، عن غير واحد ، عن علي بن اسباط ، عن احمد بن عمر الحلاّل ، عن علي بن سويد ، عن ابي الحسن الاول عليه السلام قال : سالته عن قول الله عز وجل «ومن يتوكل على الله فهو حسبه» فقال : «التوكل على الله درجات ، منها ان تتوكل على الله في امورك كلها فما فعل بك كنت عنه راضيا تعلم انه لا يألوك خيرا وفضلا وتعلم ان الحكم في ذلك له فتوكل على الله بتفويض ذلك اليه وثق به فيها وفي غيرها» (1) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب التفويض الى الله والتوكل عليه ، ح 5 .
الاربعون حديثاً 207

الشرح :


«الحلاّل» بتشديد اللام : بائع الحِل ، وهو دهن السمسم . وابو الحسن الاول هو الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام . ويكنى ايضا بأبي الحسن المطلق . وابو الحسن الثاني هو الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام ، وابو الحسن الثالث هو الامام علي بن محمد الهادي عليه السلام .
و «التوكل» كما في اللغة ، هو اظهار العجز والاعتماد على طرف آخر : واتكلت على فلان في امر ، اعتمدته . واصله : اوتكلت . و «حسبه» اي محسِبُه وكافيه . و «يألوك» من : ألا ، يألو ، ألواً . ويعني التقصير . وقد قال بعضهم : اذا عدّي هذا الفعل الى مفعولين تضمن معنى المنع ، وهذا حسن ، لان المعنى يكون اسلس ، وان لم تكن ثَمّة حاجة الى ذلك ، فمعنى التقصير وحده يكفي ، كما يستفاد خلاف ذلك من «الصحاح» الذي جاء فيه : «الا ، يألو : اي قصّر . وفلان لا يألوك نصحا» . فيتبين من ذلك ان المعنى واحد حتى مع المفعولين .
و «التوكل» غير «التفويض» ، وكلاهما غير «الرضا» وغير «الوثوق» كما سيأتي بيانه . وسوف نشرح فيما يلي ما يحتاج من الحديث الشريف الى شرح .

فصل
في بيان معنى التوكل ودرجاته

اعلم ان للتوكل معاني متقاربة ، ولكن بتعبيرات مختلفة ، بحسب المسالك المختلفة ، كما يقول صاحب «منازل السائرين» : «التوكل كلة الامر كله الى مالكه والتعويل على وكالته» (1) . ويقول بعض اصحاب العرفان : «التوكل طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية» . وقال

(1) «منازل السائرين» ـ التوكل .
الاربعون حديثاً 208

آخرون : «التوكل على الله انقطاع العبد في جميع ما يأمله من المخلوقين» .
وهكذا تجد هذه المعاني متقاربة ، ولا حاجة للبحث في المفهوم . وكل ما يتطلب القول هو ان للتوكل درجات مختلفة بحسب اختلاف مقامات العباد . ولما كانت معرفة درجات التوكل مبنية على العلم بدرجة معرفة العباد بربوبية الحق جل جلاله ، كان لا بد من الاشارة الى ذلك .
فاعلم ، ان احد اصول معارف السالكين ومقاماتهم ، التي لا تكون الا به ، هو العلم بربوبية الحق تعالى ، ومالكيته ، وكيفية تصرف الذات المقدسة في الامور . اننا لا ندخل هذا البحث من الناحية العلمية ، لان ذلك يتطلب التحقيق في «الجبر والتفويض» وذلك ما لا يتناسب مع هذه السطور . وانما نقتصر على ذكر درجات الناس في معرفة ذلك .
وعليه ، نقول ان الناس في معرفة الربوبية مختلفون متباينون الى حد كبير : فالموحدون عموما يعرفون ان الحق تعالى هو خالق مبادئ الامور ، وكلّيات الجواهر ، وعناصر الاشياء ، ويرون بأن تصرفه محدود ، ولا يقولون بإحاطته الربوبية . فهؤلاء تراهم تارة يقولون : مقدر الامور حق ؟ وهو المتصرف في كل شيء ، فما من كائن يكون الا بإرادته المقدسة . ولكنهم ليسوا اصحاب هذا المقام ، لا علما ، ولا ايمانا ، ولا شهودا ، ولا وجدانا .
ان هذا الفريق من الناس ـ والظاهر اننا منهم ـ ليس لهم علم كامل بربوبية الله بل يكون توحيدهم ناقصا ، حيث حجبت عنهم ربوبية الحق وسلطنته لعلل واسباب ظاهرة ، وليس لهم مقام التوكل وهو ما يدور كلامنا عليه الا لفظا وادعاء . لهذا ، فانهم في الامور الدنيوية ، لا يعتمدون على الحق سبحانه ، بأي شكل من الاشكال ، ولا يتشبثون الا بالاسباب الظاهرية والمؤثرات الكونية . واذا ما اتفق احيانا ان توجهوا الى الحق تعالى وطلبوا منه حاجة ، او رجوا منه رجاء ، فذلك من باب التقليد ، او من باب الاحتياط ، لانهم لا يرون في ذلك ضررا عليهم ، بل ربما يحتملون فيه فائدة . وفي هذه الحال توجد رائحة التوكل . ولكنهم اذا رأوا الاسباب الظاهرة ملائمة ومطابقة لأهوائهم ، غفلوا كليا عن الحق تعالى وعن تصريفه للامور . ان المقولة القائلة بأن التوكل لا يتنافى مع العمل والتكسب ، صحيحة ، بل هي مطابقة للبرهان وللنقل ، ولكن الاحتجاب عن ربوبية الحق وتصريفه للامور واعتبار الاسباب مستقلة ، يتنافى والتوكل .
ان هؤلاء الذين لا يتمسكون حتى بأدنى درجات التوكل في اعمالهم الدنيوية ، يتحدثون فيما يتعلق بالامور الاخروية عن التوكل بزهو ومباهاة ، واذا ما ظهر منهم اي تهاون وضعف وكسل في العلم او في تهذيب النفس والعبادات والطاعات ، بادروا الى اظهار اعتمادهم وتوكلهم على الحق تعالى وفضله . وكأنهم يريدون بمجرد تلفظهم بأن «الله عظيم» و «اننا متوكلون على فضل الله» ان ينالوا الدرجات الاخروية ! فانهم يقولون في الشؤون الدنيوية : ان السعي والعمل لا يتنافيان مع التوكل على الله ، وفي الامور الاخروية يرون السعي والعمل

الاربعون حديثاً 209

ينافيان الاعتماد والتوكل عليه . وما هذا الا من مكائد النفس والشيطان . فهؤلاء ليسوا متوكلين على الله ، لا في الامور الدنيوية ، ولا في الامور الاخروية ، ولا هم يعتمدون عليه في اي امر من الامور . ولكنهم ، لاهتمامهم بالامور الدنيوية ، يتشبثون بالاسباب ، دون الاعتماد على الحق تعالى وتصريفه للشؤون في العالم . وعلى العكس من ذلك ، فهم ، لعدم اهتمامهم بامور الآخرة ، وعدم ايمانهم ايمانا صادقا بيوم المعاد وتفاصيله ، يصطنعون لذلك الاعذار . فمرة يقولون : «الله عظيم» ، ومرة يظهرون الاعتماد على الله وعلى شفاعة الشفعاء ، مع ان هذا كله ليس سوى لقلقة لسان لا اساس لها من الحقيقة في شيء .
وثمّة فريق ثان من الناس اقتنعوا ، اما بالبرهان واما بالنقل ، وصدّقوا بأن الحق تعالى هو مقدّر الامور ، ومسبّب الاسباب ، والمؤثر في الوجود ، ولا حدود لقدرته وتصرّفه . هؤلاء يتوكلون على الحق سبحانه عن طريق العقل ، اي ان اركان التوكل تامة عندهم ، بحسب الادلة العقلية والنقلية ولهذا فهم يرون انفسهم من المتوكلين ، ويقيمون الدليل ايضا على لزوم التوكل ، لأنهم اثبتوا اركان التوكل ، والتي هي امور :
ان الحق تعالى عالم بحاجات العباد .
انه قادر على تلبية تلك الحاجات .
انه ليس في ذاته المقدسة بخل .
انه رحيم بالعباد ورؤوف بهم .
واذاً ، يجب التوكل على عالم قدير كريم رحيم بالعباد ، قائم بمصالحهم ، لا يفوّت عليهم شيئا فيها ، حتى وان لم يميزوا هم بين ما ينفعهم وما يضرهم . هؤلاء وان كانوا من المتوكلين عمليا ، الا انهم لم يبلغوا مرتبة الايمان . فهم لهذا مضطربون في اتخاذ امر من امورهم ، وعقولهم مغلوبة في الصراع مع قلوبهم ، لانها بالاسباب متعلقة ، وعن تصرف الحق سبحانه في الاشياء محجوبة .
اما الطائفة الثالثة ، فهم الذين توصّلوا بقلوبهم الى معرفة تصرّف الحق تعالى في الكائنات ، فآمنت تلك القلوب بأن مقدّر الامور ، والسلطان ومالك الاشياء ، هو الحق تعالى ، وكتبوا بقلم العقل على الواح القلوب اركان التوكل . هؤلاء هم اصحاب مقام التوكل . غير ان هؤلاء ايضا يختلفون من حيث مراتب الايمان ودرجاته اختلافا كبيرا ، قبل ان يصلوا الى درجة الاطمئنان الكامل . وعند ذاك تظهر في قلوبهم درجةالتوكل الكاملة ، ولا تتعلق بالاسباب ، بل تتشبث بمقام الربوبية ، فتطمئن اليه وتعتمده ، كما وصف العارف المتقدم ، التوكل قائلا انه : «طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية» . وكل ما قلناه يعود الى ما اذا كان القلب في مقام الكثرة الافعالية ، والا فانه يتجاوز مقام التوكل ويخرج عن المقصود .

الاربعون حديثاً 210

اذاً ، فقد اتضح ان للتوكل درجات . ولعل الدرجة التي تعرض لها الحديث الشريف هي توكل الطائفة الثانية . اذ انه جعل العلم من مبادئه ، وربما اشار ايضا الى درجات اخرى ذات اعتبارات مختلفة . اذ ان للتوكل درجات اخرى في تقسيمات مختلفة ، مثلما هي الحال في درجات سلوك اصحاب العرفان والرياضات ، حيث يصلون من مقام الكثرة الى مقام الوحدة تدريجا ، فلا يحصل فناء افعالي مطلق ، دفعة واحدة ، بل يشاهد اولا في مقامه ، ومن ثم في سائر الكائنات . فكذلك يحصل التوكل والرضا والتسليم وسائر المقامات بالتدرّج ايضا . وربما يبدأ اول الامر بالتوكل على الاسباب الغائبة والخفية ، ومن ثم يصل الى مقام المطلق تدريجا ، سواء أكانت له اسباب ظاهرة جلية ، ام اسباب باطنة خفية ، وسواء أكان ذلك في اعماله هو ام في اعمال اقربائه ومقرّبيه . ولذلك جاء في الحديث : «ان من درجات التوكل ان تتوكل على الله تعالى في كل امورك» .

فصل
في بيان الفرق بين « التوكل » و « الرضا »

اعلم ان مقام «الرضا» غير مقام «التوكل» ، وهو اسمى منه وارفع . وذلك لان المتوكل يطلب الخير والصلاح لنفسه ، فيوكل الحق تعالى ، بصفته فاعل الخير ، للحصول على الخير والصلاح . اما الشخص «الراضي» فيكون قد افنى ارادته في ارادة الله ، فلا يختار لنفسه شيئا . ولقد سئل احد اهل السلوك :
«ما تريد ؟» . فقال : «اريد ان لا اريد» .
فمطلوبه هو مقام الرضا . اما ما جاء في الحديث الشريف : «فما فعل بك كنت عنه راضيا» فانه لا يعني مقام الرضا ولذلك جاء بعد ذلك قوله : «تعلم انه لا يألوك خيرا وفضلا» ، وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم اراد ان يوجد في السامع مقام التوكل ، وذلك بوضع المقدمات ، فقال اولا : «تعلم انه لا يألوك خيرا وفضلا» ثم قال : «تعلم ان الحكم في ذلك له» طبيعي ان من يعلم ان الله تعالى قادر على كل شيء ، وانه لا يفوّت على نفسه خيره وفضله ، فان مقام التوكل يحصل له ، وذلك لان ركني التوكل الاساسيين قد ذكرهما ، بينما لم يذكر الركنين او الثلاثة الاخرى لوضوحهما . اذاً ، تكون نتيجة المقدمات المذكورة المطوية والمعلومة هي ان ما يفعله الحق تعالى يبعث على الرضا والسرور . اذ ان فيه الخير والصلاح ، وبذلك يحصل مقام التوكل . ولهذا فرّع عليه السلام في الحديث الشريف قوله : «فتوكل على الله» .

الاربعون حديثاً 211

فصل
في بيان الفرق بين « التفويض » و « التوكل » و « الثقة »

ثم اعلم ان «التفويض» ايضا غير «التوكل» ، وان «الثقة» غيرهما . ولذلك فقد اشير اليهما في مقامات السالكين بصورة منفصلة .
يقول الخواجة عبد الله الانصاري : «التفويض الطف اشارة واوسع معنى من التوكل ثم قال : التوكل شعبة منه» . وذلك لأن التفويض هو ان لا يرى العبد في نفسه حولا ولا قوة ، ولا يجد ان له التصرف في شيء ، ويرى الحق تعالى هو المتصرف في كل الامور . اما في التوكل فليس الامر كذلك ، لان المتوكل يجعل الحق سبحانه قائما مقامه في التصرف واجتلاب الخير والصلاح . واما ان التفويض اوسع ، لان التوكل فرع منه ، لان التوكل يكون في المصالح ، والتفويض يكون في الامور كافة .
ولان التوكل لا يكون الا بعد وقوع سبب يستوجبه ، اي عند وجود امر يتوكل فيه العبد على الله ، مثل توكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه على الله في ان يحفظهم من المشركين ، حينما قيل لهم : «ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل» (1) واما التفويض فيكون قبل وقوع السبب ، كما جاء في الدعاء المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «اللهم اني اسلمت نفسي اليك ، والجأت ظهري اليك ، وفوضت امري اليك» (2) . وقد يكون بعد وقوع السبب ، مثل تمثيل مؤمن آل فرعون .
ان ما ذكرناه يكون حاصل ترجمة شرح العارف المعروف «عبد الرزاق الكاشاني» للتوكل والتفويض مأخوذا من كلام العارف الكامل «الخواجة عبد الله» مع شيء من الاختصار وفي كلام الخواجة ما يدل على ذلك . ولكن في اعتبار التوكل شعبة من التفويض يستدعي النظر .
كما ان في جعل التفويض من التوكل مسامحة واضحة . وكذلك ليس ثمّة دليل على ان التوكل يقع بعد وقوع السبب . اذ في كِلتا الحالتين ـ قبل وبعد وقوع السبب ـ يصحّ معنى التوكل . اما الحديث الشريف الذي يقول : «فتوكل على الله بتفويض ذلك اليه» فيمكن القول بأنه لا توكل الا مع رؤية تصرفه بنفسه ، ولهذا يتخذ لنفسه وكيلا في امر من اموره الخاصة به . الا ان الرسول الاكرم اراد ان يرفع ذلك من مقام التوكل الى مقام التفويض ، وليفهمه ان الحق تعالى لا يقوم مقامك في التصرف ، بل هو المتصرف في ملكه ومملكته . وقد نبه على ذلك

(1) سورة آل عمران ، آية : 173 .
(2) كتاب من لا يحضره الفقيه ، ح 1351 .
الاربعون حديثاً 212

الخواجة نفسه في «منازل السائرين» بشأن الدرجة الثالثة من درجات التوكل .
واما «الثقة» فهي غير «التوكل» و «التفويض» ، كما يقول الخواجة : «الثقة سواد عين التوكل ، ونقطة دائرة التفويض ، وسويداء قلب التسليم» .
اي ان المقامات الثلاثة لا تحصل من دون «ثقة» ، بل ان روح تلك المقامات هي الثقة بالله تعالى . فما لم يثق العبد بالحق تعالى ، لا يمكن ان ينالها .
فتبين السر في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بعد التوكل والتفويض ، «ثق به فيها وفي غيرها» .

الاربعون حديثاً 213

الحديث الرابع عشر

الخوف والرجاء


الاربعون حديثاً 214

بسندي المتصل الى محمد بن يعقوب ، ثقة الاسلام وعماد المسلمين عن عدة من اصحابنا ، عن احمد بن محمد ، عن علي بن حديد ، عن منصور بن يونس ، عن الحارث بن المغيرة او ابيه ، عن ابي عبد الله عليه السلام قال : قلت له : ما كان في وصية لقمان ؟ قال : «كان فيها الاعاجيب وكان اعجب ما كان فيها ان قال لابنه : خف الله عز وجل خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذّبك ، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك . ثم قال ابو عبد الله ـ عليه السلام ـ : كان ابي يقول : انه ليس من عبد مؤمن الا وفي قلبه نوران نور خيفة ونور رجاء ، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا» (1) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الخوف والرجاء ، ح 1 .
الاربعون حديثاً 215

يقول «الجوهري» في الصحاح : «اعاجيب» كأنهم ارادوا جمع «اعجوبة» مثل احدوثة واحاديث . وقال : ان «الاعجوبة» هي ما يكون حسنة او قبحه مثيرا للتعجب . ويكون المقصود في هذا الحديث هو المعنى الاول وكأن اللفظ في الاصل مختص بما يثير حسنه العجب ، وان استعملت تطفلا في الاعم .
و «البِرّ» خلاف «العقوق» و «فلان يبرّ خالقه» يعني انه يطيعه ، كما يقوله الجوهري . و «الثقلان» هما الجن والانس .
ويدل هذا (الحديث الشريف) على ان كلا من الخوف والرجاء يجب ان يصل الى مرتبة الكمال ، ولا يجوز اليأس من رحمة الله تعالى ابدا ، ولا الامان من مكره مطلقا . فهناك الكثير من الاحاديث التي تؤكد ذلك ، كما ينص القرآن الكريم على ذلك ايضا . ثم يجب الاّ يرجح احدهما على الآخر . وسوف نقوم ، بشرح ذلك وبيان المواضيع الاخرى من الحديث ـ ان شاء الله ـ ضمن فصول عديدة .

فصل
في بيان نظرتي الانسان العارف

اعلم ، ان للانسان العارف بالحقائق والمطلع على النسبة بين الممكن والواجب جل وعلا نظرتين : الاولى : نظرته الى نقصه الذاتي والى نقص جميع الممكنات وانحطاط الكائنات فهو يدرك في هذه النظرة ، عينا او علما ، ان الممكن غارق بكلّيته في الذل والنقص وفي بحر ظلام الامكان والفقر والاحتياج ازلا وابدا ، وانه لا يملك بذاته شيئا اطلاقا ، وهو محض لا شيء ، ومجرد ضعة ، ونقص مطلق ، بل ان هذه التعبيرات نفسها لا تصدق عليه حقيقة وانما هي من ضيق افق التعبير والكلام ، والا فان النقص والفقر والحاجة من سمات الشيئية ، وليس لجميع الممكنات والخلائق كافة ، شيئية بذواتها . وهو في هذه النظرة ، لو تقدم

الاربعون حديثاً 216

الى اعتاب الربوبية بكل العبادات والطاعات والعلوم والمعارف ، فلن يكون امامه سوى ان يطأطئ راسه خجلا وذلا وخوفا ، فما هذه العبادة والطاعة ؟ ممن ؟ ولمن ؟ ان كل المحامد تعود اليه تعالى ، وليس للممكن اي تصرف فيه ، بل ان تصرف الممكن يبعث على نقص في اظهار محامد الله والثناء عليه . وهذا ما سألوي عنه عنان القلم ، ففي هذا المقام يقول عز وجل :
«ما اصابك من حسنة فمن الله وما اصابك من سيئة فمن نفسك ...» (1) . كما يقول في المقام الاول «قل كلٌ من عند الله » (2)
يقول الشاعر في هذا المقام :
قال مرشدنا : ان قلم الصانع لم يخطا ................... (ان الاخطاء منا)
بوركت نظرته السديدة الساترة للعيوب ............... (قل كل من عند الله)
ان قول المرشد راجع الى المقام الثاني (ما اصابك من حسنة فمن الله وما اصابك من سيئة فمن نفسك) . واما قول الشاعر (الشطر الثاني من الشعر) فيعود الى المقام الاول (قل كل من عند الله) وفي هذا المقام يستولي على الانسان الخوف والحزن والخجل والحزي .
والنظرة الاخرى نظرته الى كمال الواجب ، وبسط بساط رحمته ، وسعة لطفه تعالى وعنايته . فهو يرى انه سبحانه قد بسط هذه النعم والرحمات المتنوعة ، التي لا يمكن الاحاطة بها ولا حصرها وتحديدها ، من دون استعداد وتهيأ مسبق لها . وانه قد فتح ابواب لطفه وعفوه على العباد دون استحقاق . فنعمه مبتدءة لا يسبقها سؤال .
كما اشار الى ذلك حضرة الامام زين العابدين وسيد الساجدين كثيرا في ادعية الصحيفة وغيرها ، فيقوى رجاؤه برحمة الحق تعالى ويزداد امله ، بالكريم الذي لا يسبغ كرمه الا من باب الرحمة واللطف ، وبمالك الملوك الذي يفيض علينا بنعمه من دون سؤال او استعداد . تلك النعم التي تعجز العقول عن ادراك بعضها وتقصر . والمالك الذي لا تنقص من ملكه الواسع معصية العاصين ، ولا تزيده طاعة المطيعين ، بل ان هداية ذاته المقدسة لنا الى طرق الطاعات ، ومنعه ايّانا عن العصيان ، انما هو من عناياته الكريمة ونعمه وآلائه ، لأجل وصولنا الى مقامات الكمال ومدارجه الرفيعة ، وللتنزه عن النقص والقبح والتشوه .
فاذا جثونا عند اعتاب رحمته وعنايته ، لوجب ان نقول : اللهم انك اذ البستنا لباس الوجود ، ووهبتنا كل اسباب الحياة والرفاه بما يفوق ادراك المدركين ، واريتنا طرق الهداية ، واسبغت علينا من نعمك ، انما كان ذلك لمصلحتنا لننعم بافضالك ونعمك . وها نحن قد وفدنا الى دار كرامتك ، وعلى اعتاب سلطنتك ، مثقلين بذنوب الثقلين ، مع ان ذنوب المذنبين لم

(1) سورة النساء ، آية : 79 .
(2) سورة النساء ، آية : 78 .
الاربعون حديثاً 217

تنقص من خزائن رحمتك ، ولم تخل خطاياهم بمملكتك . فماذا انت صانع بقبضة تراب لا تساوي شيئا عند اعتاب عظمتك سوى ان تشملها برحمتك وعنايتك ؟ ايمكن ان نأمل غير الرحمة من لطفك ؟
فعلى الانسان ، اذاً ، ان يتردد بين هاتين النظرتين . فلا هو يغمض عينيه عما فيه من نقص وقصور في القيام بالعبودية ، ولا هو ينسى سعة رحمة الحق جل جلاله وعنايته وشموليتهما .

فصل
في بيان مراتب الخوف ودرجاته

اعلم ايها العزيز ، ان للخوف والرجاء مراتب ودرجات حسب حالات العباد ومراتب معرفتهم . فخوف العامة يكون من العذاب وخوف الخاصة يكون من العتاب ، وخوف اخص الخاصة يكون من الاحتجاب . ولكننا لسنا الآن بصدد شرح ذلك ، وانما سنشير الى الموضوع السابق ببيان آخر .
فاعلم ان ليس احد من المخلوقات بقادر على عبادة الحق تعالى حق عبادته . لان العبادة هي الثناء على مقام ذات الله المقدسة ، وثناء كل شخص فرع معرفته بمن يثني عليه . ولمّا كانت يد ارجاء العباد ، في الحقيقة قصيرة ، عن عِزّ جلال معرفة ذاته المتعال ، فهم اذا ليسوا قادرين بالثناء على جماله وجلاله . وقد اعترف بذلك اشرف الخلائق واعرف الكائنات بمقام الربوبية :
«ما عبدناك حق عبادتك وما عرفناك حق معرفتك» (1) حيث الجملة الثانية هي بمثابة التعليل للجملة الاولى ، اذ قال :
«انت كما اثنيت على نفسك» (2) .
اذاً ، فالقصور الذاتي من حق الممكن ، والعلو الذاتي خاص بذات كبرياء الله جل جلاله . ولمّا كان العباد قاصرين عن الثناء على الله تعالى وعن عبادة ذاته المقدسة . ومن دون معرفة الحق سبحانه وعبوديته لا يمكن لأحد من عباده ان يبلغ المقامات الكمالية والمدارج الاخروية ، كما هو ثابت ومبرهن عليه عند علماء الآخرة في محله ، ولكن العامة غافلون عن ذلك ، ويحسبون المدارج الاخروية جزافا او شبيهة بالجزاف ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ لمّا كان كذلك فقد فتح الله تعالى بلطفه الشامل ورحمته الواسعة بابا من الرحمة والرعاية بالعباد عن طريق تعليمات الوحي الغيبية والالهام ، وبوساطة الملائكة والانبياء : ذلك هو باب العبادة

(1) «سفينة البحار» ج 2 ص 180 وما بعدها .
(2) المصدر نفسه ، ص 181 وما بعدها .
الاربعون حديثاً 218

والمعرفة . فعلّم العباد طرق عبادته ، وفتح لهم سبيلا الى المعارف لكي يخففوا من نقائصهم قدر الامكان ، ويسعوا لنيل الكمالات الممكنة ، ويهتدوا باشعة نور العبودية للوصول الى عالم كرامة الحق ، والى الروح والريحان وجنات النعيم ، بل الى رضوان الله الاكبر .
اذاً ، ففتح باب العبادة والعبودية من النعم الكبرى التي تدين لها الكائنات كافة ، دون ان تستطيع الوفاء بحق الشكر ، بل ان كل شكر هو فتح باب كرامة لا تقدر على شكره ايضا . فاذا علم الانسان مشربه هذا ، واطلع قلبه عليه ، اعترف بتقصيره . وحتى لو انه تقدم الى اعتاب الله جل جلاله بعبادة الجن والانس والملائكة المقربين ، لكان مع ذلك خائفا ومقصرا . وكذلك ان عباد الله العارفين واولياءه المختصين به الذين فتح لهم بابا من سر القَدر ، واستنارت قلوبهم بنور المعرفة ، لإرتجفت قلوبهم من الخوف ، ونفوسهم من الخشية ، بحيث لو اتجهت اليهم الكمالات كلها ، واعطوا مفاتيح المعارف كلها ، واُترعت قلوبهم بالتجليات ، لما قلّ من خوفهم قدر ذرة ، ولا من خشيتهم قدر شعرة ، كما يقول احدهم : الناس تخاف النهاية وانا اخاف البداية . سبحان الله ولا حول ولا قوة الا بالله ، اعوذ بالله تعالى . يعلم الله يجب ان يتقطع قلب الانسان من هذا الكلام ، ويذوب خوفا ، ويهيم على وجهه في البراري فإلى اي حد يكون الانسان غافلا ؟
ثم انه قد سبق منا في شرح احد الاحاديث السابقة وقلنا بأننا في كل عباداتنا وطاعاتنا انما نريد مصالحنا الخاصة ، ودافِعُنا اليها هو حب النفس . وما الزهد في الدنيا في الحقيقة الا من اجل الآخرة . وهو اشبه بالزهد في الدنيا من اجل الدنيا عند الاحرار . فلو ذهبنا بعبادة الثقلين الى محضر قدسه الربوبي ، لما كان استحقاقنا سوى البعد عن ساحته المقدسة . لقد دعانا الحق تبارك وتعالى الى مقام قربه وانسه . قال : «وخلقتك لاجلي» وجعل غاية الخلق معرفته ، وهدانا الى طرق المعارف والعبودية ، ولكننا مع هذا لم نشغل انفسنا الا بتعمير البطن والفرج ، ولا همّ لنا سوى الانانية وحب الذات .
فيا ايها الانسان المسكين ، الذي لم تجن من عبادتك ومناسكك الا البعد عن ساحة الله المقدسة ، والاستحقاق للعتاب والعقاب ، علامَ اعتمادك ؟ ولماذا لا يقلقك ولا يزعجك الخوف من شدة بأس الحق ؟ أعندك متكأ تتكئ عليه ؟ أتثق بعملك وتطمئن اليه ؟ اذا كان الامر كذلك فالويل لك من معرفتك بحالك وحال مالك الملوك ! واذا كان اعتمادك على فضل الحق وسعة رحمته وشمول عناية ذاته المقدس ، لكان ذلك في محله جدا . لقد اعتمدت على امر وثيق ، ولجأت الى اوثق ملجأ .
الهي ، وربي ! ان ايدينا عن كل شيء قاصرة ، ونحن عارفون بأننا ناقصون وتافهون ، ولا نملك ما يليق بأعتاب قدسك . كلنا نقص وعيب . ظاهرنا وباطننا ملوث بالمهالك والموبقات .

الاربعون حديثاً 219

فمن نحن حتى نرجو القدرة على الثناء عليك ، فيما يعترف الولي من اوليائك قائلا : «افبلساني الكال هذا اشكرك !» مقرا بعجزه وقصوره ، فكيف بنا نحن اهل المعصية المحجوبين عن ساحة كبريائك ؟ ما عسانا نقول سوى ان نحرك السنتنا قائلين : ان رجائنا موكول الى رحمتك ، وأن املنا وثقتنا بفضلك ومغفرتك وجودك وكرمك ، كما جاء على السنة اوليائك .
في الكافي ، باسناده عن ابي جعفر الباقر عليه السلام قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله تبارك وتعالى : «لا يتّكل العاملون لي على اعمالهم التي يعملونها لثوابي ، فانهم لو اجتهدوا وأتعبوا انفسهم ـ أعمارهم ـ في عبادتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم في جناتي ورفيع الدرجات العلى في جواري ، ولكن برحمتي فليثقوا ، وفضلي فليرجوا ، والى حسن الظن بي فليطمئنوا ، فان رحمتي عند ذلك تدركهم ، ومني يبلّغهم رضواني ، ومغفرتي تلبسهم عفوي ، فاني انا الله الرحمن الرحيم ، وبذلك تسميت» (1) .
ومن اسباب الخوف ايضا التفكر في شدة بأس الله تعالى ، وفي دقة سلوك طريق الآخرة ، والاخطار التي تحيط بالانسان في حياته وعند موته ، ومشاق البرزخ ، ويوم القيامة ، ومناقشات الحساب والميزان ، مع ملاحظة الآيات والاخبار التي تنبئ عمّا وعد الله تعالى عباده ، مما يحيي كامل الامل والرجاء .
لقد جاء في الاحاديث ، ان الحق تعالى يبسط يوم القيامة بساط رحمته بصورة يطمع حتى الشيطان بالمغفرة منه . وان الحق سبحانه لم ينظر الى هذا العالم منذ تكوينه وخلقه ، نظرة لطف كما ورد في الرواية وانه سبحانه وتعالى لم يبعث الى هذا العالم رحمته الا بمقدار ذرة بالنسبة الى العوالم الاخرى ، هذه الذرة قد بعثت على احاطة النعم الالهية ، والطافه ورحمته وغفرانه ، بالجميع من جميع جوانبهم ، وان الظاهر من النعم والباطن منها تعتبر مائدة نعم الله تبارك وتعالى وعطاياه التي لا يقدر العالم برمّته على الاحاطة بجزء منها ، فكيف اذاً بنعمه سبحانه في عالم هو عالم كرامته ، ودار ضيافته ، وموضع رحمته ، حيث يبسط رحيميته ورحمانيته ؟ فيحق للشيطان ان يطمع في نيل رحمة الله ، ويرجو عطيته ! اذاً ، فأكمل حسن ظنك بالله وثق بفضله«ان الله يغفر الذنوب جميعا» (2) . فالله يغرق الجميع في بحر جوده وكرمه ، والله لا يخلف وعده ، وان كان الخلف في الوعيد ممكن ، وكثيرا ما يقع فعلا . ليستبشر قلبك برحمته التامة . ولولا شمولك برحمته الواسعة لما كنت قد خلقت ، فكل مخلوق مرحوم : «وسعت رحمته كل شيء» (3) .

(1) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب حسن الظن بالله ، ح 1 .
(2) سورة الزمر ، آية : 53 .
(3) مقتبس من آية 156 في سورة الاعراف .
الاربعون حديثاً 220

فصل
في الفرق بين الرجاء والغرور

ولكن ايها العزيز كن على حذر ، لئلا تخلط بين الرجاء والغرور . فقد تكون مغترا وتحسب نفسك من اهل الرجاء . ان من السهل التمييز بين الحالين في مباديهما . انظر الى هذه الحال التي فيك والتي تظن نفسك بها بأنك من اهل الرجاء . فهي اما ان تكون ناشئة من التهاون في اوامر الحق سبحانه والتقليل منها ، وامّا ان تكون ناجمة عن الاعتقاد بسعة رحمة الله وعظمة ذاته المقدسة . واذا عسر عليك التمييز بينهما ايضا ، امكنك التمييز من خلال الآثار . فاذا كان الاحساس بعظمة الله في القلب ، وكان قلب المؤمن محاطا برحمة ذاته المقدسة وعطاياه ، لقام القلب بواجب العبودية والطاعة . لأن تعظيم العظيم المنعم وعبادته من الامور الفطرية التي لا خلاف فيها .
واذا لم تكن في اداء واجبات العبودية ، وفي بذل الجهد والجد في الطاعة والعبادة ، معتمدا على اعمالك ، ولم تحسب لها حسابا ، وكنت آملا رحمة الله وفضله وعطائه ، ووجدت نفسك مستحقا للّوم والذم والسخط والغضب بسبب اعمالك ، ولم تعتمد الا على رحمة الجواد المطلق ، فأنت من اهل الرجاء . فاشكر الله تبارك وتعالى ، واطلب من ذاته المقدسة ان يثبّت ذلك في قلبك ، ويمنحك اعلى منه مقاما .
اما اذا كنت ـ لا سمح الله ـ متهاونا في اوامر الحق تعالى ومستحقرا ومستهينا لتعاليمه ، فاعلم انه الغرور الحاصل في قلبك وانه من مكائد الشيطان ، ومن نفسك الامارة بالسوء . فلو آمنت بسعة الله ورحمته وعظمته . لظهر اثر ذلك فيك . ان المدعي الذي يخالف عمله دعواه يكذب نفسه بنفسه . والشواهد على هذا في الاحاديث المعتبرة كثيرة .
ففي الكافي باسناده عن ابن ابي نجران ، عمن ذكره ، عن ابي عبد الله عليه السلام قال : « قلت له : قوم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت ، فقال : هؤلاء قوم يترجحون في الاماني . كذّبوا ليسوا براجين ، ان من رجا شيئا طلبه ومن خاف من شيء هرب منه» (1) .
وبهذا المضمون رواية اخرى في كتاب الكافي الشريف :
وباسناده عن الحسين بن ابي سارة قال : «سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول : لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو» (2) .
قال بعضهم : ان مَثَل من لا يعمل وينتظر رحمة ربه ويرجو رضوانه مَثل من يرجو المسبّب

(1) و (2) اصول الكافي ، المجلد الثاني ، كتاب الايمان والكفر ، باب الخوف والرجاء ، ح 5 و ح 11 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي